ست مقالات بالصحف العربية وواحدة بنيويورك تايمز عن العراق اليوم الاربعاء

1  

ماذا تعلّم العراقيون من كارثة الموصل؟

 

افتتاحية

 

القدس العربي
 

احتفل عراقيون كثر، على رأسهم رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي أعلن النصر من مدينة الموصل نفسها، بتحرير المدينة من قبضة تنظيم «الدولة الإسلامية». أحد المحتفلين أيضاً كان جنرال الحرس الثوري الإيراني الشهير قاسم سليماني الذي هنأ العراقيين على انتصارهم لكنه نسبه إلى جهود «الحشد الشعبي» وفتوى المرجع الشيعي علي السيستاني، في إبعاد متقصّد لفكرة الدولة العراقية (التي يمثّلها السيد العبادي نفسه، ومؤسسات الرئاسة والحكومة والبرلمان والجيش) وفي تركيز على الجانب الجهاديّ الشيعيّ، وكان التأكيد البليغ على وجه معيّن للبلاد قول الجنرال إن العراق «لن يسمح ببقاء أي قوّات أجنبية طامعة»، وهو يعني، بالضرورة، أن إيران، هي خارج تعريف «القوّات الأجنبية الطامعة»، أو أن العراق نفسه هو مقاطعة إيرانية.

أحد قادة «الحشد الشعبي»، قيس الخزعلي، استخدم المناسبة لدعم الرؤية الطائفية للحدث قائلاً إن «على المكوّن السني أن يعرف أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وهنالك من سبب إراقة الدماء في البلاد»، ويفهم من الكلام أن تنظيم «الدولة» هو تعبير عن «المكوّن السنّي» وأن الانتصار عليه هو انتصار على ذلك «المكوّن». المناسبة كانت عمل رئيس مجلس النواب، سليم الجبوري، على مؤتمر تشارك فيه المعارضة العراقية في بغداد منتصف الشهر الحالي للوصول إلى «حلول حقيقية للبلاد».

وبينما كان المحتفلون يحتفلون والسياسيون يتنافسون على نيل حصّتهم من الانتصار كان المئات من سكّان المدينة ما زالوا مدفونين تحت الأنقاض وكان الآلاف ما زالوا يحاولون النجاة بأرواحهم من كابوس تنظيم «الدولة» ليلقوا بها في أيدي قادة ميليشيات على شاكلة الخزعلي أو أسوأ، ولينضموا إلى قرابة مليون نازح هجّروا من مدينتهم وبلداتهم وقراهم وفقد الكثير منهم بيوتهم وأقاربهم وأملاكهم، ولا يشكّل تحرير المدينة لهم غير فصل آخر من فصول البؤس والشتات والعذاب المديد.

الحدث، مع ذلك، أمر جدير بالاحتفال، لأن تنظيم «الدولة» كان انقطاعاً وحشيّاً عن العالم وإرهاباً داخليّا وخارجيا منظّماً باسم الدين الإسلامي ونظاماً يتعارض مع القوانين الأممية والمحلّية فرض نفسه بالقوّة وما كان ليزول بغير القوّة.

غير أن الإحصائيات التي تم تداولها تتحدث عن تعرّض المدينة، أثناء «تحريرها»، لتدمير بنسبة 80٪ تشمل 9 مستشفيات من أصل 10 و76 مركزا صحيا من أصل 98 وكل جسور المدينة وتدمير 308 مدارس و12 معهدا وجامعة و4 محطات كهرباء و6 محطات للمياه ومعمل أدوية و63 دار عبادة بين مسجد وكنيسة و212 معملا وورشة و29 فندقا ومعامل الغزل والنسيج والكبريت والاسمنت والحديد، فهل كان تنظيم «الدولة» هو الهدف أم أن المدينة كانت تدفع ثمن هروب أربع فرق من جيش نوري المالكي؟

تطرح تصريحات «المنتصرين» أسئلة خطيرة لأنها تقوم على أسس مختلفة يصعب أن تجمع العراقيين، بدءاً من أجندات القوى الكبرى التي ساهمت في الانتصار، من «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية (الدول الأجنبية الطامعة بتعريف سليماني)، إلى إيران التي تشرف على مجريات المعارك العسكرية والسياسية وتعتبر ما حصل انتصارها الخاص الذي يفتح الطريق البرّي من العراق إلى سوريا ولبنان، مروراً بالدولة العراقية وأركانها، وميليشيات «الحشد»، والقوى السياسية الكردية (التي تتجهز لإعلان انفصال كردستان العراق)، وفي آخر القاطرة هناك ما سمّاه الخزعلي «المكوّن السنّي» الذي يتأهب للدغ العراق مرّة ثانية!

في هذه الأثناء تحضر الأمم المتحدة لتقديم نصائح للعراقيين بإحقاق العدالة والمصالحة وإلا فإن بلدهم مرشح «لمزيد من العنف والمعاناة»، وتحضر منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان العالمية التي تتحدّث عن الجحيم الذي عاشه العراقيون على يد كل الأطراف، بما فيها «التحالف الدولي».

وتحضر الموصل الشهيدة والشاهدة على نهاية حقبة وبداية أخرى.

2 تظاهرات ومناورات « الحرب على الارهاب» في حقبة العودة إلى البربرية

 

هيفاء زنكنة

 

 

 القدس العربي
 

 

شملت مظاهرات يوم الجمعة 7 تموز/ يوليو 2017 عدة مدن عراقية. من ساحة التحرير ببغداد، إلى المدن الواقعة جنوب بغداد وهي الناصرية والسماوة والديوانية وكربلاء والنجف والكوت والبصرة. يمكن تلخيص مطالب المتظاهرين، الذين تتراوح اعدادهم ما بين العشرات والمئات، بما يلي: توفير الخدمات وعلى رأسها الكهرباء، تقديم الفاسدين المسؤولين عن تردي الخدمات إلى العدالة، تغيير مفوضية الانتخابات وقانون الانتخابات، مع الاحتفال «بتحقيق النصر على عصابات داعش الإجرامية وتحرير الموصل». وهي مطالب رفعها المتظاهرون، بمثابرة، على مدى العامين الأخيرين ووصلت ذروتها، في العام الماضي، حين أمر زعيم التيار الصدري أتباعه باقتحام المنطقة الخضراء ومبنى البرلمان، ثم نصب خيمته عند محيط المنطقة، ليحظى باهتمام اعلامي كبير. أيامها، التقطت له الصور وهو متمدد في الخيمة، ثم قرر المغادرة، فجأة، ساحبا نفسه واتباعه.

