تخطى إلى المحتوى

ثلاث مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم الاحد

1 العراق يحتفل باستراتيجية الفقر والتشرد
حامد الكيلاني العرب
كيف ينهض العراق وهو يفرق بين شهدائه؟ أين هي حقوق شهداء العراق في حربه مع إيران؟ كيف يتم التعامل مع أسر الشهداء في الرواتب التقاعدية وامتيازاتهم؟
احتفل العراق وبرعاية الأمم المتحدة بإقرار مجلس الوزراء تطبيق الاستراتيجية الوطنية الثانية لتخفيف الفقر للسنوات 2018 – 2022 وبحضور دبلوماسي لممثلي السفارات العربية والأجنبية والمنظمات الدولية.

بمعنى آخر إنها الخطة الخمسية الثانية التي تأتي استكمالا للاستراتيجية الأولى لتخفيض نسبة الثلث عند خط الفقر أو تحته، من الذين يشملهم التصنيف العالمي لحدود مداخيل الفرد من سكان العراق، وهو المؤشر الفاصل لاستمرار العيش بتوفر وجبة طعام واحدة كحد أدنى في اليوم؛ دون اشتراط المستلزمات العامة من ضمان المستلزمات الصحية والسكن والملبس والتعليم، أي إننا بصدد ظاهرة المواطن أو الإنسان المشرد وحقه في الإطعام والإيواء في المراكز الاجتماعية.

إذا أردنا تفكيك هذه المقدمة دون تهكم أو سخرية، سنصل إلى ذات النتيجة من الإحباط في بلد ترتبط فيه الوقائع بالفشل العام وسيادة الموت وانتشار مفاهيم الضياع التي انتقلت في العراق من السلوك الشخصي والصعلكة الفكرية في نمط الموجة الفنية والأدبية التي تميزت بها بغداد في قديمها وحديثها، وكانت تقليدا أنتج لنا نماذج إنسانية على غرابتها وتناقضاتها لكنها رغم كل النقد إن رفضا أو قبولا، إلا أنها أضافت نكهة متصلة بتجارب وجودية لمدن كونية فيها الفقر ولعقود عدة كأنه نص إبداعي لرواية من الآمال العظيمة أو قصيدة تائهة في حدائق عامة أو لوحة لفنان يموت جوعا وحبا وهو يتطلع إلى لوحاته في صالة مزاد للتحف الفنية بعد قرن من رحيله تباع بالملايين.

بغداد لوقت قريب، لمن تعايش معها، كانت مدينة إنسانية بكل معنى الكلمة لو جردناها من التشوهات السياسية التي أصابتها بالأمراض المزمنة ووزعت أعراضها الجانبية حتى على العلاقات داخل الأسرة الواحدة؛ لوجدنا فيها مدينة مفرطة بالقلق على مصيرها الاجتماعي وسيرة وخصوصية محلاتها وتواصل أهلها دون حواجز القوميات أو الأديان أو المذاهب.

أن توجد في العراق استراتيجية متبوعة بالوطنية لتخفيف الفقر، معنى ذلك أن الدولة الحاكمة في العراق تعترف، تحت ضغط الحقائق ونسب التراجع في التنمية والاقتصاد وبإرادة النظام المصرفي العالمي وتحديدا البنك الدولي، بحاجتها إلى المساعدة في تأهيل نشاطاتها كدولة نامية بل كدولة في ذيل قائمة الدول الأكثر فسادا وتخلفا وفقرا وتبريرا للأزمات.

