لا اذهب بعيدا اذا قلت ان بغداد اليوم تشكو الفوضى في كل شيء والبغداديون الذين تعودوا على جماليات بغداد وتحضرها في كل شيء وجمال حدائقها ونظافة شوارعها باتوا يعانون اليوم ايضا من هذه الفوضى بل العشوائية التي باتت تشكل مظهرا من يوميات بغداد.
فالمعروف أن للمدن الكبرى والتاريخية وخاصة العواصم هناك تصميم اساسي يا خذ بنظر الاعتبار التوسعات المطلوبة والزيادة السكانية المرتقبة فيضع هذا التصميم كل شيء في مكانه المناسب وان الجهة المسؤولة عن وضع هذا التصميم ومراقبة تنفيذه وعدم التجاوز عليه هي امانة العاصمة كما كانت تسمى سابقا وأمانة بغداد كما تسمى حاليا.
واليوم بغداد غير بغداد الامس فوضى الشوارع وفوضى البناء العمودي الذي باعتقادي انه مخالف للتصميم الاساسي للمدينة وبالتأكيد ان هناك جهات مستفيدة من وراء هذا التجاوز على التصميم الاساسي فلا يعقل ان تكون بغداد بهذه العشوائية في البناء والشوارع والتخريب البيئي والصخب وفوضى الوان البنايات التي هي عوامل تؤثر على امزجة الناس وتسبب لهم حالات نفسية وعصبية عديدة وهذا ما يعرف بالتلوث البيئي.
وفي العودة الى تاريخ اول تصميم اساسي وضع لبغداد نفذته شركة (مونوبوريو )البريطانية في العام 1956 كما تم اعداد تصميم آخر لبغداد من قبل الاستشاري اليوناني( دوكسيادس ) في عام 1959 وفي العام ١٩٧٣ تم إعداد تصميم حديث قامت بوضعه لجنة مؤلفة من ٨٠ معماري ومختص بتخطيط المدن ولمدة زمنية حتى العام ١٩٩٠ وهذا يعني إن هناك تصميم أساسي يطور ويحدث لكل فترة زمنية وتوضع ضوابط وشروط لكل شيء يستحدث على الأرض للحفاظ على طابع بغداد الحضاري والتراثي وسعيا لمواكبة التطور العمراني العالمي.
ومن يزر العواصم العربية والاقليمية المجاورة يرى التناسق اللوني الجميل في الشوارع والعمارة وطبيعة تصميم المساحات الخضراء ضمن الأحياء السكنية وحتى إن أكثر عواصم الدول حددت ضوابط السكن فيها وطبيعة البناء بل إن هناك عواصم كما في دمشق والقاهرة وتونس والجزائر منعت أي هدم للبيوت التراثية والتاريخية فيها حفاظا على تاريخ تلك العواصم وشواخصها العمرانية من الضياع هذا الاهتمام نراه مفقودا في بغداد اليوم مع الاسف فقد زحفت العمارة الحديثة على أغلب مناطق بغداد التراثية بحجة التطوير والتوسع لكن الغاية هي الاثراء على حساب تاريخ بغداد وجماليتها وأكاد أجزم ان ٧٥ بالمائة من تراث بغداد أندثر أو في طريقه الى الاندثار وإن كانت هناك مبادرات محدودة لجهات تسعى للحفاظ على معالم بغداد التاريخية والتراثية مثل إعادة تأهيل شارع المتنبي أو السعي لإعادة الروح لشارع الرشيد
إلا ان هذه المبادرات لوحدها لا تكفي فالمطوب جهد رسمي كبير ومنظم لإعادة جمالية بغداد عاصمة العراق ودار السلام فكل عراقي أصيل يحرص على بغداد وتأريخها الحضاري والانساني ولا يرضى بأن يطالها الاهمال والتخريب.
