1 سالماً مُنَعَّماً”
إبراهيم جابر إبراهيم الغد الاردنية
لو سألت طالباً في الإعدادية، أو حتى رجلاً ناضجاً، الآن، ما شكل علم ليبيا الجديد أو ما اسم الرئيس العراقي الأخير، أو كم محافظة سورية في سوريا؟ فما شكل الإجابة التي قد تحصل عليها!
انقضى الزمان الذي كانت فيه تفاصيل الوطن العربي من دروس “المحفوظات”، فلا تكاد الآن تحفظ اسم رئيس حتى يتغير، وكذا أسماء العواصم قد تتغير بين ليلةٍ وأخرى، وألوان العلَم، بل إن دولة عربية تعيش منذ حوالي سنة بدون رئيس!
صارت الجغرافيا العربية رجراجة، والدول والشعوب تنام على رمالٍ متحركة، فلا ضمانات لمدينة أو لسكّانها أن يعيشوا حتى الصبح، ومن تحت إبط “الربيع العربي”، تتعرض الخريطة العربية لغزواتٍ يومية تحت راياتٍ شتّى، والغزاة يحملون سيناريوهات مفزعة للمنطقة، ولشعوبها.
ذلك الوطن التليد؛ الذي حفظناه عن ظهر قلب في أناشيدنا المدرسية، حملته الزوابع وطيَّرته، لم يبق منه غير حسراتنا عليه، وعلى تلك الدول التي لم تكن تحظى برضانا، حين كنا نريدها وحدة كبرى، وعَلماً واحداً، لكنَّه الآن صار لكل مدينة علمها، وخليفتها، وشعبها العريض، وعاصمتها!
الدولة الواحدة تفتَّتت لدويلات، والجيش تقسَّم لعصابات وجيوش، والحكومات تشظَّت لمجالس حرب، أمَّا الشعب؛ ذلك الذي كان يهتف للوحدة آناء الليل وأطراف النهار، ويخطِّطُ لها، سرّاً وجهراً، فهو الآن الذي يهتف للطائفة وللعشيرة وللحزب وللحارة الفوقا والحارة التحتا!
الناس انفلتوا من عقالهم وإنسانيتهم، واندفعوا يأكلون بعضهم، في جملةٍ من الحروبٍ التي لا معنى لها ولا هدف، ولم تنشب من أجل قيمة وطنية أو قومية أو دينية مخلصة، بل هي عودة لأزمنة الغزو، والقبائل التي تطيح بخيام بعضها كلما جنَّ الليل، كأنَّ سعار السلطة قد أصاب الجميع، لا قيمة الآن للوطن ولا أحد يرفع اسمه، ولا أحد حتى يزعم أنه يريده سالماً.. أو منعَّماً!
المعمار التاريخي والجغرافي الذي عرفناه لعقود طويلة باسم “الوطن العربي”، جرى تفكيكه وهدمه، وسواء كنت راضياً عنه قبل ذلك أو لم تكن، فقد كان له شكله الثابت، والمستقر، حتى لو كان مستقرّاً على نحوٍ سيئ!
ندخل الآن في عصر من العدمية وإهدار القيم، لا قيمة للإنسان أو للوطن أو البلد أو الدين، فضلاً عن الرموز التي يجري دوسها، فمن يدوس رأس جاره لن يتورَّع عن دوس العلم، كل شيء تعرض للامتهان، وكل شيء جاهز للسطو أو للبيع، وكل شخص جاهز لأن يكون قاتلاً أو قتيلاً!
لسنواتٍ طويلةٍ مقبلة لن يعود “الوطن العربي” لتلك الحالة المستقرة التي شجبناها طويلاً، ولن ينتظم حتى في حربٍ واضحة، ولن يقف على جبهة مفهومةٍ، والشعوب التي ثارت على طاغيةٍ معروف ومعلوم الوجه، صار لها طاغية في كل مدينة، منهم المعلوم ومنهم المتخفّي، ولكل واحدٍ برنامجه ومرجعه هنا أو هناك.
لم يربح في الحرب أحد.