أثرت هذه المناورات، بمفارقاتها المضحكة المبكية، التي سببت اختطاف وقتل عدد من المتظاهرين، على طبيعة التظاهرات ومدى فاعليتها، بالاضافة إلى أقتصارها على مطالب «أمينة»، خشية ان يساء فهمها من قبل التيار الصدري، كونه تيارا دينيا – شيعيا أولا ولأنه جزء لا يتجزأ من النظام ثانيا. هناك، أيضا، حاجة الجهات المنظمة للتظاهرات إلى حماية الميليشيا التابعة للصدر في بلد تحكمه الميليشيات.

ادت هذه العوامل إلى محدودية تمثيل التظاهرات لكل العراقيين، والى ضيق أفقها الحقوقي وبالتالي إلى قولبة المطالب ضمن ما هو مقبول، سياسيا وطائفيا، من قبل الاحزاب والمسؤولين والمرجعيات والميليشيات، أما حفاظا على حياة المتظاهرين وهي مسألة ضرورية، أو لوجود أجندات مفيدة ستجير لصالح هذه الجهة أو تلك، في الانتخابات المقبلة، خاصة حين تكون الجهة مشاركة في الحكومة أو العملية السياسية.

ما تتضمنه المطالب مقبول في اللعبة السياسية. الكل يتحدث عن الفساد ومحاسبة الفاسدين وعلى رأسهم الفاسدون أنفسهم، بلا حرج. الكل يتحدث عن انقطاع التيار الكهربائي منذ 13 عاما، بلا جدوى. والكل متفق على اجراء الاصلاح والتغيير. مما يثير تساؤلا حول ماهية المطالبات نفسها، وعما اذا كانت لا تزيد عن كونها مجرد خدش للسطح دون ان تمس جوهر المأساة التي يعيشها المواطن، في كل انحاء العراق.

لتوضيح الصورة، قد يساعدنا ذكر بعض القضايا الملحة التي لم يحدث ومستها المطالب. لنبدأ بمأساة التضحية بالعراقيين، بالآلاف، في معارك «الحرب على الارهاب»، وتقديمها كأنتصار يتنافس منظمو التظاهرات على الاحتفال به، والقاء الخطابات الرنانة بدون البحث فيما سببته «الانتصارات» المزعومة من تهديم وخراب لمدن بكاملها، وعن جذور المأساة وكيفية معالجتها لئلا تتكرر ثانية وثالثة. متناسين ان العراق لم يكن مهدا للارهاب قبل غزوه واحتلاله، ومتعامين عن بربرية الغزاة، الوجه الآخر للارهاب ليصبح المتظاهرون، ولا اقول القيادات من التيار الصدري والحزب الشيوعي، بشكل غير واع جزءا من حملة اعلامية تعيق التفكير الواعي.

«لقد اشتركت الامبراطوريات الحميدة والخبيثة في صنع ما تشهده حقبتنا من عودة إلى البربرية ساهمت فيها هذه الايام بحجة الحرب على الارهاب»، يقول الماركسي الراحل أريك هوبزباوم، أشهر المؤرخين المعاصرين في بريطانيا واوروبا. بحجة الارهاب، حقق العراق ارقاما قياسية بتنفيذ احكام الاعدام، والاعتقالات والتعذيب، واهانة الناس، وسحق كرامتهم، نزوحا وتهجيرا من مدنهم، بعد ان تم تقسيم خارطة البلد إلى مناطق سنية واخرى شيعية وكردية وو… ومناطق يتم مسح هويتها، يوميا، لتتأهل للتصفية النهائية في دوري المناطق المتنازع عليها.

ماذا عن حقوق الانسان؟ «ليست هناك مادة واحدة من مبادئ حقوق الانسان لم يتم خرقها في العراق منذ احتلاله»، يقول مندوب الامم المتحدة السابق بالعراق هانز فون سبونيك.

هل تفاجئنا انتقائية تطبيق حقوق الانسان؟ ليس الآن. ربما في سنوات البراءة الحقوقية، يوم كان لوقع «حقوق الانسان» موسيقى يطرب لها معذبو الارض (مع التقدير لفرانز فانون). اليوم، يتعرض من يطالب بتطبيق مبادئ حقوق الانسان، المنصوص عليها في كل دساتيرالدول، تقريبا، إلى الاتهام بالارهاب، وقد يفقد حياته جراء ذلك. تتغير التهمة حسب من يمتلك القوة محليا وعالميا. القوتان مترابطتان بحكم تبادل المصلحة السياسية والعسكرية وان بدتا، احيانا، على خلاف. فالحكومة المحلية بحاجة إلى القوة الدولية لحمايتها من شعبها، والدول الكبرى بحاجة إلى الحكومات المحلية لتكريس هيمنتها. وليس هناك ما هو أفضل من تسخير شريحة من ابناء الشعب أو الدول المضيفة (حسب الجنرال الامريكي دافيد بترايوس) لأداء المهمة. ولعل أوضح مثال على ذلك، قيام المحققين الامريكيين بتسليم المعتقلين العراقيين إلى قوات الأمن العراقية لتعذيبهم بدلا منهم. هكذا اصبحت مبادئ حقوق الانسان وتطبيقاتها ذات معان متعددة، متغيرة، مثل لون الحرباء.

وتتهشم مبادئ حقوق الانسان إلى فتات يثير الأسى عند وصولها إلى بلادنا مع من ساوموا الارض بالسلطة ورضوا بالاحتلال «تحريرا» تارة و»تغييرا» تارة أخرى مرتكبين واحدة من أكبر الجرائم اللا أخلاقية. هكذا، في خضم التدهور الاخلاقي السريع، تحولت المبادئ الانسانية، النبيلة، من أداة انقاذ إلى أداة تمزيق للبلد وعقابا للشعب. تمت تجزئة القضايا الاساسية إلى حد لم يعد بالامكان التعرف عليها لكي تصبح مقبولة من الجهة الداعمة. الجهات الداعمة تريد من يسمعها ما تريد عن بناء الديمقراطية وازدهار حقوق الانسان. قسمت حقوق الانسان حسب الطائفة والدين والحزب السياسي القادر على التمويل ومحاصصة المناصب. باتت : لكم حقوقكم ولي حقوقي.