التصميم الأساس لمدينة بغداد وتشويه الهوية البغدادية
أبو جعفر المنصور
غداد… نبيذ العالم المعتق في زمان العباسيين وسيدة العشق والشعر والأدب والموسيقى، قلادة دجلة وثرياها، المدينة التي (بغددت) الناس في اصقاع الأرض بعد ان اعطتهم انموذجاً حضارياً متفردا والمدينة التي استشهدت عدة مرات على أيدي المتوحشين والطغاة والجهلة ونهضت كالعنقاء مستعيدة رونق حسنها، تبرد في روح ساعاتها عصور من القهر.
واليوم بعد ان خرجت من الدهاليز المظلمة التي اجهزت على بعض روحها، فالتشويه الذي ألحقه النظام البائد بالطابع البغدادي ليس كلياً وان كان أراد ذلك بحجة التحديث، اليوم يتحدث عدد من ابنائها والمسؤولين في الدولة والحكومة عن عملية اسعاف لها، ويعقدون الندوات ويقدم المهندسون والاستشاريون المعماريون دراساتهم حول التصميم الاساس للمدينة وينقل الصحفيون والاعلاميون آراءهم وافكارهم، فيثيرون قلقنا وتحسبنا، إذ ان الطابع المعماري البغدادي غاب عن هذه الاحاديث ونسي الجميع الهوية البغدادية، هندسة ومعماراً وثقافة، واقتصرت الندوات على السياسيين والمهندسين المعماريين والاستشاريين، وخلت من اعلام المدينة وحفاظ تراثها، نحن مع حسن النية في الخدمة التي يبديها الاختصاصيون، لكن هؤلاء كانوا أول من شوه المدينة بأمر أمين العاصمة أرشد العمري ابان الحكم الملكي وتحت حجة التحديث أيضاً فغيروا التصميم الأساس للمدينة، وهو التصميم الذي سعت فيه المسز بيل للحفاظ على طابع بغداد وروحها وهويتها العريضة، ولم يستشيروا البغداديين في ذلك، فهل يغيب البغداديون ثانية؟
ماذا لو؟
ماذا لو استشارت الدراسات اعلام المدينة؟ ماذا لو حضروا الندوات واطلعونا على جذوة الروح وانحاءات الجسد البغدادي؟ فتحضر روح بغداد، ازقتها ودروبها وشوارعها وجوامعها وتكاياها وكنائسها ومكتباتها وكتاتيبها وملاهيها ورموزها الأخرى، ماذا لو حضرت (سليمة الخبازة) نيابة عن غائب طعمة فرمان، البغدادي المهاجر، أو حضرت شخوص جبرا إبراهيم جبرا من غياهب (الصيادين في الازقة الضيقة) أو طلعت محال آرام وبقية الدكاكين وأزقة باب الشيخ ومن (الرجع البعيد) كما رسمها فؤاد التكرلي، أو عبرت صورة سيعد افندي هاربة من فيلم كاميران حسني الذي اخرجه عام 57 وهو يرنم (صوت صفير البلبل) في أمسية بغدادية متعبة، أو أطل عثمان الموصلي من جامع الحيدر خانة، أو نهض الدكتور محمد مهدي البصير يحرض على الثورة من جديد، ماذا لو استحضرنا اسوار بغداد وابوابها القديمة ووضعنا فوتوغرافات المصور الأهلي المبدع عبد الرحمن أو الداغستاني أو حازم مراد أو إمري سليم على لوحة امامنا ونحن نتحدث عن بغداد الحديثة ومترو بغداد وناطحات السحاب وازمة النقل والتوزيع السكاني والمعمار الجديد وبقية الهموم، ماذا لو روينا حكاية بغداد بتفاصيل أخرى وبنفس آخر يكمل شخصيتها وهويتها الحضارية بابعاد إنسانية حية تنبض بموجوداتها الأصيلة، ألستم معنا في ان تلك الندوات والدراسات ستكون أكثر اكتمالاً لو سمحتم لنا ان نحدثكم عن المدينة النائمة في أذهاننا ولا نعتقد أنها ستستيقظ ثانية؟ ماذا لو فعلتم وانتم بامكانكم مساعدتنا واجيالنا القادمة على تذكرها ونقل خطوطها ورائحتها بطريقة ما لن تفوتكم فانتم أهلها وعشاقها أيضاً.
