الحلقه التاسعه
انقضت أكثر من ربع المدة، من الـ 48 ساعة، التي حددها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، للرئيس العراقي صدام حسين ونجليه لمغادرة العراق، قبل أن يسمع بها الكثير من العراقيين، فقد جاء الإعلان الأمريكي في ساعة متأخرة بتوقيت بغداد، وفي صباح اليوم التالي، انشغل العراقيون بحياتهم اليومية، ولم تكن الأطباق اللاقطة منتشرة بين العراقيين، مع إن هناك من يستخدم منظومة استقبال البث الفضائي بالخفاء، لأن استخدامها كان محظوراً، وهناك عقوبات مالية وسجن يصل إلى ستة أشهر، لمن يستخدم الستالايت في بيته.
إلا إن ذلك الإنذار، وصل إلى غالبية العراقيين، قبل غروب الشمس، وأحدث انتشار هذا الخبر هزة ليست بسيطة عند الكثير من العراقيين، واختلطت الأمور عندهم، فقد كان الإنذار واضحاً، لا يقبل اللبس أو المناقشة، وعزز من القناعات بحتمية وقوع الحرب، وانتشرت الأخبار المتسارعة بسحب الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية أعضاء لجان التفتيش، كما صدرت أوامر فورية بإجلاء بقية الموظفين، وسارعت العديد من السفارات إلى الإعلان عن مغادرة موظفيها ودبلوماسيها العاصمة العراقية، على وجه السرعة.
ما أن أرخى الليل سدوله، وأدرك العراقيون أن الوقت يقضم الساعات المتبقية بسرعة، حتى وجد الكثيرون انهم في حالة فوضى في ترتيب الأوراق، وعند محاولاتهم الإمساك بالصفحة الأولى من مسلسل على وشك أن تبدأ أولى حلقاته، دون أن يعرفوا إلى أين يسير القطار بعرباته الكثيرة، التي تزخر بالغموض والتشويش.
في خضم ذلك التلاطم في الأفكار والمناقشات، اصبح حال غالبية العراقيين، يشبه ما ورد في مقطع شعري من قصيدة أرض اليباب (The waste land) للشاعر الشهير ت.أس.اليوت التي يقول فيها (لا اقدر أن اربط أي شيء بشيء، قومي أناس مساكين، لا يتوقعون أي شيء).
إن اتخاذ القرارات على الصعيد الشخصي، لم يكن بالأمر الهين، فالدولة تصر على موقفها في تحدي التحذير الأمريكي، وهذا التحذير، لم يصدر من أي دولة، فهو جاء بعد صراع طويل بين واشنطن وبغداد، وظل يتصاعد منذ عام 1990، وإن أهم مخاطر ذلك، تكمن في عزم الولايات المتحدة، شن الحرب، دون موافقة الأمم المتحدة، ما يدلل، على شروع الإدارة الأمريكية، في تطبيق سياسة القطبية الواحدة، والتفرد بالقرار الدولي، والتوجه نحو تطبيق سياسة جديدة، تتماشى والاستراتيجية، التي أخذت بالبروز، منذ أكثر من عقد، وتحديداً بعد عام 1992، وهو العام، الذي وجد الأمريكيون أنفسهم بلا عدو محدد، عندما غاب من حلبة الصراع الدولي، الاتحاد السوفيتي، وتلاشت أخطار الحرب المحتملة بين موسكو وواشنطن.
مهما حاول المرء، أن يصف التفاصيل الدقيقة لحياة العراقيين، خلال الساعات المتبقية من انذار الرئيس الأمريكي، لن يستطيع، فقد ازداد عدد السواتر الترابية، وانتشرت الأخاديد والشقوق، التي تم حفرها من قبل ميليشيا حزب البعث، ودخلت الأجهزة الأمنية من المخابرات والأمن والأجهزة الأخرى حالة التأهب القصوى، ووصلت تعليمات سريعة إلى جميع الأجهزة، تؤكد على رفع درجة الاستعداد لإفشال أي إنزال للقوات الأمريكية في المناطق الحساسة . ومن أهم تلك المناطق، تم تحديد خمسة مداخل رئيسية لمدينة بغداد، وتشمل:
الطريق القادم من الشرق، وتحديداً منطقة جسر ديالى القديم، وتم التشديد على تحصين الدفاعات وزج أكبر عدد ممكن من المقاتلين من جهاز حزب البعث ومعهم أفراد من الأجهزة الأمنية الأخرى، وتأمين الحماية لمدخل الطريق السريع، خاصة في نقطة التقاطع جوار معسكر الرشيد.