خسرها القومي واليساري والبعثي والشيوعي والديني والليبرالي والسلفي وخسرتها الحكومات وخسرها الناس الطيبون البسطاء. وفي الأثناء خسرنا تلك الخريطة التي حفظناها طويلاً، .. وها نحن نعود الى “ما قبل الخريطة” و”ما قبل الدولة”.
2 أدوية قديمة جديدة
إبراهيم العمار
الرياض السعودية
لما اكتشفنا ألواحاً طينية عليها كتابات في العراق، طرب العلماء. إنها من آثار الحضارة السومرية التي سكنت هناك قبل 5500 سنة. سنرى الآن كيف كانوا يعيشون، معلومات مباشرة من خط أيديهم. ماذا عرفنا عنهم يا ترى؟ مما عرفناه أنهم كانوا يعانون من ألم البطن.
قد تستغرب من ذلك وتتوقع أن يسجلوا أشياء أهم من ذلك كأمور الحرب والسلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغير ذلك، لكن وجع البطن كان مشكلة بالغة الانتشار حتى فرضت نفسها، ويزول التعجب لو عرفنا أن من أسباب ذلك أنهم لم يطبخوا الكثير من طعامهم، فامتلأت المعدة بلحوم نيئة، ولم يكن شيئاً يتعود عليه الجسم، وكانت الأوجاع قوية حتى إنها اضطرتهم أن يعبّروا عنها في كتبهم (ألواحهم) كما ترى، والتي أتى فيها ما فعلوه ليداووا عسر الهضم، وفيها أول ذِكر لمضادات الحموضة، وكان مما يستخدم للتخفيف الحليب وأوراق النعناع والكاربونات. مما دونه الأطباء السومريون أنهم اكتشفوا عن طريق التجربة والخطأ أن المواد القلوية تضاد الطبيعة الحمضية للمعدة، وهو مبدأ مشابه عموماً لآلية عمل مضادات الحموضة الحديثة، وأهم اكتشافاتهم بيكربونات الصودا، وهي مادة استمرت قروناً تستخدم لمشكلات المعدة حتى فترة قريبة.
أمر يثير الإعجاب، وقد كان لدى الأسبقين علوم وعقول، فإذا أوجعت الكحة حلقك فمن الشائع أن تضع في فمك أقراص السعال، تلك الحبوب المحلاة، وعليك أن تشكر قدماء المصريين. العام 1000 قبل الميلاد صنعوا أول عينات معروفة منها، فاكتشفوا نباتات تلطف السعال، وأخذوا تلك الأعشاب وخلطوها مع العسل والتوابل والفواكه الحمضية، واستمروا في تحسين الوصفة شيئاً فشيئاً، ومن جودة عملهم وبراعتهم فإن وصفتهم في تلك الحلوى الدوائية قريبة جداً من أقراص السعال التي نستخدمها اليوم.
تحية للأقدمين، عباقرة!
3 يا سيوف خذيني»!!
طلال القشقري
المدينة السعودية
قبل قيام الثورة الخمينية في إيران (١ إبريل عام ١٩٧٩م) كانت العلاقة بين السُنّة والشيعة علاقة طبيعية، داخل إيران نفسها وفي الدول العربية التي يكثر فيها الشيعة، مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن، بل إنّ أنجح الزواجات كانت تلك التي تحصل بين أبناء وبنات الطائفتين كما لو كانت من الطائفة الواحدة!.
وما إن جاء الخميني بدستوره الذي أعلنه في كتابه «الحكومة الإسلامية» حتى تغيّر الحال بالكُلّية، وبدأت الكراهية تظهر بين الطرفين، وحوّلت إيران التشيّع المذهبي إلى تشيّع سياسي لا يهتم بحياة سُنّي أو شيعي بقدر ما يهتم باستغلال ورقة التشيُّع لبثّ الفُرْقة بين أبناء الوطن الواحد، من أجل الهيمنة على إيران ثمّ العالمين العربي والإسلامي!.
