مقالان عن العراق في الصحف العربية يوم الجمعة

1 انتخابات على الطريقة العراقية
فاروق يوسف العرب
الانتخابات المقبلة في العراق لن تكون سوى محاولة لإضفاء نوع من الشرعية على إجماع لم يجر إلا بسبب إفلاس الطرفين الكردي والسني بعد أن تسببا في إلحاق الأذى بالمناطق التي يمثلانها.
في العراق وافق مجلس النواب بالإجماع على إجراء الانتخابات التشريعية في وقتها المحدد سلفا. ترى أين ذهبت الأصوات التي كانت تطالب بتأجيل تلك الانتخابات؟

بين المطالبة بالتأجيل والموافقة بالإجماع مرت أيـام قليلة، لـم يحدث فيها شيء ما يمكن اعتباره سببا لتغيير الموقف. أما أن تكون تفاهمات وتسويات قد جرت في الخفاء، فإن ذلك يمكن التكهن به في بلد كالعراق، سياسيوه لا مشروع خدميا يحكم حركتهم بقدر ما تتحكم بهم مصالحهم الشخصية.

وإذا ما عرفنا أن النواب السنة والأكراد المطالبين بتأجيل موعد الانتخابات هم اليوم في أضعف أحوالهم، فإنه يمكننا أن نفهم لمَ استدركوا الوضع قبل أن يتم الاستغناء عن خدمـاتهم، وهو ما يمكن أن يتم بيسر بعد أن صار المزاج الشيعي يميل إلى تنفيذ مشروع رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، في حكومة أغلبية “سياسية” وهو تعبير مجازي عن حكم الطائفة الغالبة.

وبالرغم من كون سنة وأكراد الحكم لا يشكلون عائقا دون قيام تلك الحكومة، فإن وجودهم التزييني في المفاصل غير الضرورية للدولة، يشكل نوعا من المحاولة للحفاظ على الصيغة التي فرضتها الولايات المتحدة شكلا لنظام الحكم “الوطني” في العراق في مرحلة الاحتلال وما بعده.

دولة المكونات التي أنشأتها سلطة الاحتلال ونص عليها الدستور لا يمكن أن تكون واقعا إلا من خلال نظام سياسي يستند إلى مبدأ المحاصصة. حينها فقط تجد الطائفية الطريق أمامها سالكة من السياسة إلى المجتمع.

ولقد صار واضحا أن التنسيق الأميركي – الإيراني في العراق إنما يستند على تلك الآلية التي لا تسمح بقيام دولة المواطنة، وهو ما يؤدي إلى بقاء العراق أسيرا لنزاع طائفي، ليس على مبدأ “مَن يحكم مَن”، بل على الأسس التي يتم من خلالها توزيع الثروات بين الأحزاب التي تتسابق في ما بينها من أجل الكسب غير المشروع.

وهكذا فإن الفساد الإداري والمالي الذي صار عنوانا لذلك “الحكم الوطني” إنما هو نتاج بنية لا يمكن المساس بها حفاظا على “العملية السياسية” التي أجمعت الأطراف المتناحرة كلها على التمسّك بها، كونها قارب النجاة الذي يبقي الفاسدين في منأى عن المساءلة القانونية. فانهيار تلك العملية، كما صار متداولا، يعني انهيار دولة العراق. بمعنى أن العراق بصيغته الأميركية باق ما دامت ماكنة الفساد مستمرة في العمل.

تلك معادلة تشترك السلطات الثلاث في دعمها متكافلة. لذلك جاء قرار المحكمة الاتحادية منسجما مع إرادة الأحزاب الشيعية التي تملك الأغلبية في مجلس النواب إضافة إلى تفردها في إدارة الدولة.

وإذا كان النواب السنة قد فقدوا القاعدة الشعبية التي يستندون إليها بعد تخاذلهم في الدفاع عمَن انتخبهم، فإن النواب الأكراد باتوا في عزلة بعد أن هُزم مشروع أحزابهم في الانفصال عن العراق.

هذه المعطيات هي التي دفعت التحالف الوطني (مجموعة الأحـزاب الشيعية الحاكمة) إلى الضغط في اتجاه إجراء الانتخابات في موعدها، بالرغم من تأكدها من أن المناطق ذات الأغلبيتين (السنية والكردية) لم تعد بيئة صالحة للقيام بنشاط من ذلك النوع. وهو نشاط يتطلب الكثير من الاستقرار.

إن تخلي دعاة تأجيل الانتخابات عن مطلبهم بالطريقة التي حدث من خلالها يعني أن أولئك النواب قد استسلموا بطريقة لا تقبل الشك لإملاءات الأحزاب الشيعية خشية أن يتم استبعادهم من العملية السياسية. الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى انقطاع مواردهم التي هي ثمن مشاركتهم في تسويق العملية السياسية.

وكما أرى فإن الجولة التي كسبها التحالف الوطني هذه المرة ستكون بداية لتحولات خطيرة سيشهدها العراق على مستوى مشكلات الحكم.

فما لم يكن أحد يتوقعه أن يتم استضعاف الطرف الكردي مثلما تم استضعاف الطرف السني من قبل.

وهي مناسبة للإعلان عن إلغاء نظام المحاصصة في سياق النظرية التي يعرضها التحالف الوطني، والتي ستؤدي بالضرورة إلى أن يكون الحكم اللاطائفي من حصة ممثلي مكون واحد، يلحق بهم ممثلو المكونات الأخرى.