المدخل الثاني، هو الطريق القادم من مدينة بعقوبة، وتحديداً قرب مستشفى حماد شهاب العسكري في منطقة الراشدية.
ذات التحصينات تم اعتمادها في بوابة بغداد، وهي مدخل العاصمة من الشمال، على الطريق المؤدي إلى مدينة الكاظمية من اتجاه الموصل وتكريت وسامراء، والمدخل الغربي في منطقة أبو غريب، وتحديداً في المنطقة الواقعة إلى الشمال من المطار.
أما المدخل الجنوبي، فقد أخذ الحيز الأكبر من الاهتمام في خطة التصدي لأي إنزال أمريكي محتمل، وتم تكليف مجاميع كبيرة لتأمينه، ابتداءً من جنوب مدينة المحمودية (30 كم جنوبي بغداد)، حتى المدخل الرئيسي عند تقاطع الطريق السريع لمنطقة الدورة-السيدية. وأخذت الاستعدادات هنا احتمالين، أولهما احتمال إنزال قوات أمريكية، والثاني تنفيذ الخطة الأمريكية بالاندفاع عبر الطريق البري بفرقة أو فرقتين من المشاة والمدرعات. لهذا تم تكثيف المجاميع في ذلك الطريق، الذي يمتد لأكثر من ثلاثين كيلومتراً، وتواجد مقاتلون من حملة الأسلحة المضادة للدروع نوع (RBG7) إضافة إلى الأسلحة الرشاشة، الخاصة بمقاتلة أي مجاميع يتم إنزالها، أما الأسلحة الثقيلة، فكانت تنتشر على مقربة من تلك الأماكن، وسنأتي عليها لاحقاً.
لكن نقطة الضعف الوحيدة، التي حصلت في خطة الدفاع العراقية، هي منطقة المطار، واستناداً إلى ضابط ركن عراقي، فأن القيادة العامة في اجتماعاتها، كانت ترى، أن منطقة المطار محصنة جداً، لوجود قوات دفاع كثيرة عند مداخل المدن، كما إن وجود الحرس الخاص في منطقة الرضوانية، التي يقع فيها أهم قصور الرئيس صدام حسين، يؤمن الحماية المطلوبة للمطار، وأن منطقة أبو غريب القريبة من المطار، كانت تغص بوحدات الحرس الجمهوري، ورغم اختلاف التفسيرات، إلا إن ثغرة المطار، كانت من أهم البوابات، التي سهلت احتلال بغداد، وسنأتي على ذلك بالتفصيل لاحقاً.
لم تقتصر تلك الاحترازات على مداخل العاصمة، بل شملت الساحات العامة، والطرق الرئيسية، وتم اتخاذ احتياطات كثيرة في منطقة شارع القناة، الذي يقع في جانب الرصافة من بغداد، وتوقع بعض قادة الجيش من الذين عملوا مع الجهاز الحزبي والأجهزة الأمنية الأخرى، أن يختار الأمريكيون هذا الشارع، لإنزال قوات من المارينز، فالشارع يمتد على استقامة واحدة لأكثر من عشرين كيلومتراً، وتوجد ساقية القناة بين الشارعين، يمكن استخدامها موطئ قدم لتلك القوات، كما أن السيطرة على هذا الشارع، يعني عزل مناطق كثيرة من العراق عن قلب العاصمة، وتشمل تلك المناطق (الكوت والمدائن وجسر ديالى القديم، صعوداً إلى ديالى وكركوك والحسينية والراشدية)، ولأن مركز قوات الحرس الجمهوري ومقر قياداته تتواجد في الراشدية، فأن ترجيح اختيار هذا المكان للإنزال الجوي، كان الأكثر حضوراً في الخطط والتوقعات، التي تم تدارسها.
لم تكن، تلك الاحترازات في بغداد فقط، بل تم تعميمها على جميع المحافظات، والأقضية والنواحي، وحتى في القرى النائية، إذ وضعت جميع الاحتمالات لمجابهة أي إنزال تقوم به القوات الأمريكية في تلك المناطق.
