كشف مدير شعبة أميركا في مخابرات “البعث” العراقي سابقاً سالم الجميلي، عن الحديث عن قصة محاولات اغتيال الخميني من قبل نظام صدام حسين في العراق.
أعنقال سالم الجميلي عام 2003
هذا وبحسب الجميلي، حين غزت القوات الأميركية العراق في 2003 كان الاخير مديراً لشعبة أميركا في الجهاز. سارع إلى إتلاف ما أمكنه من الأرشيف، لكن القوات الأميركية لم تتأخر في اعتقاله وأمضى في سجونها تسعة أشهر غادر بعدها إلى عمان ثم ابتعد.
وفي مقابلة مع صحيفة الشرق الاوسط، قال الجميلي، “في منتصف الستينات جاء الخميني إلى العراق ولم يكن ناشطاً في البدايات. بعد ثورة تموز 1968 اتخذ العراق موقفاً معارضاً لقرار الشاه ضم الجزر الإماراتية الثلاث. حرّك الشاه محمد رضا بهلوي قواته في اتجاه الحدود العراقية بوصفها ورقة ضغط وتهديد. حضّ الخميني الجنود الإيرانيين على التمرد وعدم الانصياع لأوامر الشاه، معتبراً أنه لا يجوز لمسلم أن يقاتل مسلماً. دعم الشاه المعارضة الكردية في العراق وبدأنا دعم المعارضة الإيرانية ضده. سمحنا للخميني بأن يأتي بجماعته وأصدرنا لهم جوازات وسمحنا لهم بإذاعة وبدأ نشاطه السياسي”.
هذا وقد أضاف، “تولّى التنسيق مع الخميني رفيق قديم للرئيس اسمه علي باوه، كان شارك في تأسيس “مكتب العلاقات العامة” الذي انبثق منه جهاز المخابرات. قدّم باوه للخميني وجماعته مختلف أشكال الدعم وحمّله الخميني أكثر من مرّة شكره للقيادة العراقية”.
إتفاقية الجزائر عام 1975 .
وتابع، “بعد اتفاق الجزائر في 1975 أوقفت إيران دعمها فانهارت الحركة الكردية. وكان من ضمن شروط الاتفاق أن يتوقف نشاط المعارضة الإيرانية على أرض العراق. تم لفت نظر الخميني إلى ضرورة مراعاة الوضع الجديد واحترام شروط العلاقة مع إيران. لم يقبل، ثم راح يتمادى. أبلغناه أن عليه مغادرة العراق إذا كان مصرّاً على مواصلة نشاطه. حاول التوجه إلى الكويت وبقي عالقاً في منطقة الحدود ثم وافقت السلطة العراقية على عودته إلى النجف.
حصل ارتباك في موضوع الخميني وفي العلاقة مع طهران بعدما تأكدت صعوبة تجاوبه أو السيطرة عليه. في هذا المناخ ناقشت قيادة الجهاز المشكلة وما يمكن أن يسببه إصرار الخميني على مواصلة نشاطه. في أحد الاجتماعات اقترح أحد الضباط اغتيال الخميني وتحميل المرجع الشيعي أبو القاسم الخوئي مسؤولية اغتياله، وبالتالي يتم التخلص عملياً من الاثنين. لم يجرؤ الجهاز على عرض الشق الثاني من الاقتراح على الرئيس واكتفى بعرض الشق الأول، أي اغتيال الخميني. لم يوافق الرئيس على الاغتيال ولا على تسليمه لمخابرات الشاه، وقال: “ألا تعلم المخابرات أنه ضيف العراق؟”، وفقا للجميلي.
الخًميني في باريس
وذكر، “في هذه الأجواء غادر الخميني إلى باريس. أراد صدّام استطلاع نوايا الخميني للمرحلة اللاحقة خصوصاً بعدما بدا أن نظام الشاه يترنح. كلّف الرئيس علي باوه الذي كان على علاقة مع الخميني بالتوجه إلى باريس وهذا ما حصل. سيترك ذلك اللقاء آثاره على المرحلة التالية. سأل باوه الخميني عما يمكن أن يفعله في حال سقوط الشاه وعودته إلى طهران، وجاء رده قاطعاً أن الأولوية بعد نجاح الثورة الإسلامية ستكون إسقاط نظام “البعث” في العراق. استمع صدام إلى تقرير مبعوثه فاستنتج أن المواجهة حتمية في حال عودة الخميني إلى طهران وهي تبدو شديدة الاحتمال.
القصة الكاملة .