وهنا السؤال لماذا لا يعلن العراق حالة الطوارئ كما يحدث في ظروف الكوارث والنكبات الكبرى؟ ولماذا لا تبادر الولايات المتحدة الأميركية والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بوضع العراق تحت لائحة الدول الأكثر تضررا جراء الحرب الأهلية الطائفية والفساد المستشري في مفاصل البنية الأساسية للدولة، وعدم الاكتفاء بذرائع الحرب على الإرهاب وانخفاض أسعار النفط كأسباب رئيسية للفقر؟

الحرب العالمية على الإرهاب دمرت مدن الأنبار والفلوجة وصلاح الدين، ومدينة الموصل، التي نعني بها الموصل القديمة التي تحولت إلى مقبرة جماعية، مازالت فرق الدفاع المدني المحلية بإمكاناتها المحدودة عاجزة عن انتشال الجثث المتبقية، والتخمينات تذهب إلى أرقام تصل إلى 10 آلاف جثة مع انعدام الفرز والتشخيص في عمل الطب الجنائي نظرا لأعداد الضحايا مع توجه بعض أفراد الميليشيات إلى ترك الجثث المتعفنة في الأزقة بحجة إهمال القتلى من تنظيم الدولة الإسلامية.

هذه الحرب المتواصلة بعد الإعلان عن نهايتها، تفسر لنا مأزق العراق في فقر الملايين من سكانه بعد حالة التشرد في المخيمات ومعسكرات النزوح؛ فهم عاطلون عن العمل ويعانون من غياب أبسط مقومات المواطن في الدول الفقيرة الموضوعة على جدول المجاعات والجفاف والكوارث الطبيعية، أي الدول التي تحتاج إلى نجدة أممية لإيصال المساعدات الغذائية والطبية.

أن يطلق رئيس الوزراء حيدر العبادي استراتيجية ثانية، يعني أن العراق أنجز استراتيجية الفترة الأولى، وبقراءة بسيطة نكتشف الإخفاق الهائل لاقتصاد يعتمد على النفط بنسبة 95 بالمئة مع إعدام جماعي لمشاريع القطاع الخاص وتوقف المشاريع الصناعية الكبرى لأسباب تعرضها للتدمير في حرب احتلال العراق أو تحييدها بالعنف والإرهاب المتنوع أو بعدم الدعم أو بالفساد الشائن.

إطلاق مصطلح الاستراتيجية يوحي بالتنمية الشاملة والنهوض بالنظام المصرفي والاقتصادي بما يوازي طروحات التأهيل التي يتبناها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في السياسات التمويلية باعتماد القروض لسد ثغرات ميزان المـدفوعات، والذي يعمل كحلقة توصيل لسياسات النقد إلى أرضية مشتركة من الإصلاحات والمعالجات.

أين هي ملامح الاستراتيجية الأولى لنحتفل بالثانية وتعميم مساعيها لتخفيف الفقر دون الحرب عليه بإصدار القوانين وفتح الآفاق لإلغاء الأنظمة القديمة وجلب الاستثمارات وترصين ثقة الأداء مع الشركات العالمية.

تعدد دوائر التقاعد والرواتب الخاصة والتي أشرنا إليها في مقال سابق ولأغراض التمييز حسب الميول الحزبية والطائفية وكذلك السياسية، لم تعد غائبة عن البنك الدولي ورصده ومتابعته وتحليلاته لأنها من الأشياء المسكوت عنها خاصة ما يتعلق بهدر الملايين من الأموال على مؤسسات كان يمكن دمج أنظمتها وتحويل مستحقاتها إلى مديرية التقاعد العامة وفق قوانين لا يمكن التلاعب بها. هل تابعت الحكومة القضايا المتعلقة بعدد قتلى العمليات الإرهابية لأهداف طمس ملفات التحقيق وإلغاء معالم الفساد أو الاغتيالات؟

300 مليون دولار فقط هي مبلغ القرض المخصص لاستراتيجية تخفيف الفقر من البنك الدولي؛ ألا يبدو هذا الرقم مثيرا للاشمئزاز من نظام سياسي اصطدم بملاحظات مصرفية عالمية أجبرته على إيقاف التعيينات لمدة 3 سنوات في بلد تصل نسبة البطالة فيه إلى 40 بالمئة، مع ما يضاف إليها من بطالة مقنعة كبيرة في دوائر ومديريات وزاراته إثر إلغاء العديد من المؤسسات بعد الاحتلال ومناقلة العاملين فيها.