أما القيادة العراقية، فقد أبلغت كبار المسؤولين في حزب البعث في جميع المناطق بأن الإنزال سيكون أما بهدف زعزعة المعنويات وإرباك المقاتلين، خاصة الذين يقفون في خطوط المواجهة، من خلال التكثيف الإعلامي لأي إنزال، وإحباط هؤلاء، بعد تصوير الأمور بالطريقة، التي تريدها إدارة الحرب الأمريكية، ومن بينها الإيحاء بعزل مدن وقرى معينة، من خلال تكثيف عمليات الإنزال، أو للسيطرة على مفاصل مهمة، تمنع قطعات الحرس الجمهوري من التحرك لتنفيذ واجباتها المرسومة في الخطة الخاصة بالدفاع عن مدينة بغداد، وهي المعركة النهائية.
في كل ساعة تمر من المهلة النهائية، كانت المظاهر الاحترازية تزداد في بغداد والمدن الأخرى، وانتشر المدنيون الذين يحملون الأسلحة الخفيفة بكثافة عالية جداً، وظهر من بين هؤلاء حتى الصبية، الذي لم يترددوا في إبراز دورهم في نقاط التفتيش، ومحاولة أخذ دورهم في معركة، لا يدركون تفاصيلها، فهؤلاء لم تكن أعمارهم تتجاوز الخمس أو الست سنوات، عندما اندلعت حرب الخليج الثانية، بكل ما حملت من دمار وعصف مرعب للقنابل والصواريخ وقتل لكثير من الناس من جراء ذلك القصف، أما وجوه كبار السن من الذين اشتركوا في الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، وعاشوا تفاصيل الحرب عام 1991، فأن الوجوم أخذ يسيطر عليهم، التي يحاول أصحابها نفضه بصعوبة وارتداء حلة أخرى. وفي دواخل هؤلاء، الذين أجدهم أمامي في كل مكان، كنت أرى ماجاء في ملحمة جلجامش، الذي يقول:
(لا تعتمد يا جلجامش على قوتك وحدها، تبصر في أمرك وأحم نفسك).
لكن لم يكن بإمكان أحد أن يتحدث عن أي نوع من التردد، لأن المعركة على الأبواب، والعدو أكمل أدواته، وهاهو يستعد لضغط الزناد، لتنطلق حمم الصواريخ المدمرة.
أما زخم الدعم المعنوي، فكان يقوده كبار المسؤولين في حزب البعث، ولا يتوانى هؤلاء بالإشارة إلى ما قالته بعض وسائل الإعلام العالمية، قبل أيام عن الرئيس صدام حسين أمين سر القيادة القطرية للبعث والقائد العام للقوات المسلحة، حيث ينقل كبار البعثيين شهادة الإعلامي الأمريكي دان راذر المقدم الشهير لبرامج شبكة (CBS) الأمريكية، الذي قابل الرئيس صدام حسين في نهاية شهر شباط/فبراير 2003، أي قبل أسبوعين من ذلك الوقت وقال أنه هادئ جداً، وعلى أتم الاستعداد لمواجهة العاصفة. وكان قد أجرى مقابلة استمرت لثلاث ساعات.
كما يستشهد قادة البعث في أحاديثهم التي تصب بدعم الجانب المعنوي، بما قاله رئيس مجلس الدوما الروسي غينادي سلزنيف، الذي التقى صدام حسين، قبل أسبوع، أي في العاشر من مارس 2003، وقال: أن صدام حسين واسع الإطلاع وواعٍ تماماً بكل مايجري حوله.
كما إن مبعوث بابا الفاتيكان قد أعلن بعد لقاء مع الرئيس العراقي منتصف فبراير، أي قبل شهر تقريباً، أن صدام حسين يتحلى بضبط النفس وروح المسؤولية.
أما الجيش العراقي، فقد توزعت الفيالق حسب تقسيماتها الجغرافية، ولم يتحدث قادة الجيش لوسائل الإعلام، إلا إنه يمكن القول، إن العراق أراد أن يوضح أبعاد خطته، عندما نظم المركز الصحفي التابع لوزارة الإعلام العراقية زيارة يوم الأحد المصادف السادس عشر من مارس 2003، إلى أحد مراكز تدريب القوات الخاصة القريبة من بغداد، وتحدث عميد في الجيش العراقي للصحفيين، معلناً أن الاستراتيجية العراقية، تقوم على امتصاص الضربة الأولى، ثم جر الأمريكيين إلى المدن، وحاول عدد من الصحافيين الاستفهام أكثر عن تفاصل الخطة من الضابط، الذي امتنع عن ذكر أسمه وسط مركز التدريب العسكري، لكنه اختصر ذلك بالقول: أن نقطة ضعف القوات الأمريكية هي معارك الشوارع.
