أثار الفيلم الهندي “حياة الماعز” الذي عرض على نتفلكس ضجة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب قصته التي أغضبت الكثيرين وخاصة السعوديين لما يتناوله من أحداث وصفوها بالمسيئة لهم بسبب نظام الكفيل.
ويعرف نظام الكفيل في السعودية؛ هو أن يجلب صاحب عمل ما، عاملا ويكون هو كفيله ومسؤول عنه وعن إقامته وكل تفاصيله.
ولعلمه بأن الفيلم سيحدث جدلا وربما مشاكل مع السلطات السعودية، وضع المخرج في مقدمة الفيلم ملاحظة تقول إن “الفيلم لا يقصد الإساءة لأي بلد أو شعب أو مجتمع أو عرق”.
ومع ذلك أثار الفيلم الهندي موجة جدل واسعة بين النقاد، ورواد مواقع التواصل الاجتماعي الخليجيين، بين معترض على طريقة طرح فكرة نظام الكفالة في المملكة العربية السعودية، وآخرون رأوا أنه عمل إبداعي يندرج تحت عنوان حرية الإبداع ولا يعبر عن الواقع.
ويروي الفيلم قصة لشخص اسمه (نجيب)، شاب هندي سافر إلى السعودية بحثا عن عمل ليجد نفسه أمام شخص سعودي ادّعى أنه كفيله وأخذه إلى الصحراء ليرعى الغنم، حيث عاش هناك لسنوات في الصحراء مجبرا ولا يستطيع الفرار.
قصة الفيلم تعتبر تجسيدا لقصة حقيقية بطلها مواطن هندي يحكي ما تعرض له من مآسٍ بشعة أثناء رحلة عمله في المملكة العربية السعودية على يد ما يعرف باسم الكفيل والذي جسد دوره الفنان العُماني طالب البلوشي.
قصة مستوحاة من محنة حقيقية
أدوجيفيثام هو فيلم باللغة المالايالامية الهندية، يصور محنة فقراء الهند الذين يسعون لطلب الرزق في الشرق الأوسط، وقد حاز اهتمام حشود من المشاهدين في دور السينما.
وكلمة “أدوجيفيثام” تعني “حياة الماعز”، وهو اسم مقتبس من الكتاب المالايالامي الأكثر مبيعاً لعام 2008، وهو من بطولة بريثفيراج سوكوماران الذي يلعب دور (نجيب)، المهاجر الهندي إلى السعودية، الذي اختُطِف واستُعبِد ليعمل راعيا للغنم في الصحراء.
والقصة مستوحاة من محنة حقيقية لرجل يحمل نفس الاسم، اختُطف في البلاد في التسعينيات، وتمكن من الفرار بعد عامين.
وقد أصبحت الرواية المثيرة حجر االزاوية الثقافي في ولاية كيرالا جنوبي الهند التي تتحدث اللغة الماليالامية، حيث صدرت منها الطبعة الـ 250 هذا العام، وحازت إشادة واسعة النطاق، كما أثارت نقاشاً حول قسوة حياة المهاجرين في الخليج.
وبلغ من نجاح الفيلم الذي تبلغ مدته ثلاث ساعات، أن حقق في الأسبوع الأول من طرحه أكثر من 870 مليون روبية (أي ما يعادل 8.23 مليون جنيه إسترليني، أو 10.4 مليون دولار) في جميع أنحاء العالم.
قصة الفيلم؟
في الفيلم، يظهر (نجيب) معزولا عن العالم، وحيدا مع سيده وحيواناته، يكتوي بالحرارة الشديدة في صحراء قاسية، على بُعد أميال من أقرب طريق، دون أن يتمكن من الوصول إلى هاتف أو ورقة أو قلم للكتابة، ودونما صديق، يشرب الماء من نفس الحوض الذي تشرب منه حيواناته.
يتوسل (نجيب) في مشهد مؤثر يمزق القلب، والدموع تنهمر على وجهه وهو يحكي كيف باع كل شيء وغادر عائلته، كل ذلك سعيا وراء وظيفة موعودة؛ لكن كلماته باللغة المالايالامية لم تجد صدى لدى رئيسه الذي لا يتحدث سوى العربية.
وجدير بالذكر أن نحو مليوني هندي و100 ألف من ولاية كيرالا يعيشون في الخارج، هاجر منهم ما يقرب من 90 في المئة إلى دول الخليج، متأثرين بالعلاقة طويلة الأمد التي امتدت لأكثر من خمسة عقود، والتي تربط الولاية بالبحرين والكويت وعُمان وقطر والسعودية والإمارات في شبه الجزيرة العربية.
