1 الأحزاب الدِّينية.. ألا يُؤخذ العراقيون رهائنَ رشيد الخيّون الاتحاد الاماراتية
يحاول أي نظام محاصر، يجد طبول الحرب تُقرع على مسافة منه، أن يدفعها بعيداً، فكيف إذا كانت عقيدة ذلك النِّظام تصدير الفكرة والثَّورة؟! هذا ما تفعله إيران، حيث تأسيس قطاعات لحرسها الثَّوري، والعراق أكثر البلدان التي نبتت فيها الميليشيات، وأفضل ما فيها بالنسبة لإيران أن جنودها عراقيون. فمِن حقها (العقائدي) أن تُقاتل بآخر عراقي، لأن القتال غرضه حمل «الرِّسالة الإلهية». لأن القوات الإيرانية، والميليشيات جزء منها، لا تلتزم «بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أعباء رسالتها الإلهية، وهي: الجهاد في سبيل الله والنِّضال مِن أجل أحكام الشَّريعة الإلهية في العالم» (دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الجيش العقائدي)، ركزوا على مفردة «العالم»! تُختم الفقرة الدستورية بالآية: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ…»(الأنفال: 60). فهل هذا دستور دولة وطنية أم بيان حربٍ عالمي؟!
ووفق الحاكمية التي تمثل العقيدة الدينية الثَّورية الإيرانية، أن أعباء «الرّسالة الإلهية» تكون وفق «ولاية الفقيه»، و«الجهاد في سبيل الله» تحت رايته، وعلى هذا يُشير قادة الأحزاب الدينية خارج إيران إلى علي خامنئي بلقب «ولي أمر المسلمين»! وبالمقارنة، لا يختلف النص الدستوري الإيراني عن بيانات الجماعات التي أعلنت «دولة الخلافة»، ومبايعة أمير مؤمنيها بالموصل.
ترى إيران الإسلامية إيجاد الميليشيات والأحزاب العقائدية، على أرض غيرها، ممارسة دستورية، لكن الآية التي استشهد بها الدستور الإيراني (الأنفال: 60)، هل وُقف على أسباب نزولها، وبمَن نزلت ولأي حدث، وفي أي زمن؟! وفق تفاسير شيعية لا غيرها: كـ«التبيان في تفسير القرآن» لمحمد بن الحسن الطُّوسي (ت460هج)، و«مجمع البيان في تفسير القرآن» لفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548هج) مثلاً. نزلت في وقت كان الإسلام يسعى للتأسيس، لكن توظيف هذه الآية، في هذا الزَّمن، لا يعني غير تحقيق «الحاكمية»، أي جعل القرآن وسيلة لبلوغ هدف سياسي، وما تسمية الولي الفقيه بـ «ولي أمر المسلمين» إلا استهلالاً لتطبيق الفكرة.
يُعتبر وجود فروع للحرس الثَّوري، خارج إيران، أمراً شرعياً وفق «الحاكمية» بنسختها نيابة الإمام، وبالتالي نيابة الله. بالمقابل أن تلك الفروع لا ترى في ترجيح انتمائها الإيراني على الانتماء الوطني خارجاً عن الشَّرع الذي تعمل وفقه، فالولي واحد، وهي تُحارب تحت قيادته، مِن على أرض أوطانها، مِن أجل «الشَّريعة الإلهية» بمفهوم الولي. تبين ذلك مِن دفاعها عن النظام الإيراني، في الصغيرة والكبيرة، حقَّاً وباطلاً.
ما يخص العِراق، اتضح أن هذه القوى المسلحة، والأحزاب الدينية عموماً، لا يهمها أمر العراق بشيء، منها الذي طالب بدفع خسائر الحرب لإيران، وليس بعيداً أن إيران قد استوفتها عبر طرق ملتوية. غير أن أخطر ما ستقدم عليه هذه القوى سيكون في المواجهات بين إيران وأميركا. فقبل ذلك كانت مهمتها بتنفيذ شعار المقاومة على الأميركان (2003-2011)، ومنها تبني اغتيال الكادر العراقي غير المنسجم مع إيران، في شتى المجالات، وعلى وجه الخصوص المجال العسكري، لانتهاز فرصة خروج الجيش الأميركي، كي يُفسح المجال لإيران في التفرد بالوضع العراقي، وهذا ما حصل. ما بعدها صارت المهمة الإيرانية العمل على عدم السَّماح باستقرار العراق، لأن العراق غير المستقر يبقى حديقةً خلفيةً لها، تزرعها وتحصدها كيف تشاء.