والوقت الحاضر قد يكون شاهداً على ذروة ما تنشره إيران من شرور، وقد هجّرت هي وأعوانها من الميليشيات والوكلاء والأنظمة المُوالية لها أكثر من ١٠ ملايين سوري من بلدهم وقتلت نصف مليون، وتحكّم حزبها في لبنان في مفاصل الدولة اللبنانية حتّى صار هو الدولة ولبنان هو الدويلة، وغامرت بمصير ومُقدّرات لبنان حتّى تدمّر اقتصادُه، ومكّنت لميليشياتها في العراق ففتكت بالآلاف ونشرت الفساد والفتنة، وأشعلت فتيل الحرب الأهلية في اليمن وحوّلت الحوثيين من مذهب الزيدية لمذهب الاثني العشرية وجعلتهم أعداء وقراصنة لجيران اليمن، ويعربدون في اليمن غير السعيد!.
ثمّ ها هو رئيسها حسن روحاني يفتتح خطابه في الجمعية العامّة للأمم المتحدة قبل أيام باسم الثورة الحسينية الخالدة ضدّ الطغاة، وباسم الضحايا الأبرياء ضدّ الجُناة، وما الطغاة وما الجُناة إلّا هو ومرشده الأعلى وحرسه الثوري، ولا أظنّ الأمّة الإسلامية اُبْتُلِيت بأشدّ من بلائها بإيران، وهي الشرق الذي يأتي بالفتنة، وتعمل بهمّة شيطانية كي تأتي الفتنة أيضاً من الشمال والجنوب والغرب، ولا ننسى الصواريخ مع الفتنة!.
أمّا الحسين رضي الله عنه، فلم يكن ثورياً، ولا طاغياً، ولا جانياً، ولا قاتلاً لأحد، ولا مُهجِّراً لأحد، ولا مُشْعِلاً للحروب، ولا مُطلِقاً لصواريخ، بل كان أمّة من العبادة الخالصة لله، والسلام، والسكينة، والتضحية، وإيثار الغير على النفس، وهو بذلك أكثر الأخيار استغلالاً من قبل الأشرار، وإن كان قد اُسْتُشْهِد مرّة واحدة فإنّ إيران تقتله اليوم مئات المرّات بربط ثورتها البغيضة باسمه المُشرّف، وهي حادت عن دين محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأعملت سيوفها الفارسية فيه، متجاهلين مغزى قول الشاعر على لسان الحسين قبل استشهاده:
إن كان دين محمّد لم يستقم.. إلا بقتلي يا سيوفُ خذيني!.
4 «صديق العرب» الذي وقف في وجه بوش
افتتاحية المدينة السعودية
برحيل الرئيس الفرنسي جاك شيراك، أمس الأول الخميس، عن 86 عامًا، يكون البلد الأوروبي قد فقد واحدًا من قادته الكبار، مثل فرانسوا ميتران وشارل دوغول، لكن شعبية الراحل لم تنحصر في الداخل، لأنه أقام علاقات مميزة مع الخارج وعرف بمواقف «إنسانية» ثابتة.
ويعد جاك شيراك من رموز اليمين الفرنسي، وكان من أعضاء حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، وهو حزب يصنف ضمن يمين الوسط، أي نفس التنظيم السياسي الذي ترأسه نيكولا ساركوزي.
وأقام شيراك الذي توفي في العاصمة باريس، علاقات هادئة مع الخارج، وعرف بحرصه على استقلال السياسة الخارجية لبلاده، وأبدى رفضًا صريحًا لقضية غزو العراق من قبل الولايات المتحدة في 2003. وحين سئل شيراك في مقابلة تلفزيونية عن سبب رفضه للحرب على العراق، فيما كان الرئيس الأميركي، وقتئذ، بوش الابن، يمارس ضغوطًا كبرى، أجاب الراحل: «أنا أقول الحقيقة، وذاك ما يفعله الصديق».
ويقول متابعون، إن ما حذر منه شيراك هو الذي حصل في وقت لاحق، لأنه حذر من مغبة تغول الإرهاب في حال غزو العراق، ووصف خطوة الحرب بـ»الخطيرة جدًا». وهذا الأمر أدى إلى فترة من الفتور في علاقات باريس وواشنطن، ولم تستعد هذه الأخيرة بعض الدفء إلا حين جاء الرئيس نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه.