فقدت مبادئ حقوق الانسان شموليتها الانسانية العامة المحتضنة للجميع، وتمنع السلطة وأسيادها والميليشيات مبادرات التكافل الاجتماعي بين الناس وأيصال المساعدات بشكل أهلي إلى اللاجئين بملايينهم. ولننظر إلى الشلل الذي اصيب به المجتمع تجاه الكارثة التي اصابت أهالي المحافظات الوسطى، التي يتم نقلها، تلفزيونيا، بشكل حي إلى بقية ارجاء البلاد، مقارنة بالهبة العفوية التي تعودنا عليها في عقود ماضية. في منحدر الشلل المظلم انزلقت منظمات مدنية وناشطون حقوقيون اما سذاجة او عمدا لتسويغ الحصول على الدعم المادي المجزي وقبول شروطه ومتطلباته. بدلا من ان تكون، كما هو مفترض، صوت المظلومين والمهمشين، صوت المجتمع ككل، صوت الصارخين طلبا للاغاثة من معتقلات الموت المنهجي (سجن التاجي مثلا)، صارت بضجيجها الخطابي جزءا من آلة التسويغ والتضليل الشرهة.

3   انكسار شوكة «داعش»: البحث عن عقائد قتالية جديدة  

علي إبراهيم مطر

 

  الاخبار اللبنانية
 

 

 

لم تطل الحكاية. ثلاث سنوات كانت كفيلة زمنياً لإنهاء وكر الإرهاب، فانتهت قصة إجرام حبكتها أياد هوليوودية بزعامة فخرية لأبي بكر البغدادي الذي شغل العالم بأسره. هي برهة من الزمن كانت كفيلة لينشر تنظيم «داعش» من خلالها كل حقده وإجرامه.

 

ومع أن قصة الخلافة المزعومة سقطت في جامع النوري، لكن لا بد من إفشال السيناريو كاملاً في الرقة بعد الموصل وتكون الضربة القاضية، ليقول اللاعبون الحقيقيون في مواجهة الإرهاب (العراق، سوريا، إيران والمقاومة) لتنظيم «داعش» (Game over).

يبدو أن التاسع والعشرين من شهر حزيران/ يونيو سيحفر عميقاً في الذاكرة العراقية والعربية لا بل في ذاكرة العالم أجمع، ففيه من عام 2014، أي قبل ثلاثة أعوام بالتحديد، أعلن زعيم تنظيم «داعش» الإرهابي، أبو بكر البغدادي، ما يسمى بـ«دولة الخلافة» من على منبر جامع النوري التاريخي الواقع في الجانب الأيمن لمدينة الموصل، التي تمثل مركز محافظة نينوى.

واليوم، سقطت شوكة النكاية الداعشية في الموصل العراقية، وسقط معها كلّ عمليات إدارة التوحش، وبناء الخلافة، لتسقط معها أسطورة الإرهاب الجديد، التي كان العراق الممر الأساسي لها في استراتيجية التنظيم الإرهابي، لكن لم يسقط فكر الإرهاب، وشوكة القتل لا تزال قائمة، وهي موجودة عبر التاريخ.

لا شك أن «داعش» كان يدرك أنه سيخسر الموصل، وهو من خلال تدميره جامع النوري استبق إعلان هزيمته من قبل القوات العراقية، ليشكل وصول هذه القوات إلى مسجد النوري الإعلان عن هزيمة التنظيم الإرهابي، حيث تعمدت القيادة العراقية إعلان النصر بأسلوب محكم زمانياً ومكانياً، لتؤكد سقوط نمر «داعش» الورقي.

 

وانتهت شوكة التمكين

 

لقد فقد تنظيم «داعش» شوكة التمكين التي تحدث عنها أبو بكر ناجي في كتابه «إدارة التوحش». هذه الشوكة تحصل بعد شوكة النكاية والانهاك، التي ترمي إلى استنزاف قدرات الجيش والدولة التي يريد التنظيم الإرهابي السيطرة عليها، ثم تأتي بعدها مرحلة «إدارة التوحش» التي قام بها «داعش» على طول فترة سيطرته على المناطق العراقية، ثم مرحلة «شوكة التمكين»، والتي هي قيام الدولة، وإعلان الخلافة، لكن هذه الاستراتيجية سقطت حالياً، وأسقطت حلم الإرهابيين.

ومع اندحار «داعش» من معاقله الأساسية في سوريا والعراق يجب علينا أن لا نغفل أن فكر الإرهاب «الداعشي» لن ينتهي، فهذا الفكر موجود عبر التاريخ، ولكنه تفشى بشكل واسع على يد إرهابيي «داعش»، ولن ينطفئ بمجرد أفول التنظيم الإرهابي أو مقتل زعيمه أبي بكر البغدادي. ففكر «داعش» يُشكل بأكمله من تعاليم الوهابية التكفيرية التي لم تترك أحداً إلا وكفرته، وعقائد الوهابية تدرس وتطبق في المناطق التي يسيطر عليها «داعش»، لذلك وقبل القول بانتهاء «داعش»، ومكافحة الإرهاب لا بد من القضاء على هذا الفكر الإرهابي، ومنع انتشاره وتقويته.

 

البحث عن مكان آخر

 

ولا بد من الالتفات إلى أن اندحار «داعش» من العراق وكذلك سوريا، قد يدفعه للبحث عن موطئ قدم ومقر له في دول المنطقة، وعلى رأس هذه الدول اليمن، وأفغانستان، ودول الخليج، وكذلك الأردن، وفلسطين ولبنان، وإن كان الاحتمال ضعيفاً بدخوله إلى لبنان فهو لا يمثل الحالة العراقية التي سيطر فيها «داعش» على الموصل. لكن لا بد من التنبه، وإن كان لبنان جغرافياً وشعبياً وأمنياً بوجود الجيش اللبناني والمقاومة غير مهيأ ليشكل معقلاً لـ«داعش»، كما أن لبنان لا يقاس على استراتيجية التنظيم الإرهابي التي تقسّم وفق ما يشير إليه كتاب إدارة التوحش إلى عدة مقومات مهمة تحدّد ترشيحها لإدارة التوحش وهي:

ـ وجود عمق جغرافي وتضاريس تسمح في كل دولة على حدة بإقامة مناطق فيها تُدار بنظام إدارة التوحش.