لذلك فإن الانتخابات المقبلة في العراق لن تكون سوى محاولة لإضفاء نوع من الشرعية على إجماع لم يجر إلا بسبب إفلاس الطرفين الكردي والسني بعد أن تسببا في إلحاق الأذى بالمناطق التي يمثلانها.
2 مُخرج عراقي يخترعُ التاريخ
محمد عارف
الاتحاد الامارتية

فيلم «سكوثي» للمخرج العراقي الروسي الشاب «رُستم مسافر»، الذي تعرضه 118 دار سينما في موسكو، اعتبره النقاد واحداً من أبرز فيلمين بمطلع العام. وفيما يتناول الفيلم الثاني، وعنوانه «وفاة ستالين»، أحداثاً غيّرت العالم في القرن العشرين، يتناول «سكوثي» أحداثاً غيّرت العالم عبر الألفيات. وفي «سكوثي» تختلط الأزمان والعقائد والأديان والبشر، وما فوق البشر حتى مرتبة الآلهة، والبشر الذين يتحولون بسحر ساحر إلى حيوانات يقطر الدم من أنيابها. وكأن الناس الحاليين ينتسبون إلى تاريخ اللاتاريخ، يتخاصمون فيه، ويتقاتلون، ويخون بعضهم بعضاً في كل شيء. وعندما سُئل «مسافر»، وهو أيضاً مؤلف قصة الفيلم، عمّا إذا كان للفيلم صلة بأحداث راهنة، ضحك وقال: «هذا ليس مهماً»، وأردف: «ربما يتناول المستقبل أيضاً»!

و«سكوثي» أو «السكوثيون» قوم رُحّل من أصول إيرانية كانوا ينتشرون في القرن التاسع قبل الميلاد عبر المنطقة، ما بين غرب آسيا، وجنوب روسيا، وجنوب شرق أوكرانيا. ويجري تصوير الفيلم في ربوع منطقة «القرم»، حيث قامت إمبراطورية «سكوثي» التي امتدت حتى سوريا وفلسطين ومصر. ويورِدُ أقدم ذكر لهم المؤرخ الإغريقي «هيرودتس» الذي زار المنطقة، وتنقل عنه «الإنسكلوبيديا البريطانية» أنهم من أوائل من أتقن فنون ركوب الخيل، وكانوا يبثون الرعب والانبهار أينما حلوا. ويرجح مؤرخون قدماء أن «السكوثيين» قوم «يأجوج ومأجوج» الذين يرد ذكرهم في القرآن الكريم: «حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ».

واختلف النقاد في اعتبار «سكوثي» فيلماً تاريخياً أم «فنتازيا» خيالية أو مغامرات «أكشن». ويعتبره «مسافر» فيلم مغامرات، «فنتازيا» عن التاريخ، يختلط بالأساطير، ويتداخل فيه السكوثيين، والمسيحيون والوثنيون. وقصة الفيلم عن نبيل روسي يحاول العثور على زوجته ورضيعها، اللذين اختطفهما «سكوثيون»، ويخوض غمار أحداث عنف دموية يمعن الفيلم في عرضها بشكل يصدم المشاهدين، ويبرره «مسافر» بأن «الفن والعنف مترابطان بشكل لا فكاك منه».

وفي مقال مسهب عنوانه «مصاصو دماء وسط الروث يذبح بعضهم بعضاً»، ينتقد المؤرخ الروسي «كليم جوكوف» بقسوة تناول الفيلم تعاقب الألفيات وظهور «آسيا الأوروبية»، ويعتبر ذلك خلطاً لأحداث عشرة قرون قبل الميلاد بأحداث القرن العاشر الميلادي، ويتساءل: «كل شيء مفهوم، قصة فنتازية، لا تاريخ فيها من أي نوع، لكن هناك قواعد ما للفهم المهني، وأين منطق الحكاية، ولماذا السكوث بالذات؟». ويمكن العثور على جواب هذا السؤال في قول «تشيخوف»، أشهر المسرحيين الروس: «لو عُلّقت بندقية في الفصل الأول من المسرحية فستطلق النار بالتأكيد في الفصل الأخير». وبندقية «مسافر» فيلمه الأول «الهاربون» الذي قالت عنه ناقدة صحيفة «روسيسكايا غازيتا» إنه «استخدم اللايقين العلمي للكشف عن الفنتازيا وتصوير الحدود الغرائبية للتخوم بين الثقافات المتقاطعة».

و«حاجتنا للتاريخ بكليته، لا لنستلقي عليه، بل لرؤية ما إذا كان بإمكاننا الهرب منه». قال ذلك الفيلسوف الإسباني «خوزيه أورتيغا غاسي»، وهذا هو التاريخ الذي يخترعه «مسافر» للهرب من تاريخ لم ينصف قوم أمه «القوزاق» البواسل الأشداء، الذين لعبوا أدواراً مشهورة في تاريخ روسيا، وقال عنهم «نابليون» عندما ساهموا في قهر جيوشه التي اجتاحت روسيا وملاحقتها حتى باريس: «لو كان عندي القوزاق لغزوت العالم». وذَكَر الأديب الفرنسي «ستاندال» أن «القوزاق أبرياء كأطفال وعظماء كآلهة». وهل أنصف التاريخ العراق، الذي ينتسب إليه والد المخرج «سلام مسافر» مقدم برنامج «قصارى القول» في الفضائية الروسية «آر تي»؟.. عثرت على الجواب في ظرافة الابن الموروثة عن أب لا يتردد في ذكر دعابة في لقاءاته حتى مع زعماء وكبار المسؤولين العرب. و«ليس البدن والدم، بل القلب هو الذي يجعلنا آباء وأبناء»، حسب الشاعر الألماني «شيلر».