بداية عام 1978، اندلعت الاحتجاجات في الحوزة العلمية بمدينة قم الإيرانية ضد حكم الشاه محمد رضا بلهوي لتعم كل البلاد. وعاشت المدن الإيرانية طوال أشهر على وقع اضطرابات ومواجهات عنيفة بين المحتجين وقوات الأمن.
وكان الخميني المنفي عن إيران منذ عام 1964 أحد أبرز رموز تلك الثورة.
الخميني الغائب عن شوارع طهران، ظهر بشكل غير متوقع في أكتوبر/ تشرين الأول في ضواحي باريس ليقود الثورة الإيرانية.
الخميني يظهر في فرنسا
وقال المصور المرافق للخميني في باريس، ميشال سيتبون: “كانت أول مرة نراه بصفته الحقيقية، لم يره أحد من قبل. لم يكن معروفًا من قبل أي إيراني باستثناء من كانوا في العراق”.
من جهته، أشار الصحافي المقيم في باريس أحمد الشيخ إلى أنه كان يتساءل كيف وصل إلى باريس، وقال في حديث إلى “العربي”: ” كنا نحاول أن نفسر هذا الحدث، الخميني في فرنسا كان بالنسبة لنا مشهدًا غريبًا”.
وبعد أن قضى أكثر من 15 عامًا متواريًا في المنفى بعيدًا عن إيران، ظهر الخميني في صبيحة أحد أيام أكتوبر عام 1978 في بلدة فرنسية في ضواحي العاصمة باريس محاطًا بأنصاره، وكانوا يهتفون لسقوط نظام الشاه في إيران من أوروبا هذه المرّة.
وأوضح أستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة أستراليا الوطنية علم صالح، في حديث إلى “العربي”، أن الخميني لم يكن يُعرف في العالم بصورة عامة، ولا حتى في العالم العربي أو الغربي قبل ذهابه إلى باريس.
كما كان الاحتقان الشعبي في شوارع إيران يُنذر بأن البلاد قد وُجدت فيها كل أسباب ثورة شعبية غير مسبوقة. وكان الغضب سمة مشتركة بين التيارات السياسية الإيرانية على اختلافها من سياسات شاه إيران رضا بهلوي الذي بدأ رصيده الشعبي يتهاوى.
لكن في الوقت نفسه، كانت صور الزعيم الديني الخميني الغائب عن إيران في المنافي منذ عام 1964، ترتفع ويعلو التأييد لدعوته بسقوط حكم الشاه.
كيف وصل الخميني إلى فرنسا؟
لفت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس خطار أبو دياب إلى أن الخميني كان ضيفًا في العراق، ولكن في لحظة معينة لم يعد مقبولًا هناك. وكان ينوي المرور نحو الكويت لكن يبدو أنه رُفض هناك، وكان يفتش عن ملجأ في مكان آخر. وقال أبو دياب: “يبقى اختيار باريس لغزًا”.
وخلقت سياسات شاه إيران رضا بهلوي معارضين كثرًا له، ولم يكن الخميني سوى أحد الأصوات المزعجة التي اعتقد الشاه أنه بإبعاده غربًا سيخفت صوته وتتلاشى رمزيته.
وقال سيتبون: “إن المقربين من أول رئيس للجمهورية بعد الثورة أبي الحسن بني صدر هم من اتصلوا بي في طهران ليطلبوا مني القدوم إلى باريس بسرعة لأن الخميني كان قد وصل. فأخذت الطائرة من طهران إلى باريس وقد وصلت تقريبًا في نفس اللحظة أو في اليوم التالي لقدوم الخميني”.
وبحسب سيتبون، لقد تم اختيار فرنسا وجهة له لأن الإيرانيين لا يحتاجون لتأشيرة دخول، وبالتالي دخل الخميني فرنسا دون تأشيرة كأي مواطن عادي، ومكث عند بني صدر الذي أصبح فيما بعد وزيره الأول.
ولفت الصحافي الشيخ أنه عندما جاء إلى فرنسا سكن في اليوم الأول في بيت أحد الأطباء الإيرانيين، ولكن بسبب إجراءات الأمن غير الكافية، قررت الشرطة بالاتفاق مع مساعديه أن ينقلوه إلى المكان الذي ذهب إليه خارج باريس.
تحت شجرة التفاح
أقام الخامنئي لمدة 117 يومًا في منزل أصبح قبلة تستقبل الإعلام ورجال السياسة والمعارضين الإيرانيين الساخطين على نظام الشاه.
وكان الخميني يجلس تحت شجرة تفاح بالقرب من المنزل ويستقبل الناس. وفي صورة رجل الدين الشيعي المحافظ، كان الفرنسيون يتأملون صورة غير معتادة لزعيم حركة سياسية معارضة تختلف أصولها مع توجهاتهم وتتقاطع غاياتها في إسقاط الشاه مع أهدافهم أيضًا.