ـ ضعف النظام الحاكم وضعف مركزية قواته على أطراف المناطق في نطاق دولته، بل وعلى مناطق داخلية أحياناً خاصة المكتظة.

ـ وجود مد «إسلامي جهادي» مبشر في هذه المناطق وفق تعبيره.

ـ طبيعة الناس في هذه المناطق ومدى تهميش الدولة لهم.

ـ انتشار السلاح بأيدي الناس فيها.

ومن المستبعد أن تنطبق هذه الاستراتيجية على لبنان، لكن الذي يجب التنبه منه هو بحث إرهابيي «داعش» عن مواقع لإقامتهم وسكنهم وعملهم كمجموعات، لذلك لا بد من اليقظة في هذا الإطار. وتنطبق استراتيجية «داعش» حالياً بعد العراق الذي انتصر على التنظيم الإرهابي وقصم ظهر دولة الخلافة، في اليمن وأفغانستان وبعض دول الخليج وعلى رأسها السعودية، حيث من الممكن أن يوسع «داعش» انتشاره وعمله في هذه البقاع الجغرافية، وخاصةً بين السعودية واليمن على أمل وصل رقعته الجغرافية بين البلدين. كما من المتوقع أن يتحوّل «داعش» في سياقه العملياتي إلى مجموعات متناثرة ومتبعثرة تعمل وفق استراتيجية تنظيم القاعدة ورؤية مسؤوله السابق أسامة بن لادن، حيث تنتشر في عدد من البلدان وتشكل مجموعات تخريبية تنفذ مخططات إرهابية كرد انتقامي على من يحارب التنظيم. وستزيد خسارة التنظيم في العراق وسوريا، من تناحره مع جماعات المعارضة السورية وكذلك مع جبهة النصرة، من أجل السيطرة على مناطق جديدة ينقل مسلحيه إليها.

لقد عمل التنظيم الارهابي على عدة أهداف بدأت تسقط بالتوالي، وهي:

1- إنهاك «قوات العدو» المفترض لديه، وتشتيت جهودها والعمل على جعلها لا تستطيع التقاط أنفاسها بعمليات وإن كانت صغيرة الحجم أو الأثر إلا أن انتشارها وتصاعدها سيكون لهما تأثير على المدى الطويل.

2- جذب شباب جدد للعمل العسكري عن طريق القيام كل فترة زمنية مناسبة بعمليات نوعية تلفت أنظار الناس.

3- إخراج المناطق المختارة من سيطرة الأنظمة ومن ثم العمل على إدارة التوحش الذي سيحدث فيها.

وقد فشلت هذه الأهداف عملياً، وإن كان التنظيم فرض سيطرته لمدة ثلاث سنوات لكنها لم تستمر وعدم الاستمرار يعني الفشل، وقد حصد داعش الإرهاب والقتل والتدمير فقط. إذاً، يعتبر يوم التاسع والعشرين من حزيران-يونيو 2017، يوماً مفصلياً، سوف يؤرخ لما بعد «داعش» والذي يتطلب استكمال القتال حتى تحرير كل المناطق من التنظيم الإرهابي وإراحة الناس من وحشيتهم وإجرامهم، كما لا بد من العمل على تجفيف منابع الإرهاب سواء الثقافية أو المالية.

 

4  انتصار على ‘داعش’.. أم على الموصل

 

 خير الله خير الله

 

العرب بريطانيا
 هل حصل انتصار في الموصل، أم كان هناك انتصار على الموصل للانتهاء من المدينة وتحويلها إلى شيء آخر، على غرار ما يحصل في تكريت حيث ظهرت أخيرا صور آية الله الخميني والمرشد علي خامنئي؟

 

للمرّة الألف، هناك عودة إلى السؤال نفسه. ماذا بعد انتهاء معركة الموصل أو معركة الانتهاء من الموصل؟

 

من يعود إلى الظـروف التي رافقت سيطرة “داعش” على الموصل قبل ثلاث سنوات، إبان حكومة نوري المالكي، ثم هزيمة “داعش” في ظل حكومة برئاسة حيدر العبادي، يكتشف أن الهدف لم يكن تحرير الموصل بمقدار ما أن المطلوب تدمير المدينة وتهجير أهلها بشكل منهجي.

 

قبل كلّ شيء، يبدو الدمار شبه الشامل الذي لحق بالموصل من النوع الذي لحق بمدن ألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. لم تبق طائرات التحالف الأميركي-الأوروبي وقتذاك شيئا من مدن عدّة في سياق السعي إلى إلحاق الهزيمة بألمانيا الهتلرية وتركيعها.

 

استطاعت ألمانيا النهوض مجددا بعد الحرب وأعادت بناء مدنها بفضل حيوية الشعب فيها والمساعدات الأميركية التي صُرفت بواسطة “مشروع مارشال” الذي وضعه وزير الخارجية الأميركي الجنرال جورج مارشال.

 

لم تلبث ألمانيا أن عادت بلدا مزدهرا بعدما تعاطت مع الهزيمة تعاطيا واقعيا. قبلت بأن تكون مقسّمة، إلى ألمانيتين، وأن تكون فيها قـوات أجنبية تمتلك قـواعد خاصة بها.

 

انتظرت ألمانيا خمسة وأربعين عاما كي تستعيد وحدتها. تخلت ألمانيا نهائيا عن فكرة المغامرات العسكرية المحسـوبة أو غير المحسوبة. حصل طلاق بين ألمانيا والحروب والأطماع الخارجية. ودعـت ألمـانيا السلاح إلى غير رجعة مـن أجل العيش بأمـان مع محيطها ومع العالم.

 

المفارقة أن هزيمة العراق في مرحلة ما بعد الاجتياح الأميركي في 2003 وقبلها مرحلة الخروج من الكـويت بالقـوة، تميزت بمزيد من الحروب التي صبت في تفتيت البلد وتدمير مـدنه الواحدة تلو الأخرى كي لا تقوم له قيامة في يوم من الأيام.

 

لنفترض الآن أن الحرب توقفت فعلا في الموصل. هل من جهة على استعداد لتقديم مليارات الدولارات كمساعدات لإعادة بناء المدينة المدمّرة؟ لنفترض أن أهل الموصل عادوا إليها، إلى أين سيعود هؤلاء؟ مثل هذا النوع من الأسئلة مشروع في ضوء ما حل بالموصل بوجود رغبة واضحة في الانتهاء من المدينة الثانية في العراق ومما كانت تمثله من قيم ميزت العراق القديم، أي عراق ما قبل العام 1958.