من الواضح، أن الحكومة العراقية، أرادت أن تبعث برسالة واضحة إلى الأمريكيين من خلال تلك التصريحات، التي أطلقها ضابط غير معروف في الجيش العراقي، ولم يكن برتبة عالية، والهدف منها، التقليل من أهمية الأسلحة العملاقة، التي تملكها القوات الأمريكية مقارنة بالأسلحة العراقية، والتي تفتقر إلى أهم سلاح وهو الطيران الحربي، الذي تم تحييده بصورة تامة، قبل بدء المعركة.
تلك التصريحات، التي أطلقها العميد في الجيش العراقي، لم يتم التركيز عليها في وسائل الإعلام المحلية من تلفزة وإذاعة وصحف، كما أن العراقيين، لم يهتموا بها، ولم تدخل في حيز النقاشات الحامية، التي اشتعلت للمرة الأولى، على اعتبار أن الحرب باتت وشيكة، وأن جميع التوقعات السابقة، التي لم ترجح كفة نشوب الحرب، قد رميت إلى الخلف، وأصبح الجميع أمام واقع مفاجئ جديد، يستدعي استحضارات على الصعيد الشخصي والعائلي، وأخذ مسالة المواجهة المسلحة على محمل الجد، والتصرف من هذا المنطلق.
بعد مضي أربعة وعشرين ساعة، على الإنذار النهائي، الذي وجهه جورج دبليو بوش لصدام حسين ونجليه بمغادرة العراق، ارتفعت نسبة القناعة بوقوع الحرب لدى نسبة تصل إلى 99% من العراقيين، أما البقية، فقد رجحوا حصول مفاجآت اللحظة الأخيرة، ولم يستبعد البعض أن يحصل انقلاب داخل القصر الجمهوري، وأن تحصل ترتيبات داخلية، ضمن سيناريو متفق عليه، لإفشال الإنذار الأمريكي، ولم يستبعد البعض قضية المؤامرة في مثل هكذا مسالة، على أساس، ان الحل النهائي، الذي قد يرضي غرور واشنطن، أن يتم من خلال استبدال بعض الوجوه في القيادة العراقية، على أن يشمل ذلك الرئيس صدام حسين نفسه وأقرب المقربين اليه، ويتم إعلان حالة الطوارئ، وبالمقابل يحصل تريث في الإنذار الأمريكي، وعندها يسقط احتمال نشوب الحرب.
لكن تسارع عقارب الساعة، نحو فجر الخميس الموافق العشرين من مارس، كان كفيل بصرع جميع الأفكار والاحتمالات، التي ترجح الحل السلمي، مهما كان نوعه وشكله، والذي يلغي فكرة انطلاق طائرات الشبح (ستلث) والقاصفات من نوع (B52) والصواريخ بعيدة المدى من نوع كروز.
المثير للانتباه، أن ذات الأفكار والتحليلات والأجواء، التي سيطرت على العراقيين يوم الخامس عشر من يناير عام 1991، أي قبل ساعات من بدء الحرب الأمريكية على العراق، عادت لتظهر بذات اللباس، يوم التاسع عشر من مارس/آذار 2003، إلا إن الذي حصل في ذلك اليوم، هو ندرة البغداديين الذين غادروا مدينتهم، عكس ما حصل عام 1991، الذي شهد نزوح شبه جماعي عن بغداد، حتى إن الكثير من الأحياء، قد فرغت تماماً من قاطنيها.