لم ترحب به الصحافة الفرنسية ولا سيما الصحف اليمينية، ويعود ذلك للخلفية الدينية التي أثارت حفيظتها.
باريس المنفى وحاضنة المعارضة .
وكانت باريس منفًا للخميني وحاضنة لحركة معارضة غير مسبوقة ضد الشاه. وقال أبو دياب: “كانت فرنسا تحت حكم رئيس من اليمين الوسط ليس لديه خبرة في العلاقات الدولية وهو جيسكار ديستان”.
ويذكر المصور كلمة قالها الخميني له: “أنا لست أهم شخص في الأحداث الجارية، عليك أن تواصل عملك وعليك العودة إلى إيران ومواكبة الثورة، فالثورة تدور هناك”.
غادر الشاه وعاد الخميني. سارعت التيارات الإسلامية الشيعية في العراق إلى التعاطف والتفاعل. وراح الخميني يحرّض المرجع العراقي محمد باقر الحكيم على إعلان الثورة الإسلامية في العراق. هذا المناخ من الكره للنظام العراقي كان وراء التحرشات التي قامت بها إيران عبر وكلائها وخصوصاً محاولة اغتيال طارق عزيز وسعدون حمادي وزرع عبوات. تسارعت مؤشرات المواجهة لهذا احتفظنا طويلاً بطيار إيراني أُسقطت طائرته فوق العراق قبل اندلاع الحرب كدليل على أن إيران كانت عملياً الجهة التي بادرت، بحسب الجميلي.
وأكمل، “حين انتصرت الثورة الإسلامية في إيران كانت تضم خليطاً من القوى ومؤسساتها هشة. انقلب الخميني على مجاهدي خلق وأعدم قياداتهم على رغم الدور الذي لعبوه في إسقاط الشاه. بدأت الحرب وكان علينا أن نستجمع عناصر القوة الضرورية. صارت المواجهة مفتوحة وبلا ضوابط. كانت لدى “مجاهدي خلق” عناصر متمرسة وصلبة وصاحبة خبرة في العمل العسكري والأمني ولديها جذور في المجتمع. وكانت لدينا علاقات سابقة أيضاً مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني. هذه العلاقات مكّنت المخابرات العراقية من توجيه ضربات موجعة إلى النظام الإيراني.
ووفقا للجميلي، قدّم جهاز المخابرات كل سبل الدعم الإعلامي والفني والمادي والعسكري لـ الديمقراطي الكردستاني ومجاهدي خلق وكان الهدف الأول مجلس الشورى الإيراني وبإشراف مباشر من برزان التكريتي. وضعت خطة لتفخيخ مقر الاجتماع ونفذت في 28 يونيو (حزيران) 1981 فقتل آية الله حسين بهشتي رئيس السلطة القضائية و72 شخصية قيادية، بينهم وزراء ونواب ومسؤولون في قطاعات مختلفة. كانت الضربة قوية وشديدة وبدت المخابرات العراقية قادرة على الوصول إلى أماكن كان يُفترض أن تكون حصينة.
وقال الجميلي، “المرشد الإيراني الحالي علي خامنئي استُهدف هو الآخر. أثناء إلقائه خطبة انفجرت عبوة مزروعة في جهاز تسجيل وتسببت في شلل في يده اليمنى، كان مقرراً أن يحضر الخميني ذلك الاجتماع لكنه تأخر ونجا”.
كان برزان التكريتي يتطلع إلى تحقيق الضربة الكبرى، وهي اغتيال الخميني نفسه. في 1981 ظهر احتمال تنفيذ عملية من هذا النوع. ولم يكن الوصول إلى الخميني سهلاً لكن وجود رجل دين على مقربة منه وربما يكنّ تعاطفاً مع “مجاهدي خلق” سهّل المهمة الصعبة. تولى فريق من الجهاز إعداد عبوة صغيرة نُقلت وزُرعت في وسادة الخميني التي كانت من الوبر. انفجرت العبوة في توقيت خاطئ كان فيه الخميني خارج المنزل لكن مجرد الوصول إلى غرفة نومه أثار حالة من الرعب في صفوف قيادات الثورة الإسلامية. كان الجهاز يخوض معركة حياة أو موت وكانت كل الضربات مباحة، بحسب زعم الجميلي.
