يتسائل الكاتب كرم نعمة .. هل يستطيع القلم أن يهزم المحفظة ؟

مقالات

لم تكن مشكلة البشرية يومًا نقص المعلومات. لقد غرقنا فيها قبل زمن طويل من سيطرة الخوارزميات. واليوم، يغرق العالم في سيل من البيانات. حتى جوجل تعترف بأنها تقدم أكثر بكثير مما يستطيع أي عقل حديث استيعابه.

لكن الصحافة، التي خُلقت لقول الحقيقة، تواجه الآن أزمة وجودية. لم تعد المسألة تتعلق بالوصول إلى المعلومات، بل بالقدرة على قولها جهرًا.
يواجه الصحفيون اليوم أكثر من مجرد الرقابة، فهم يواجهون السوق. والسوق لا يسأل: هل هذا صحيح؟ بل يسأل: هل سيُباع هذا؟
في عصر التمويل، أصبحت الصحافة نموذجًا تجاريًا. تتفاوض وسائل الإعلام الكبرى مع الحكومات، وتُرضي المعلنين، وتُعيد صياغة الحقائق بما يُناسب من يدفع الفاتورة. لم تعد الحقيقة تُكتب بالحبر، بل تُوزن في الميزانيات.
هذا ما اكتشفه الصحفي الاستقصائي جورج مونبيوت، بعد أربعة عقود من مسيرته المهنية. أدرك أن الصحفي لا يستطيع قول الحقيقة للسلطة إذا كانت السلطة هي التي تتحكم في الكلمات. كتب مونبيوت: “السلطة هي الصخرة التي تنكسر عليها الحقيقة. لم يخسر أحدٌ ماله قط وهو يُخبر أصحاب المليارات بما يريدون سماعه”. ويجادل بأن وسائل الإعلام السائدة، مع استثناءات قليلة، أصبحت جماعة ضغط لصالح رأس المال.
حذّر آلان راسبريدجر، المحرر السابق لصحيفة الغارديان، من هذا الأمر قبل سنوات في مقاله “أخبار عاجلة”: “لم تنهار الصحافة لأنها فقدت جمهورها، بل لأنها فقدت استقلاليتها”. عندما يصبح الصحفي موظفًا في يد السلطة، يفقد القدرة على الشهادة.

هذا هو جوهر الأزمة. الصحافة الممولة من الدولة لا تستطيع مساءلة الدولة. الصحافة الممولة من الشركات لا تستطيع فضح الشركات. الصحافة الممولة من القراء تكافح من أجل البقاء. في هذه الأثناء، تواصل الحكومات حملتها الصامتة لإذلال الصحافة وكسرها وترويضها.
كشف تحقيقٌ أجرته صحيفة فاينانشال تايمز عام ٢٠٢٤ أن أكثر من ٦٠٪ من وسائل الإعلام في الشرق الأوسط تعتمد على تمويل حكومي مباشر أو غير مباشر. وهذا التمويل لا يأتي مجانًا، بل بشروطٍ وضوابط.
وفي الولايات المتحدة، كتب ناشر صحيفة نيويورك تايمز، إيه جي سولزبرغر، مقال رأي نادر يحذر فيه من أن حرية الصحافة في الديمقراطيات الغربية بدأت تشبه تلك الموجودة في الأنظمة الاستبدادية.

كان صريحًا: “لا يمكن لمؤسسة واحدة أن تواجه هذه التحديات”. وأضاف أن الصحافة مهددة الآن من قِبَل الحكومات التي تستخدم أدوات رقمية لتشويه سمعتها، وشركات التكنولوجيا العملاقة التي تتحكم في توزيعها، والجمهور الذي يشكك في كل شيء.
لذا، لم تعد الصحافة تطرح أسئلة، بل تُغلّف الروايات، ولم تعد تسعى إلى الحقيقة، بل تسعى إلى التمويل.
وهنا تكمن المفارقة: تحتاج الصحافة إلى المال لتعيش. لكنها تموت عندما يُملي المال صوتها.
السلطة لا تقتل الصحافة، بل تُعيد تشكيلها. تُكافئ الامتثال، وتُغلق أبواب المعارضة. تُشجع الصحفيين على التفسير لا الاستجواب، على الشرح لا الكشف.
في هذا المناخ، يُصبح الصحفي مسؤول علاقات عامة. يُطلب منه الكتابة، لا الشهادة. التلميع، لا الاستفزاز.
ومع ذلك، ثمة شيءٌ ما يتحرك في الهامش. ليس في غرف الأخبار، بل في ضمائر القراء.
تتشكل ثورة هادئة ضد الدعاية، وضد احتكار الحقيقة، وضد الصحافة المجردة من جوهرها. لم يعد الناس يثقون بالإعلام الرسمي. يعرفون من يموله، ويعرفون: من يدفع يكتب.
وهنا يعود السؤال القديم: هل يستطيع الصحفي أن يقول الحقيقة للسلطة عندما تمتلك السلطة الكلمات؟
الجواب، وإن كان مؤلمًا، يبقى ممكنًا. لكنه يتطلب شجاعة، ويتطلب استقلالية، ويتطلب انتصار القلم على المحفظة.
قد لا نملك الإجابة بعد. لكن لدينا السؤال. لدينا الغضب. لدينا الأمل.
كصحفيين، علينا مقاومة الفقاعات الأيديولوجية والتجارية التي تُضيّق آفاقنا. علينا أن نناضل من أجل يومٍ ينتصر فيه القلم على المحفظة. حينها فقط ستستعيد الصحافة غايتها الأخلاقية: أن تكون صوتًا لا يُشترى وشاهدًا لا يُكتم.