مَن قال خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988): «إذا قال الإمام (الخميني) حرب يعني حرب وإذا قال سلم يعني سلم» (يوتيوب)، وآخر كُلف بعمليات إرهابية ضد مصالح العراق والدول التي ليست على وفاق مع إيران وغيرهما كثير يُعدون الآن مِن كبار قادة فروع الحرس الثوري داخل العراق، وهم لا يعبئون، إذا حصلت المواجهة، جعل العراقيين رهائنَ ومتاريس، دفاعاً عن «الجمهورية الإسلامية»، مثلما ينطقونها من دون الإيرانية، على أن العراق جزءاً منها. وبهذا، يصعب فرز موقف عراقي داخل الميليشيات، بل والأحزاب الدينية، فالذي يطلع على خطاب تلك الجماعات والأحزاب، في هذه الأزمة، يجده إيرانياً.
أقول: كي لا تُعيد أميركا خطأها الفادح عندما أسقطت النظام العراقي قبل دراسة ما سيكون لإيران مِن فائدة عظمى، عليها إذا كانت جادة بتصحيح خطأها بحقّ العراقيين، تنظيف العراق مِن قطعات الحرس الثَّوري أولاً، وهي الميليشيات التي غطت (انتصاراتها) على الجيش العراقي في مواجهة «داعش»، والفعل الأكبر كان له، حتى أنها في العديد من المناطق كانت عامل عرقلة، فاستخدمت إيران فتوى «الجهاد الكفائي» لتحقيق ما يكون قريناً لحرسها الثوري، فما كان الولي الفقيه حريصاً على شرعية الميليشيات عند مقابلة المسؤولين العراقيين إلا لتأسيس جيش موازٍ، أمره بيده.
إذا بقي للعراق ركن سالم، بعد ما مرَّ به مِن حوادث جسام، فهذه الحرب إذا جرت على أرضه دفاعاً عن إيران، لن يبقى منه شيء. لمحمد صالح بحر العلوم (ت1992) مِن «واحسرتها على العِراق»: «الشَّعبُ يسألكم غداً عن حقهِ/ألديكمُ عذرٌ يُسكته غداً/ رحماكِ قد ماتَ العِراقُ وأهلُه/ لبستُ له ثوبَ الكآبةِ أسوداً/فتداركي الخطر الذي مِن شرَّه/سيكون مُقتبل البلاد مهدداً»(شعراء الغري). خطر ما بعده ولا قبله خطر عندما يصبح العراقيون رهائن كقرابين لإيران!
2 الخليج بين الحرب والسلام!
نبيلة حسني محجوب المدينة السعودية
دولة واحدة مارقة أي خارجة عن القوانين والأعراف الدولية وقيم حسن الجوار واحترام المشتركات بينها وبين جيرانها، أحدثت كل هذا التوتر والاستنفار في المنطقة العربية، أصبحت منطقة الخليج العربي في مواجهة شرور إيران المارقة، فإما الحرب أو اللا حرب، وبينهما مساحة تشتعل فيها التوترات والمخاوف والتكهنات، أحد أهم أهداف إيران لزعزعة الأمن والاستقرار في خليجنا العربي، أم أن السلام الهدف الذي تسعى إليه دول الخليج وكل دول العالم المتحضر بعد ويلات الحروب التي أنهكت العالم، هو الذي سيصد تنمر إيران؟
إيران تسعى إلى إشعال فتيل الحرب بكل إصرار، مدعية أنها لا تريد حرباً ليس لأنها تسعى إلى السلام بل لأن قوتها تصد أي دولة من التصدي لها حتى أمريكا!!، هذه الغطرسة جاءت على لسان وزير خارجية إيران لوكالة الأنباء الإيرانية «إيرنا» حرفياً: « طهران لا تريد الحرب كما أنه لا توجد دولة لديها فكرة أو وهم القدرة على مواجهة إيران».. هي هذه النظرة الاستعلائية التي تنظر بها إيران إلى الآخرين، بينما تسعى السعودية ومن معها من دول الخليج للمَ الشمل وترسية قواعد السلام في الشرق الأوسط من خلال المبادرات والمؤتمرات والوساطات كلما نشب خلاف ينذر بنشوب حرب في دولة عربية أو إسلامية، هكذا نجحت وساطة المملكة في وقف الحرب الأهلية اللبنانية فيما عرف باتفاق الطائف،30 سبتمبر 1989م، وأنهت وساطة السعودية الأزمة التي كادت تشتعل حرباً بين الهند والباكستان، الوساطة في أكثر من أزمة عربياً وإقليمياً، هذا النهج الذي تنتهجه السعودية لأنها دولة سلام، بينما تشن إيران هجماتها عن طريق ميليشياتها أو بحراً تستفز الأمن وتلوح بنذر الحرب.