كيف ينهض العراق وهو يفرق بين شهدائه؟ أين هي حقوق شهداء العراق في حربه مع إيران؟ كيف يتم التعامل مع أسر الشهداء في الرواتب التقاعدية وامتيازاتهم؟ ألم يطالب عدد من النواب وأعضاء فاعلين في العملية السياسية بإلغاء أبسط حقوقهم، وكيف أرادوا تهديم نصب الشهيد بصرحه المعماري الجميل لأنه يذكرهم بمقاومة العراقيين دون استثناء وحجم تضحياتهم للذود عن وطنهم لإيقاف المد الإيراني.

كيف تم احتساب سنوات السجن على عقوبات سرقة المال العام في زمن الحصار لأغراض التقاعد والمخصصات والمكافآت كمناضلين ضد النظام السابق لمئات من المحكومين بقضايا غير سياسية لتمرير أهداف سياسية ورشاوى مالية فاضحة، وهذا يقودنا إلى عدد اللصوص الذين تحولوا إلى مناضلين في أحزاب طائفية وبعضهم في الواجهات السياسية بعد الاحتلال؟

كيف نخفف من الفقر باستراتيجية خمسية وبقرض 300 مليون دولار فقط من البنك الدولي؟ من يريد المصالحة وتعزيز وحدة المجتمع عليه أن يبدأ بالمصالحة بين جميع شهداء العراق أولا، ثم يفكر بالإصلاح وبناء النظام الديمقراطي. أليس من حقنا كشعب أن نرفع الحياة على كفنا في صبح فجر ما، وننتزع العراق من صندوق الموت والجوع والتشرد، أو على الأقل من صندوق جريمة انتخاب عملاء الاحتلالين.
2 معن بشور.. المطلوب عراقيا بتهمة الارهاب
كاظم الموسوي