 

يبدو أنّه ليس مطلوبا الانتصار على “داعش” فحسب، بل المطلوب أيضا الانتهاء من كلّ ما بقي من قيم حضارية وإنسانية قام عليها المجتمع العراقي. حافظت تلك القيم على إمكان إعادة الحياة إلى العراق قبل أن يأتي الاحتلال الأميركي ويقضي نهائيا على كلّ أمل بذلك.

 

لو كان الاحتلال الأميركي الذي استهدف التخلص من نظام صدّام حسين يمتلك حدّا أدنى من الفهم لواقع المنطقة وللبلد نفسه، هل كان سلم العراق على صحن من فضّة إلى إيران؟ لو كانت هناك رغبة حقيقية في الانتهاء من “داعش”، هل كان سلاح الجوّ الأميركي دعم “الحشد الشعبي”، وهو يعلم مسبقا ماذا يعني ذلك ليس بالنسبة إلى الموصل فحسب، بل إلى كل منطقة عراقية أخرى؟

 

تكمن المشكلة الأساسية في أن العراق ليس ألمانيا، وأنّ الذين دمّروا الموصل لا يريدون عودة أهلها إليها. يشمل ذلك الجانب الأميركي الذي كانت له مساهمة فعالة في هزيمة “داعش” عندما ساند القوات النظامية العراقية وميليشيات “الحشد الشعبي” التابعة لإيران عن طريق سلاح الجو.

 

وفر سلاح الجو الأميركي غطاء لتقدم القوات العراقية وميليشيات “الحشد الشعبي” في الموصل والوصول إلى اليوم الذي دخل فيه رئيس الوزراء العراقي المدينة للإعلان في اليوم التالي عن “الانتصار”.

 

ليس معروفا بعد ما هي خطة أميركا في العراق. حسنا، هزم “داعش”. كان لا بد من إلحاق الهزيمة بهذا التنظيم الإرهابي الذي لم يترك شيئا إلا وفعله من أجل تشويه صورة الإسلام عموما، وأهل السنة على وجه التحديد، وذلك لتبرير ما يرتكبه “الحشد الشعبي”. ما هو بالضبط المشروع الأميركي الجديد في العراق، خصوصا بعدما تبين أن سلاح الجوّ الأميركي لعب دورا محوريا في هزيمة “داعش”، هذا إذا كان يمكن الكلام عن “داعش” كتنظيم مستقل عن الذين خلقوه، أي إيران والنظام السوري…

 

منذ توصّل “داعش” إلى السيطرة على الموصل، بطريقة مشبوهة وغامضة في الوقت ذاته، في حزيران – يونيو 2014، وصولا إلى يوم التاسع من تموز – يوليو 2017 تاريخ إعلان حيدر العبادي بملابسه السوداء استعادة المدينة، تمهيدا لإعلان “النصر النهائي” في اليوم التالي، ليس هناك ما يشجع على التفاؤل.

 

كل ما في الأمر أن العراق في وضع من ينتقل من سيء إلى أسوأ. ليس ما حصل وما يحصل في الموصل سوى تتويج لرحلة التراجع العراقية.

 

لم تبدأ مسيرة التراجع العراقي في 2014 أو في 2017. بدأت قبل ذلك بكثير، قبل تسعة وخمسين عاما عندما حصل الانقلاب العسكري الذي أطاح النظام الملكي في الرابع عشر من تموز ـ يوليو 1958، لم يتوقف سيلان الدم منذ ذلك اليوم الذي اغتيل فيه فيصل الثاني. لم يكن النظام الملكي في العراق مثاليا. لا شك أنه كانت هناك أخطاء كبيرة ارتكبت، خصوصا، تصرّفات الوصيّ على العرش، الأمير عبدالإله (خال فيصل الثاني)، لكن العراق كان وقتذاك بلدا واعدا. كان وضع المجتمع العراقي أفضل، كانت المدن العراقية مدنا تضج بالحياة كان فيها عيش مشترك بين الكردي والعربي والتركماني. لم يكن من تمييز بين المسيحي والمسلم والشيعي والسني. كان اللبناني والسوري يهاجر إلى العراق بحثا عن فرصة عمل وتكوين ثروة صغيرة. كان العراق مختلفا. لم يكن أرضا طاردة لأهلها. كان أرضا جاذبة للآخرين الذين كانوا يريدون الاستفادة من كل ما يمثله العراق، بما في ذلك الجامعات العراقية.

 

ليست الحاجة إلى تعداد الأسباب التي جعلت العراق يعود إلى الخلف بكل هذه السرعة، خصوصا منذ العام 2003 والمغامرات المجنونة التي قام بها قبل ذلك صدام حسين.

 

كل ما يمكن قوله الآن أن الانتصار على “داعش” تحول للأسف الشديد إلى انتصار على الموصل وأهل الموصل وذلك في ظل انفلات للغرائز المذهبية التي تستثمر فيها إيـران صاحبة المشـروع التوسعي في المنطقة.

 

خلال أيّام سيرفع كثيرون شارات النصر، مرة أخرى، في الموصل. لن يعني رفع شارات النصر أن مليونا من أهالي الموصل سيعودون إليها، كما لن يُسمح لهؤلاء بالانتقال إلى مناطق عراقية أخرى، خصوصا بغداد. هل حصل انتصار في الموصل، أم كان هناك انتصار على الموصل للانتهاء من المدينة وتحويلها إلى شيء آخر، على غرار ما يحصل في تكريت حيث ظهرت أخيرا صور آية الله الخميني و“المرشد” علي خامنئي؟

 

 

 5  

تحررت الموصل… وماذا عن العراق؟

   مشاري الذايدي الشرق الاوسط السعودية
بعد انتظار مضجر نجحت القوات العراقية المتنوعة في تحرير الموصل، من احتلال دولة الخرافة؛ دولة «داعش» السوداء، وتم طردهم من أم الربيعين؛ الموصل الحدباء، عاصمة العراق الثانية. هذا خبر سعيد ومبهج في زحمة الأخبار السيئة.

