بسم الله الرحمن الرحيم
سعر الصرف وأزمة الخزينة والموازنة
1- الأصل تاريخياً في العملة إنها سلعة. فكان الناس يقايضون سلعهم وخدماتهم بسلع وخدمات الآخرين .
2- توسعت الأسواق وكثرت السلع والخدمات ولم يعد عملياً التعامل سلعة بسلعة. فتوجه الناس إلى سلع يسهل حملها وحفظها وتجزئتها فكانت السلع المعدنية. فولدت العملة المعدنية من الذهب والفضة والنحاس وغيرها، والتي تحمل قيمتها بقيمتها.
3- كثرت المعاملات فبدأ الناس يحتفظون بذهبهم أو معادنهم في بيوتات، ويصدرون وثيقة أو شهادة بقيمة موجوداتهم المعدنية من الذهب والفضة، فولدت المصارف والأوراق النقدية المغطاة بالخزين أو الاحتياطيات أو الغطاء المعدني، فاصبحت هي “المعادل” الذي تتوازن فيه قيم السلع والخدمات والأعمال ، الخ.
4- لاحظت البيوتات المالية أو المصارف إن الناس الذين يودعون الذهب أو الفضة لديها لا يسحبون أموالهم دفعة واحدة، بل إن القسم الأكبر يدخرها، مما سمح لها بأن تصدر أوراقًا نقدية Banknotes بدون أن يكون لها غطاء حقيقي. أي صارت تستثمر أموال غيرها، وتحقق لنفسها أرباحا تفوق بكثير أرباح العمولات التي تستحصلها من إيداع الأموال لديها.
5- تطورت الحياة الاقتصادية أكثر كما تطور الفهم والتجربة لدى البيوتات والمصارف والحكومات والدول، أي كل من يمثل السلطة النقدية بأن العبرة ليست بالمعدن ، بل بالمعاملات من السلع والخدمات التي ينتجها ويتداولها الناس. وإن العملة ما هي سوى “معادل” بات مقبولاً لدى الناس، لما يعادل قيمة هذه المعاملات. وإن واجب السلطة النقدية هو اصدار أوراق تعادل الحاجة لانسيابية وحسن تداول السلع والخدمات. فإن أصدرت أكثر فسيكون هناك تضخم ،وإن أصدرت أقل فسيكون هناك انكماش. أو ما اسماه “المقريزي” ابن القرن الخامس عشر بـ”رواج الفلوس” للاول، و”كساد الفلوس” للثاني، وذلك مع كثرة لجوء سلاطين ذلك الوقت بسد عجز خزائنهم باستخدام “الكاغد” كورقة للتعهد بالسداد، أو ما نسميه اليوم بالأوراق المالية.
6- العملة السلعية أو المعدنية تحمل قيمتها معها ،لذلك يطمئن لها الناس، أما العملة الورقية فلابد من توليد الثقة بها لتستقر وتصبح اداة أساسية للتداول. سيفرح الناس إن استيقظوا يوماً ووجدوا أن قيمة عملتهم قد إرتفعت ، وهذا أمر قليل الحصول، لكنهم غالباً ما يصدمون ويحزنون عندما يستيقظون يوماً ويجدون أن قيمة عملتهم قد هبطت، فتراجعت بالتالي موجوداتهم وقدراتهم الشرائية الحقيقية. عدا ذلك فإن الأسواق والنشاطات الاقتصادية خصوصاً المتوسطة والطويلة الأمد تحتاج إلى استقرار قيمة العملة ليقدم الناس للتعامل معها وليس مع غيرها.
7- خلاصة القول ؛إن احتياطي العملة أو غطاءها الذي كان قديماً شرطاً “سابقاً” لاصدار العملة الورقية تطور خلال العقود الأخيرة-خصوصاً بعد التخلي عن قاعدة الذهب وفق “بريتون ودز” بعد الحرب العالمية الثانية وكذلك في بداية السبعينات بعد أن انفك الدولار عن الذهب- إلى امكانية أن يصبح حقيقة “لاحقة” لاصدار العملة أو عرضها. فالاحتياطي أو الغطاء تحول بالتدريج في معظمه إلى حالة افتراضية وإلى نسب ومعادلات لتحديد حجم عرض العملة بما يجب أن يلبي الحاجة لحركة انتاج وتداول السلع والخدمات. فليس كل وحدة نقدية صادرة يقابلها بالضرورة ما يعادلها من احتياطات حقيقية. فظهرت نظريات وممارسات عديدة تذهب للتجريد والافتراضيات أكثر من البقاء ملتزمة الياً بالاحتياطيات وقيمها. واخذت البنوك والسلطات النقدية تكثر من اصدار العملة باشكالها المختلفة ومنح التسهيلات المصرفية والائتمانية بدون غطاء أو احتياطيات مقابلة تطابقها، وهذه الاصدارات بعضها مبرر ومشروع وبعضها غير مبرر وغير مشروع.
