ليتني أسيرة إسرائيلية.. ويزورني السنوار
قلبت عملية 7 أكتوبر حياة سكان غزة رأساً على عقب بعدما كان ينعم أهلها بحياة كريمة ولو بمقومات أقل من غيرهم في الدول الأخرى. وتليق بهم الحياة رغم الحصار الإسرائيلي المفروض عليهم منذ سيطرة حماس على القطاع في 2006.
لم يتخيل أحد ممن يعيشون في غزة أن تتحول حياتهم إلى جحيم بين ليلة وضحاها إلى الأبد بعد أن دخلت الدبابات الإسرائيلية غزة رداً على الهجوم المباغت لحماس على إسرائيل. فهدمت بيوتهم ومدارسهم ومكاتبهم ومستشفياتهم ومخابزهم وحتى مساجدهم، وقضت على أحلامهم وكل ما تبقى من آمالهم.
هم اعتادوا الحروب والدمار والدماء لكن هذه المرة مختلفة تماماً.. (لا ندري على وين رايحين؟) هذا ما قاله لي أحدهم وهو ينزح إلى رفح بعدما وصل خان يونس نازحاً من الشمال.
لست هنا لأتحدث سياسياً لكني سأنقل صورة إنسانية من هناك، فأنا ابنة غزة ولي فيها أهل وأحباب وذكريات قليلة من زيارات معدودة.
بات الآن 80% من أهالي غزة نازحين، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
هناك محظوظون نزحوا من الشمال إلى الجنوب ويعيشون عند أقاربهم لكنهم يتكدسون بأعداد كبيرة في غرف ضيقة، بينما الأقل حظاً يعيشون في مراكز للإيواء أو خيم في ظروف إنسانية تصعب الكلمات على وصفها.
أما الصور والمقاطع المصورة للدماء التي تسيل كل يوم، والأطراف المبتورة هنا وهناك لأطفال وشباب فهي تتحدث عن نفسها.
كل يوم يمر هو أصعب من اليوم الذي يليه على من يتابع عن بعد.
فكل يوم منذ شهرين ونحن نخشى الصباح خوفاً من أن نمسك هواتفنا ونتفقد أحبابنا هناك لتمر الثواني ثقيلة جداً في انتظار الرد. فكل عائلة في غزة فقدت في هذه الحرب عزيزاً وأكثر.
أما مَن بالداخل فيعيشون في جحيم في ظل قصف متواصل من عدو لا يرحم وسط غياب تام لمقومات الحياة، فلا ماء نظيفا للشرب ولا ماء حتى للاستحمام، ولا طعام ولا دواء ولا أي شيء.
خلال الهدنة، إحدى صديقاتي قالت لي بعد أن نزحت إلى خان يونس في محادثة هاتفية: ليتهم يأخذونني إلى أماكن الأسيرات الإسرائيليات بدلاً من أن أتشرد مع أطفالي بالشوارع تحت أهوال القصف، ويأتي السنوار ليطمئنني أننا في أمان وبخير!
أما بعد الهدنة، فالآلاف ومن ضمنهم أغلب من أعرف وصلوا إلى رفح بطلب من الجيش الإسرائيلي الذي يحاول دفعهم نحو الحدود المصرية بحجة الإخلاء بحثاً عن قادة حماس، وربما تهجيراً.
فالمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ريتشارد هيخت، هو أول من تحدث عن ذلك بشكل غير مباشر، فقد قال بعد أيام من بدء الحرب: “معبر رفح لا يزال مفتوحاً.. وأنصح أي شخص يمكنه الخروج بالقيام بذلك”، قبل أن يعدلوا تصريحه بذكر أن المعبر مغلق.
وفي وقت لاحق، وصف وزير الزراعة الإسرائيلي آفي ديختر ما يحدث في غزة من عملية نزوح للسكان إلى جنوب القطاع بأنه “نكبة غزة”، وهو ما يعزز معتقدات ومخاوف كثير من الفلسطينيين الذين أجبروا على ترك منازلهم، من أنه لن يسمح لهم بالعودة كما حدث لأسلافهم في حرب عام 1948.
سألت صديقتي ذاتها وهي أم لأربعة أطفال في أول أيام الحرب بعدما قصف منزلها وسويت عمارة عائلتها بالأرض: ماذا تتوقعين؟ قالت لي: حتماً لن نعود ولن نرى غزة مجدداً.
هي الآن تبحث عن شقة أو حتى غرفة في رفح، وتعيش كغيرها كابوساً لم تستوعبه بعد. قائلة: ماذا استفدنا من هجوم 7 أكتوبر، هدموا بيوتنا وقتلوا شعبنا وسيهجروننا؟ حتى غزة سيتم احتلالها مجدداً!
صديق آخر وصف لي ما فعلته حماس بأنه مغامرة غير محسوبة العواقب، وقال لي (هم لا يهمهم نحن.. يهمهم تحقيق انتصاراتهم المعنوية فقط بينما نحن الثمن).
قلت له: لكن إسرائيل كانت تخطط لاحتلال غزة.. قاطعني وقال: والآن قدمت حماس لهم الفرصة على طبق من ذهب (ليخلصوا علينا وعلى كل غزة).
ما حدث هو نتيجة عمل حماس بلا شك، اختلفنا أم اتفقنا حول ذلك.. ما دفع الاحتلال لممارسة كل أنواع التدمير والحرق والقتل بحق الفلسطينيين انتقاماً من حماس وبحجة الدفاع عن النفس.. وهو ما تؤكده أميركا والغرب كل يوم!
ما زالت المجازر مستمرة حتى كتابة هذا المقال، وأكثر من 15,500 ألف فلسطيني قتلوا في غزة وغيرهم الآلاف تحت الأنقاض، إضافة إلى 41 ألف جريح (بحسب وزارة الصحة بغزة)، بينهم من فقدوا أطرافهم، وآخرون ذابت جلودهم وتهتكت عظامهم، وكلهم ليسوا أرقاماً، هم بشر لهم حياتهم وأحلامهم.
لذلك أتساءل كل يوم بحثاً عن إجابة:
هل توقع أصحاب قرار 7 أكتوبر نصف ما حدث؟ هل كانوا يدركون أن الثمن سيكون باهظاً جداً؟
ما هو شعور قادة حركة حماس بعدما أصبح أغلب شعب غزة بدون مأوى؟
هل تغفو عيون يحيى السنوار ومحمد الضيف بينما النساء يصرخن ألماً، والأطفال يبكون وجعاً، والرجال ينهارون قهراً!
هل تخيلوا ولو لحظة أن تحول إسرائيل غزة إلى قطعة من الجحيم لأنه جارٍ البحث عنهم؟
كونهم حركة إسلامية وحكموا غزة، هل سمعوا عن حديث الرسول عليه الصلاة والسلام (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)؟؟؟؟