لم يكن اتفاق وقف الحرب في غزة مجرد هدنة عسكرية عابرة بين طرفين متقاتلين..إنطلاقًا من كونها حربًا وجودية على غزة وأهلها ؛ فقد كانت عدوانا إسرائيليا مكتمل الأبعاد من حيث غاياته المبيتة وخططه التدميرية ووسائله القاتلة .
فمنذ أن صرح الصهيوني المجرم بن غوريون انه يحلم أن يستفيق يوما ليجد غزة وقد غرقت في البحر ؛ ودولة الكيان الغاصب تحاول بكل وسيلة ممكنة التخلص من غزة وأهلها..حاولت بالإحتواء والإغتيال وزرع العملاء والفتنة والحرب الأهلية والحصار وجميعها وسائل لم تفلح في قهر الغزاويين الأشداء الأبطال..
وحينما إنسحب ” الإسرائيليون منها كانوا يحاولون تحقيق ثلاثة أهداف أساسية :
# الاول : التخلص من الثمن الفادح والتكلفة المرتفعة بشريا وماديا التي كانوا يدفعونها جراء إحتلالهم لغزة وبقائهم فيها..حيث كانت مقاومة أهلها لوجودهم مستمرة ومتصاعدة ..
# الثاني : فصل غزة عن الضفة الغربية و فلسطين بأصطناع قضية غزاوية مستقلة لها معطياتها وأبعادها المختلفة..
# الثالث : محاولة إشعال فتنة بين الفلسطينيين أنفسهم كمقدمة لحرب أهلية بينهم تستنزفهم وتضع حدا لقدرتهم على الصمود والمقاومة والتصدي للمشروع الصهيوني الإستعماري..
وقد سلكوا لتحقيق أهدافهم مسالك متعددة شملت :
– الحصار المطبق بحيث يؤدي إلى إنهاك أهل غزة وسكانها تمهيدا لفرض الإستسلام عليهم وإستيعابهم..
– زرع عملائهم وجواسيسهم بكثرة في صفوف الغزاويين ليكونوا رقيبا متواصلا على كل تحركاتهم وحتى أفكارهم ونواياهم..
– بناء مستعمرات صهيونية فيما يسمى غلاف غزة لمنع أهلها من التواصل والتفاعل مع أهل الضفة الغربية وباقي أهل فلسطين..ولإحكام الحصار التام عليهم ..
كان الهدف الأخطر في تعاملهم مع غزة وإنسحابهم منها هو إشعال حرب أهلية بين الفلسطينيين وتحديدا بين منظمة فتح كقوة فلسطينية أساسية ذات تاريخ عريق وتمسك بمعظم مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية ؛ وبين حماس كمنظمة ذات طابع أيماني ديني لا تجيد ألاعيب السياسة وتتخذ المواقف بخلفيتها الدينية العقائدية والرافضة للإنضمام إلى منظمة التحرير بواقعها الراهن آنذاك..
كانت قد تحولت منظمة فتح إلى ” السلطة الوطنية الفلسطينية ” بعد إتفاق أوسلو المشؤوم..فكان إعترافها بالكيان الصهيوني إيذانا بإنسحابها – عمليا وموضوعيا – من نهج المقاومة المسلحة لدولة الإحتلال..وكان من نتائج قيام سلطة فلسطينية تديرها أجنحة أساسية في فتح ؛ أمران أساسيان شكلا خطرا على مستقبل قضية فلسطين :
# الأول : تحجيم ومحاصرة نهج المقاومة المسلحة ثم إستبعاد فكرة مقاومة الإحتلال – عسكريا أو مدنيا – من العقل الفلسطيني..
# الثاني : التأسيس لسيل من الموظفين لزوم إستكمال مؤسسات وأجهزة السلطة المسماة وطنية ؛ برواتب شهرية مستمرة ولتنفيذ المهمات التي حددتها إتفاقية أوسلو ..