8- مبرر ومشروع ،لأنه يجلب الفوائد إن ذهب إلى عالم المعاملات وانتج المزيد من السلع والخدمات التي ستسد الفجوة بين الاحتياط أو الغطاء الافتراضي مع الكتلة النقدية وعرض العملة، فيعود التوازن الذي اختل بعد فترة من الزمن. انه كالدفع الآجل والعاجل اللذين محورهما قيمة العمل المقدم.
9- وغير مبرر وغير مشروع فيجلب الاضرار ،إن ذهب للمضاربات والاثراء والنزعات الربوية وجمع الأموال والتضخم المفرط المنفلت، بدون أن يقابل ذلك كله عمل وانتاج حقيقي للسلع والخدمات، فتزداد الفجوة بين حجم السلع والخدمات وعرض العملة، فتحصل الأزمات وتنهار قيمة العملة كما إنهارت قبل 2003، بل فقد الناس الثقة بها فتعاملوا مع عملات اجنبية يثقون بها أكثر . فاصبح لدينا دينار “رانك زيروكس” والدينار السويسري والدولار والليرة التركية والريال الايراني، وهلمجرا، والذي كلفنا كثيراً قبل أن نعيد الثقة للدينار وتوحيد كل المعاملات والحسابات الوطنية بموجبه.
10- وفي العراق، برغم ادعاءات مجمل نظمنا التي مررنا بها خلال القرن الحالي والسابق، بأننا تحررنا وحررنا عملتنا الوطنية لكننا ما زلنا نعمل بممارسات قديمة يوم كان الدينار مرتبطاً بالجنيه الاسترليني، اي إن عملتنا لا ترتبط بانتاج كافة السلع والخدمات التي ننتجها بل ترتبط بغطاء، وهو اليوم الدولار اساساً الذي يمتلك البنك المركزي احتياطات قدرت بداية 2020 بما يقارب 67 مليار دولار، مما يضع العراق في المرتبة الثالثة عربياً، وسبائك الذهب (نمتلك منه 96،3 طناً ونحتل المرتبة 35 عالمياً والخامس عربياً). وسبب ذلك اننا دولة ريعية نفطية، وإن النفط يباع بالدولار، لذلك باتت احتياطاتنا التي هي المؤشر الأساس لاصداراتنا النقدية تعتمد على ما لدينا من دولارات أو قطع اجنبي أساسا أو ما نشتريه ونخزنه من ذهب، يجب أن تكفي لنصف عام على الأقل من استيرادات ضرورية للبلاد بحسب معادلات صندوق النقد الدولي.
11- الموازنة تعتمد على ذلك، والاقتصاد يعتمد على ذلك، والمرتبات والحقوق ومستحقات المزارعين والمقاولين كلها تعتمد على ذلك، باختصار الأسواق بمجملها تعتمد على ذلك. فعندما فرض الحصار وتوقفت الصادرات النفطية تراجع الدينار من 0،333 دينار للدولار إلى 3000 دينار للدولار. وعندما تنخفض أسعار النفط أو تنخفض صادراتنا يتراجع كل شيء ولا يقف أمامه اقتصاد وطني معادل يستطيع عبور الأزمة وتلافي تداعياتها، وحماية العملة الوطنية التي هي عنوان أساسي من عناوين السيادة والاستقلالية.
12- لهذا هيكَلنا صندوق النقد الدولي أو هيكْلنا أنفسنا أمام صندوق النقد وفق هذه المعادلة القاتلة التي لا مخرج لها إن لم نعالج الحقيقة النقدية بالحقيقة الاقتصادية. فصارت الحقيقة النقدية خانقة بالمطلق للحقيقة الاقتصادية وحاجزاً أمامها. بينما الصحيح إن الاقتصاد هو الأساس وليس العملة أو النقد. وإن العملة يجب أن تكون بخدمة الاقتصاد وليس العكس.
13- لهذا بقي اقتصادنا يعتمد العملة الورقية Cash Economy، مع ثروات عظيمة تقف خارج المصارف، خائفة من الاجراءات التعسفية لتصبح هذه الأموال أقرب لتفشي الفساد وللاكتناز منها للاستثمار واطلاق دورات الانتاج الموسعة وتحقيق التقدم والنمو المستدام. ولهذا بقي ما يسمى بالعملة الضيقة Narrow Money او العملة الورقية هي الأساس، فاختفت الكمبيالات والعملة الرقمية والالكترونية، بل تراجع استخدام الصكوك، وتراجعت الادخارات، وباتت معظم العملة خارج الدورة المصرفية، فتغيب معها الاليات الحقيقية للادخار والاستثمار، واختفى الدور الائتماني للمصارف كممول للمشاريع، ولم يعد همها سوى المضاربة بالعملة لتحقيق الارباح.
