تناقلت وسائل الإعلام الأجنبية و قبل شهرين تقريباً من الألعاب الأولمبية في فرنسا خبراً مفاده أن الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات، قررت فرض عقوبات صارمة على تونس إلى حين مواءمة تشريعاتها مع المعايير الدولية التي تنص عليها “المدونة العالمية لمكافحة المنشطات”.
تضمنت العقوبات منع تونس من استضافة أي بطولات إقليمية أو قارية أو عالمية، وكذلك عدم السماح برفع العلم التونسي خلال المنافسات الرياضية الدولية، خصوصاً منها الأولمبية والباراولمبية، ، وهو الأمر الذي أحدث موجات ارتدادية فورية.
حاولت السلطات طمأنة الجمهور بالتأكيد أنها أدخلت التعديلات اللازمة على قوانينها، ما يجعل الترتيبات المتعلقة بعمل الوكالة الوطنية المختصة بمكافحة المنشطات مطابقة للمعايير الدولية، ويسمح برفع العقوبات في ظرف أسبوعين، لكن رغم التطمينات الرسمية لا أحد يعرف إلى حد الآن متى سترفع الهيئة الدولية العقوبات التي فرضتها على تونس، والتي كان من الممكن تجنّبها لو أنّ السلطات والهيئات المعنية في البلاد احترمت الآجال التي حددتها الوكالة العالمية منذ أشهر.
زادت المخاوف بعدما تناقلت المواقع الإخبارية والمنصات الإلكترونية بعد ذلك بأيام صورة تظهر سبّاحة تونسية تتسلم ميدالية فازت بها خلال إحدى البطولات الأفريقية خارج البلاد من دون أن يتم رفع علم تونس أو عزف نشيدها الوطني، بعكس الفائزين الآخرين الموجودين على منصة التتويج. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يحجب فيها العلم التونسي في تاريخ مشاركات البلاد في أي منافسات رياضية دولية.
ما كان له وقع أكبر هو الخبر المصوّر الثاني الذي تناقلته كذلك وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. يتعلق الأمر بمنافسة دولية أخرى في رياضة السباحة ولكنها منافسة احتضنتها هذه المرة العاصمة التونسية وتمّت تحت إشراف الاتحاد التونسي للسباحة. أظهرت الصورة التي انتشرت كالنار في الهشيم جداريّة على حافة المسبح حُجب عليها العلم التونسي بقطعة من القماش الأحمر.
لم يعد القرار مسألة نظرية أو إجراء يكون لربما قيد التنفيذ. بل أضحى واقعاً صادماً لا يستطيع الكثير من التونسيين فهمه، بل يثير لديهم الكثير من السخط والشعور بالإهانة.
في هذا الخضم من مشاعر الرفض حدثت المفاجأة. ذهب الرئيس قيس سعيد إلى المسبح وأمر برفع الراية التونسية مندداً بـ”الجريمة النكراء” المتمثلة بحجب العلم في رقعة من التراب التونسي. واتخذ إثر ذلك قراراً بإعفاء بعض المسؤولين في قطاع الرياضة من مهماتهم وتتبعهم قضائياً.
أبرز تدخل الرئيس التونسي في الموضوع القيمة التي يكتسبها العلم الوطني في تونس، سواء في المناسبات ومنها الأحداث الرياضية أم من دونها.
رفع العلم على أنغام النشيد الوطني خلال المنافسات الرياضية الدولية ليس مسألة هينة بالنسبة إلى الجمهور التونسي. ولحظات رفع هذا العلم طبعت الذاكرة الجماعية للتونسيين على مدى السنين.
مشاهد محمد القمودي وأسامة الملولي وحبيبة الغريبي وأحمد الحفناوي وهم يصعدون إلى منصة التتويج لنيل الميدالية الذهبية للألعاب الأولمبية، على خلفية تزينها الراية التونسية وهي ترفرف في السماء، هي مشاهد لا تمحى من الأذهان. ما زال التونسيون يتذكرون تلك اللحظات كما يتذكرون مشاعر الفخر والنشوة التي غمرتهم آنذاك وغذت حلمهم بإنجازات مماثلة في المستقبل.
المسألة أعمق من المناسبات الرياضية بالنسبة إلى التونسيين الذين يفخرون بأنّ علمهم من أقدم الأعلام الوطنية في العالم العربي وأفريقيا إن لم يكن أقدمها على الإطلاق، إذ يعود إنشاؤه إلى قرابة القرنين.