أوراق بغدادية قديمة
لن نحدثكم عن شارع حيفا فنحن نعتقد انه لا ينتمي لبغداد، ونحن نعرف قرية الكرخ وما زلنا نتذكر كرادة مريم وسواقيها وبساتينها، والصالحية وبنكلة الأذاعة وبلبلها، ومحلة الذهب وباب السيف والشواكة وسينما قدري الأرضروملي والعلاوي وسوق حمادة، والجعيفر، والرحمانية، وسواها من المحال والاحياء القديمة لنسترجع في الكرخ يتيمة إبن زريق البغدادي في الأندلس والتي يقول مطلعها:
استودع الله في بغداد لي قمراً
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لأودعه
ولن نحدثكم عن الطحالب والعليق الذي نما على جسد بغداد فترهلت باضافات لا هوية لها مهما حملت من أسماء.
ونحن نعرف الرصافة ويمكن ان نحدثكم عن مشهد الامام أبي حنيفة واحياء الاعظمية والشماسية ومحلة المحزم وصولاً إلى باب المعظم أو المنطقة الجنوبية منه وقصور الولاة والوزراء في محلة الفضل وقصر نوري السعيد عند باب المعظم والسور الذي يبدأ من باب المعظم وينتهي عند منطقة الباب الشرقي والتسميات القديمة لشوارعها ومحلاتها واسماء العوائل المعروفة التي تسكنها وملاك بساتينها وقصورها واسماء سواقيها، بعد ان نمر بالبلاط الملكي في منطقة الكسرة وثكنة الخيالة والحرس الملكي وفوج موسى الكاظم ومستشفى المجيدية (مدينة الطب) خلف سجن بغداد ذي الجدار الطيني العالي وحديقة المعرض والمكتبة العامة القديمة.. و.. لنقف قليلاً.. ها نحن عند باب السلطان وسور بغداد القديمة الذي بناه المستظهر بالله سنة 488/ 1095 م وأكمله المسترشد بالله سنة 517هـ / 1119م، هذا السور الذي هدم ولم يبق منه سوى قطعة نفيسة داخل مبنى وزارة الدفاع محصورة بين جامع الأزبك وقاعة الشعب، ولا ندري مصيرها الآن وهذا هو الحد الذي يمكنك تسمية ما خلفه بغداد الهادي التي بدأت قصراً للهادي ومعسكراً لجنده، وقد بني هذا القصر والمعسكر اثر شغب الراوندية على المنصور، وقد اتسعت رقعة البناء قريباً من القصر والمعسكر واقطعت الأراضي فيها للقواد والوزراء ورجال الحاشية فكانت رصافة بغداد تنافس كرخها في العمارة والأزدهار، وهي رصافة بغداد ما قبل التشويه.