تلك هي القضية التي استدعت إحياء التحالف العسكري الأمريكي الذي نشأ منذ خمسين عاماً ولا يزال قوياً رغم مزاعم التوترات بين السعودية وأمريكا؛ الحرب التي تسعى إليها إيران، بالاعتداءات على السفن في مياه الخليج العربي، أو من خلال الهجوم الإرهابي على خطوط النفط، وقبل ذلك بث ميليشياتها في مناطق التوتر والنزاعات الأهلية، كما حدث في لبنان واليمن، العراق وليبيا، بينما تحاول السعودية تجنيب المنطقة ويلات حرب جديدة تستنزف اقتصادها وجنودها وقدراتها كما حدث في حرب الخليج الأولى حيث دامت الحرب بين العراق وإيران ثماني سنوات متصلة أنهكت اقتصاد دول الخليج مجتمعة، وإيران تخفي خسائرها لكن وضعها الاقتصادي واضح من بؤس مواطنيها الذين نراهم في مواسم الحج والعمرة بعد الثورة الخمينية التي حولت إيران إلى بؤرة صديدية في قلب العالم الإسلامي كافة.
من أجل السلام الذي تسعى إليه السعودية وبعض دول الخليج، ومن أجل صد اعتداءات إيران وافقت السعودية وعدد من دول الخليج العربي، الأربعاء 15 مايو 2019م، «10 رمضان 1440هـ»، على إعادة انتشار القوات الأمريكية في مياه الخليج وبعض المناطق في الدول المشاركة.
لكن السؤال لا زال معلقاً في الحناجر: هل هناك احتمالية حرب تشنها أمريكا ضد إيران بعد أن قامت الأولى بنشر سفن حربية وطائرات رغم تأكيد الرئيس الأمريكي على تجنب الدخول في حرب مع إيران؟ أم أن إيران تعد ميليشياتها لخوض حرب بالوكالة كما نشرت الغارديان؟!
في كل الأحوال الأجوبة على هذه الأسئلة تسفر عنها الأيام، لكن لا زالت المملكة تقدم الأمن والاستقرار والسلام وتصد اعتداءات إيران بالصبر والحكمة لأنها ملتزمة بحماية أمن واستقرار مواطنيها وعدم تأثرهم بالتوترات التي تمارسها إيران.
3 القوى العراقية.. الإجابة غير كافية
مشرق عباس
الحياة السعودية
بيانات معظم الفصائل المسلحة والقوى السياسية حول حادث الاعتداء الصاروخي الأخير على السفارة الأميركية في بغداد، عكست نوعاً من الواقعية السياسية غير المسبوقة في التعامل مع الأزمة التي تهدد بإشعال منطقة الشرق الأوسط برمتها. لكن تلك البيانات، التي ربما جاءت تحت ضغط بعض العقلاء ووساطتهم، لن تكون كافية إلا إذا اقترنت بموقف صريح، يسلم مفاتيح إدارة الأزمة الحالية بالكامل إلى الدولة وممثليها الرسميين.