أما في العلاقة مع لبنان، فعُرف شيراك بقربه من رئيس الوزراء اللبناني المغتال رفيق الحريري، وكان الرئيس الفرنسي الراحل، من بين من قصدوا بيروت لأجل تقديم العزاء سنة 2005.
وفي القضية الفلسطينية، أبدى شيراك الذي يوصف بـ»صديق العرب»، موقفًا وُصف بأنه «غير معتاد» من قبل الحكومات الغربية، ودافع عن الحقوق الفلسطينية، حتى وإن كان قد أكد على عمق العلاقة بين باريس وتل أبيب، وذاك مفهوم بحسب متابعين، لأنه ما من رئيس فرنسي يتولى منصبه إلا ويؤكد حرصه على أهمية الأمن الإسرائيلي.
أما المغرب، فكان وجهة مفضلة لشيراك، منذ سنوات طويلة، وأصبح الراحل شخصًا معروفًا في منطقة تارودانت جنوبي المملكة، حتى إن هناك من وصفه بـ»شيراك الروداني». وظل شيراك يزور صديقه المغربي المسن، الحسين إبه، وهو شخص بسيط، طيلة سنوات، وكان يطلب منه دائمًا أن يحضر له الشاي المغربي الأخضر بالنعناع، وثمة صورة يقف فيها الاثنان أمام عدسة الكاميرا بكثير من التلقائية.
5 رحيل شيراك أوروبا والعرب وأفريقيا
جبريل العبيدي
الشرق الاوسط
رحل الدكتور والحكيم شيراك كما كان يسميه الراحل ياسر عرفات، وكان دائم الاتصال به طلباً للمشورة، شيراك الذي نهر رجال الشرطة الإسرائيلية المرافقين له ووبَّخهم في زيارة القدس، حين حاولوا منعه من الحديث مع الفلسطينيين.
شيراك الرجل الذي قال لأميركا «لا» في حرب العراق بلسان وزير خارجيته: «من دولة عجوز ومن قارة عجوز أقول لكم لا للحرب على العراق»، شيراك الذي حاول تخفيف ديون القارة الأفريقية عبر عدة مبادرات، جعلت منه صديق أفريقيا.
كان شخصية استثنائية فرنسية من جميع الأوجه السياسية والاجتماعية بل والثقافية، فالرئيس المثقف والرئيس الشاعر، فالثقافة كانت على رأس اهتماماته في شبابه عكس رجال عصره، حيث كان يخفي كتب الشعر والأدب خلف مجلات بلاي بوي، وليس العكس كما كان يفعل أقرانه، كما قالت زوجته، التي كانت هي الأخرى زوجة غير تقليدية، بل تركت بصمة في حياته وفي سياسة فرنسا، وإن كانت تسببت لشيراك في إدانته في قضية الوظائف الوهمية التي أدين فيها وحكم بسنتين سجناً مع وقف التنفيذ لكبر سنه، وإن كانت تلك القضية لم تؤثر في شعبية الرئيس الراحل.
شيراك الذي أطفئت أنوار برج إيفل، ونكست أعلام الجمهورية الفرنسية لرحيله، هو صديق العرب، لدرجة وصفه البعض بشيراك العرب، فهو الذي رفض حرب بوش على العراق في 2003. وثبتت صدق رؤيته في الانفلات الأمني وكارثة ما حدث بعدها في المنطقة، فشيراك هو الرئيس الفرنسي الأوحد بعد ديغول، الذي يقف نداً للأميركيين، بل وهدَّد في أكثر من مرة باستخدام الفيتو ضد قرارات تناصرها الولايات المتحدة.
لقد كان أول رئيس يعترف ويعتذر عن الحرب النازية، فشخصية شيراك كانت تتوازن بين شخصية الرئيس وهيبته وتواضعه وقربه من الناس، إذ كان صاحب شخصية تكتسح الشعبية المجتمعية كالبلدوزر، كما كان يصفه أغلب من تواصل معه أو جمعه اللقاء به.