خبر يستحق أهل العراق، كل العراق، عليه المباركة، ومعهم الشعوب العربية والمسلمة وكل شعوب العالم.

مبروك للشعب العراقي ولحكومة وجيش وشرطة العراق، وحين نقول أهل العراق، فنعني الشيعة والسنّة؛ العرب والكرد والتركمان؛ الإيزيديين والشبك والصابئة والمسيحيين من الكلد آشوريين… وغيرهم من جواهر الكنز العراقي الاجتماعي.

عسى أن يكون هذا النصر الكبير مقدمة لتنقية العراق من بقية الدواعش بالأنبار وحدود العراق مع سوريا وغيرها من المعاقل الداعشية. كما نتمنى أن يكون نصر الموصل، مقدمة لهزيمة «داعش» السوداء في الرقة ودير الزور بسوريا، وعسى أن يكون ذاك قريباً.

هزيمة قتلة «داعش»، تفسح المجال لطرح الأسئلة المؤجلة والشفاء التام من وباء «داعش»؛ شفاءً لا رجعة فيه!

ألقى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي خطاب النصر بالموصل، ومما قاله إن النصر «لكل العراقيين»، وإن من قاتل هم فقط العراقيون.

ليت هذا الكلام الجميل تتم ترجمته «حقاً» على شكل قوانين وضمانات وعقد اجتماعي سياسي عراقي جديد، يمنع قيام الأحزاب الطائفية ويجرم التحريض الديني، شيعياً كان أم سنياً.

هذا هو المعنى الحقيقي لأن يكون النصر معبراً عن كل العراقيين، غير ذلك، كلام عاطفي فقط.

الأمر الآخر، ليس من الإنصاف نفي دور التحالف الدولي الذي آزر النصر الموصلي، وبمقدمه دول مثل أميركا وبريطانيا، فالمؤمن منصف! تحالف شاركت فيه 72 دولة عقدوا اجتماعا في واشنطن لمناقشة ما بعد معركة الموصل. والهدف من الاجتماع الدولي، حسب النص الرسمي، هو: «ضمان ألا تتبخر الانتصارات الحربية مرة أخرى بنيران صراع طائفي جديد». وللعلم؛ تخصص موازنة الرئيس الأميركي ترمب لسنة 2018 نحو 13 مليار دولار لمحاربة «داعش» بالعراق وسوريا.

نعم، الصف الأول الذي قاتل «على الأرض» هم مغاوير العراق من عرب وكرد، لكن دون نفي لدور الدوليين «الحاسم».

هذا النصر المجيد يضاعف المسؤولية على رئيس العراق، ورئيس الوزراء، وأهل الضمير الوطني قاطبة، لتحويل هذا النصر لمحطة انطلاق جديدة نحو عراق جديد، بلا ثقافات سوداء؛ سنية أو شيعية، وألا يكون لشخص مثل الإيراني قاسم سليماني الحق بالقول مؤخرا لوكالة «تسنيم» إن «الجيش العراقي في طريقه لأن يصبح عقائدياً».

كلام ضد كلام العبادي الذي حدثنا بخطاب النصر عن عراق لكل العراقيين… السلام للعراق… كل العراق.

 

 6     غزة بعد الموصل؟

 

   بكر عويضة الشرق الاوسط السعودية
 

بدءاً، يجدر توضيح أن آخر ما يخطر بالبال هو اقتراح «تحرير» قطاع غزة بالقوة من حكم حركة «حماس»، على غرار انتزاع حرية الموصل، بإخراج فلول تنظيم داعش من كبرى مدن شمال العراق، بعدما امتد ليل اغتصابها ما يقرب من ثلاث سنوات. أخيراً، حق قول النصر على خوارج عصرٍ طغى فيه فساد شرّ البرِّية وشاع، فطال أقاصي الأرض وأطرافها، حتى كاد أخيار الناس إذ يصبح أحدهم بنفسٍ تُسبِّح وتستبشر، فإن أغلبهم يمسون بأنفاسٍ تتعوّذ من شرور غمٍّ ليس يُطاق. كلا، ليس مطلوباً اقتحام غزة عسكرياً لإعادة وضع أمور القطاع في صحيح نصابها. إنما، تصحيح الأوضاع العرجاء أصبح، بحق، واجباً على كل مسؤول فلسطيني بين الأضلع منه بقايا وازع ضمير. إنها أوضاع باتت من السوء حتى أوشك الأصم أن يسمع صدى أذاها، وكاد الأعمى يبصر مآسيها، فما العجب إذا قيل إن القابلين باستمرارها هم نفرٌ يبغونها عِوَجاً، وإذ ذاك تراهم يمعنون في زرع ألغام الاعوجاج كلما لاح بريق شعاع صلح بات قاب قوسين أو أدنى؟

حقاً، لقد طال أمد تبادل لعبة تلويم طرفٍ لآخر في «ملعب» الانقسام الفلسطيني. أليست تكفيهم عشر سنوات كي يكفّوا شرور انقسامهم عن «شعبهم»؟ أم أن ركل كرة التصالح وتسجيل الأهداف متواصلٌ ما تواصل دعم الداعمين من الخارج، وتأليبهم المستجيبين لنهج ومصالح توجهاتهم في الداخل؟ إزاء استمرار هكذا حال مِعوَّج، لم يعد مستغرباً أن يسيطر وسواس «المؤامرة» على رؤوس أفواج من الناس، بعدما استعصى على العقلاء منهم العثور على جواب واحد مقنع عن السؤال: ما المبرر؟

سؤال محق. أيوجد بالفعل تبرير وطني لدى أي من القيادات المسؤولة عن استمرار انفصال قطاع غزة عن رام الله؟ كلا. أليس أن الأساس في كل برنامج للعمل الوطني، أن يتعامل بإحساس صادق مع حاجات الناس ومتطلباتهم. بلى. يحصل هذا حيثما يوجد ساسة وتوجد أحزاب تتنافس ببرامج لكسب ثقة المجتمع. مثلاً، لولا أن دونالد ترمب، رفع شعار «أميركا أولاً» وأرفق القول ببرنامج عاكسٍ لكيفية وضع الشعار موضع التطبيق، لربما لم يكسب معركة الوصول للبيت الأبيض، رغم أن مليارات رصيده المالي، وزخم قيادات الحزب الجمهوري، كانت تخوض السباق معه. ترى، هل أن قادة فصائل الانقسام الفلسطيني فشلوا في امتحان وضع «فلسطين أولاً»، في ضمائرهم قبل تحالفاتهم، وفي ممارسات على الأرض تسبق بيانات تملأ برامجهم؟ ألم يأنِ لأقوالهم أن تلتزم بصدق التعامل مع شعبهم، وأن يكفوا عن التلاعب بالعبارات، والأهم أن يدركوا غيظ الناس المكظوم لدرجة الاختناق، وأن داخل الصدور يتكوّم بركان غضبٍ كأنه جبلٌ من الحنق، لعله إذا انفجر، سوف يثبت لقادة الفصائل كلهم، أنه أشد من لهب قيظ كل صيف مضى؟