نقول ذلك، لأن المشهد السياسي العراقي الملتبس، لن يحتمل مزايدات وإعلانات مجانية عن الانغماس في حب الجار على طريقة “الاستعداد للدفاع عن إيران حتى آخر قطرة دم عراقية!”… لم يعد أبداً يحتمل ذلك، وإذا كان بعض قادة الفصائل المسلحة الرئيسيين، الذين دخلوا المجال السياسي وفهموا تفاصيل ومخاطر واعتبارات وتبعات أي سلوك غير منضبط، يحاولون اليوم الانسجام نسبياً مع خطاب الدولة الرسمي، فإن هناك عشرات الفصائل ومئات القيادات التي يتوق بعضها إلى طرح نفسه كبديل محتمل، وصديق أقرب، ولن يتردد في أي خطوة قد يترتب عليها ما يترتب من خسائر في حق العراق وسكانه.
وبعيداً من نحت الجُمل، فإن المطلوب في هذه اللحظة من القوى السياسية العراقية مجتمعة ومن دون استثناء، أن تسلم الممثليات الديبلوماسية والسياسية والأمنية الرسمية في العراق، وبشكل معلن، وعبر إجراءات واضحة، كل ما يتعلق بملف إدارة العلاقات مع الولايات المتحدة من جهة، ومع إيران من جهة أخرى، ومع دول الجوار الإقليمي من جهة ثالثة، بما في ذلك التعهد بعدم التدخل الكامل في الأزمة، ليس على صعيد الامتناع عن التسبب لإيران ذاتها بحرب لا تريدها على طريقة رسائل الصواريخ الأخيرة فقط، بل عدم الإسهام في هذه الحرب مهما كانت أسبابها ونتائجها.
يمكن القول إن اجتماعاً غير معلن رعاه رئيس الجمهورية العراقي برهم صالح أخيراً مع عدد من قيادات القوى السياسية الشيعية الرئيسة، بالإضافة إلى الرئاسات الثلاث، دار حول هذه القضية، وأن المقترح الأساس الذي تم ترداده من النجف إلى بغداد، كان يتعلق بتجنيب العراق الآثار الكارثية لأي مواجهة أميركية – إيرانية متوقعة، سواء عبر منع تورطه (العراق) في كسر العقوبات الاقتصادية، ما قد يعرض اقتصاده الهش لعقوبات أميركية بات التهديد بها معلناً، أم بتجنيب البلاد وقائع الحرب نفسها. لكن هذا التفهم المشترك للأطراف السياسية المختلفة، لن يكون مجدياً إذا لم يرتبط بإجراءات تسمح بقيادة ممثلي الدولة للأزمة من دون العودة إلى “تصحيحات” تلك الفصائل، وأيضاً من دون توقّع صواريخ جديدة تقاطع عملهم!
وبالطبع، يدرك أصدقاء إيران في العراق قبل أعدائها أن سنوات من الفشل السياسي، والفساد المالي، والتدخل الخارجي في الشؤون العراقية، وتقسيم قرار الدولة وفق الأهواء السياسية، قادت إلى نزعة شعبية غاضبة ومنفعلة تجاه كل الوسط السياسي العراقي، بل تجاه الجيران وتجاه دول العالم، وأن أحداً في الناصرية جنوباً أو الموصل شمالاً، لا يعنيه في هذه المرحلة إلا أن تنشغل الحكومة بتوفير التزاماتها وتطبيق برنامجها الانتخابي، الذي لم تشرع حتى بفتحه بديلاً من الانشغال بإقناع فصائل مسلحة بعدم جر العراق إلى عقوبات اقتصادية أو حرب! وأيضاً أن يعكف البرلمانيون على إصدار القوانين وتفعيل إجراءات الرقابة، بديلاً من إطلاق تصريحات استعراضية عن علاقات العراق الخارجية، بهدف كسب ود هذه الدولة وتلك. والأجدى أن تقرر القوى السياسية الممسكة بالقرار اليوم، أن مرحلة توزيع الأدوار وتبادل كرة التصعيد و”الهوسات” انتهت، وأن الوقت يحتاج الى عمل سياسي محترف لا يتدخل به الهواة.
الأزمة لم تبدأ بعد فعلاً، فيما تتلاطم الأوساط السياسية والأروقة الحزبية العراقية بمواقف متضاربة وتقديرات شخصية غير مستندة إلى معطيات الخبراء وتحليلاتهم. وهذا أداء غير كاف، وإجابة غير موفقة على التساؤل المستمر عن طبيعة التعاطي العراقي مع المخاطر المحيطة.