لقد كان شعبياً مع الشعب، خصوصاً سكان دائرته الانتخابية التي أعطته صوتها نائباً لأكثر من 18 عاماً، حيث كان يحرص على الحديث والتواصل والاستماع إليهم؛ كبيرهم وصغيرهم، صفات يصعب أن تجدها عند سياسيي فرنسا اليوم، بل وحتى الأمس، منذ زمن غطرسة ماري أنطوانيت إلى زمن غطرسة وصلف ساركوزي، الذي وإن كان يردد أن لشيراك فضلاً كبيراً عليه، فإن نيكولا ساركوزي قد طعن معلمه وصاحب الفضل عليه.
رحيل شيراك جمع الفرنسيين أصدقاء وخصوماً على مديح الرجل، فبرحيله أصبح جزءاً من تاريخ فرنسا، وخسر الفرنسيون رجل دولة وأوروبياً عظيماً، شيراك «رجل فرنسا الأعظم» كما وصفه الحريري الابن، ليعبر عن افتقاده الأخ الأكبر له صديق لبنان، وصديق والده المغدور رفيق الحريري.
كلمات مديح رددها كثير من ساسة العالم لوصف جاك شيراك، الذي لم يكن قديساً، بل كان ثعلباً في السياسة ولم يخلُ ملفه من الاتهام بل الإدانة بالفساد، وإن كان في حجم مرتبات وظائف حكومية لا تتجاوز المليون يورو، مقارنة بمليارات الفساد اليوم في بلدان الخريف العربي، ومنها ليبيا التي ينهبها الجميع بالمليارات.
شيراك الذي يصفه بعض العرب بـ«شيراك العرب» كان يرى الجزائر «فرنسية» في صغره، وسعى للعمل التطوعي في المستعمرة الفرنسية، ليؤكد عقيدته «بفرنسية» الجزائر، وهذا أمر يؤخذ على شخصيته، التي وصفت فيما بعد بأنها عروبية الهوى. وإضافة إلى ذلك لم يتردد في التأكيد على أمن «إسرائيل». وعلى رغم هذا، فإن مواقفه في عهده الرئاسي، كانت في عمومها ليست ضد العرب وأفريقيا، وبالمقابل لم تكن ضد إسرائيل، فشيراك كان يحاول التعاطي بحالة من التوازن، من دون الاصطفاف في سياسة المحاور.
إنه شخصية استثنائية، في عالم السياسة، فهو السياسي «العصامي» الذي انطلق من الصفر، فليس شيراك وريثاً لإرث عائلي سياسي، لكنه حمل التواضع والتسامح مع العظمة والرفعة في شخصيته وتصرفاته.
وهكذا رحل بلدوزر السياسة الفرنسية جاك شيراك الاشتراكي الهوى والثعلب السياسي والسياسي المتواضع، الذي استطاع بموته جمع الفرنسيين؛ اليمين واليسار للحزن عليه، وعلى مدح تاريخه الغني بالأحداث.
6 يشعلون الحرائق ويتحدثون عن الأمل! راجح الخوري
الشرق الاوسط
كان استقبالاً فاجعاً ذلك الذي لاقاه الرئيس حسن روحاني في نيويورك، ليس لأن الحكومة الأميركية فرضت قيوداً على تحركاته، وهو ما سبق أن تم فرضه على فيدل كاسترو مثلاً عندما ذهب إلى الأمم المتحدة، بل لأن الشرعية الدولية أجمعت خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، على تظهير موقف عالمي يدين إيران ويقف وراء الرئيس دونالد ترمب في سياسة الضغط على النظام الإيراني.
ليس خافياً أن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، خططا قبل الوصول إلى الولايات المتحدة، التي ماطلت في إعطائهما تأشيرة الدخول، تأكيداً على أن ترمب ليس متهافتاً على لقاء روحاني، كما سبق أن فعل باراك أوباما عام 2015، خططا لإظهار إيران في موقف إيجابي، عبر مناورتين مكشوفتين تماماً، وصفهما أحد الدبلوماسيين الأجانب بأنهما من النوع المثير للسخرية!