وقد ازيل باب السلطان والسور لتوسيع امتداد شارع الرشيد عام 1925 جهلاً بقيمتها التراثية، ليكمل العثمانيون الهاربون خطيئة التشويه بتدميرهم باب الطلسم الذي كانوا قد اتخذوه مخزناً للذخيرة، ليلة فرارهم قبل دخول الانجليز بغداد، وهو الباب الثاني على السور الذي يطوق حي الفضل وبساتينه وقصوره، ويتجه إلى (الباب الوسطاني) أو باب الظفرية، ثم إلى باب كلواذ أو باب البصلية أو الباب الشرقي الذي أزيل هو الآخر عام 1937 ولم يبق سوى باب الظفرية ولا ندري كيف سلم هذا الباب من مسلسل التشويه والعبث بالطابع والهوية والتراث البغدادي، وقد اعيد بناء الأجزاء المتضررة منه بطريقة سيئة لا تمت لروحه بصلة والبناء الجديد نشاز واضح في كيان الباب المعماري وقد انجز هذا العام وكم كنا نتمنى ان يبقى الباب على ما هو عليه خشية تكرار مأساة باب لكن.. لنمض مع السور حتى باب كلواذى أو الباب الشرقي، فهنا ينتهي شارع الرشيد أو جادة خليل باشا (خليل باشا حادة سي) أو الجادة العامة أو الشارع الكبير كما اسماه الرصافي وكان الاجدر ان يسمى شارع ناظم باشا فتصميم الشارع وضعه الجنرال ناظم باشا والى بغداد التركي وقائد الجيوش فيها عام 1910، واستملك لأجله عدداً من دور البغداديين من الاحياء التي يمر بها، فثار سكان المنطقة وهم يهتفون (هاي الكاع وما ننطيها) واستمرت المناوشات بين الوالي والسكان حتى ثورة بغداد الكبرى عام 1913 التي قمعت بقسوة لا مثيل لها، لتكون سبباً لعزل الوالي عن ولاية بغداد وتولية خليل باشا عام 1916م وهو آخر الولاة العثمانيين في بغداد وقد فر ليلة 11 آذار عام 1917 بعد ان دخل تاريخ بغداد ودون اسمه على الشارع الذي افتتحه في 23 تموز 1916 وهو بالمناسبة يوم إعلان الدستور، والشاهد هو قطعة من الكاشي المزجج فوق قاعدة منارة جامع السيد سلطان علي في الناحية الجنوبية واتلفت هذه القطعة عام 1923 عند تعمير الجامع ومنارته فضاع دليل وشاهد بغدادي مهم يؤشر تاريخ شارع الرشيد. وبعد دخول الانجليز في 11 آذار 1917 أطلقوا على الشارع تسمية الشارع الجديد ويقول الصحفي الانجليزي الذي رافق الحملة البريطانية أدموند كاندلر (تقدمنا في شارع خليل باشا وهو الشارع الوحيد العريض في المدينة، لقد اطلقنا عليه اسم شارع هندنبرك بمناسبة سقوط الكوت وهو ليس بالشارع الجميل أو الجذاب وكانت عملية تطوير الشارع متقطعة وأوقات إصلاحه متباعدة ولكي يصبح جميلاً كما يريد كاندلر جيء بالسجناء والمحكومين ليقوموا برصفه بالحجارة التي جلبت من جبال حمرين ومن منطقة طوزخرماتو، ويومها ضرب المثل العراقي (يدك حجار بالجادة) للتدليل على الجهد المجاني لهؤلاء المساكين وحين تم تبليطه كانت أول سيارة تمر منه هي سيارة الملك فيصل الأول وكان يومها عائداً من أوروبا.
خرائط واحصائيات بغدادية
والخرائط هي خرائط فليكس جونز والمهندس الانجليزي كولين كورد وقد رسماها عامي 1853ـ 1854، وبينا ازقة واحياء وشوارع بغداد وحدودها وكان الهدف منها تجسسياً لكنها شكلت وثيقة تاريخية لصورة بغداد القديمة.
ونقل الكاتب محمد رؤوف الشيخلي اطرف احصائية عن محلات ونفوس وتنويعات بغداد في كتابه (مراحل الحياة في الفترة المظلمة وما بعدها) فيقول: “ان عدد البغادة عام 1895 هو (149.941) يقيمون في (18017) داراً وفيها (3244) دكاناً و(11) مغازة، و(124) علوة، و(11) صيدلية و(68) مصبغة و(118) خاناً و(18) حماماً و(20) شكر خانة و(34) كتاباً للاطفال و(4) لوقنطات و(14) قولغ و(150) جامعاً و(6) تكايا و(7) كنائس، ومطبعتان.