والحقيقة، أن المرحلة بحاجة الآن الى رؤية عميقة، تحدد خريطة لكل خطوات الدولة العراقية خلال تطورات الأزمة المختلفة، وإلى الاستعانة بغرف تفكير وتحليل واستقراء لحدود الأزمة ونتائجها، واستفتاء لتوجهات الشعب العراقي، وليس إلى قيادات حزبية موهومة بـ “كلية القدرة”.
4 «الحشد» و«الحزب»: ذَوَبان في المحبوب
حازم صاغية الشرق الاوسط السعودية
في محيط «الحشد الشعبيّ» العراقي و«حزب الله» اللبناني تعالت الأصوات: «إذا نشبت حرب بين إيران والولايات المتّحدة سنكون جزءاً منها إلى جانب إيران». «إنّنا في انتظار هذه الحرب كي نصفّي حسابنا مع أميركا وعملائها».
هذا ما يخالف أبسط البدهيّات في الدول التي تكون ساحة بين طرفين متحاربين. ذاك أنّ الحسّ السليم والمصلحة الوطنيّة معاً يفرضان السعي إلى تحييد البلد المعنيّ عن الحرب، وتجنيبه ويلاتها.
صيحات «الحشد» العراقي و«الحزب» اللبناني كان يمكن تبريرها جزئيّاً لو أنّ خصومهما في البلدين دعوا إلى المشاركة في الحرب نفسها إلى جانب الولايات المتّحدة. بالطبع لم يحصل مثل هذا. خصومهما بدوا مهتمّين بتحييد العراق ولبنان عن الحرب المحتملة وبالتحذير من مغبّة الانجرار إليها.
لغة «الحشد» و«الحزب» تخالف أيضاً أبسط البدهيّات التي تقول إنّ الحرب حدث سيئ وبشع، سيّما وأنّ المنطقة مُخلّعة ومُكسّرة لا تحتمل حرباً، بل قد لا تحتمل سلاماً كذلك! الصورة الاحتفاليّة التي يقدّمانها عن الحرب في المنطقة ربّما استُمدّت من صورة النار المقدّسة التي تندلع في الماس فتطهّره ولا تحرقه. هذا ليس واقع الحال: النار ليست مقدّسة والماس المزعوم حطب مُبتلٌّ بوقود كثير.
مصدر هذه الحماسة لدى الطرفين تغليب الوظيفة الإقليميّة على الوطنيّة. لتبرير ذلك تُستدعى حجج تؤدّي إلى إنقاص الحقيقة وزيادة الموت. يقال مثلاً: «الحرب هي على محور المقاومة ونحن منه، فهل نقف مكتوفي الأيدي؟». هكذا يحلّ «المحور» محلّ البلد، ومصالح الحزب أو الميليشيا محلّ مصالح الشعب والوطن.
يترتّب على ذلك أنّ العراقيين واللبنانيين، كلّهم من غير استثناء، راغبين في ذلك أم مُكرهين، يُحسَبون جزءاً عضويّاً من «المحور»، تربطهم بإيران رابطة عقائديّة أقوى من رابطة الوطن. وعلى خلاف ما يُعرف بـ«القيم الكميّة» التي تقبل القياس، كالحرّيّات المتوافرة ونُسب التعليم والوضع الصحّيّ، تحلّ «القيم النوعيّة» غير القابلة للقياس، كالمصير والمجد والكرامة والتحدّي… ولأنّها، تعريفاً، غير قابلة للقياس، فإنّها تبدو قابلة لتصنيع واستثمار كاذبين ومتواصلين من أصحاب الشأن والمصلحة.
لكنْ يبقى سؤال الأسئلة: ما الذي يجعل هذين الطرفين، «الحشد» و«الحزب»، مستعدّين لزجّ بلديهما وأهلهما في حرب مدمّرة كرمى لإيران؟
لقائلٍ أن يقول: إنّه الدور الإيراني في إنشائهما ورعايتهما، وهما، بالتالي، يسدّدان بعض الدَين. الرأي هذا، على صحّته، لا يقول لنا لماذا استدان «الحزب» و«الحشد» كلّ شيء، بما في ذلك وجودهما وعلّة وجودهما، من إيران.
