ألإعلام و تأثيره السلبي في قيمنا الثقافيَّة !

ألإعلام و تأثيره السلبي في قيمنا الثقافيَّة !

إذا كان الإعلام ما قبل العام 2005 بأشكاله التقليديَّة، في التلفاز والصحف والجرائد، يعدُّ محرّكاً مهماً في السياسة والبنية الاجتماعيَّة والثقافيَّة، فإنه بعد هذا العام، مع ظهور الفيسبوك واليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى أصبح متاحاً للجميع، وصار كل فرد بإمكانه أن يكون ماكنةً إعلامية يبثُّ ما يفكّر فيه من دون أية قيود.

فالإعلام يُعدُّ من أقوى الأدوات تأثيراً في تشكيل القيم الثقافيَّة داخل المجتمعات. فهو يعكس القيم السائدة ويُسهم في نشرها وتعزيزها، كما يمكنه أن يغيّر الأنماط الثقافيَّة أو يعيد تشكيلها بطرق إيجابية أو سلبية. العلاقة بين الإعلام والقيم الثقافيَّة تُعدُّ ديناميكية ومعقدة، وتخضع لتأثيرات متعدّدة من بينها التطوّرات التقنية، والسياسات الإعلامية، ومتغيّرات المجتمع.

وبالتالي، فإن الإعلام يسهم بتشكّل القيم الثقافيَّة من خلال عدّة قيم، منها:

– نشر القيم الثقافيَّة المشتركة: يعمل الإعلام على تعزيز القيم الوطنيَّة والدينيَّة والاجتماعيَّة من خلال البرامج والمحتوى الذي يركز على الهويَّة الجماعيَّة.

– تعزيز التفاهم الثقافي: إذ يسهم في بناء جسور التفاهم بين الثقافات المختلفة عن طريق نشر محتوى متنوّع يعرض ثقافات وممارسات مختلفة.

– التأثير في السلوكيات والقيم: يؤثّر الإعلام بشكل مباشر في عادات وتقاليد الأفراد من خلال تسليط الضوء على نماذج سلوكية وقيم معينة.

– تسريع التغيير الثقافي: من خلال التعرّض المستمر للمحتوى الإعلامي الجديد، يمكن أن تتغيّر المعتقدات والعادات التقليديَّة لتتوافق مع القيم الحديثة.

ومن ثمَّ، وبسبب التأثير المباشر في القيم الاجتماعيَّة والثقافيَّة، فيمكن الوقوف على بعض السمات التي يؤثّر فيها الإعلام بشكل مباشر، مثل:

– التغريب الثقافي: من خلال استيراد ثقافات غريبة من دون مراعاة التقاليد المحلية قد يؤدّي إلى فقدان الهويَّة الثقافيَّة.

– التسطيح الثقافي: من خلال التركيز على القيم المادية والاستهلاكية قد يقلّل من أهمّية القيم الأخلاقية والروحية.

– التأثير في الفئات العمرية الشابة: فالشباب يتأثّرون بشكل كبير بالمحتوى الإعلامي الذي قد يروّج أحياناً للعنف أو السلوكيات السلبية.

ولهذا، فللإعلام الدور الواعي في إنتاج محتوى يعكس التقاليد والقيم المحلية، وتقديم نماذج إيجابية للنجاح والتطور، تعزيز الحوار الثقافي والتعايش بين الفئات المختلفة، استخدام الإعلام كأداة للتربية والتوجيه. والخلاصة أنَّ الإعلام يمكن أن يكون شريكاً قوياً في بناء ثقافة أصيلة ومتطوّرة، إذا تمَّ توجيهه بحكمة واستراتيجية تراعي التنوّع والخصوصية الثقافيَّة.

وهنا يمكن أن نتساءل، إذا كان الكثير من المعنيين بالشأن الثقافي يرمون اللوم على الإعلام في تخريب الكثير من الرؤى الثقافيَّة… كيف يمكن فهم التأثير السلبي للإعلام في قيمنا الثقافيَّة؟

إنتاج المعنى

يؤكد الدكتور كاظم المقدادي بحسب قواميس ونظريات وتطلّعات وسائل الاتصال، بأنَّ الإعلام انعكاسٌ للواقع المعاش، هذا إذا كان الإعلام وطنياً مستقلاً ويحمل مضامين هادفة للارتقاء بالواقع الثقافي والمعرفي، وينأى بوضعه وشرطه عن الايديولوجيات السياسية للحكومات والهيئات ومراكز القوى التي لها علاقة بتشكيل وبتصدير القرار السياسي للبلاد. لكن.. وعندما يغيب الإعلام الحر المستقل باتجاهاته الوطنية، فإنَّ الوعي المعرفي والنظم الثقافيَّة، ستتأثّر كثيراً وستقع في دائرة التأثير السلبي.