راي اليوم بريطانيا

نشرت وسائل اعلام عربية مذكرة تقول ان سلطات عراقية تطالب بمقاضاة 60 مطلوبا، من ضمنهم لبناني واحد، هو معن بشور، الامين العام السابق للمؤتمر القومي العربي. ونقلت عن مصدر غير مذكور اسمه انها قائمة اولى، وستنشر قوائم اخرى تباعا.
هذه القائمة وكثير مما ورد فيها نشرت في اعوام سابقة ايضا وعُرف حينها من ان دوائر متنفذة في المنطقة كانت وراءها. فإعادة نشرها ودون تمحيص وقناعات لاقناع من سيطلع عليها تثير الشكوك حول مصدرها وغايتها، وحشر اسم معن بشور فيها خلط واضح بين المطلوب فعلا والمقصود عمدا.
ونشرت بعض وسائل الاعلام ردا من بشور على التهمة التي وردت بانه يجند مقاتلين ” لانشطة ارهابية” وتعني بها ضد الاحتلال الامريكي، وهذا امر ملفت. رد بشور يقول انه كان ومازال مناضلا ضد الاحتلال والغزو الصهيو امريكي لكل ارض عربية، والابرز فلسطين والعراق وسورية، ويتحدى تسمية شخص واحد جنده للدلالة والاثبات…
معن بشور لا يحتاج الى تعريف، هو مناضل عروبي معروف، يبذل جهوده في صفوف المناضلين من اجل تحرير الامة العربية وتجميع تياراتها الفاعلة في اكثر من مؤتمر وندوة واجتماع، وعضو مؤسس ومشارك في ابرز ومعظم المنظمات العربية، الاقليمية والدولية، التي تدافع عن الحقوق والمقاومة وفلسطين والاستقلال والوحدة والعدالة والتجديد الحضاري والديمقراطية…
كان منتميا لحزب البعث ولا ينكر ذلك، ولكنه خرج منه وانتمى للتيار الاغلب، تيار العروبة الجامع، والدفاع عن قضاياه المشروعة، ومازال صوتا عربيا صلبا يدافع عن المقاومة والمصالحة والمساءلة، ويكافح في سبيل التحرر والتقدم والديمقراطية. عُرف قلم وراي عنيد من اجل فلسطين وكل هموم الامة العربية والانسانية.
لا يتوقف موقفه عند حدود ولا يصمت على ظلم او انتهاك لحقوق ولا يسكت على خطأ او خطيئة، ولا يتنكر للحوار والجدل الموضوعي.
هذا ما يجمع الكثيرون به ويجمعه معهم ولا يحرج من نصرة العدالة والتضامن مع الانسان في اي مكان.
مطلوب من السلطات التي اساءت له الان واستهدفته في هذه القائمة الاعتذار منه وتكريمه في بغداد، مناضلا عروبيا تقدميا تشهد له الميادين ويذكره العالم، حتى لو اختلف معه في رأي او يناقش معه في موقف او يتحفظ على فكرة عنده..
لن يغير هذا الاستهداف والتشهير اسمه، يبقى معن بشور كاتبا ومفكرا ومناضلا وصوتا صادحا للمقاومة والصمود وحرية الراي والانسان في وطننا العربي الكبير، وهذا يكفيه وساما وشهادة.
3 أطفال «داعش» … فريسة الموت في ساحات القتال والاضطراب إذا نجوا
إيلين سالون
الحياة السعودية
ترددت أصداء القتال في حي صغير من البلدة القديمة في الموصل حيث كان مركز المقدم سلام حسين العبيدي من قوات مكافحة الإرهاب العراقية، في مطلع تموز (يوليو) 2017. وكان المقدم يقف أمام باب المركز يراقب سيل النازحين الفارين من أحياء داعش الأخيرة، وهم الشهود على القتال الدموي الدائر هناك. وجوه الهاربين مجوفة، ومتفككة، أجسادهم نحيلة وضعيفة، وملابسهم خرق مهترئة. ويروي هؤلاء الجحيم الذي نجوا منه للتو وفروا منه. ويرى الضابط أن أسراً داعشية مندسة بينهم. ووصل صبي قصير القامة، إلى جنب الضابط، ونظر إليه نظرة تحد. ولم يفت الضابط النظرة، فطلب من عائلته التوقف. ومدّ إلى الصبي الصغير علماً عراقياً، فسارع إلى رميه. «لماذا ترمي العلم؟»، سأله الضابط سؤالاً نبرته تجمع الجد إلى السخرية والتهكم. «هذا لواء الكفار»، أجابه الصبي. فنقل الضابط سلام إبراهيم الصغير، ابن الأربعة أعوام، وعائلته إلى منزل تحوّل مركز قواته. والحرج بدا على شقيقتيه شاهد ابنة التسعة عشر عاماً، وشجن (17 عاماً)، على خلاف أشقائهن الأربعة الصغار، 3 أشقاء وشقيقة في الثانية من العمر، وهؤلاء سارعوا إلى الانقضاض على الغذاء حين قدمه إلهم جندي. وأخذ الضابط يتصفح صور عائلة شاهد على الكمبيوتر المحمول العائد لها: واستوقفته صورة والدها وهو يقف في صالون بيته حاملاً قاذفة سلاح على الكتف، فهو البائع في الحي الذي صار مقاتلاً مع داعش، وقرر وزوجته الثانية القتال حتى الموت في المدينة القديمة. وأوكل الزوجان أولادهما الأربعة مع رزمات دولارات ودينار عراقي إليها (شاهد، كبرى بناته). وفي صورة أخرى، ظهر زوجها مع شلة من أصدقائه المقاتلين. وهو سقط في أيار (مايو) في قصف على حي الزنجيلي. واحتفظت شاهد بصورة شقيقها «الشهيد» بلباسه العسكري، وهو قضى يوم كان في الخامسة عشرة في ضربة جوية على شرق الموصل في خريف 2016. وعلى الكمبيوتر، صورة لابنتها ماريا، التي لا يسع المرء رؤية عينيها المستترتين وراء نقاب صفيق، وهي ترفع إصبعها إلى السماء. وتقول شاهد إنها لا تعرف لماذا انضموا كلهم إلى داعش. ونادى المقدم سلام إبراهيم الصغير. ووقف أمامه الصبي المشاغب، ووجه منكمش. – «ابراهيم، هل تحب داعش؟». -»نعم أحب الدولة…». -»لماذا؟» -»لأنها تقتل الكفار من أمثالك». – «هل أنا كافر. وكيف سيقتلني داعش؟» – «بسكين في العنق والذبح هكذا»، يجيب إبراهيم وهو يحاكي غاضباً حركة الذبح على رقبة الضابط. ثم أحنى رأسه وبدأ بركله. فتدخلت شقيقته وأوقفت الركل، ولكنه يبدو أنه لم يفهم ما يترتب على ما يفعله. فهو في الشرنقة العائلية التي نذرت نفسها لـ «الخلافة»، تشرّب مثل إسفنجة بروباغندا داعش، وصار يعرف العدو حين تقع العين عليه. وأفرج الضابط عنهم ليواصلوا طريقهم إلى شرق الموصل حيث عمتهم تنتظر وصولهم. «ماذا سنفعل بهم؟ كثر من أمثاله سيكبرون حاملين بذرة الكراهية والتطرف، وليس في اليد شيء»، يقول الضابط متسائلاً بنبرة خطابية.