إنّ جزءاً كبيراً من الجواب يكمن في التاريخ. فالبَلدان في شكلهما الحالي أنشأتهما «السنّيّة السياسيّة» العراقيّة و«المارونيّة السياسيّة» اللبنانيّة. حصل ذلك بُعيد قيام الانتدابين البريطاني والفرنسي إثر انتهاء الحرب العالميّة الأولى. وهناك روايات كثيرة في تأويل «الهيمنتين» بعضها يغلّب التفاوت الموروث تاريخيّاً بين الجماعات، وبعضها يغلّب نوازع السيطرة والتحكّم عند جماعة حيال أخرى. أغلب الظنّ أنّ الحقيقة تقيم في مكان ما بين الروايتين.
لكنْ كائناً ما كان الأمر، أُطيحت «السنّيّة السياسيّة» العراقيّة في 2003، وبوصاية أميركيّة، ثم إيرانيّة، حلّت محلّها «شيعيّة سياسيّة» لا تزال تحكم حتّى اليوم. كذلك أُطيحت «المارونيّة السياسيّة» اللبنانيّة على مراحل كان تتويجها مع «اتفاق الطائف» عام 1989، مذّاك و«الشيعيّة السياسيّة»، وبالتوافق مع الوصاية السورية، هي الطرف الأقوى في صنع القرار اللبنانيّ، لا سيّما ما يتعلّق بسلم البلد وحربه. لكنّ 16 سنة عراقيّة و30 سنة لبنانيّة لم تنجز شيئاً جدّيّاً على مستوى الوطنيّتين. لم تُصلحهما ولم ترممهما ولم ترفع غبن المغبونين في ظلّهما. ما فعلته تلك السنوات هو بالضبط مضاعفة القابليّة لتدمير الوطنيّتين، أو ما تبقّى منهما، في حروب ومواجهات يريدها آخرون.
لقد أُهديت الحصّة التي انتُزعت من «المارونيّة السياسيّة» اللبنانيّة و«السنّيّة السياسيّة» العراقيّة إلى إيران.
هذه تضحية بالذات، أو بشيء من الذات. ومعلومٌ أنّ تقديم القرابين الحميمة ليس بالشيء الجديد: لقد شهد عليه التاريخ وشهدت الأديان والملاحم. لكنْ دائماً، مع النبي إبراهيم وابنه إسحق وزوجته سارة، أو مع الملك أغاميمنون وابنته إيفيغينيا وزوجته كليتمنسترا، ترافق الأمر مع مكابدة ومعاناة، ومع ثمن يُدفَع، وأحياناً مع جهدٍ يُبذَل لتجنّب الكأس. هنا، في سبيل إيران، تترافق التضحية بالذات مع فرح كبير واستعدادات لا تنضب للسخاء بالمزيد منها، فكأنّنا أمام ذوَبان صوفي في المحبوب. و«حقيقة المحبّة أن تهب كُلَّكَ إلى من أحببتَ فلا يبقى لكَ منكَ شيء»، على ما قال أحد كبار الصوفيين.
لقد ظهر مَن ينسب إلى الشيوعيين مثل هذه العلاقة بالاتّحاد السوفياتي السابق، بيد أنّ الشيوعيين كانوا بعيدين عن حروب السوفيات، يمارسون «التضامن الأمميّ» معهم بالمواقف والبيانات، وفي أحسن الأحوال، بالمظاهرات. عندنا، يختلف الأمر، وهذه مشكلة أكبر من السياسة، مشكلة تلحّ على طرح السؤال عن معنى الأوطان والوحدات الوطنيّة وعن إمكانها في يومنا الراهن.
5 إسرائيل تتخوف من نشر الصواريخ الإيرانية في العراق
مهند إبراهيم أبو لطيفة راي اليوم بريطاينا
أظهرت دراسة حديثة لمعهد واشنطن (تأسس عام 1985) ، مدى قلق إسرائيل من حدوث أية مواجهة عسكرية مستقبلية في المنطقة مع إيران. وتناولت الدراسة التي أعدها مايكل ناتس وأساف أوريون، ونُشرت بتاريخ 13 أيار 2019، خيارات الرد المتاحة أمام ألولايات المتحدة وإسرائيل، إذا نشرت إيران صواريخ في العراق.