لهذا يعتقد المقدادي أنَّ الثقافات الحيّة التي تسهمُ بشكل مستمر في إنتاج المعنى، لا بدَّ أنْ تجدَ نفسها في مواجهة حتميَّة مع الإعلام السياسي العامودي الذي يتحرّك باتجاه واحد، ولا يعكس أبداً الحالة الفكريَّة والاجتماعيَّة التي يرسمها الواقع العام. فلا بدَّ للواقع السياسي أن يعيش مناخاً صحّياً، يرتقي بالقيم الثقافيَّة بشكل إيجابي، ويكون جزءاً فاعلاً وحيويّاً ومؤشّراً على نهضة المجتمعات عامة، وبعكسه فإنَّ التأثير السلبي سيكون فاعلاً وخطيراً، وسيربك مسيرة الشعوب والبلدان.

تشكيل الوعي الاجتماعي

وبحسب الصحفي منتظر ناصر، فالإعلام يلعب دوراً محورياً في توجيه الرأي العام وطريقة فهم الناس للثقافة، وقد يتحقّق ذلك من خلال عدّة مصاديق بينها:

تقديم مفاهيم ثقافيَّة مشوهة بدافع التبسيط أو الاستسهال في الطرح، ما يفقدها العمق المطلوب، من قبيل الاكتفاء بعرض الصور النمطيَّة بشكل سطحي، أو الاقتصار على أحاديث مبتسرة لإعلاميات وإعلاميين يفتقرون لهضم تلك المفاهيم، الأمر الذي يساهم في تحريف الصورة الحقيقيَّة عن الهويَّة الثقافيَّة.

كذلك يقوم الإعلام أحياناً بالترويج لقيم استهلاكية عبر الدعاية لمنتجات وأساليب حياة أو أنماط تفكير بعيدة عن القيم الثقافيَّة المحليَّة والتقليديَّة، التي تتضمّن العلاقات الإنسانية والروحية وتحافظ على الموروث الثقافي، وسط انتشار واسع لمفهوم العولمة والانفتاح.

إلى ذلك، يميل الإعلام، في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى تحويل الثقافة لمنتج ترفيهي أو تجاري، وبالتالي، يُفقد الجانب العميق والروحاني للثقافة، ويُستبدل بالتركيز على المكاسب الاقتصادية والترفيهية، وهو ما يقلّل من الجدية والاحترام للقيم الثقافيَّة الأصيلة.

الأمر المهم الآخر، يُسهم الإعلام في تشكيل الوعي الاجتماعي والتوجهات الفكرية، عندما يُركّز على موضوعات معيّنة بشكل متكرّر (مثل العنف، أو النزاعات، أو القضايا السطحية)، قد يؤدّي ذلك إلى تعزيز صورة سلبية عن الثقافة، أو قد يؤثّر في كيفية نظر الأفراد إلى ثقافاتهم الوطنية والمجتمعية، ما يُقلّل من تقديرهم لها أو يؤدّي إلى مشاعر الانفصال عنها.

عائديَّة ايديولوجية

ويبيّن الشاعر والناقد الدكتور صادق الطريحي أنَّه لا شك في أنَّ الإعلام يشكّل مع الثقافة معادلة النصف للنصف!! إذ يستطيع الإعلامي الماهر ثقافياً وتقنيّاً أن يؤدّي وظيفته في نشر الثقافة، وربَّما ترويجها تجارياً، على أفضل وجه، لكنّه يرى أنَّ المؤسّسات الإعلامية في العراق، ليست بقدرة المؤسّسات المصرية أو الخليجية، مثلاً!! وربَّما يرجع السبب في ذلك إلى عائدية المؤسّسات الإعلامية إلى جهات سياسية!! وبالملاحظة الشخصية أستطيع أن أسجّل بعض مظاهر القصور الإعلامي إزاء الثقافة، ممَّا يؤدّي إلى التقليل من تأثيرها، فمثلاً أنَّ إحدى المنظّمات الثقافيَّة تضطر إلى منح إعلامي الفضائيات (كارتات تلفون) لتغطية أنشطتها!!

