الإصلاح لا يحتاج إلى 100 مليار دولار فقط كما يرى رئيس الوزراء حيدر العبادي بل إلى ثقافة وطنية جديدة. نحتاج إلى عناد وطني والتمسك بالبلاد وحماية الأجيال القادمة من الضياع.
قالت الأمم المتحدة إن الأطفال يشكلون نحو النصف من بين 2.6 مليون شخص نزحوا في العراق بسبب الحرب التي استمرت ثلاثة أعوام على تنظيم الدولة الإسلامية، وإن العنف المستمر يعرقل جهود تخفيف معاناتهم.
لهذا وجه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي رسالة خطية إلى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز يستغيث فيها بالرياض لمساعدة المناطق المنكوبة. وذكر فيها أن العراق يحتاج 100 مليار دولار لتحقيق التنمية معربا عن أمله بأن تكون السعودية حاضرة بقوة في مؤتمر الكويت للدول المانحة.
رد الملك سلمان بإيجابية. وأعرب عن استعداد بلاده لتقديم كل أنواع الدعم للعراق في إعادة البناء والإعمار لجعل العراق نموذجا في البناء التنموي السليم.
المشكلة في هذه الترتيبات هي البطء في التنفيذ وتفاقم معاناة النازحين الذي يجعل قلوبنا تنزف دما. فالوطنية هي دموعك حين ترى أطفال الموصل، ورغم أن في هذه الدموع مشاعر إنسانية غير أنها غزيرة أكثر من المعتاد. إنهم في النهاية أطفالك أو هكذا تشعر. لو أنك كلّمتهم لردوا عليك بلهجة عراقية صافية.
كيف تكون السياسة بلا قلب؟ كيف لا نعاقب بالعقل؟ كيف لا نكون صادقين؟ لقد كان هؤلاء الأطفال سعداء في بيوتهم. من الذي أخرجهم من ديارهم وأبعدهم عن حضن أمهاتهم؟
ويقولون من تحت الأنقاض يستخرجون البنات الصغيرات. ويقولون دفن الأب حبيبته في حديقة المنزل. ويقولون هذا كله بسبب إيران ولا أعرف تماما ما علاقة إيران بالحرب على داعش؟ فالطائرات الأميركية قصفت والجيش العراقي حرر المدينة. حتى الحشد الشعبي لم يشارك في تحرير الموصل.
جيل حرم من رفاه الطفولة
لم يظلم أحدنا إلا نفسه، لقد بيع أطفالنا بيعا. باعهم شيوخ الأنبار حين أهانوا جيش بلادهم بتحريض من دولة قطر. باعهم رجال الدين حين كفّرتْ طائفة من المسلمين أختها. باعهم العرب حين رأوا أن عليهم قتال إيران ولو بنهود الكواعب من بناتنا العراقيات.
لقد أوذي العراقيون كثيرا في حياتهم. فما ذنبنا إذا كان موقعنا الجغرافي بين إيران والدول العربية القوية ويتم التدافع العنيف بينهما على أرضنا. حتى عقولنا تشوّشت وضاعت معان كثيرة للبلاد وأهمها معنى الوطنية ومشاعر الأخوة بين العراقيين.
في الثمانينات من القرن الماضي دخل ضيف جديد سوف يغير التاريخ فيما بعد هو الكمبيوتر. هذا الجهاز الغريب كان مختلفا عن التلفزيون والراديو والسيارة. منذ البداية شعر العالم بأنه سيفجر التاريخ الحديث.
في تلك الفترة في العراق، رغم الحرب مع إيران والثقافة المتخلفة السائدة، كان في جامعة البصرة مبنى ضخما يسمّى علوم الحاسبات معظم طلابه كن فتيات جميلات. كان العراقيون يريدون اللحاق بالعالم. شعب حي وعنيد وقوي رغم سخافات صدام حسين وأناشيد الحرب التافهة.
الشعب العراقي كان متمسكا بالمستقبل وما أن انتهت الحرب حتى دخل صدام الكويت وحل الحصار والجوع والعزلة عن العالم. 13 عاما من العزلة الكاملة تقدمت خلالها الدول العربية كثيرا في تلك السنوات. حتى الدول الفقيرة مثل سوريا انتشرت فيها معاهد تعليم الكمبيوتر والبرمجة في كل مكان وكان الشباب السوري يتقدم بسرعة بينما العراقيون تتساقط أسنانهم من الجوع ونقص الكالسيوم ويحيط الظلام بعقولهم نتيجة العزلة.
وحين تم رفع الحصار باحتلال أميركي استبشر العراقيون خيرا، فربما يستطيع الشباب تعويض ما فات واللحاق بالعالم من جديد. وبعد عام واحد فقط من رفع الحصار ظهر أبومصعب الزرقاوي “المجرم” وصارت قناة الجزيرة تصفه بالأسطورة وانتشرت الدعوة السلفية والجهاد والمقاومة. بالاستمرار مع الفعل وردة الفعل غرق العراق بالدم.