ولم يستخِف داعش بمشروع زرع الكراهية في صدور الأطفال. ورأى أن أطفال «الخلافة» بمثابة صفحات بيض، وسعت المجموعة «الجهادية» إلى طبع أو نقش أيديولوجيتها على «الصفحات» هذه، والتأثير في اليافعين قبل أن يشتد عودهم. ورفع التنظيم هذا لواء «باقية (الخلافة) وتتمدد». ورمى مشروع داعش الطويل الأمد إلى تنشئة الأطفال في «الدولة» وانغماسهم في تربة مشبعة بالعقيدة الدينية الداعشية، يقول نيكيتا مالك، وهو مشارك في صوغ تقرير مؤسسة البحوث، «كيليام»، عن الموصل.

وفي بعض الأحيان، أُلزم الأطفال الالتحاق بداعش، إثر خطفهم أو تهديدهم. وفي أحيان أخرى، انتخبتهم عائلاتهم، إلى القتال. وهؤلاء الأطفال شبّوا في بيوت ومدارس تغلب عليها الأيديولوجيا الداعشية. وتعيد إرادة إنشاء جيل «نقي» لم تفسده «العلمانية» وتتلمذ منذ نعومة أظافره على العنف، إلى الأذهان ألمانيا النازية وبعض الدول الأفريقية التي يعمها خطف الأطفال وتجنيدهم قسراً في القوات المسلحة. والنظام البعثي العراقي درج على تجنيد الأطفال في قواته المسلحة. وأثر هذا التجنيد بالغ في تجنيد الأطفال في مناطق داعش، وتسميتهم بـ «أشبال الخلافة» تيمناً ربما بـ «أشبال صدام». وتصدى أولاد في سن بين العاشرة والخامسة عشرة، وكانوا مدربين عسكرياً وحُملوا على ضرب الحيوانات وإلحاق الأذى بها في مخيمات عسكرية لتتبلد مشاعرهم ويألفوا العنف، للقوات الأميركية في 2003 في مدن مثل الناصرية وكربلاء والموصل. ولكن الأسر المتطرفة لم يسعها وحدها بث العنف في الأطفال، لذا تحولت المدارس ركن مشروع تجنيد الأطفال وتلقينهم العقيدة الداعشية (…) وحازت الحصص الدينية مكانة بارزة (40 في المئة من الحصص) في مدارس داعش. ولازمة كتب داعش المدرسية هي محاربة الكفار والولاء للدولة الداعشية. وتبدد أثر التاريخ المعاصر من البرامج المدرسية وتربعت محلها سير الفتوحات الإسلامية «الداعشية». ولقّن الاطفال سير قادة داعش الشخصية. والجغرافيا المُدرَّسة هي مرآة عالم داعش ونظرته إلى العالم الأوسع. وتربعت محل الدول الحديثة المولودة من انهيار السلطنة العثمانية، الخلافة الإسلامية وولاياتها (محافظاتها). وفي خريطة العالم العربي الداعشية، وهي تمتد من الأندلس إلى الأهواز الإيرانية، على ضفة الخليج الشرقية، يلفى المرء تسميات قديمة مثل الحجاز وبلاد الشام. وفي المواد المدرسية «الدنيوية»، صيغت الكتب المدرسية العراقية من جديد، وغلب عليها حشو ديني داعشي وعسكري أثير على قلوب القائمين على البروباغندا في التنظيم. واللواء الداعشي الأسود يزين الكتب كلها.