صور من الحياة اليومية البغدادية قديما
هذه الخرائظ والأرقام قد تنفع مقارنتها بالارقام الحالية في اعطاء صورة لواقع محسوب عن نمو وترهل بغداد وتأثيراته على واقع الحياة البغدادية، لكنها لا تنقل تلك الحيوية النابضة في صورة عربة اللانرون أو البرشيقة وهي تحمل إلى جانب الحوذي، المهرج المقنع الذي يرتدي طربوش الكارتون والأبرو الملون وبيده لوحة ثبت عليها ملصق الفيلم الجديد الذي ستعرضه سينما روكسي أو ريكس أو الزوراء أو غيرها، أو اعلانات إدارة (أوتيل) الهلال عن حفلات السيدة أم كلثوم عام 1932.
أو هذا الاعلان الذي ينقل صورة أخرى مشوقة للتضامن الاجتماعي (الليلة الساهرة الكبرى الممتازة التي لم يسبق لها مثيل لمنفعة تعاون الحلاقين، ليلة الجمعة (7) تشرين الثاني عام 1929 على مسرح (أوتيل) الجواهري الشهير، ستحييها نخبة من اشهر اجواق العاصمة ومطربيها، فهلموا، يا أصحاب الذوق السليم وعشاق الطرب، الاثمان بخسة جداً جداً، انتظروا الاعلانات اليدوية، الموقع الأول، 2 روبية ، الموقع الثاني 1 روبية.
وتؤشر الاعلانات التي كانت توزعها رويال سينما، طابع الحياة الفنية في بغداد، فقد كانت هذه السينما تتعاقد مع فرق أجنبية وعربية مثل فرقة حقي الشبلي وبشارة واكيم ويوسف وهبي وفاطمة رشدي وجورج ابيض ودولت ابيض، وكان ليل بغداد المميز يسهر مع هذه النجوم وسواها في دعة ورقة.
أو هذا الاعلان وهو مخصص للسيدات فقط، وهو يعطي صورة عن طبيعة وضع المرأة البغدادية وقدرتها على الحركة وامكانياتها.
(رواية ماجدولين تمثلها جمعية احياء الفن على مسرح الرويال سينما، عصر الجمعة الموافق 20 كانون الأول 1929 في الساعة الواحدة زوالية بعد الظهر) وكل هذه الاعلانات تتحدث عن مواقع في شارع الرشيد الذي يمكن ان يستمر الحديث عنه بلا نهاية.
شارع الرشيد ملك شوارع بغداد
قلنا ان شارع الرشيد ينتهي أو يبتدئ عند باب كلواذى أو الباب الشرقي ومن هذه النهاية أو البداية بحسب اتجاهك يمكنك التطلع إلى البقجة مله سي أو حديقة الامة قبل ان تنهض جدارية جواد سليم الخالدة ثم تتسلل منها إلى البتاويين فتلج بيوت حاكة (البته) العباءتين النقيض (للجوخ) ويضرب عن هاتين العبائتين مثل بغدادي يقول (ضيعنا الجوخ والبته) ثم كرادة النخيل بعد البتاويين، أو تبدأ بالرشيد من ساحة الميدان وسوق الهرج وهو من اقدم واشهر اسواق بغداد، ولا يمكنك ان تغفل عمو الياس وشربت حجي زبالة وحانة شريف وحداد وبار عنتر ولوكانو واكسبريس ومطعم تاجريان وابن سمينة وحاج خيرو والحوذي الشهير شيخان ذو الطرائف المعروفة ونكاته التي لم تكن تعفي احداً من سياطها اللاذعة. حتى كبار السياسيين لم يفلتوا من لسانه، وشفتالو البرلمان وخليلو القزم وعباس بيزه من الشخصيات البغدادية الطريفة والشقاوات، وقصر سليمة باشا أو سليمة مراد الذي كان يقع في حارة اليهود، وتعقد فيه مجالس الأنس والطرب ويجتمع فيه السياسيون وكبار التجار، وفيه النجمة المشرقة التي وصفها احد الظرفاء بانها (تفك المصلوب) شقيقة سليمة باشا واسمها ريجينا لقد كان شارع الرشيد حقاً ملك شوارع بغداد.