على رغم كل ما حصل من مآسٍ طوال العشر سنين الماضية، لم ينفد الوقت بعد. لم تزل أمام قيادات الانقسام الفلسطيني فرصة إثبات أنها صادقة العزم، أولاً، على طي صفحة انقلاب «حماس» وما تلتها من صفحات غشاها ليلاً مكرُ طرفٍ، فقابله فجراً دهاءُ الطرف المقابل. بلا صفاء نيّات لن تلتقي القلوب، ولن تُنقى الضمائر. يصدق هذا، أساساً، في علاقات البشر اليومية، حتى داخل العشائر والعائلات، فكيف لا ينطبق على التعامل بين ساسة تحمل رقابُهم مسؤولية مستقبل شعب بأكمله، كما حال الفلسطينيين؟ بلا جدال، ينطبق عليهم قبل غيرهم، إلا إذا عدّوا أنفسهم فوق كل الناس، وهذا مُحال.

يجدر القول هنا إن دول الجوار العربية يجب أن تبادر، من جانبها، فتمد أيادي العون للجمع بين «الإخوة الأعداء». الوضع في قطاع غزة، تحديداً، يزداد سوءاً كل يوم، خصوصاً بين الشباب. في هذا الصدد بوسع كلٍ من مصر والأردن، تقديم عونٍ مهم. لكن ذلك العون ذاته لن يثمر إن لم يُعن قادة الانقسام الفلسطيني أنفسهم على تجاوز كل أسباب استمرار هكذا انشطار. أول خطى طريق التصالح الحق تبدأ بأن تعود غزة إلى رام الله، عودة الجزء إلى الكل، بالرضا والقبول، وليس كما عادت الموصل للعراق، بثقيل السلاح ودوي القنابل وأكوام الجثث. تُرى، هل أن التعقّل الفلسطيني لم يزل ممكناً، أم صار هو أيضاً أضغاث أوهام؟

7  قصة «داعش» لم تنته بعد

 

 انتوني بلينكن نيو يورك تايمز
يشكل تحرير الموصل – عاصمة الأمر الواقع لخلافة «داعش» الموهومة في العراق – نقطة تحول مهمة في مسار الحرب ضد أخطر تنظيم إرهابي في العصر الحاضر. ولم يعد تنظيم داعش، وهو الاسم الموسوم به التنظيم الإرهابي في منطقة الشرق الأوسط، يسيطر على أي أراضٍ مهمة في العراق يمكنه من خلالها تأمين الملاذ الآمن للمقاتلين الأجانب، أو استغلال الموارد المتاحة هناك مثل النفط.

ولقد تمزقت دعاوى التنظيم الإرهابي – التي بنيت على الوجود الفعلي لخلافته المزعومة – شرَّ ممزق. ولكن في حين احتفال إدارة الرئيس ترمب بالقضاء على «داعش» بمعناها الذي نعرفه، فمن المبكر للغاية الشعور بالارتياح، ولا سيما في غياب استراتيجية ما بعد «داعش» في العراق.

قبل 15 عاماً ماضية، وفي بداية عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش وتحركه نحو غزو العراق، أثار السيناتور جوزيف بايدن وريتشارد لوغار تساؤلات مهمة: ما هي مسؤولياتنا في العراق بعد رحيل صدام حسين؟ ولم يأخذ هذا التساؤل حقه من البحث والتمحيص، لكن تبين فيما بعد أنه من أكثر التساؤلات أهمية.

ومع استبدال «داعش» مكان صدام حسين في ظل التساؤل المشار إليه، نجد أنفسنا في مواجهة مسألة شديدة الإلحاح اليوم. وحتى مع الهزيمة الساحقة التي تلقاها التنظيم الإرهابي عسكرياً، فإن الظروف السياسية والاقتصادية التي يسّرت نشأته وصعوده أول الأمر – والتي تهيأت إرهاصاتها الأولى مع الغزو الأميركي لعام 2003 – سوف تواصل التعمق والتفاقم. فكيف، مع كل ذلك، يتسنى لنا ضمان استمرار هزيمة «داعش» في قابل الأيام؟

ومن المسائل شديدة الأهمية حالياً، هي بذل الجهود وتوظيف الموارد بغية استقرار، وتأمين، وحوكمة المدن المحررة ثم إعادة إعمارها حتى يمكن للسكان المشردين والنازحين من العودة إلى منازلهم آمنين.

والأنباء السارة في هذا السياق تتمثل في تحالف الدول الـ68 الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة التنظيم الإرهابي، قد جمعت الأموال اللازمة للبدء في تنفيذ هذه العملية المهمة من خلال منظمة الأمم المتحدة. وهناك خطة مماثلة يجري تحديد معالمها بشأن سوريا.

غير أن الحرب الأهلية المستمرة هناك تجعل من تنفيذ هذه الخطة أمراً عسيراً للغاية، كما تبيّن من البطء الشديد الذي يغلف محاولات إعادة مدينة الطبقة السورية إلى الحياة مرة أخرى، تلك المدينة المحررة قبل شهرين ماضيين، والتي تعتبر بوابة الوصول إلى مدينة الرقة، العاصمة الأولى لخلافة «داعش» المزعومة في سوريا.

ومن التحديات القائمة والأكثر صعوبة هي ما سوف يأتي بعد ذلك. فهناك ما يقرب من 25 مليون مسلم سني يعيشون بين بغداد ودمشق. ولقد تم عزلهم بصورة تامة عن حكومات بلادهم. وما لم يتم بذل الجهود اللازمة لإقناعهم بأن بلادهم سوف توفر لهم الحماية والأمان وليس القمع والاضطهاد، فإننا على مسار ملاقاة «النسخة الثانية» من تنظيم داعش الإرهابي مع بحر هائل من المجندين والمؤيدين الجدد والمحتملين.