الأولى أن روحاني قال عشية سفره إنه يحمل مبادرة لأمن الخليج، ولم يتردد في أن يطلق عليها اسم «الأمل»، رغم انقطاع أمل دول العالم بأن إيران يمكن أن تخرج من جلدها السياسي المثير للقلاقل والمزعزع للاستقرار. وكان واضحاً أن روحاني اختار منبر الأمم المتحدة للحديث عن الأمن والأمل، رغم معرفة دول العالم كله، أن الأمر لا يحتاج إلى مبادرات خيالية، بل إلى وقف تدخلات إيران السلبية ضد دول المنطقة، منذ رفعت شعار «تصدير الثورة» الذي بدأ بالحرب مع العراق [1980 – 1988].
عندما يقول روحاني إن أمن الخليج يأتي من الداخل وأمن مضيق هرمز يأتي من الداخل، فإنه يقصد طبعاً «الداخل الإيراني»، الذي يحاول أن يفرض هيمنته الإقليمية عبر زعزعة الاستقرار وإشعال الحرائق، والغريب أن حديثه عن مد يد الأخوة والصداقة وهو ما سماه مبادرة «الأمل»، يأتي قبل أن ينجلي دخان الحريق، الذي نتج عن العدوان الإيراني على منشأتي أرامكو في بقيق وخريص، وفي وقت تتصاعد الإدانات الدولية التي اعتبرت أن الهجوم يستهدف دول العالم والاستقرار الاقتصادي العالمي.
عندما كان روحاني يتحدث عن «الأمل»، كان محمد جواد ظريف يواجه استهجان الصحافيين في الأمم المتحدة، ليس لأن الحديث الإيراني عن إقامة تحالف الأمل، بدا وكأنه رد على مساعي الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إقامة حلف دولي من خمسين دولة لحماية الأمن وإمدادات النفط في الخليج، بعد مسلسل الاعتداءات الإيرانية على الناقلات، بل لأن معظم الدول التي قال إنها يمكن أن تتحالف مع طهران، تتعرض عملياً، للتدخلات التخريبية الإيرانية، كالعراق والسعودية والبحرين والإمارات وعمان والكويت وقطر واليمن.
لا تقف حدود السخرية من الحديث عن مبادرة «الأمل» الإيرانية عند حدود مزاعم المسؤولين الإيرانيين، أن بلدهم هو مركز الاستقطاب الإقليمي، وأنهم يسيطرون على أربع عواصم عربية وهي بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت، ولا لأن ذلك اقترن في الوقت عينه، بتصريح المبعوث الأميركي الخاص بريان هوك، عن أن واشنطن ترفض العقلية التي تتبعها إيران في المنطقة، وأن طهران تتحدث دائماً عن الدبلوماسية وتقوم بالإرهاب، وأن آخر عملياتها الإرهابية الهجوم على أرامكو، بل أيضاً لأن إمام مدينة مشهد كان في الوقت عينه يقول كلاماً مناقضاً كلياً لروحاني وظريف ولكل ما له علاقة بالأمل.
فقد أعلن آية الله أحمد علم الدين عضو مجمع الخبراء المُكلف تعيين المرشد والإشراف على عمله وحتى إقالته، أن مساحة إيران هي أكبر من حدودها الجغرافية لأن الفصائل المسلحة التي تدعمها إيران في الشرق الأوسط هي جزء من إيران، ولهذا كان السؤال مشروعاً تماماً:
عن أي صداقة وأخوة وأمل يتحدث روحاني عندما يخاطب علم الدين المملكة العربية السعودية بالقول «هل تعلمون أين تقع إيران أليس جنوب لبنان إيران، أوليس (حزب الله) إيران، جنوبكم وشمالكم إيران»؟، مؤكداً أن «الهجوم على أرامكو جاء من الشمال، وأن إيران اليوم ليس فقط إيران، ولا تُحدّ بحدودها الجغرافية فـ(الحشد الشعبي) في العراق إيران، و(أنصار الله) في اليمن إيران، و(قوات الدفاع الوطني) في سوريا إيران، و(الجهاد الإسلامي) و(حماس) في فلسطين إيران».