الأولياء والاساطير والانغام
ما زال البغداديون يتساءلون اين ذهب طوب أبو خزامة الذي كانوا ينذرون له النذور ويضعون الأطفال حديثي الولادة في فمه ويعطرونه ويضعون عليه الحناء، وهو مدفع جلبه معه السلطان التركي مراد الرابع في حملته على بغداد، وما زالوا يترددون على قبر أبي شيبة في شارع الرشيد الذي لم تفلح الشفلات في هدم ضريحه بحسب الروايات البغدادية، ويمكنك استعادة مدائح الدراويش البغداديين في حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني، واصوات الارغن في كنيسة اللاتين أيام الاب انستاس الكرملي، وصافرات جرخجية بغداد والمسؤولين عن انارة فوانيس الاحياء النفطية قبل ان تصل بغداد مكائن توليد الطاقة الكهربائية (الديزل)، وتحكي لك النسوة البغداديات عن نذورهن عند خضر الياس ودفعهن (الكرب) المحمل بالشموع على سطح مياه دجلة، وصوم زكريا والطبول التي لا يبقى طفل بغدادي لا يشتريها يوم الأحد الخامس بصوم زكريا، وتلك الانغام المتسربة إلى الشوارع من داخل المقاهي لصديقة الملاية وسليمة باشا وزهور حسين ومحمد القبانجي ورشيد القندرجي ويوسف عمر وناظم الغزالي.
هل يكفي كل هذا في نقل ملامح بغداد وهويتها وروحها، هل ستستعيد هندسة الدور البغدادية خطوطها القديمة فيعود السرداب والبادكير إليها، وتعود إليها الشناشيل البارعة السحر؟ هل يعود سوق الصفافير إلى منتجاته النحاسية القديمة؟ ولو تلك الفنية منها وحسب وليس المستخدمة منزلياً كالسابق فقد تغيرت الظروف ونحن نقر بذلك، ولأن الظروف تغيرت وتثقف الناس ثقافة أخرى واستخدموا ادوات مختلفة وسكنوا الشقق والفلل والقصور التي اختلفت هندستها وهم يستوطنون احياءً قطعت اواصر العلاقات الاجتماعية بينهم ويستخدمون وسائط نقل تنفث سموم محروقاتها في فضاء المدينة فتلون بيئتها ويسلكون شوارع مكتظة بالعربات، وقد اختلفت اعمالهم وطرق تسليتهم والموسيقى التي يسعون والاغاني التي يغنون، لكل هذا ندرك تمام الإدارك انه لا شيء مما ذكرناه يمكن ان ينهض من جديد، لكننا نؤكد انه يمكن استيحاؤه لرسم صورة بغداد القادمة وتصميمها الأساس حتى لو كانت مدينة مترو وانه يمكن الحفاظ على ما بقي حياً من تراث المدينة، وان نتجنب كل ما من شأنه ان يجعلها مدينة مترهلة غريبة هجينة مشوهة.
ضوابط البناء والتجديد
استغل الكثيرون سقوط النظام المباد وغياب الدولة وضعف سيطرة اجهزتها فقاموا بهدم دور بغداد التراثية، وهي وان كانت ملكهم الخاص إلا أنها بطابعها المعماري الفريد تعد ثروة عامة وقد بنوا بدلاً منها عمارات اسمنتية وشققا على الطراز الغربي البعيد عن الهوية البغدادية، وقام آخرون بالاستيلاء على فضاءات كان مقصوداً ابقاؤها فارغة من البناء لإراحة العين من الاصطدام بالجدران فقط ولأسباب جمالية وبيئية فهي في الغالب حدائق، لذا نرى ان من الضرورة بمكان وضع ضوابط مدروسة بدقة لمنح اجازات البناء الجديد أو هدم الدور القديمة، وازالة التجاوزات على الأراضي والمساحات التابعة للدولة والأرصفة، فبعض الحدائق التي لم يتمكن البعض من البناء فيها، تحولت إلى مخيمات تحمل لافتات تشير إلى أنها مطاعم أو مقاه وتحولت بعض الساحات الفارغة إلى معارض للسيارات وثمة مخالفات عديدة تهدد بتشويه الوجه البغدادي أكثر فأكثر فهل من سعي جاد من قبل بلديات بغداد والأجهزة الأخرى لمنع هذا التشويه؟
البيت الموصلي جماليات الإنسان والمكان والفن
باسل طاقة
للبيت الموصلي عراقة مميزة تختزل الفنون والأذواق، وهو شاخص يعبر عن حضارة صاغها الإنسان العراقي في هيكلية ناضجة وثبت اركانها لتبقى صامدة في متوالية الزمن والاندثار.