وفي كتاب الإنكليزية، التلامذة مدعوون إلى قراءة وتكرار كلمات مثل «سنايبر» (قناص) و «سيرينغ» (إبرة) و «غَان» (مسدس)، على الملأ. والوجوه كلها، البشرية والحيوانية، ضبابية ومغشاة. وفي الرياضيات، يحصي التلامذة عدد القنابل والدبابات، عوض أن يعدّوا التفاحات والإجاص. واستبدل رمز الزائد + بحرف Z لتفادي الشبه مع الصليب. والمعضلات الحسابية هي تدريب على الأعمال «الجهادية»، ومنها على سبيل المثل: «مصنع متفجرات يصنع 100 لغم يومياً، كم يصنع في الساعة؟». (…) ويقدر عدد الأطفال في سن متوسطها الثانية عشرة الذين جندهم داعش في الموصل في أعمال الرصد والتفجيرات الانتحارية والقتال، بحوالى 5 آلاف طفل. وهم في سن صغيرة، فلا تعصى استمالتهم وتدريبهم والتحكم فيهم. والأطفال الداعشيون هم من منابت مختلفة: أولاد المقاتلين الأجانب، ونظيرهم من أولاد المقاتلين المحليين، وأطفال هجرهم أهلهم وتركوهم لسبيلهم، والمجندون قسراً مثل الأيتام والمختطفين، والمتطوعون. وهؤلاء هم «أشبال الخليفة». وبعضهم يجند في سن بين الخامسة والعاشرة في معسكرات دينية.

ولم يكن عسيراً على داعش تشكيل احتياطيها الأول من المجندين. فإثر السيطرة على الموصل في حزيران (يونيو) 2014، سطا المقاتلون على دور الأيتام حيث يتكدس عشرات الأطفال في سن بين الثالثة والسادسة عشرة. وكانوا يُلحقون أسبوعيا بهؤلاء الأيتام يتامى جدداً، بعد أن يقتلوا الآباء «الكفرة»، أو بعد انتزاعهم من عائلاتهم. وجنّد داعش أطفالاً من الشيعة، وكثيراً من الأطفال الأيزيديين. فالتنظيم هذا قرر استعباد هؤلاء القوم الكرديّي اللسان وتحويلهم إلى الإسلام وإلزامهم نبذ معتقد عمره أكثر من أربعة آلاف سنة، بعد احتلاله قراهم في منطقة سنجار، غرب الموصل في آب (أغسطس) 2014. وفي الموصل، قضى عدد كبير من «أشبال الخليفة» في قتال القوات العراقية، وكثيرون منهم قادوا سيارات مفخخة وجهت إلى صفوف الأعداء. ولائحة الشهداء التي نشرها داعش تظهر وجوهاً طفولية، وبعضها في سن لا يزيد عن اثني عشر عاماً. وعلى بُعد عشرات الكيلومترات شرق الموصل، في بلدة بازوايا، جلس طفل وراء مقود سيارة مفخخة تتجه إلى مدرعات قوى مكافحة الإرهاب العراقية. وفي وقت تجمدت القوات في مكانها حين رؤيتها السيارة المسرعة، سمع عبدالستار جابر، المكلف سماع موجات راديو داعش، صوت طفل يصرخ والفزع يعلوه: «إلى أين أنا ذاهب؟ إلى أين؟»، وصوت رجل يجيبه: «هيا اصدمهم، اضرب الكفار»، قبل لحظات من انفجار السيارة. وغيره من الأطفال سقطوا وهم يحملون بندقية آلية أو في قواعد «داعش» ومستودعاته ومختبرات التفجير الموزعة في المدينة. وفي البلدة القديمة، حيث لجأ الجهاديون في حزيران (يونيو) 2017، وجدت قوات النخب في قوات مكافحة الإرهاب العراقية في مرماها عدد كبير من الأطفال المسلحين.