وحين قامت مؤسسات السلطة من حكومة ومستشارين وموظفين ورواتب وميزانيات ؛ تحول قطاع من الفلسطينيين ممن كانوا قيادات وأعضاء في فتح ؛ تحولوا من ثوار ومقاتلين ومناضلين إلى موظفين ينتظرون رواتبهم آخر الشهر..ولما كانوا قد قبلوا في أوسلوا بالإمتناع عن المقاومة المسلحة ، باتوا يستجدون الإسرائيلي المحتل للحصول على بعض المكاسب ولتمرير أموال المساعدات بإعتبار أنهم لم يحصلوا على أية بنود من تلك التي نصت عليها اوسلو لصالحهم..وهكذا إنتقلوا من الثورة إلى السلطة الشكلية دونما صلاحيات فعلية ودون اية إمكانية للتصرف إلا بموافقة دولة الكيان ومعرفتها المسبقة..فبرز في عالم السلطة واعضائها جناحان رئيسيان :
# الأول : دخل في عوالم الفساد والصفقات والبزنس المشبوه مع الإسرائيليين أنفسهم ومن خلالهم مع جمعيات وبنوك ومؤسسات دولية مشبوهة ..ما أدى إلى ظهور طبقة من المنتفعين الأغنياء الذين بات وجودهم ومصالحهم مرتبطة بألإحتلال وإستمراره وبقائه..
# الثاني : التعاون الأمني بين أجهزة السلطة الأمنية وأجهزة العدو الإسرائيلي ..
وكان من نتائج هذه العوامل كلها أن العدو الإسرائيلي لم يعد عدوا لجانب من الفلسطينيين ..وهذا أدى إلى :
أولا : لم يعد هو العدو بل بات شريكا يتم التعامل معه بشكل طبيعي ومصلحي كأمر واقع معترف به..بل يحتاجه هؤلاء لإستمرار مصالحهم وتدفق رواتبهم وصفقات أبنائهم وهكذا..
ثانيا : أصبح كل من يعكر صفو هذه العلاقة المستريحة لوجود ” الشريك ” المحتل ؛ هو العدو بالنسبة لأجهزة السلطة والمنتفعين منها..
ولما كانت حماس والقسام والجهاد الإسلامي تعمل للمقاومة المسلحة ، فقد أصبحت هي العدو للسلطة ومنتفعيها..
وحينما سهلت دولة الإحتلال لصعود حماس ونموها في غزة تحديدا ، كانت حساباتها تحديدا تقوم على فرضية حتمية سوف تؤدي الى فصل قضية غزة عن قضية فلسطين ومن ثم قيام صراع بين نهجين فلسطينيين متناقضين مما يعني قيام حرب أهلية بين الفلسطينيين أنفسهم وهذا لم يتحقق لأسباب كثيرة أهمها الوعي العميق المتجذر في وجدان وعقل الشعب الفلسطيني بأبعاد وخلفيات وأساسيات الصراع مع المشروع الصهيوني كمشروع إستعماري إقتلاعي لا مجال للتعايش معه أو الشراكة أو تقبله تحت أية مبررات أو ذرائع..فهو حقا صراع وجودي حضاري شامل..
وعلى الرغم من محاولات متعددة لمصالحة بين الفصائل الإسلامية وفتح والسلطة معها إلا أن الإنقسام بقي قائما بفعل عدم إمكانية الألتقاء بين نهجين متضاربين جذريا.فكانت تسقط كل الإتفاقيات التي يتم التوصل إليها..وهكذا بقي شبح الإنقسام قائما وإحتمالات الحرب المسلحة قائمة لا سيما وأن أجنحة أخرى إنشئت تحت ظلال السلطة تتمتع بإمكانيات كبيرة ؛ ماديا وعسكريا ؛ وراحت تجند مقاتلين وتسلحهم وتدربهم بإشراف ورعاية أجهزة أمريكية وصهيونية ليكونوا القوة التي تمسك غزة وتقتلع منها المقاتلين الإسلاميين..وتقتلع معهم فكرة مقاومة الإحتلال..وسط تلك الأجواء دخلت قضية فلسطين في أجواء من التلبد والغيوم السوداء والرمادية التي أوشكت أن تسدل عليها ستائر الإهمال إن لم يكن النسيان..الى الدرجة التي صارت فيها لغة التطبيع وما يسمى ” السلام ” هي الغالبة وشاع نوع من خطاب التراخي والضعف والخوف حتى لدى قطاعات من الشعب الفلسطيني فبرزت عقلية الإنتظار ..إنتظار مفاجئات أو متغيرات قد تحمل لهم بعض الأمل أو بعض الحقوق..