وتوفر البيئة الطائفية العراقية الحالية أفضل فرص النجاح في ذلك. لكن إن تركناهم وشأنهم، فإن قادة هذه المناطق سوف يهيئون الظروف القاتمة نفسها التي مهدت الصعود الأول للتطرف الإرهابي العنيف. ولسوف يصطف جيران العراق وراء كل فصيل يمالئهم ويؤيدونه؛ مما يعزز العقلية صفرية النتائج في واقع العراق ذاته.

وهنا يأتي دور دبلوماسية الولايات المتحدة. فلا يمكن للولايات المتحدة إملاء نتائج الأحداث على العراق صاحب الحكومة والسيادة. لكنها يمكنها تأييد، وتحفيز، وتعبئة أولئك الذين يرغبون في وضع العراق على المسار الصحيح.

ويبدأ ذلك بدعم ما وصفه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بـ«الفيدرالية الفاعلة»، بمعنى منح المواطنين العراقيين على مستوى المحافظات، درجة من المسؤوليات الذاتية والموارد المهمة ذات الفاعلية الأكيدة في حفظ الأمن، وتوفير الخدمات، والمدارس، وحوكمة حياتهم اليومية بصورة ذاتية.

وهذا من أنجع الوسائل، كما أتصور، لإقناع المواطنين العراقيين السنة بأن مستقبلهم داخل بلدهم العراق وليس مع تنظيم داعش «الجديد». ولقد اعتاد السنة في العراق معارضة الفيدرالية الداخلية لصالح الحكومة المركزية القوية، التي يتبنون استمرارها على نحو متزايد.

والدستور العراقي ينص على اللامركزية في شؤون الحكم، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ الفعلي حتى الآن. ولسوف تصر طائفة داخل المجتمع الشيعي العراقي، المؤيد من طهران، على المحافظة على غنائم حكم الأغلبية، والحفاظ على دور بغداد المهيمن على ربوع البلاد، وعلى السنة بشكل خاص.

والبدء في تنفيذ الفيدرالية الفاعلة يبدأ بسريان مفعول القانون الحاكم للميليشيات الشيعية العراقية، والمعروفة إعلامياً باسم قوات الحشد الشعبي. إذ يجب وضع هذه القوات تحت سيطرة الحكومة المركزية، وإبعادها عن شؤون الحكم والسياسة، وبعيداً عن مناطق الأغلبية السنية كذلك.

ويجب، كذلك، إدراج الميليشيات السنية التي جرى تعبئتها للقتال ضد تنظيم داعش على قوائم رواتب الحكومة وتوليها المسؤولية عن تأمين أقاليمها الخاصة. ويتعين على بغداد أيضاً التأكد من أن استثمارات ومشروعات البنية التحتية لا تتجاوز المناطق السنية بحال.

وفي الوقت نفسه، ينبغي على إدارة الرئيس ترمب استخدام علاقاتها القوية مع الدول العربية من جيران العراق وممارسة الضغوط عليها من أجل مزيد من التفاعل والتشارك مع بغداد وتعزيز التكامل الإقليمي العراقي في المنطقة، مع تعزيز طموحات هذه المناطق.

إن غيابهم عن العراق قد ترك فراغاً كبيراً احتلته إيران. ودعمهم غير المشروط لكل المطالب السنية بات يغذي العصبيات الطائفية التي مكنت إيران من الولوج إلى بغداد، والمخاطرة بتمزيق العراق ومستقبله.

كما أن الطموحات الكردية أصبحت تشكل تحدياً من التحديات الكبيرة والمزعزعة لاستقرار العراق. إذ دعا زعيم الإقليم الكردي، مسعود برزاني، إلى إجراء استفتاء شعبي حول استقلال الإقليم وإعلان قيام الدولة الكردية في سبتمبر (أيلول) المقبل.

وفي الأثناء ذاتها، استفاد الأكراد كثيراً من القتال ضد تنظيم داعش للسيطرة على 70 في المائة من الأراضي في شمال العراق، التي هي محل نزاع قائم بين العرب والأكراد، والتي لن يتخلى عنها الأكراد بسهولة أو هوادة. وحلم الاستقلال الكردي هو من الأحلام الكبيرة والقوية، التي تحل محل القلب في طموحات وإرث السيد برزاني.

غير أن الاندفاع المتهور سوف يؤدي إلى إثارة غضب كل من بغداد والسنة في العراق، ناهيكم عن ذكر تركيا وإيران. وإن كانت أسعار النفط العالمية منخفضة للغاية اليوم، فسوف يواجه الأكراد صعوبات شديدة على سبيل الاكتفاء الذاتي.

وهنا أيضاً، ينبغي على الولايات المتحدة استعادة دورها بصفتها وسيطاً أميناً وموثوقاً. فلا بد من إبرام صفقة ما تمنح الجانب الكردي قدراً أكبر من السيطرة على موارد النفط في أراضيهم، في حين الاحتفاظ بنشر القوات الفيدرالية في الخارج والتفاوض بشأن المسؤولية المشتركة حول مدينة كركوك العراقية الغنية بالنفط. ولن يحدث ذلك من تلقاء ذاته.

وهناك سؤال أخير: ما نوع الوجود العسكري الأميركي، إن وجد، الذي ينبغي بقاؤه في العراق للمساعدة في ضمان عدم صعود تنظيم داعش على مسرح الأحداث الإقليمية مرة أخرى؟

عكس الانسحاب الأميركي لعام 2011 الواقع وقتذاك، وهو أن السواد الأعظم من العراقيين كانوا يريدون رحيل القوات الأميركية عن أراضيهم. أما الآن، وبعد إفاقة العراق من الكابوس الداعشي المظلم، قد تكون هناك رغبة متزايدة في الاحتفاظ بالمزيد من الوجود العسكري الأميركي بهدف تدريب القوات العراقية وتمكينها، ومن أجل إتاحة الاستخبارات ودعم مكافحة الإرهاب – لكن ليس من أجل المشاركة الفعلية في العمليات القتالية.

كيف يكمن لإدارة الرئيس ترمب التحرك عبر حقل الألغام السياسي؟… هذا سوف يكون من الاختبارات القاسية وربما الحاسمة لاستراتيجيتها في الأيام المقبلة.