ويتحدثون عن «الأمل»؟!
أما الموضوع الثاني الذي حمله روحاني، فكان مجرد محاولة مكشوفة للالتفاف على عقوبات ترمب، هدفها إغراقه في مفاوضات هامشية خادعة وسطحية لكسب الوقت، في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية، فقبل أن يلقي روحاني كلمته في الأمم المتحدة، قال متحدث باسم حكومته إن طهران مستعدة لتقديم تطمينات، بعدم سعيها لامتلاك أسلحة نووية ولقبول تغييرات بسيطة على الاتفاق النووي المبرم، هذا إذا عادت واشنطن إلى هذا الاتفاق ورفعت العقوبات، وكان واضحاً تماماً أن التعديل الإيراني المقترح يدعو، أولاً إلى إذعان الولايات المتحدة ورفع العقوبات ثم الحديث عن التعديلات البسيطة المشار إليها!
لكن الأمور كانت في مكان آخر تماماً، عشية كل هذه المناورات الإيرانية، عندما وقفت الدول الأوروبية وراء الرئيس ترمب ضد إيران، فقد توافق إيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل وبوريس جونسون، مع وصول روحاني إلى نيويورك، على تحميل إيران مسؤولية الهجوم على أرامكو، ودعوا طهران إلى تغليب خيار الحوار على الاستفزاز بما يعني في وضوح أن الاستفزاز يأتي من إيران.
البيان المشترك عن محادثات الزعماء الأوروبيين الثلاثة، دعا إيران إلى الانخراط في الحوار ووقف الاستفزاز والتصعيد وأنه «حان الوقت لإيران كي تقبل بإطار مفاوضات طويل الأمد حول برنامجها النووي، وأيضاً حول على القضايا الأمنية الإقليمية، والتي تشمل برامجها الصاروخية».
وهكذا من الواضح أن هذا البيان، يتبنى الموقف الأميركي المعروف، الذي سبق أن حدده وزير الخارجية مايك بومبيو، عشية بدء العقوبات في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، في النقاط الـ12، التي يجب على إيران الالتزام بها، ولعل ما يزيد من إحباط روحاني، ما نقله الصحافيون الذين رافقوا ماكرون الذي يقوم بالتوسط بين واشنطن وطهران، من أنه قال بالحرف: «أنا لست متزوجاً من خطة العمل المشتركة الشاملة»، وهو الاسم الذي يطلق على الاتفاق النووي لعام 2015.
في نيويورك أخذت الأمور اتجاهات متناقضة، ليس لأن ترمب بدا حازماً أكثر عندما رفض وساطة ماكرون، قائلاً «ماكرون صديقي لكننا لا نبحث عن وسطاء»، بل لأنه بعد الاجتماع بين ماكرون وروحاني يوم الثلاثاء لمدة ساعة ونصف الساعة، خرج الرئيس الفرنسي، ليعلن أنه يعتقد بأن الظروف باتت مهيأة لإجراء حوار بين الولايات المتحدة وإيران، لكن الصحف الأميركية أشارت صباح الأربعاء، إلى أن ماكرون بذل جهوداً كبيرة لعقد اجتماع، لكن محاولته واجهت الفشل بسبب تمسك الجانب الإيراني، بأن تبدأ أميركا أولاً برفع العقوبات كشرط للقاء، وهو ما اعتبره ماكرون إضاعة الإيرانيين فرصة للحلّ.
كان واضحاً تماماً أن ترمب الذي ذهب كل هذا الطريق في العقوبات لن يقبل التراجع عن موقفه، ولهذا لم يكن مفاجئاً أن يعلن بومبيو يوم الأربعاء أن إيران هي المعتدية على أرامكو، وهي التي تبث الفوضى عن طريق دعمها للحوثيين والأسد وميليشيات شيعية في العراق وأنها لا تستجيب بالتالي إلا للقوة.