14- في السنوات الأخيرة ، الموارد النفطية 40-60 مليار دولار سنوياً، والناتج الوطني الاجمالي 5-6 أضعاف هذا الرقم، اي هناك جزء مهم من الناتج الوطني الاجمالي، أو الدخل القومي، أو مجموع انتاج السلع والخدمات ينتج وطنياً سواء بالاستناد إلى الموارد النفطية أو غير النفطية.
15- هنا يمكننا أن نحدث اختراقاً لتحريك الاقتصاد ودعم العملة الوطنية وتقليل مخاطر الاعتماد المطلق على العملة الاجنبية، من خلال تشجيع الدولة، وبضماناتها المباشرة وغير المباشرة، لوسائل الدفع بما يسمى بالعملة العريضة او الواسعة Broad Money (M2, M3, M4) شبه المجمدة حالياً، وغير المستثمرة عملياً. فعند تنشيط هذه الاتجاهات ومنحها الثقة والحماية سنوفر سيولات كبيرة يحتاجها الاقتصاد والخزينة والموازنة والتي سيتم تغطيتها وتسديدها من توسع النشاطات الاقتصادية.
16- نقول المجمدة؛ لأن جزءاً من السيولة التي ستوفرها زيادة التسهيلات في “العملة العريضة” سيتأتى غطاؤه من السلع والخدمات التي تنتج خارج الموارد النفطية، وهو ما سيسد لاحقاً الفجوة بين عرض العملة وغطائها أو احتياطاتها.
17- لكن للنجاح في ذلك هناك شروط تبدو ممكنة ويمكن للسلطة الاقتصادية تبنيها بسهولة نسبية، شرط تقبل العقول لها. ففي العراق هناك “طلب فعال” مهم سببه كثرة الانفاق، يتم تلبيته الآن عن طريق الاستيرادات والحاجة المتزايدة للقطع الاجنبي. وفي العراق هناك خبرة وقدرات انتاجية عطلتها الحروب والحصار والتوجهات الاقتصادية الريعية وغير الريعية الخاطئة. خصوصاً في الحاجيات التي يمثل “الميل الحدي للاستهلاك” (غلبة الانفاق الاستهلاكي الحياتي الضروري) عنصراً اساسياً لها. هذا “الطلب الفعال” الذي معظمه لأصحاب الدخل المحدود يمكن تمويله ابتداءاً عن طريق “العملة العريضة” وبضمانات سيادية مباشرة وغير مباشرة، حتى وإن لم تكن لها غطاءات أو احتياطات ابتدائية تقابلها. وبشروط معينة يمكن للطلب هنا أن يحرك الانتاج الوطني اللاحق الذي سيسد الفجوة ويعيد التوازن ويجعل للعملة الوطنية “العريضة” مقابل أو معادل من السلع والخدمات الاضافية. وهكذا، تتحرك النشاطات والانتاج والأسواق والعمالة، وتتولد دورة انتاج موسعة جديدة ترفد الاقتصاد وتساعد على تصاعد الاحتياطيات وتمويل الخزينة والموازنة بالمزيد من العملة الوطنية والإيفاء بما سعت الضمانات لتحقيقه، فتقلل من الاعتماد على القطع الاجنبي (الدولار اساساً) وتزيد نسبة ناتج القطاع غير النفطي في الناتج الوطني الاجمالي.
18- أما الشروط، فهي جعل تأسيس المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، الفردية والجماعية، الوطنية والاجنبية ومنح الاجازات والتسهيلات أولوية تتراجع أمامها كل العقبات الشاذة غير المبررة لتكون الفلسفة اولوية الانطلاق وليس الكبح. معوقات كثيرة قانونية وبيروقراطية ومجتمعية وسياسية وفكرية وشكلية داخلية وخارجية، لا تنفع سوى في زيادة الابتزاز والعطل والفساد. والاهتمام بالمخرجات كأولوية ومعيار للنجاح في التعاقدات والأعمال ، ولتوفير المدخلات الضرورية سواء في العقود الحكومية أو المشاريع الخاصة. وحماية الانتاج والمنتجين سواء باجراءات الحماية كلما أمكن ذلك، أو بتشجيع المنتج وترويجه وتقديم المساعدة مادياً وفي السماحات والاعفاءات والدعم، وكل ما يتطلبه الأمر للنجاح في ذلك.
عادل عبد المهدي