تحررت فيتنام بقيادة وطنية واحدة، وتحررت الجزائر بأفراد قلائل لا يزيدون على الستة، وتحرّرت فرنسا من النازية بقيادةٍ واحدةٍ، اسمها شارل ديغول، ولا نريد هنا استعراض التاريخ، ونذكِّر القراء بقيادة جوزيف ستالين في معركة تحرير مدينة ستالينغراد، ولا ننسى موقف ونستون تشرشل في إنجلترا، الذي قال سنتحرر بالدم والدموع والعرق.
لا يمكن أن يتجاوز التاريخ دور سعد زغلول في توحيد المصريين وراءه من أجل الاستقلال عن بريطانيا، ولا دور الملك عبد العزيز آل سعود في توحيد الجزيرة العربية، ولا دور جمال عبد الناصر قائداً لفريق استطاع أن يُخرج بريطانيا من مصر بعد احتلال دام أكثر من 74 عاماً، حتى على المستوى العالمي استطاع جورج واشنطن قبل 250 عاماً أن يُحرر بلاده من الاستعمار البريطاني ومن غيره، ويوحِّد الولايات المتحدة الأميركية تحت راية واحدة.
أقول هذا لأن سياق القضية الفلسطينية الآن يتطلب استلهام هذه الروح والتجارب في القيادة، فقد شاءت أوضاع القضية الفلسطينية أن تتعدد الرؤوس والقيادات والفصائل، وتختلف الآراء وتتناقض الأهداف، وتبتعد عن المسار النهائي، مسار التحرر الوطني، فالزمن التهم الجميع، ومضت السنوات من دون تحقيق أي هدف، ولا شك في أن القضية خسرت كثيراً، نتيجة التطاحن والتجاذب السياسي والفكري والعقائدي وتنوّع الولاءات، والإقامة تحت سقف القوى المختلفة في المنطقة، وخارجها، وبعض هذه الفصائل عملت بندقيةً للإيجار، بعيداً عن القضية الرئيسية، وجرت اغتيالات واغتيالات مضادة، وجرت حروب أهلية في بلاد أخرى، نذكر جميعاً أحداث سبتمبر (أيلول) الأسود في الأردن عام 1970، ولا ننسى الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وانخراط بعض الفصائل بعيداً عن الهدف المنشود، وهو تحرير فلسطين، ناهيك عن الانخراط في صراعات من شأنها أن تُعرقل الوصول إلى دولة فلسطينية. فمثلاً انخراط وانحياز بعض القوى الفلسطينية في المسألة العراقية – الكويتية، وفي السنوات الأخيرة، كان التناغم والانخراط مع قوى إقليمية مجاورة، مثل إيران وتركيا، قاطعين وحاسمين في تغيير مسار التحرر الوطني الفلسطيني.
كما نعايش الآن، ومنذ عام 2007 صار الفلسطيني اثنين، واحداً في غزة، وآخر في الضفة… هنا يكمن الخطر، وتزداد الحواجز، ويرتفع منسوب الأخطار، وتتمزق أوراق القضية بين جناحيها أو أجنحتها المتعددة، ورأينا منذ ذلك العام (2007)، أن 6 حروب شنتها إسرائيل على قطاع غزة، أخطرها وأكثرها إبادة تلك التي جرت بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وتبدو آثارها واضحة في جميع أنحاء الإقليم العربي، والشرق الأوسط، والعالم.
إن الاختلال في الميزان الفلسطيني جعل الحلم بدولة مستقلة يبتعد كثيراً، وأسهم في زيادة أطماع إسرائيل لاحتلال كل الأراضي الفلسطيني الأصلية، بما فيها الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس الشرقية، بمعنى أوضح تصفية هذه القضية من خلال دعمها لتعميق الانقسام، وهو واضح وجليّ، وحاولت مصر في كل المراحل بناء وحدة فلسطينية واحدة، وكذلك الملك عبد الله بن عبد العزيز عندما جمع حركتي «فتح» و«حماس» من أجل التأكيد على وحدة فلسطينية تُجابه المخططات الإسرائيلية، ولا تزال المواقف العربية تطمح إلى وجود قيادة فلسطينية موحدة، خصوصاً بعد المتغيرات الجيوسياسية في الإقليم العربي، تلك التي ظهرت في لبنان وسوريا واليمن، ومحاولة تعميق هذه المتغيرات بتهجير وتصفية القضية الفلسطينية، كما ترى المراكز العالمية الحالية، كالولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال.
من هنا تكون الوحدة الفلسطينية فرض عين على كل الفلسطينيين، ولا بد من إفراز قيادة موحدة تستطيع القفز فوق كل الحواجز التي تضعها إسرائيل في طريق حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
لا شك في أن التجربة الفلسطينية خلال حرب الإبادة الإسرائيلية كشفت عن أنه لا سبيل سوى الوحدة بقيادة جديدة تُعبر عن كل الأطياف الفلسطينية، ولا شك في أن التجربة في دول الإقليم العربي كشفت عن حاجتنا إلى تأكيد وتمكين مفهوم الدولة الوطنية الخالية من المنظمات والميليشيات والطوائف الشاردة عن هذا المفهوم، وإذا أردنا أن نفتح الصورة عن آخرها فسنرى ما الذي جرى في بعض دول الإقليم، بعد اختطاف القرار الوطني الواحد من قِبَل هذه الجماعات.
الآن ليست هناك رفاهية للصمت أو إضاعة الوقت، أو الوقوف في المنتصف، أو التعايش مع مفهوم الاختلاف والانقسام تحت الاحتلال الإسرائيلي، بل إن كل الأطراف الفاعلة في القضية الفلسطينية باتت أمام اختبار إجباري، للحفاظ على مستقبل القضية من جانب، ولاستعادة الدولة الوطنية المفقودة من جانب آخر، ولوقف الاستنزاف المزمن للشعب الفلسطيني والمنطقة العربية من الجانب الأعمق.