والعديد من هؤلاء العمال ينحدرون من أسر فقيرة كادحة، تعيش في ظل نظام الكفالة في هذه البلدان، الذي يضمن للكفيل السيطرة التامة على إقامتهم وتحركاتهم، ما يجعلهم عرضة للإساءة والاستغلال.
يقول (نجيب) الحقيقي: “لقد غادرت كيرالا في عام 1991 مُحملاً بالكثير من الأحلام؛ لكن التجارب التي مررت بها هناك، والسيد الرهيب والحياة بين الماعز، أفقدتني إحساسي بذاتي، وفقدت عقلي”.
وفي عام 2008، حصل المخرج السينمائي (بليسي) على حق تعديل الكتاب، وقال (سوكوماران) بطل الفيلم لبي بي سي، إنه يعتقد أنه كان يعرف كل شيء عن الكتاب عندما سلمه المخرج نسخة منه العام المقبل.
“كنت أعرف كل أحداث القصة، إلى هذا الحد كانت حديث الناس، خاصة في صناعة السينما. ومع ذلك، فقد أذهلتني”.
وأضاف: “من السمات البارزة لهذه القصة هو امتزاج الهويات بين الإنسان والحيوان، فهذا الرجل يفقد هويته ببطء كإنسان، ويصبح واحدا من تلك الحيوانات، لم أقرأ شيئا كهذا من قبل”.
في الفيلم، يتوقف (نجيب) تدريجيا عن التحدث باللغة المالايالامية، ومن وقت لآخر، يُصدر أصواتاً من حلقه شبيهة بأصوات الحيوانات التي يعتني بها.
رحلة فلسفية إيمانية وليس فيلما ضد السعودية
الضجيج لا يصنع حوارا، والغضب يجهض النقاشات البناءة. كلاهما يعمي العقول قبل الأعين عن الرؤية الهادفة والفكرة الجادة. ينطبق هذا على الفيلم الهندي “حياة الماعز” الذي أثار جدلا واسعا عقب إتاحة الترجمة العربية له على منصة نتفليكس، بعد عرضه في دور السينما الهندية في نهاية مارس الماضي، وحقق أرباحا طائلة.
اعتبر كُتاب ونقاد ومغردون سعوديون أن فيلم “حياة الماعز” الهندي يستهدف الإساءة إلى بلدهم، عبر انتقاده نظام الكفيل بمبالغة مقصودة، من خلال قصة عامل هندي صارع الموت في الصحراء هربا من كفيله السعودي. في المقابل احتفى آخرون كارهون للسعودية بالفيلم على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنه نجح في إسقاط مشروع النهضة الفنية السعودية.
تكشف مشاهدة عميقة للفيلم عدم صحة الموقفين، وتسلط الضوء على جوانب فكرية وفلسفية ومجتمعية مهمة يطرحها العمل بعمق وتشويق وجاذبية، يعجز المتعصبون على الجانبين عن رؤيتها، إن كانوا قد شاهدوا الفيلم قبل الهجوم عليه أو الدفاع عنه أساسا.
رحلة الإنسان في الأرض
فيلم “حياة الماعز”، بطولة بريثفيراج سوكوماران، وجيمي جان لويس، وأمالا بول، والممثل العماني طالب البلوشي، مع ظهور الممثل الأردني عاكف نجم كضيف شرف، وسيناريو وإخراج بليسي إيب توماس، عن رواية للكاتب الهندي بينيامين، بناء على قصة حقيقية لعامل هندي يحمل بطل الفيلم اسمه وهو نجيب محمد.
قبل مناقشة ما تعرض له الفيلم حول نظام الكفيل في السعودية، تجدر الإشارة إلى الأبعاد الفكرية والإيمانية الأعمق التي يطرحها العمل، وغابت عن الجدل الدائر حوله.
تبدو رحلة البطل في الصحراء بحثا عن طريق للهروب من المعاناة، تعبيرا عن رحلة الإنسان في الأرض سعيا إلى طريق النجاة، متقلبا بين الشك واليقين، بين اليأس والأمل، بين الرفض والصبر.
فالبطل نجيب محمد، الهندي المسلم، إنسان مسالم، متدين، كما تدل على ذلك إشارات عديدة في بداية الفيلم ضمن حواره مع صديقه. تبدأ معاناته في كنف رجل سعودي بدوي خشن التقاهما في المطار، وأخبرهما بأنه كفيلهما، ليصطحبهما بعدها، ويفرقهما عن بعضهما البعض.