وبعض الأطفال يعاني من آثار عميقة خلفها ما تعرض له من عنف وكان شاهداً عليه من فظاعات تعصى التحمل. والتباين شاسع بين اللامبالاة الظاهرة على وجه فهد، المراهق البريء ابن الثانية عشرة من العمر، واضطرابه حين يصف عنف أول عملية إعدام شاهدها. فعيناه السوداوتان تتوسعان وتتجمدان من غير أن يرف له جفن حين يروي هذه الذكرى التي يشعر بالضيق والكمد حين روايتها وتذكّرها: «كان بعد الظهر، الحي كله اجتمع، فداعش دعا الناس كلهم إلى مشاهدة ما يجري. وكان رجال يرجمون امرأة ودماغها متناثر على الأرض. شعرتُ بالمرض طوال شهرين، وعجزت عن النوم، ولم تفارقني الكوابيس، وصرت أرى أنهم يرجمون أمي أمام عيني». ووالدته تروي حاله: «صار يمشي وهو نائم. وصار يدخل غرفتي ليلاً ويمسك ملابسي ويصرخ: إنهم هنا، جاؤوا ليأخذونا!». وحالف الحظ فهد، فتسنت له متابعة علاج نفسي واجتماعي مع جمعية «تير ديزوم» (أرض البشر)، التي وضعت الرحال في مخيم حسن شام حيث لجأ على حدود كردستان العراقي. والمنظمة الإنسانية هذه تدعمها اليونيسيف، وتتابع علاج 600 طفل، في سن بين الرابعة والسبعة عشر عاماً، وقعوا ضحية العنف في عهد داعش وطوال أشهر القتال التسعة. «أكثر ما يعانون منه هو توتر ما بعد الأزمة: ثمة أطفال فقدوا السيطرة على المثانة، وبعض آخر يعجز عن الكلام، وكثر يضطربون حين تهجم عليه مشاهد عنف سبق أن شاهدوها، وثمة من يرى كوابيس مدارها الإعدامات والقتل». وبعض الأطفال يتمردون على أهلهم. وتروي المعالجة النفسية قصة طفل بالغ العنف، ولا يكف عن الصراخ إذا لم ينل مراده. فوالدته كانت تخيفه بالتلويح بداعش. ومنعته من الخروج، والكلام مع الأجانب منذ كان في الثانية من العمر، أي منذ وصول داعش إلى الموصل. وحين خرج للمرة الأولى إلى العالم الخارجي، كان القتال يدور، وجثث المقاتلين الداعشيين مرمية في الشارع. ولكن آلاف من الأطفال يفتقرون إلى العناية والمتابعة النفسية، وهم معرضون لمخاطر التقوقع على النفس، والذهان والفصام، والكآبة، والانزلاق إلى العنف. وهذه المعاناة لا تقتصر على الأطفال، بل تشمل الشرائح العمرية كلها. وتقول منظمة «أطباء بلا حدود» أن 30 في المئة من مرضاها فحسب من الأطفال.

* مراسلة عن «ليتا إيسلاميك دي الموصل:غيستوار دون انتربريز توتاليتير» (الدولة الإسلامية في الموصل: قصة مشروع توتاليتاري، دار لا ديكوفيرت، باريس 2018).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

صحيفة العراقوكالة الاستقلال      |  العرب في اوروبا  |  IEGYPT  | سعر الدولار في بغداد