كشف أحد الأطباء العراقيين المغتربين في بريطانيا، عن ظاهرة غريبة بدأت تتنامى خلال السنوات العشر الماضي في العاصمة البريطانية لندن، والعديد من الدول الأوروبية، تتمثل بتنظيم العراقيين جلسات فصول عشائرية في هذه الدول الأوروبية.
وبين ان “هذه الفصول اغلبها محصور بمجتمع معين وكلها على مواضيع تافهة جدا او حلت قضائيا”، مبينا انه “حينما سألت بعضهم عن سبب التوجه لهذا الامر، كان الجواب هو (نخاف على اهلنا بالعراق)”.
وأكد عدد من المعلقين العراقيين المغتربين، ان هذه الحالات تم تسجيلها في المانيا وفي مانشستر والعديد من المدن والدول الأوروبية، فيما أشاروا الى انه اذا حصلت مشاكل معينة بين العراقيين في المدن الأوروبية، يخشون على ان تنعكس هذه المشاكل على عوائلهم واقاربهم في العراق وإمكانية تهديدهم، مايدفعهم الى الجلوس للتراضي او الفصل في مدنهم الأوروبية خشية ان تصل المشاكل الى الأقارب في العراق.
لم تكف تلك الأموال الطائلة التي أنفقها لمعالجة الفتى، فها هو بانتظار دفع أموال جديدة سيجري الاتفاق عليها في مفاوضات يتم فيها تخفيض الدية بتأثير من الوسطاء والوجهاء إلى أقل ما يمكن.
وبعد أن انفض المجلس على خير، أيقن نجم ألا حل أمامه سوى بيع سيارة الأجرة التي يتكسب من ورائها وتشغل وقته لسداد الدية.
هذا المشهد ربما يتكرر بشكل شبه يومي في شتى مدن العراق، فالقبيلة حامية لأفرادها، غير معنية بالقوانين الوضعية وإلى أين تسير وبماذا تحكم، فالشريعة العشائرية تعلو ولا يعلى عليها، تتدخل في الأحوال المدنية من زواج وطلاق وحوادث سير وحالات الشجار التي تفضي إلى وقع إصابات أو أضرار وصولا إلى عمليات القتل سواء منها المتعمدة أو غير المتعمدة. ولهذا صار مألوفا نصب تلك “السرادقات” من الخيام لاحتضان مؤتمر الفصول العشائرية، لتتكرر بذلك مصطلحات “القوامة” و”العطوة” و”الفصل” وغيرها من المصطلحات الخاصة بتلك المؤتمرات.
لاشك أن حضور العشائرية في العراق قد شهد ازدهارا غير مسبوق في عراق ما بعد 2003، فلا تكاد تجد مسؤولا عراقيا إلا وكان متبوعا بعشيرته التي تسنده في السراء والضراء، فهم حاضرون معه يحتلون الوظائف ويشكلون طوق حماية له وتراهم يسندون هذا المرشح إلى البرلمان أو ذاك ويحركون عشائر أخرى متعاهدة لغرض أن يحظى ذاك المرشح بالمنصب.
وأما على صعيد البرلمانيين والوزراء والسياسيين أنفسهم فقد ترتبت عن تصريحات حادة متبادلة فيما بينهم، العديد من التهديدات بداية بـ”الفصل العشائري”، وصولا إلى هدر الدم، وهي قصص تكررت فصولها حتى وقت قريب وشملت العديد من السياسيين.
العشائرية المنتعشة في يومنا هتجد لها حاضنة في كيان الدولة نفسه. فالعشيرة وشيخ العشيرة لهما ثقل في الحياة الاجتماعية وحتى السياسية ولا يمكن التخلي عنهما بأي حال من الأحوال، هذا إذا أضفنا إلى ذلك تدخّل العشائر في نزاعات أدت إلى إراقة الدماء، مثل النزاعات العشائرية التي تكررت في أكثر من محافظة جنوبية بسبب الخلاف على الأراضي والأملاك، والتي انطلقت بالشجار لتطور إلى استخدام السلاح.
وأما على صعيد متطلبات الواقع العراقي كالحشد في مواجهة داعش، فقد عولت الدولة كثيرا على العشائر وقامت بتسليحهم. ولم تكن تجربة الصحوات إلّا تكريسا للعشائرية أيضا، ثم زادت من تفاقم المشهد كله الانقسامات العشائرية التي جعلت العشيرة الواحدة منقسمة على نفسها، وهي إشكالية أخرى في قراءة المشهد العشائري العراقي، فالعشيرة بثقلها السكاني والاجتماعي وتحالفاتها صار لها صوت مسموع أكثر من ذي قبل وصار لشيوخ العشائر مكانتهم الراسخة وتأثيرهم في الحياة العامة فهم يأتون بعد طبقة رجال الدين في الأهمية داخل المجتمع العراقي.
وإذا مضينا في قراءة المشهد العشائري فأننا سنكون في مواجهة حاسمة خلاصتها تقاطع العشائرية مع القوانين، ومن ذلك الحوادث الجنائية والجنح، حيث تجد أن قانون العشيرة وأعرافها لا يتزحزحان وهما موضع تفهم كامل وتعاطف واحترام وحتى قبول من طرف الدولة وأجهزتها على مختلف المستويات وذلك استنادا إلى ثقل العشيرة وإلى أين وصل تأثيرها وإلى أي مستوى سيتمدد وإلى أين سيصل؟
بالطبع لا أحد يستطيع أن يتكهن ما ستؤول إليه الأمور وإلى أين ستصل السلطة العشائرية من نفوذ وقدرة على التأثير على مسار الحياة الاجتماعية، كونها منتجة لمن وصلوا إلى السلطة بشكل ما فضلا عن البرلمانيين. لكن هنالك وسائل إنعاش لسلطة العشيرة وهنالك رضا من قبل أطراف السلطة على أدوار العشيرة كونها أداة مساعدة لاستتباب الأمن وإمضاء قرارات الدولة ما دامت لا تتعارض مع تشريعات العشيرة وقراراتها.
وتحقق الشعائرية مكاسبها في بلد اتسعت فيه الثغرات على صعيد السلطات جراء التناحر والتنازع الطائفي والعرقي وتناهب الدولة بين الطوائف المتعددة المستفيدة بشكل مباشر منها، من أموالها وسلطتها وتسهيلاتها، حيث لا أحد يستطيع الاقتراب من تخوم عالمها المغلق على نفسه.
هي إشكالية أخرى ونمط اجتماعي مستحدث في الحياة العراقية خلف من ورائه فئات مستفيدة وأخرى أصابها الضرر البليغ، هذا فضلا عن حالة من الهلع الشديد والخوف من الوقوع في أي أخطاء قد تفضي إلى نزاع عشائري ومقاضاة عشائرية باهظة لا قبل للمواطن البسيط بتحملها.