لم تقتصر المواجهة بين المخابرات العراقية والإيرانية على أراضي البلدين بل تعدتها إلى ساحات قريبة وبعيدة. ويقول الجميلي إن الكويت كانت مسرحاً لصراع مرير خصوصاً أن حزب “الدعوة” العراقي المؤيد لإيران استخدم أراضي الكويت لتنفيذ عمليات ضد النظام العراقي. ويتهم الجميلي إيران بأنها حاولت في 1985 اغتيال أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح. وعندما قامت مجموعة من حزب “الدعوة” في أبريل (نيسان) بعملية جامعة المستنصرية مستهدفة طارق عزيز ردّت المخابرات العراقية بمحاولة اغتيال وزير الخارجية الإيراني صادق قطب زادة وهو في طريقه للقاء أمير الكويت. كما شهدت الكويت أيضاً استهداف السفارة الإيرانية فيها بقذائف، ومحاولة اغتيال لمسؤول في حزب “الدعوة” وهجمات أخرى.
محاولة الخميني نقل الثورة إلى الداخل العراقي كانت مصدر قلق كبير للنظام العراقي وأجهزته. وقد دفع المرجع الشيعي السيد محمد باقر الصدر حياته في هذا المناخ، كما يقول الجميلي.
وأضاف، “كان الصدر من أبرز منظّري الفكر الإسلامي الشيعي ما أعطاه شعبية واسعة وتأثيراً في صفوف الشيعة العراقيين. كانت أفكاره ثورية مخالفة لمنهج المرجع محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي اللذين كانا يعارضان إقحام الدين في السياسة، ولعلهما تخوفا من أن يؤدي هذا الإقحام إلى إنهاء دور المرجعيات الدينية في النجف ونقل مركز القيادة الشيعية إلى إيران”.
بعد نجاح ثورة الخميني في إسقاط نظام الشاه في 1979 ازداد تأثير الصدر في الوسط السياسي الشيعي المعارض للنظام في بغداد. وكان واضحاً أن الخميني يحث الصدر على الدعوة إلى ثورة إسلامية تطيح نظام “البعث”. يقول الجميلي إن الصدر وجد نفسه جزءاً من حالة الصراع بين الدولتين والحرب التي كان يجري الإعداد لها من جانب الخميني. لم يتجاوب الصدر وأظهر قدراً كبيراً من الممانعة. أرسل الخميني إلى الصدر رسالة سرية يدعوه فيها إلى الشروع في العمل من أجل إطلاق ثورة إسلامية وعندما لم يتجاوب سرّبت الإذاعة الإيرانية نبأ الرسالة وكأنها تزوّد السلطات العراقية بدليل على تبادل الرسائل السرية بين الرجلين. وقد يكون الهدف إزاحة الصدر لأنه لم يدعم مشروع الخميني. وكشف الصدر للسلطات العراقية مضمون الرسالة السرية بعدما أعلنت إذاعة إيران عنها.
واردف الجميلي، “في أبريل 1980 أرسل الصدر أحد رجال الدين المقربين منه الشيخ (ع.خ) للقاء مدير المخابرات برزان التكريتي الذي طلب من أحد المديرين العامين استقبال الرجل. كان فحوى الرسالة التي حملها الشيخ هي أن السيد الصدر يبلغكم السلام، ويقول إنه سيترك العمل السياسي والحزبي ويتفرغ للمعرفة والكتابة ويطلب المحافظة على حياته. أثارت رسالة الصدر تساؤلات عن الجهة التي يعتقد الصدر أنها تهدد حياته… وما إذا كان يشعر بالقلق من المخابرات العراقية أم إيران. عرض الجهاز على الصدر الانتقال من النجف إلى بغداد لتأمين الحماية له وإفساح المجال لمريديه وأتباعه لزيارته.
أرسل برزان كتاباً إلى رئاسة الجمهورية ضمّنه فحوى رسالة الصدر وتصور جهاز المخابرات للتعامل مع قضيته وجاء في الكتاب:
جاء فيها .
*إن الصدر يختلف عن الحوزات التقليدية ويتقاطع معها وله منحى خاص في التعاطي مع المعرفة والثقافة.
*لا ينكر الصدر انتماءه القومي بل يعتز به.
*لا يؤمن بولاية الفقيه إنما يؤمن بالشورى في إدارة الدولة.
*إذا اغتيل الصدر أو أُعدم فإن أفكاره ستتسع وستصبح كما هي أفكار سيد قطب التي أُعيد طبعها 45 مرة بين 1966 وصولاً إلى 1980.
*يقترح الجهاز رعاية الصدر وتأمين حياته ونقل مقر إقامته من النجف إلى بغداد والسيطرة على نشاطاته واتصالاته والسماح لمريديه وأتباعه بزيارته.