وثمّة صحف لا يحسن محرّرها عرض كتاب جديد على صفحاتها؛ لأنَّه لا يستطيع أن يقرأ الكتاب أولاً، فيكتفي بما مكتوب على الغلاف الأخير للكتاب، أو يستنسخ بعض فقرات الكتاب، بغير نظام ما، مع بعض الأخطاء في التركيب اللغوي، أو رسم الكلمة!! في الوقت الذي نجد في الصحف الأجنبية محرّرين متخصّصين في عرض الكتب ونقدها؛ يعتمد عليهم القارئ في شراء

الكتاب.

ويحرص بعض العاملين في الفضائيات في تغطيتهم لفعالية ثقافيَّة ما، على إجراء المقابلات مع المسؤولين الرّسميين، ومنحهم مساحة واسعة في التقرير الثقافي على حساب الأدباء المشتركين في النشاط؛ ممَّا يؤدّي حتماً إلى غياب الرؤيا الثقافيَّة عن المتلقّي الجالس في البيت.

أمَّا بعض البرامج التي تستند إلى إجراء الحوار مع مثقف ما فتأخذها العزّة بالإثم! إذ يعمد الضيف إلى نقد شخصية أدبية لها ما لها من التأثير الأدبيّ، نقداً جائراً بعيداً عن العلمية، من دون أن يستطيع المحاور أن يدافع بنفسه عن المنقود، أو أن يُحضر ضيفاً آخر لعرض وجهة نظر أخرى، ممَّا يخلق نوعاً من (الطشّة) بحسب مصطلح مواقع التواصل الاجتماعي!!

 

اجتثاث القيم

ويشير الشاعر والصحفي نعمة عبد الرزاق إلى أنَّ للإعلام على الدوام دوراً رئيساً في بلورة رؤى ثقافيَّة ما، ومن ثمَّ تعزيزها أو إضعافها وتدميرها واستبدالها برؤىً جديدة، وطوال تجربتي في قطاع الإعلام الحكومي المّوجه والمؤدلج، والقطاع الخاص، محلّياً وعربياً وأجنبياً، لم تكن المؤسّسة الإعلامية مستقلةً أو محايدة، بل كانت في الغالب تخضع إمَّا للتوجيهات المركزية، في الإعلام الحكومي، أو لتعليمات صاحب رأس المال الذي يضمر أهدافاً ربحية على حساب القيم الثقافيَّة، بالتالي فإنَّ الإعلام لم يكن بريئاً في يومٍ ما من ترسيخ أو زعزعة هذه القيم، وهو أمر يحتاج إلى وقفة أعم وأشمل، هذا في الأقل ما يتعلّق بالإعلام التقليدي، ولكنَّ التحوّل الأهم ظهر على نحوٍ أوضح وكان بمثابة ضربة قاصمة للثوابت والمسلمات الثقافيَّة كلّها، هو الإعلام الرقمي الذي ضاعت معه المعايير الأكاديمية والعُرفية وجلب معه الفوضى وتدفّق المعلومات غير المنضبطة وتلاشت تدريجياً القيم المعرفية والثقافيَّة وصار الكم فوق النوع، وصار بمتناول الجميع إنشاء منصاتٍ إعلامية وترويج معلومات ملفقة وقتما شاؤوا، حتَّى أنَّ الإعلام الحكومي أخذ يستعين بالمدوّنين والناشطين في الترويج لأهدافه، لذلك أرى أنَّ الإعلام المجاني اليوم، وعلى الرغم من وجود بعض المحاولات الأكاديمية الجادّة والجهود الفردية المخلصة لبعض المثقفين لتحصين رؤى ثقافيَّة ما، فإنَّه “أي الإعلام الرقمي” لا يسعى إلى إعادة صياغة القيم الثقافيَّة وتطويرها، بل يعمل على اجتثاثها وتدميرها وإشاعة قيمٍ جديدة آنية وموغلة في التفاهة، وفي تقديري، أنَّ الإعلام الرقمي سيعيد ترتيب الأولويات الثقافيَّة على نحو خالٍ من الضوابط التي نعرفها.