إلى أن جاءت عملية ” طوفان الأقصى ” فغيرت موازينا وصححت مغالطات وأسقطت أوهاما وفرضت حقائق أساسية تتعلق بجوهر القضية ..
وعلى الرغم من الجانب الكارثي في الحرب – العدوان فيما يتعلق بنتائجها المدمرة على أهل غزة من حيث العدد الهائل من الشهداء والضحايا والجرحى والدمار المخيف الذي لحق كل ضرورات ومتطلبات العيش والبقاء في غزة ؛ وعلى الرغم من المعاناة الشديدة التي تفوق كل مستويات التحمل البشري على كل ميادين الحياة فيمن بقي من أهلها صامدا مشردا نازحا مهجرا ؛ إلا أنها أنجزت الكثير مما ينبغي التوقف عنده وإستخلاص دروسه ووضع آليات موضوعية للتعامل معه بما يخدم القضية ويعالج معاناة أهل غزة الأحياء الصامدين.
.
1 – أسقط طوفان الأقصى كل إحتمالات نشوء حرب أهلية بين الفلسطينيين وأعادت اللحمة النضالية إلى روحه المقاومة ووجدانه الأصيل..
2 – تعرية السلطة الفلسطينية من أية قيمة وطنية حقيقية فيما يتعلق بمسؤولياتها تجاه شعب فلسطين وقدرتها على البقاء إلى جانبه وليس إلى جانب العدو – الشريك..فبانت كما هي في الحقيقة أداة بيد الإحتلال لقمع أية مقاومة شعبية وتسليمها للعدو..
3 – أعاد الإعتبار لنهج مقاومة الإحتلال مقاومة شاملة بديلا عن أوهام السلام والتعاطي ” الواقعي ” والتطبيع والإعتراف..إن طبيعة المشروع الصهيوني وعدوانية عقله التنصري المتخلف الحاقد لا تسمح له أصلا بأي إلتزام فعلي بالسلام والشراكة والإعتراف بالآخر..٧
4 – أحيا قضية فلسطين مجددا بعد الكبوة التي أصابتها منذ إتفاق أوسلو ..فقد إحتل الإهتمام بها الصدارة عالميا مما جعلها محور السياسة الدولية لشهور طويلة ..وسوف تبقى كذلك حتى تجد حلها الموضوعي..
5 – كشفت لقطاعات مهمة ومؤثرة من الرأي العالم العالمي كذب الدعايات الصهيونية وإدعائاتها جميعا كما تلاعبها بالوقائع وتحكمها بأدوات الإعلام وتقديمها صورة مغايرة للواقع تماما عن شعب فلسطين وقضيته..
6 – بينت إجرام ووحشية العقل الصهيوني وعدائه لكل ما هو إنساني وأخلاقي ولكل ما هو إتفاقيات ومواثيق وقوانين دولية عامة..أمام العالم كله بما فيه أوساط كثيرة كانت إلى عهد قريب مؤيدة ل ” إسرائيل ” ومتعاونة معها..
7- كشف لأوساط شبابية وأكاديمية كثيرة في الغرب وامريكا ؛ حقيقة التسلط الصهيوني على مقدرات وسياسات بلادهم ومواقفها ..وإبتزازها بشتى الوسائل لإستمرار دعمها للإحتلال الإسرائيلي لفلسطين..
