المعركة بدأت : حرب استخبارات بين الغرب وطهران تشتعل في أوروبا
في بيان حازم ونادر من حيث التوقيت والمضمون، أعلنت أربع عشرة دولة غربية، بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أنها لم تعد ترى في الأنشطة الاستخبارية الإيرانية مجرد تجاوزات معزولة، بل “تهديدًا منظمًا تمارسه دولة ضد سيادة دول أخرى”، بوسائل تمتد من الاغتيال والخطف إلى المراقبة والمضايقة المنهجية لمعارضين وصحفيين ومواطنين يهود ومسؤولين سابقين على الأراضي الأوروبية والأمريكية.
ما يُقلق هذه العواصم ليس فقط خطورة الأهداف، بل البنية الاستخبارية المعقدة التي استطاعت إيران أن تبنيها خلال السنوات الماضية، عبر شبكات مزدوجي الجنسية، ومنظمات دينية، وتحالفات مرنة مع منظمات الجريمة المنظمة العابرة للحدود. هذه البنية لا تُدار فقط من فيلق القدس أو وزارة الاستخبارات الإيرانية مباشرة، بل تقوم على مفهوم “التحكم اللا مركزي” الذي يُمكّن محطات أمنية صغيرة، موزعة داخل السفارات الإيرانية والجاليات والمراكز الثقافية الدينية، من العمل بأدوات محلية لتنفيذ أهداف استراتيجية بطابع دولتي.
الاستراتيجية الإيرانية في الخارج تميل إلى تجنيد عناصر من أصحاب الخلفيات الهشة اجتماعيًا أو المتمزقين نفسيًا بين هويتين، والذين غالبًا ما يشعرون بالاغتراب الثقافي داخل البيئة الغربية، ما يجعلهم هدفًا مثاليًا لـ”التعبئة الصامتة”. هذه العناصر تُدرَّب أحيانًا تحت غطاء الزيارات الدينية أو الندوات الثقافية في دول ثالثة، مثل العراق ولبنان وسوريا، واليمن … ثم يُعاد زرعهم داخل المجتمعات الغربية كعيون راصدة أو أدوات لوجستية. ما يُقلق الأجهزة الغربية أن هؤلاء لا يُظهرون مؤشرات تقليدية للولاء الأمني، بل يتحركون تحت قناع الإيمان، الانتماء الطائفي، أو الالتزام الاجتماعي مع “مراكزهم الدينية”.
أما التعاون مع منظمات الجريمة المنظمة، فقد أصبح الذراع الخفي لطهران في تجاوز الرقابة الأمنية في الغرب. فبينما تخضع التحركات الرسمية الإيرانية للمراقبة المشددة، تسمح الشبكات الإجرامية بتوفير الخدمات اللوجستية: التهريب، توفير الأسلحة، بناء النقاط الميتة ،والتنقلات السرية، وحتى تنفيذ عمليات نيابة عن عناصر إيرانية يصعب تحريكهم. هذا ما تم رصده في عدة حالات، خاصة في دول البلقان ووسط أوروبا، حيث تشكّل شبكات التهريب والبنية التحتية الإجرامية قنوات آمنة لعمليات ذات طابع استخباري إيراني.
ردّ الفعل الغربي يتطوّر تدريجيًا من بيانات الإدانة إلى خطوات عملياتية. بحيث بدأت عض الأجهزة تفكك شبكات الجمعيات الدينية التي تعمل في عزلة عن المجتمع المحلي، وتراجع ملفات تمويلها، وأنماط السفر لدى قادتها. وهناك توجّه لإنشاء وحدات تحليلية جديدة متخصصة في “مؤشرات الاختراق الإيراني الناعم”، تعتمد على دمج بيانات الهجرة، السلوك المالي، التنقلات، وحتى الأنشطة الاجتماعية والدينية لعناصر محددة. هذه المقاربة، رغم حساسيتها القانونية، باتت تُطرح كضرورة أمنية في ظل عجز القوانين التقليدية عن التعامل مع هذا النوع من التهديدات المركّبة.
ومع ذلك، تدرك العواصم الغربية أن تفكيك المحطات الأمنية الإيرانية داخل أراضيها ليس معركة معلوماتية فقط، بل معركة نفسية وثقافية. فالجمعيات الدينية التي تعمل كأغطية أيديولوجية للتجنيد، تخلق ولاءات تتجاوز القانون، وتحوّل الفرد إلى أداة طيعة باسم الدين أو الانتماء الطائفي. هنا يصبح التحدي الحقيقي هو تحصين الجاليات، وخلق بيئة اندماج لا تترك فراغًا تستغله استخبارات الخارج.
البيان الغربي الموحد ليس مجرد ردّ على عمليات جرت، بل هو إعلان عن تحول استراتيجي في مقاربة الغرب للخطر الإيراني، من التعامل معه كملف خارجي إلى اعتباره “تهديدًا داخليًا مزروعًا” يحتاج إلى هندسة ردع جديدة. فبين الحسينيات التي تتحول إلى غرف عمليات ناعمة، والمهاجرين مزدوجي الهوية الذين يُستخدمون كأدوات ، باتت الحرب الاستخبارية تُخاض في قلب المجتمعات الغربية، بهدوء قاتل. والسؤال الآن: هل يستطيع الغرب فرض قبضته الأمنية قبل أن تزرع طهران خنجراً جديدًا في خاصرته الديمقراطية؟