في ذلك اليوم أيضاً، انتشرت معلومات بين العراقيين، عن انتقال بعض الدوائر الحساسة والأمنية، إلى مواقع بديلة، تحسباً لحصول قصف للدوائر المهمة مثل المقرات الرئاسية، وقيادات الأجهزة الأمنية مثل المخابرات والأمن والاستخبارات العسكرية، وأفرغت البنايات الكبرى في حي المنصور، حيث يوجد مقر رئاسة المخابرات، ومقر الأمن العام في منطقة البلديات بجانب الرصافة، ومقر الاستخبارات العسكرية في منطقة المحيط بحي الكاظمية، الذي يقع عند جسر الأئمة، ويطل على نهر دجلة من ضفته الغربية إضافة إلى مقرات الأمن الخاص في الحارثية والحرس الجمهوري بمنطقة الراشدية، التي تبعد نحو عشرين كيلومتراً شمال شرق بغداد، وشمل ذلك المديريات التابعة لهذه الأجهزة في بغداد والمحافظات الأخرى، وتم الإبقاء على عناصر قليلة لأغراض الحماية، وصدرت توجيهات لأخذ الحيطة والحذر، والابتعاد عن مراكز البنايات الخاصة بتلك الأجهزة.
ويذكر بعض العاملين في تلك الأجهزة الأمنية، أن توقعاتهم كانت تشير إلى إن القصف سيبدأ بأهداف كثيرة، من بينها الأماكن الحيوية في تلك الدوائر، ويتذكر هؤلاء، أن أول موجة من القصف الأمريكي عام 1991، استهدفت الشعبة الخاصة بالولايات المتحدة في جهاز المخابرات العراقي، كما استهدف مكاتب رؤساء الأجهزة الأمنية، ومقرات الحاسوب في تلك الدوائر.
بعد دراسة معطيات حرب الخليج الأولى وما حصل خلالها، تأكد العراقيون، إن الأمريكيين يولون المواقع الحساسة أهمية قصوى في ضرباتهم الأولى، وأثناء مناقشة خطة الطوارئ، وضع المختصون في هذه الأجهزة، نصب أعينهم مسألة الدقة العالية، في تحديد جميع الأهداف الحساسة والحيوية، التي تملكها الإدارة الأمريكية، والتي وصلت إليهم من خلال لجان التفتيش، التابعة للأمم المتحدة، والتي تأكد للعراقيين، بأن معلوماتهم تتسرب بدقة إلى وكالة المخابرات المركزية، ومن ثم إلى الدوائر المعنية في البنتاغون، لاستخدامها في عمليات القصف الجوي، عند ابتداء الحرب.
وقال لي، بعد انتهاء الحرب، عدد من الضباط من العاملين في تلك الأجهزة، أن عمليات الإخلاء شملت الملفات الحساسة وأجهزة الحاسوب، وتم نقلها أما إلى بيوت سرية، تستخدم للطوارئ، في حال وجود تهديد أمريكي، منذ بداية تسعينات القرن الماضي، أو إلى بعض مساكن العاملين في تلك الأجهزة.
ظهيرة الأربعاء، وبينما كان عقرب الساعة، يتجه بتثاقل، نحو نهاية المدة المحددة في الإنذار النهائي للرئيس بوش، والذي ينتهي فجر يوم الخميس، كانت مظاهر الحرب، قد برزت في أجواء بغداد.
الحرب أصبحت قاب قوسين أو أدنى، لكن لم يتفق الكثيرون، على الأهداف الحقيقية لهذه الحرب، التي توشك على الاشتعال، ولا أحد يستطيع الجزم، إلى أين ستذهب بالعراق ومن بعده العديد من دول المنطقة، كما إن أحداً، لم يتمكن من تخيل الخريطة السياسية، لفترة مابعد انتهاء الحرب، كنت قد انتهيت في تلك الأيام من قراءة كتاب غراهام فولر، الذي صدر بعنوان (العراق في العقد المقبل: هل يقوى على البقاء) وكان هذا الكتاب ضمن برنامج مؤسسة (RAND) لبحوث الدفاع القومي، وهو مركز بحث وتطوير، ممول من قبل الحكومة الفدرالية الأمريكية، ومدعوم من قبل مكتب وزير الدفاع وهيئة الأركان في الولايات المتحدة الأمريكية. ويفتتح غراهام فولر كتابه بهذه الجملة (يعتبر استمرار وجود العراق كدولة موحدة، مهدداً إلى حد بعيد).
ويختتم كتابه بالقول (أن القضايا الكبرى تستلزم حلولاً على ارفع المستويات السياسية، لما لها من مضامين خطيرة تفوق في أهميتها مستقبل العراق بحد ذاته ص144).