مدينة الموصل تعبر عن زمنين الأول هويتها المعمارية الاصيلة، والثاني انفتاح حاضرها على طرز حديثة ومتجددة. وإذا ما اخذنا الموصل من جانب أنها من اقدم حواضر العراق فإن مساحة ما يمثل الهوية المعمارية الاصيلة فيها هو الاوسع مقارنة بباقي المدن العراقية؛ ففي الموصل القديمة تتوفر طرز معمارية مختلفة تندرج في مفهوم البيت الموصلي وهذا البيت يختلف من ناحية الفضاء والتكوين عن مثيله في المدن العراقية الأخرى.
وإذا ما نظرنا إلى البيت الموصلي من الناحية المورفولوجية فهو يتصف بواجهات جدارية صماء، أي انه ما عدا مداخله لا يوجد فيه أي منفذ آخر عدا بضع النوافد الصغيرة التي صممت مواضعها في اماكن مرتفعة. وهذا التركيب ينطبق أيضاً إلى حد ما على الشخصية الموصلية المنغلقة على نفسها بصورة أو بأخرى وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية مختلفة. ويكاد يكون البيت الموصلي نسخة جامدة من إنسان تلك البيئة بجماليته وسريته التي تكون في أحيان معينة حكراً لنمطية حياتية مؤمّنة ضد الاختراق.
مميزات البيت الموصلي
لا يختلف تخطيط البيت الموصلي عن تخطيط البيوت الأخرى في المدن الإسلامية القديمة، ولكنه يتميز من ناحية مواد البناء ووجود السراديب ذات الاستخدامات المختلفة، فضلاً عن الفن التجميلي الذي يتمثل في استعمال الزخارف المختلفة وقطع الرخام الأزرق الذي تمتاز به مدينة الموصل.
البيت الموصلي اقرب إلى التحصين من غيره؛ فجدرانه سميكة وعالية ولا توجد فيها نوافذ تطل على الخارج، وحجراته واسعة ومقببة لاغراض مناخية وانشائية؛ فهي تحد من الحرارة داخل البيت بسبب الفراغات الداخلية الكبيرة التي تسمح للهواء بالحركة، كذلك تخفف الضغط والثقل على الحيطان الجانبية. وتوجد في البيت الموصل تكوينات لها استخدمات مختلفة تأخذ بالاعتبار تبدل الفصول، وايضاً حفظ الحبوب والطعام في اماكن خاصة تبنى لهذا الغرض.
تختلف بيوت الموصل حسب حالة اصحابها ولكنها متقاربة من ناحية مواد البناء المستخدمة، فهي تتكون من مادة حجر الصوان والجص ويتم تغليفها من الداخل والخارج بقطع الرخام الازرق الذي يسهل فيه النحت ويعطي جمالية مميزة.
التركيب الداخلي للبيت الموصلي
التقينا المهندس عصام مال الله الذي حدثنا قائلاً:
تصميم البيت الموصلي يتمتع بمميزات منها وجود الحوش، وهو فضوة مسقوفة تحيط بها الغرف، ولكل غرفة وظيفتها الخاصة كأن تكون إحداها مخصصة للضيوف واخرى للعائلة وثالثة للنوم ورابعة لحفظ المواد الغذائية. كما يتميز البيت الموصلي بوجود ما يمسى بالحاجز المنكسر الذي يعقب مدخل الدار وذلك حفاظاً على حرمة العائلة. واهم ما يميز البيت الموصلي من ناحية التصميم هو وجود السراديب الكثيرة، التي تستخدم لاغراض مختلفة، ونجد ان بيوت بعض المتنفذين كانت متصلة مع بعضها بممررات تمتد عشرات الامتار تحت الأرض، وبذلك فان نساء البيت لا يحتجن إلى الخروج لزيارة الاقرباء الذين عادة ما يتجاورون في السكن، فينتقلن من بيت إلى آخر عبر السراديب التي تربط بين تلك البيوت.