تقول المراجع التاريخية إن العلم التونسي ظهر للمرة الأولى عام 1827 واعتُمد رسمياً من الدولة الحسينية بعد ذلك بأربع سنوات عام 1831 بقرار من حاكم البلاد آنذاك الباي حسين باي الثاني الذي أراد تمييز العلم الذي تحمله سفن البلاد عن بقية أعلام الولايات العثمانية.
على مدى قرنين لم يتجرأ أحد، ولا حتى المستعمر الفرنسي، على محاولة إلغاء العلم. اكتفت السلطات الاستعمارية بعدما يئست من اختفاء العلم بوضع مجسّم صغير للعلم الفرنسي في ركن من أركان الراية التونسية.
حافظ العلم على رمزيّته وساهم في جعل الروح الوطنية متقدة خلال كل مراحل نضال التونسيين ضد الاستعمار. واستشهد الكثيرون منهم وهم يرفعون ذلك العلم مطالبين بالاستقلال وببرلمان تونسي وبجلاء فرنسا عن تراب بلادهم.
بعد الاستقلال تمّ تكريس العلم نفسه كرمز للسيادة الوطنية ضمن دستور 1959 ثم في دستوري 2014 و2022. ينص الدستور على أنّ “علم الدولة التونسية أحمر تتوسطه دائرة بيضاء بها نجم أحمر ذو خمسة أشعّة يحيط بها هلال أحمر”، بحسب ما يضبطه القانون. تتداخل في شكل العلم وألوانه معاني التضحية والسلام والهوية الإسلامية.
لم يحاول أحد من القادة والسياسيين في تونس تغيير العلم وإن كان البعض فكّر في ذلك. كان هناك ما قيل إنه مشروع لعلم جديد يقال إن الزعيمين التونسي الحبيب بورقيبة والليبي معمر القذافي فكرا في اعتماده تجسيداً لفكرة تأسيس دولة اندماجية بين البلدين سنة 1974. لم تُعمّر الفكرة أكثر من يومين. وكان التعلق بالعلم التونسي من جملة الاعتبارات التي أثارها معارضو مشروع الوحدة الفاشلة في تونس.
أما الاستثناء الثاني الذي لم يرَ الضوء أيضاً فكان تفكير الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي بعد 2011 في تغيير العلم على أساس زعمه، أنّ الراية التونسية التصقت كثيراً بالحزب الحاكم إبان حكمي بورقيبة وبن علي، لكن لم يتجرأ على محاولة ترجمة فكرته.
كان المرزوقي مخطئاً في تقييمه لأن العلم كان باستمرار جامعاً لكل التونسيين شعباً ونظام حكم ونقابات ومعارضة سياسية. وكان من المفروض أن يكون أكثر وعياً بعمق الروابط التي تجمع التونسيين بالعلم الوطني بغض النظر عن انتماءاتهم.
اقترن العلم بعد الاستقلال بأنظمة الحكم وسرديّاتها، وكانت مكانته متميزة ضمن عقيدة الأجهزة الأمنية والعسكرية. كما اقترن في الوقت نفسه بتظاهرات المعارضة وبالحركات الاحتجاجية ضد أنظمة الحكم من دون اعتبار للتلوينات الأيديولوجية والسياسية لهذه الحركات.
وعندما حاول متطرفون سلفيون عام 2012 إزالة العلم التونسي من على واجهة إحدى الجامعات ووضع علم “الخلافة” محله، أظهر رد الفعل إجماعاً لدى الطبقة السياسية وبقية المجتمع على الانتصار للعلم ولرمزيّته. بل أصبح للعلم التونسي أيقونته بعد الحادثة في شخص الطالبة خولة الرشيدي التي تصدّت لتنكيس الراية التونسية من قبل السلفيين من على سطح كلية الآداب ودافعت بشجاعة عنها.
من الخطأ اعتبار رفع العلم التونسي في المحافل الدولية أو حجبه مسألة هامشية. فالتعلّق بالراية الوطنية والطموح لرفعها وإعلائها يبقيان الخيط الناظم الذي يجمع بين كل التونسيين مهما اشتد التفتت والانقسام.
وسيواصل التونسيون الإصرار على أن يحظى علمهم بالتقدير والاحترام الذي يستحقه في تونس والعالم، ولو أخطأ في شأنه الإداريون أو هم غفلوا عن معانيه.