الزرقاوي كان يتحدى “الروافض” وهو ربما كان يقصد الطالبات في جامعة البصرة اللواتي يحاولن تعويض الخسارة التي لحقت بأمهاتهن بسبب الحروب والحصار والعزلة. رجل أردني لا علاقة له بعذاب العراقيين ومعاناتهم. والمصيبة التي كسّرت الظهر كان السنّة في حالة صدمة بفقدانهم السلطة وبعضهم دون وعي كان متعاطفا مع خطاب الزرقاوي. كان هناك تحريض ودفع أموال ومنابر بعثية وسلفية.
نهض الشيعي العراقي وفتح عينيه على فضيحة. أَبَعد كل ما حدث له من قهر وحرمان وعزلة وجوع هناك مَن يهدده ويتوعده ويصفه بالرافضي. وبلمح البصر تحول شعب من الطيبين البسطاء إلى وحوش كاسرة من الغضب واحترق العراق.
إن الإصلاح لا يحتاج إلى 100 مليار دولار فقط كما يرى رئيس الوزراء حيدر العبادي بل إلى ثقافة وطنية جديدة. نحتاج إلى عناد وطني والتمسك بالبلاد وحماية الأجيال القادمة من الضياع. ربما علينا جميعا المساهمة في إعادة الروح إلى هذا الشعب الذي تحوّل، كما تقول اليونسيف، إلى مليون وثلاثمئة ألف طفل عراقي نازح وبحاجة إلى مساعدة.
شيعة العراق ليسوا ميليشيات ولا يجب تحميلهم المسؤولية عن تشريد الأطفال، فهذه جريمة الإرهاب والثقافة الداعشية والحقد بين قادة البلاد لأجل السلطة.
هل هناك ثورة دموية تم تصديرها في التاريخ أخطر من داعش السلفية الجهادية؟ شيعة العراق لا يمكنك محاججتهم بسهولة فهم زنادقة ومؤمنون مخلصون في الوقت نفسه. فهم يَرَوْن دولة قطر تتحالف مع إيران لتساعدها على استقبال كأس العالم بعد كل ذلك التحريض التاريخي العجيب ضد الشيعة.
هؤلاء الفلاحون البسطاء يبصقون على الأرض بغضب ويفكرون بأطفال الموصل. فقد خدعتهم الدعاية القطرية والثقافة السلفية وفتحوا باب المدينة للأعداء. والآن يقف العراقيون جميعا للبكاء على مدنهم وأطفالهم. لا يوجد عراقي واحد غير متألم. العراقي الإيزيدي الذي تم سبي زوجته وبناته وبيعهن في السوق يقف معنا ويبكي على الموصل فهي مدينته في النهاية والعدو هو واحد لا يوجد له اسم آخر سوى الإرهاب والتطرف.
علينا نسيان الماضي فكل الشعوب تبدّل قيمها وتتغير. بريطانيا تشرشل مثلا مختلفة تماما عن بريطانيا تيريزا ماي، وألمانيا ميركل تختلف جذريا عن ألمانيا هتلر وبسمارك. أوروبا التي أسست شركات الرقيق تختلف عن أوروبا حقوق الإنسان. التاريخ يتحرك والشعوب تنسى وتتغير، فلماذا نحن لا نتغير؟
كان الفتح العربي لفارس في القرن السابع الميلادي قاسيا. فالرجال سقطوا صرعى والزوجات أصبحن سبايا مقيدات. وهكذا ملأ أيتام فارس الطرقات وشوهد أبولؤلؤة فيروز على نهر دجلة يحتضن الأطفال ويبكي في المدائن وهو يقول “كسر قلبي أيتام فارس” وأقسم مولى المغيرة بن شعبة على أن يقتل كبير العرب غيلة.
منذ ذلك الحين ونحن في ورطة وكأن التاريخ قد توقف عند لحظة واحدة تتم استعادتها عبر القرون وهو التدافع والحقد العربي الفارسي. كأن الزمن لم يمر ولم يتغير ومازلنا نجمع أيتام الموصل وننظر إليهم كثأر جديد مع الفرس، وهذا ليس في مصلحة الشعوب ومستقبلها.
الإيراني من جهة يرى سعد بن أبي وقّاص يحمل بنات فارس سبايا ويهدم المدائن، ويرى ابنه عمر بن سعد بن أبي وقّاص يحمل رأس الحسين على الرماح وحفيدات النبي سبايا إلى دمشق، ويرى الطيار العراقي في الحرب يقصف أطفال طهران ويبيد أحياء بأكملها دون رحمة.
والعربي من جهة ثانية يرى أبولؤلؤة يطعن عمر بن الخطاب عشر طعنات في محرابه ثم يطعن نفسه “أول انتحاري في تاريخ الإسلام” ويرى إسماعيل الصفوي يفتك بأهل السنة، ويرى قاسم سليماني يهدم الموصل. هذه ثقافة مخادعة ويجب أن تتوقف لأنها بيت الأحقاد والخراب. لا يوجد خلاص سوى نسيان الماضي واستدعاء قيم جديدة هي حقوق الإنسان والحضارة المعاصرة.