يعمل البطل في رعاية الأغنام في الصحراء، رغم أن عمله الأصلي الذي غادر بلده ليلتحق به يُفترض أن يكون في شركة، مع الإقامة في غرفة مكيفة، لكن يتم حرمانه من أبسط مقومات الحياة، من ماء للاستحمام أو تناول طعام كاف، فضلا عن قيام السعودي بتمزيق جواز سفره، وضربه لأتفه الأسباب.
لا يعرف نجيب شيئا عن حياة الأغنام، فيضربه الكفيل بعنف بسبب ذلك، فيبدأ في مخاطبة الماعز طالبا منها الاستجابة له، قائلا “أرجوكِ.. حتى لا أتعرض للضرب”، فتقف له إحداها بهدوء كي يحلبها، وتُحدث أخرى صوتا يتفاعل معه باقي القطيع الذي فر منه ويعود إليه. يأتي ذلك كله بعد أن يناجي الله بدموعه: “يا رب”.
وسط الألم والظلم والدموع، يعود السيناريو بتقنية “فلاش باك”، ليتذكر نجيب حياته في ولاية “كيرلا” الهندية، التي تبدو كالجنة، كان يحيا فيها مع زوجته الجميلة ساينو التي يحبها، لكنه يغادر “جنته” بحثا عن الرزق، حالما مع حبيبته بإنجاب طفلين يسميانهما نبيل وصفية، يربيانهما في رغد ورخاء.
تقع عين البطل فجأة في الصحراء على مرآة سيارة تجلب المياه للمزرعة الصغيرة، فيرى نفسه لأول مرة وقد طالت لحيته، وبدا مظهره مثل الوحش، عاد بدائيا في صورة الإنسان الأول، لا يعرف كم من الزمن مر عليه في هذه الصحراء.
صورته تجذبه إلى قاع بئر الهم، وترفع داخله منسوب الألم، فيحاصره اليأس. يهم كعادته بالدعاء، لكن يهاجمه الشك. يخاطب نفسه “لماذا أدعو الله؟ لماذا أصلي لله؟ لماذا يحدث لي كل هذا إن كان هناك إله”، يصعد إلى جبل، ويعتزم القفز منه والانتحار.
يظهر أمامه فجأة طير جارح مرعب، فيخاف منه، ويبتعد عن حافة الجبل، ثم يلتفت ليجد مجموعة من الطيور المماثلة تنهش على مقربة جثة عامل هندي طاعن في السن كان التقاه أول وصوله إلى المزرعة لكنه اختفى، فيحاول مصارعة الطيور إنقاذا للجثة لكنه يفشل.
جاء ظهور الطير أمامه كنذير منعه من الانتحار، وأعاد مشهد جثة الرجل الهندي الممزقة إليه شعور التمسك بالحياة، فيحاول الهرب في الصحراء، لكن الرجل البدوي يطلق النار عليه، فيصيبه، ويرجعه إليه.
لسنوات لا يحصيها، يتوحد نجيب مع الأغنام، يحبها ويعيش حياتها، بل إنه يشاركها طعامها وشاربها. وفجأة، يسمع في الصحراء صوتا، يتبين له أنه يعرفه، إنه هو، صديقه حكيم، الذي جاء من بلده معه، يعمل مثله في مزرعة مجاورة، وقد تغير شكله أيضا.
صار كل منهما كالإنسان البدائي الأول، يحتضنان بعضهما البعض، ويبكيان بحرارة، ويتبادلان السؤال “كم من الوقت مر؟” لا أحد يجيب، فلا أحد يعرف بدقة عمر الإنسان على الأرض؛ عمر الألم والمعاناة بعد مغادرة الجنة.
وتلمع الفكرة؛ يخبر حكيم صديقه البطل نجيب بخطة للهرب، خلال حفل عرس ابنة أحد البدو بعد أيام. الفكرة يكتبها حكيم في رسالة يتركها لصديقه في الصحراء، لكن الرسالة تظل تتطاير بفعل الرياح حتى يصل إليها نجيب بصعوبة، ويقرأها.
في الرسالة، يخبر حكيم صديقه عن زميل له في المزرعة، أفريقي، اسمه إبراهيم قادري، يعرف الطرق في الصحراء، سيتولى إرشادهما ليهربوا جميعا، ويصف حكيم هذا الرجل قائلا “كأنه أرسل إلينا.. مثلما أرسل الله النبي موسى كي نصل إلى الله”.
يودع نجيب الأغنام والجمال في المزرعة، بعد رحيل صاحبها البدوي لحضور حفل العرس، ويغمر نفسه أخيرا بالماء الذي كان حلما له، كأنه الحياة، فمن الماء جُعِل كل شيء حي.