8 – ابانت للعالم أجمع عظمة الشعب الفلسطيني وقدراته النضالية الخارقة فوق قدرة البشر على الصمود ..والعائدة لأمرين أساسيين : الأول : إيمانه الديني الأصيل والعميق والراسخ في ضميره وعقله ووجدانه..والثاني : تجذره التاريخي في أرضه وإصراره على البقاء فيها مهما كانت التضحيات والأثمان.. فشكل بهذا مثالا رائعا ونموذجيا للبطولة من جهة وكقدوة إنسانية في الصبر والفداء والصمود والإيمان..
9 – شكلت الحرب – العدوان نموذجا متميزا في مجال المواجهات القتالية والعسكرية من حيث قدرة فئة قليلة محاصرة بشدة على الصمود بوجه جيوش جرارة تملك أعتى وأحدث الإمكانيات الحربية والعسكرية ..تجربة تستحق الدراسة والتعلم منها ..
10 – أظهرت المعارك مدى هشاشة دولة ومجتمع الكيان الغاصب وفشله في الدفاع عن نفسه بقوته الذاتية رغم كبرها..وأنه لولا الدعم الكامل والمفتوح للغرب الأستعماري كله لما بقي على قيد الحياة..
11 – تحولت قضية فلسطين إلى قضية تحررية وإنسانية عامة ولسوف تكون سببا في إنكشاف تام للعقلية الإجرامية الصهيونية وأدواتها الكثيرة ومن ثم إندحار سيطرتها وإبتزازها لمجتمعات كثيرة وسياسات دولية ..
12 – فتحت بابا واسعا يسمح بالحديث مجددا عن حتمية إنهيار دولة الكيان وتفككها من الداخل..فمن الشعور بعدم الأمان والإستقرار إلى مغادرة عشرات الآلاف نهائيا أرض فلسطين إلى الخسائر الإقتصادية الضخمة إلى ضعضعة قوام الجيش ومعنوياته وإلتزامه وعقيدته القتالية الى الخسائر البشرية المرتفعة إلى بداية إحتساب دول الغرب ومجتمعاته للثمن الباهظ الذي تدفعه للحفاظ على بقاء الكيان الصهيوني في فلسطين والذي بدأ يفوق ما تجنيه من فوائد بواسطته ؛ جميعها مؤشرات موضوعية لفتح طريق إنهيار دولة الكيان..
13 – بينت عمليات تبادل الأسرى الفارق الحضاري والأخلاق الشاسع جدا بين العقيدة الصهيونية وعقليتها الآجرامية ولين البعد الإنساني الأخلاقي الراقي والسمح للإنسان العربي الفلسطيني..
14 – فشل العدو في تحقيق أهدافه بالقضاء على المقاومة الشعبية وتفريغ غزة من سكانها ..أو في فصل المقاومة عن مجتمعها وقواه الحية..
15 – العقل الصهيوني لا يسمح لحامليه بالتوقف عن محاولات القضاء على شعب فلسطين أو تهجيره خارج وطنه التاريخي..وما مباشرته لعدوان واسع على الضفة الغربية إلا تأكيد على ذلك..إلى أن يصل إلى طريقه النهائي المسدود فيقع..
وفق هذه المعايير والنتائج يصح القول أن إنجازات كثيرة تحققت تحتاج إلى إستثمار وتعميق وتفاعل إيجابي متواصل لخدمة هدفنا المركزي والوجودي بتحرير كامل فلسطين..
وإذا كانت الحرب قد بينت فداحة غياب أي دور فاعل للقوى الشعبية العربية حيال العدوان بل وحتى ضعف ردود أفعالها وتفاعلها المساند لشعب فلسطين ؛ فضلا عن نظام التجزئة الأقليمية العربية ؛ فإن منطلقا وطنيا فلسطينيا لإعادة الفعالية للمساندة الشعبية العربية ؛ يتمثل في ضرورة تحمل القوى الشعبية الفلسطينية مسؤولياتها المباشرة وتفعيل دورها كاملا وإحياء
المؤسسات المشتركة للعمل الوطني الفلسطيني فوق أية إعتبارات فئوية أو حزبية أو مصلحية..