وبشكل عام فان السراديب في البيت الموصلي لها وظيفتان رئيستان أولاهما حفظ المواد الغذائية وثانيتهما خدمة سكنة الدار في اوقات الصيف لانها تساعد على تلطيف درجة الحرارة العالية في داخله.
أقسام البيت الموصلي
وعن أقسام البيت الموصلي حدثنا المهندس عصام الله قائلاً:
ان جمالية البيت تبرز في مهارة البناء ولأن مادة البناء هي الحجر فان ذلك يحتاج إلى جهد كبير يتمثل في جعل قطع الاحجار منتظمة ومنسقة. ويمكن اجمال أقسام البيت الموصلي بالتالي إلى:
السقوف المقببة: السقوف المقببة (العقدة) من أهم مظاهر البناء ويتم تنفيذها بالبناء فوق الجدران الاربعة وإمالة ذلك البناء إلى الداخل والاعلى ثم على شكل حلقات متتالية تنتهي في مركز الحجرة ويعتبر البيت شبه كامل بعد شد العقدة.
الحوش: هو فناء البيت ويكون غير مسقف، وقد تخصص مساحة في وسطه لحديقة صغيرة أو نافورة تسمى (بقجة).
الايوان: هو فراغ كبير بين غرفتين ويكون مفتوحاً على الحوش وعلى شكل تجويف، ويكون ارتفاع سقفه أكثر من ستة أمتار ويستخدم للجلوس فيه صيفاً ويستقبل فيه الضيوف.
غرفة الجلوس: وتسمى باللهجة الموصلية (اودة القعدي) وهي غرفة واسعة تطل على الحوش بشبابيك عالية وواسعة، وتكون مغلقة من الداخل بالرخام الموصلي الازرق كما ان فيها تجاويف توضع فيها مقتنيات الأسرة من الزجاجيات أو مقتنيات فنية أخرى. وتستخدم هذه الغرفة في الجلوس شتاءً واستقبال الضيوف. ويكون بابها من الخشب السميك.
غرفة المونة: وهي غرفة صغيرة تبنى بجوار المطبخ عندما يكون البيت صغيراً ولا يتوفر فيه السرداب.
الاخشيم: هناك عدة انواع من الاخشيم في البيت الموصلي وهو عبارة عن فراغ يترك بين الغرف ويكون ضيقاً ومغلقاً وله فتحتان؛ الأولى في السطح والثانية في الحوش ويستخدم لحفظ مواد مختلفة مثل الحنطة أو وقود التنور.
الرهرة: وهو بناء تحت الغرف بعمق قليل ينزل إليه بعدة درجات ويبطن من الداخل بالرخام الموصلي وله شبابيك دائرية تطل على الحوش، ويستخدم صيفاً كمكان للجلوس أو النوم لبرودته.
السرداب: وهو مشابه للرهرة ولكنه أعمق منها وأكثر برودة، ويتم بناؤه تحت الغرف أيضاً باستخدام الرخام وفيه اعمدة لاسناد السقف ويعمل له فتحات تطل على الحوش تسمى (زنبوغ) ويستخدم السرداب للمونة والحاجات البيتية الأخرى.
السرداب المعتم: وهو أعمق من السرداب ويقع في نهايته ويكون رطباً وبارداً جداً في الصيف، ولهذا لا ينام فيه اهل البيت حتى في الصيف لبرودته وتحفظ فيه المواد الغذائية أو شعلة التنور.
التفكير الطائفي لا يتحمل اسم أبو جعفر المنصور و لا هارون الرشيد و لا المأمون