وفيما بدا أنه تعليق على خطاب روحاني في الأمم المتحدة قال بومبيو «إنه بائس، إيران تكذب عندما تزعم أنها هزمت الإرهاب»، وأن الدبلوماسية الأميركية لفتت انتباه المجتمع الدولي إلى خطر إيران على السلم العالمي، وتأكيداً على سياسة ترمب المضي في الضغط أعلنت واشنطن الأربعاء عن إرسال مزيد من قواتها إلى المنطقة لدعم السعودية، واتخذت عقوبات جديدة على شركات صينية بتهمة نقل النفط من إيران!
7 عربي الإليزيه
سمير عطا الله
الشرق الاوسط
عندما أغارت إسرائيل في 5 يونيو (حزيران) 1967 على مصر وسوريا، بطائرات الميراج الفرنسية، اعتبر كثيرون ذلك نصراً للصناعة الفرنسية. الرئيس شارل ديغول رأى فيه خديعة لفرنسا، وفرض حظراً على بيع الأسلحة إلى تل أبيب.
كان موقف ديغول أهم تغيير في السياسة الفرنسية والأوروبية منذ موقفه بإنهاء الحرب الجزائرية العام 1962. في تلك الحرب، كان جاك شيراك ضابطاً برتبة ملازم ومنتمياً إلى الحزب الشيوعي، يتطوع لبيع صحيفته في شوارع باريس. انضم السياسي الشاب إلى الحزب الديغولي ليصبح أطول السياسيين أمداً في مواقع الدولة؛ رئيساً طوال 12 عاماً، نائباً ووزيراً ورئيساً للوزراء ورئيساً لبلدية باريس طوال 20 عاماً.
مثل ديغول، اعتمد شيراك سياسة مؤيدة للعرب. ساعد العراق في بناء مفاعلها النووي الذي دمرته إسرائيل. ورفض الانضمام إلى الولايات المتحدة في حرب جورج دبليو بوش على العراق، قائلاً عشية الحرب: «إنني أقول لأصدقائي الأميركيين؛ احذروا وتنبهوا. فكروا في الأمر جيداً قبل القيام بخطوة غير ضرورية، وقد تكون شديدة الخطورة؛ خصوصاً في الحرب على الإرهاب العالمي». وأطلق جملته الشهيرة بأن الحرب «سوف تفتح أبواب الجحيم».
أدّى موقفه إلى حالة نادرة في فرنسا، 90 في المائة من الشعب وقف خلفه، وهي نسبة لم تعرفها البلاد منذ أول إحصاء رسمي العام 1932. يا للقدر الغريب. مثل ديغول، كانت لشيراك ابنة تعاني من حالة نفسية. وفيما كان يخرج، بشخصيته المحببة لمصافحة الجموع، كان قلبه يعتصر على حال ابنة معذبة في نفسها.
أقرب مسافة رأيت فيها صاحب هذه الشخصية الكاريزمية كانت في الأمم المتحدة خلال مؤتمر صحافي ملأه بالشجاعة والأناقة والحبور والحديث عن بصّارة فرنسا الشهيرة «مدام سولييه». في السنوات الأخيرة، صار سهلاً على أي كان، أن يرى جاك شيراك في مقهاه المفضل في حي السان جرمان. وحيداً، تائه النظرات، يمارس الهواية الفرنسية الأولى؛ قراءة وجوه الناس، ومعه صديق دائم ورفيق عمره.
يتفرق الخلان في كل الأزمنة وكل الأمكنة. يتعب الأصدقاء ويبحثون عن أصدقاء جدد. وتتعب الذاكرة وتتعب الحياة. ويصبح مألوفاً أن ترى الرجل المعروف بـ«البولدوزر» وقد أصبح على عصاه. لا أحد يريد إزعاجه. وقليلون يعرفون من هو، في الأساس. كان له ألق وهالة وحضور. وبعدها كان على فرنسا أن تعتاد على نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند. ولعلها تعود الآن إلى المشاركة في صنع التاريخ. هذا ما يعد به إيمانويل ماكرون.