 

هيمنة على الفضاء

ويعتقد الشاعر رياض الغريب أنَّ هذا الموضوع هو من أخطر ما يمكن أن يحدث في هذا القرن، كونه مرتبطاً بالتكنولوجيا الحديثة وهيمنة الصورة على أذهان الناس ومنظومة القيم التي كانت سائدة حتَّى دخول العالم بأجمعه ضمن منظومة الإعلام الموجّه صورةً وصوتاً، وهذا الإعلام تقوده الدولة الأقوى في العالم وهي أمريكا التي بيدها وسائل هذه التكنولوجيا كلّها، لهذا استخدمتها بشكل كبير في تخريب تلك المنظومات القيّمة للمجتمعات وتفكيك النتاج الفكري والثقافي للدول الموجّه إليها هذا الخطاب الإعلامي ونجحت بذلك.

لهذا نجد النخب الثقافيَّة تحاول أن تجد خطاباً مضادّاً وإنتاج مفاهيم جديدة قادرة على مواجهة الضخ الإعلامي الذي استطاع وبشكل كبير توجيه العقول نحو الاستسلام وتقبّل هذا الخطاب الإعلامي الذي فكّك وأنهى في بعض الدول منظومات قيمية وثقافيَّة.

مضيفاً: أنَّ غياب النتاج الفكري والثقافي الحقيقي سمح بظهور حركات متطرّفة أنتجت خطابها بمعونة وسائل إعلام كرّست جهدها كلّه لإشاعة هذا الخطاب المتطرّف، بل ساعدت تلك الوسائل في إسقاط أنظمة كما حدث مع النظام السوري وغيره من الأنظمة في المنطقة، فالقيم الثقافيَّة غير قادرة على أيّ مواجهة مع السوشيال ميديا الجديدة وما أحدثته من هدم وتخريب للعقول، لهذا نحتاج لثورة ثقافيَّة حقيقية وجهد استثنائي من المؤسّسات المعنيّة بالنتاج الثقافي، ولكن للأسف أنَّ هذه المؤسّسات على ما يبدو غير قادرة على أن تكون ندّاً قويّاً لوسائل الإعلام التي هيمنت على الفضاء والعقل الجمعي للشعوب.

 

حماية الإرث الثقافي

ويختتم الشاعر قاسم خلف حديثناً موضحاً أنَّ المؤسّسة الإعلامية تعدُّ نواة تشكيل الرؤى والثقافات، وهي أيضاً الحجر الأساس لتوجيه الوعي، وتسليط الضوء على مختلف الثقافات، أو العادات والتقاليد. ولأهمّية دورها فهي تعدُّ مرجعاً للشعوب والمجتمعات بمختلف توجّهاتهم؛ ولذا لابدَّ من المؤسّسة الإعلامية أن تحمل على عاتقها مسؤوليات جساماً وأن تحسم أمرها في أن تكون مخرجاً يصل للحلول، لا مأزقاً تتشكّل تحت عباءته رياح الفوضى وثقافة تجهيل الوعي والنزول إلى منحدرات تفتيت قواعد العلم والمعرفة، والتصدير والترويج لقواعد سلوك اللامبالاة والتفاهة.

إنَّ تأثير الإعلام بات جليّاً في التنحّي عن دوره الريادي ولم يعد لسان حاله يحاكي نهوض الأمم فهو اليوم متهم بالتخلّي عن دوره لصالح مشاريع ومؤسّسات وأفراد توجّهه لمصالحها ومن خلاله تحقّق مكاسبها وبسط أجنداتها، وربَّما كثير من وسائل الإعلام وجدت ضالتها لغرض كسب المال والشهرة من خلال عرض هذه المؤسّسات، وبالتالي باتت عملية الهدم والبناء مسألة عرض وطلب وليس مسألة مبدأ، وبالتالي فإنَّ قواعد ومنصّات الرؤى الثقافيَّة قد تتعرّض للضرب من أساساتها وفق رغبات فئات معيّنة لتحقيق رغبات ما. وهنا لابدَّ من الاعتراف أنَّ بعض وسائل الإعلام سقط في فخ البيع والشراء مقابل عدم الاعتماد على مبدأ صياغة العالم والنهوض به بمستوى عالٍ من الوعي وحماية إرثه الثقافي.