في ذلك اليوم، الذي كان آخر يوم في تأريخ العراق، قبل أن تبدأ الحرب الأمريكية، التي أفضت إلى احتلاله بعد ثلاثة أسابيع من ذلك اليوم، توقفت طويلاً عند تلك الجملة التي وردت في كتاب غراهام فولر.
لم يكن صعباً على اي قارئ للأحداث، وأي متابع للسياسة الأمريكية، إدراك أبعاد الاستراتيجية الجديدة، التي بدأت تنفذها الولايات المتحدة، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، قلت أنه قدر العراق، أن تكون أرضه الميدان الأول، والأهم في هذه السياسة، وهاهي الأبواب على وشك الانفتاح على المجهول، في مرحلة القضايا الكبرى، التي يقول غراهام فولر أنها تفوق في أهميتها مستقبل العراق.
كنت على ثقة بأن العراقيين بجميع أطيافهم من الذين كانوا في الداخل، أو في الخارج، لم يتأملوا بالدقة هذا الطرح الأمريكي، الذي تتبناه دوائر البنتاغون، وتصوغ مفرداته عقول المحافظين الجدد، وأن أحد أهم الحوافز، التي دفعتني لتتبع أهم مراحل السياسة الأمريكية، هو حقيقة الرؤية الأمريكية للعراق، انطلاقاً من مصالحها الاستراتيجية، وعلى الجانب الآخر، قصور الرؤية لدى الكثيرين، في تعاطيهم مع العقلية الأمريكية، وتركيز الأطراف العراقية، على التنافس والصراع بينها، وإهمال الوجه الأهم لما ترمي أليه السياسة الأمريكية في برنامجها، الذي تمت صياغته، ليكون منهاج عمل الإمبراطورية الأمريكية، في بداية الألفية الجديدة، ومطلع القرن الحادي والعشرين.
ذلك التأمل المقتضب والسريع في بحور السياسة الأمريكية الحديثة، دفعني إلى العودة، إلى بداية نشوء الإمبراطورية الأمريكية، وبالأخص الحادثة الشهيرة، التي يقول المؤرخون أنها الشرارة الأولى، التي أشعلت نار الحرب بين المستعمرات وإنكلترا، عندما حصلت في ديسمبر عام 1773م، حادثة قذف لشحنات من الشاي من عدة بواخر إلى البحر، وأطلق على تلك الحادثة (حفلة الشاي في بوسطن) وحصلت تلك الحادثة عندما حاولت إنكلترا إجبار المستعمرات في أمريكا على شراء شاي شركة الهند الشرقية، ومهدت تلك الحادثة إلى الحرب الفعلية، التي قامت بين إنكلترا ومستعمراتها سنة 1775م، أي بعد سنة ونصف من حفلة الشاي.
في تلك الفترة، لم يفكر الأمريكيون بالاستقلال، لدرجة أن جورج واشنطن قال عام 1774م، أي قبل بدء الحرب بسنة واحدة (لا يوجد رجل واحد في أمريكا الشمالية يرغب بالاستقلال). لكن في عام 1776م صدر إعلان الاستقلال.
قلت في نفسي حينها، وأنا أرقب الساعة، التي تسير نحو الزمن الآخر، لقد ترك المهاتما غاندي درساً للبشرية، في تأريخها الطويل، ويذكر المؤرخون والدارسون ما فعله، ويطلقون على ذلك (حفلة الملح) في تأكيد لمقاومته للبريطانيين في بلاده الهند. أما أية حفلة ستكون، فلا أحد يستطيع التكهن، إلا إن ماهو مفروغ منه، أن العراق على وشك الدخول في محنة، هي الأخطر في تأريخه، حاولت أن أغلق الملف، الذي شغلني في تلك الساعات، حتى غروب شمس يوم الأربعاء الثامن عشر من مارس 2003، وتذكرت قول ماركس (ليس للتأريخ وسيلة للإجابة على الأسئلة القديمة، إلا بطرح أسئلة جديدة).
في ذلك الوقت، التقيت أحد أقاربي، قال لي، أنه سمع بأن الحرب تأجلت لمدة سبعة أيام، أجبته بشيء من الوهن، أنها ستبدأ بعد سبع ساعات. حدق بوجهي، كأنه لا يريد أن يصدق ما أقول، وافترقنا. وكان الليل قد أحكم قبضته وأرخى سدوله.