الطريق إلى الله
تبدأ رحلة الهروب، نجيب وحكيم يتبعان سير إبراهيم قادري، المسلم الطيب، ذي القسمات المريحة الهادئة، دائم الدعاء إلى الله. ويصلي نجيب خلف قادري، ويبكي، بعد أن اعترته في لحظة ألم عميق همزة من همزات الشك.
يتخفف الثلاثة من الأحمال خلال الرحلة، بناء على طلب إبراهيم، فلا شيء يُحمل من متاع الدنيا في طريق الخلاص.. الطريق إلى الله.
تتكرر كلمة “الطريق” على ألسنة الثلاثة خلال رحلة البحث في الصحراء؛ أين الطريق؟ وتتواصل المعاناة لفترة قد يراها المشاهد في الفيلم طويلة أو مملة، لكنها فنيا جاءت لتتماهى مع الملل الوجودي، ووطأة الحياة الدنيا.
يستحث إبراهيم قادري قوة نجيب التي خارت خلال الرحلة، دون طعام أو ماء أو بارقة تشير إلى قرب الوصول، قائلا “هيا.. انهض.. قف.. يجب أن نمشي.. يجب أن نمشي حتى الموت”.
لكن مسيرة البشر في رحلة الدنيا حتى الموت غير مضمونة العواقب، والنهايات لا ترتبط بالبدايات فحسب، فالمهم هو التحمل والصبر حتى آخر رمق، فها هو حكيم الأكثر إيمانا وذكرا لله، بلا لحظة شك مثل نجيب، ينهار من التعب، ويرى على البعد ما يظنه ماء، لكن قادري ينهاه عنه قائلا إنه سراب الصحراء.
يشك حكيم في قادري بعد أن وصفه في السابق “كأنه أرسل إلينا”. يفقد الثقة فيه، ويمسك بخناقه، متسائلا بغضب “لماذا لا نصل إلى طريق ما؟ يضلنا الشيطان عن طريقنا”، وبعدها يسقط حكيم ميتا.
كان طبيعيا أن يموت حكيم ويبقى نجيب، إذ إن محاولة إدراك الحكمة في كل شيء في الأرض محكوم عليها بالهلاك، كأنما يقول له قادري، الذي يتماهى فنيا مع قصة سيدنا الخضر، “هذا فراق بيني وبينك”، وما يبقى ويثمر هو أن يكون الإنسان “نجيبا” في مسعاه لأجل الوصول، مجدا في البحث عن الطريق بتلمس الأسباب بالعقل وبحسن تلقي الرسائل والإشارات، عبر الإيمان برب الطريق والأسباب.
يرسل الله إلى قادري ونجيب معا إحدى السحالي الصغيرة تمرق أمامهما في الصحراء، فيتهلل قادري، لأن وجودها يشير إلى وجود موقع قريب للماء، وبالفعل يعثران على واحة في الصحراء، فيبتسم قادري برضا ويقول “الحمد لله أنك أظهرت لنا الطريق”.
يهم نجيب بأن يعب عبا من الماء، من الحياة، لكن قادري ينهاه، ويضع له قطرات صغيرة فقط أولا في فمه، ويعثر على زجاجة ملقاة، فيعيد الابتسام ويضع فوهتها في فمه، ويبدأ إطلاق الأنغام.
ينام الاثنان، يستريحان، لكن نجيب يستيقظ ليجد الزجاجة ممتلئة بالماء، وفوهتها مغلقة بحبة تمر، ولا يعثر على قادري، يختفي أثره تماما، يغيب كما المرسلين من الله، بعد أن أدوا رسالاتهم، وتركوا آثارهم يقتفيها الإنسان، وبالفعل يشرب نجيب ويأكل، ثم يضع الزجاجة جانبا لتتدحرج على الرمال، ويفاجأ المشاهد بها وقد وصلت أخيرا إلى الأسفلت لتدل نجيب على الطريق.
عبرت موسيقى الفنان العالمي آي.آر رحمان عن أدق التفاصيل خلال رحلة أبطال الفيلم، لتعكس الأفكار العميقة في العمل الفني الكبير، فنجد الإيقاعات الموسيقية الهندية المبهجة هي البطلة في مشاهد الفلاش باك، بينما يصاحب الناي الحزين والموسيقى الجنائزية رحلة نجيب ورفيقيه في الصحراء.
وجاءت الموسيقى لتحمل على جناح السلام والسكينة تلك الكلمات العذبة، الأقرب إلى الصوفية في الأغاني والأناشيد التي صاحبت رحلة الصحراء، ومنها “يا مصدر الخير.. كلماتُكَ هي النجوم التي ترشدني.. من دونك أنا ضائع وأتلاشى بعيدا.. ألقِ بعض الضوء عليَّ حيث أنت”.