مما جاء في الدراسة، أن إيران جمعت في السنوات الماضية، ما بين إستراتيجة تطوير منظومتها العسكرية، وتحديدا الصاروخية بعيدة المدى، وإستراتيجية تعزيز القدرات الصاروخية لحلفائها في المنطقة (سوريا، لبنان، غزة، اليمن). وأن عملية نشر الصواريخ في خارج إيران من شأنها رفع عدد الأهداف التي يُمكن الوصول إليها، وستكون مواقع الإطلاق أوسع نطاقا ومن الصعب توقعها، مما يزيد من فعالية الضربات وبأقل قدر من المخاطر، مقارنة بإطلاق النار مباشرة من أراضيها.
ولتحقيق هذا الغرض ، قامت إيران بتزويد “حزب الله” بترسانة متطورة من الصواريخ البالستية الدقيقة قصيرة المدى. إضافة لتعزيز القدرات العسكرية ل “حركة حماس” و” الجهاد الإسلامي ” في قطاع غزة ، ودعمت قدرتهم على تطوير وصناعة الصواريخ. مثل صاروخ ” فجر-5″ الذي ُيعرف بأسم ” إم-75″، والذي يصل مداه إلى 75 كيلومتر.
وزودت إيران سوريا ، بصواريخ جاهزة ، ودعمت إمكانيتها على إنتاجها، وأقامت عددا من مستودعات التخزين السرية في عدد من المناطق السورية.
كما قامت إيران بدعم ” الحوثيين” في اليمن، في إنتاج صاروخ مدفعي من طراز ” بدر-IP ” ، بمدى 150 كيلومتر. وعلمتهم كيفية تطوير صواريخ ” SA-2″ إلى صاروخ ” قاهر-1″ البالستي قصير المدى، الذي يسميه الحوثيون ” بركان-2- إتش “، والذي يصل مداه إل ألف كيلومتر. وتم صناعة هذا الصاروخ من قبل ” مجموعة الشهيد باقري الصناعية” الإيرانية، بشكل خاص لكي يتمكن الحوثيون من ضرب الرياض ومدن سعودية أخرى.
وحسب الدراسة، فأن الخيارات المتاحة لإسرائيل للرد محدودة ، وعليها أن تراعي مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في العراق والمنطقة. وستجد صعوبة في شن ضربات مستمرة على بعد ألف كيلومتر من إسرائيل، مقارنة بالغارات على سوريا الأقل خطورة.
ونتيجة لتخوفها، ستطلب إسرائيل من شركائها الأمريكيين والأوروبيين ، توفير الدعم الإسستخباراتي وستستخدم قنوات التواصل، مع القادة العراقيين المعنيين، لتعزيز خياراتها المستقبلية ، ومنع نشر صواريخ إيرانية في العراق، وتعمل على إعداد خيارات عملية تهدف إلى تدمير القدرة على التهديد ، كعامل دعم آخر.
شدد وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، خلال زيارته الأخيرة إلى بغداد، على إمكانية الحكومة العراقية على معالجة هذا التهديد، من خلال مراقبة الميليشيات ” الوكيلة” لإيران وقواعدها عن كثب، وتحديدا : ” كتائب حزب الله” و” حركة حزب الله النُجباء” و ” عصائب أهل الحق “.
يتصدر القلق دوائر الإستخبارات الأمريكية والإسرائلية ، من قيام إيران سرا، بتزويد صواريخ مدفعية طويلة المدى إلى ” منظمة بدر” أيضا. وأن بعض التنظيمات الشيعية، تستخدم قواعد آمنة، لإستيراد الصواريخ والمعدات مباشرة من إيران ، دون موافقة أو علم الحكومة العراقية، مثل : “معسكر أشرف” في محافظة ديالى، “معسكر سبايكر” في صلاح الدين، “جرف الصخر” في بغداد، “الرزازة” في كربلاء، “الصويرية” في واسط.
تعتبر الدراسة ، أن نشر الصورايخ الإيرانية ، هو تجاوز للخطوط الحمراء، وأن إسرائيل تتعرض لتهديد مباشر من العراق، لا سيما أنها سبق وان تعرضت لهجمات صاروخية من قطاع غزة مؤخرا، ولبنان عام 2006، وسوريا عام 2018، ومن العراق عام 1991.
وجراء هذه الإستراتيجية الإيرانية، وعلى الرغم من إعتمادها على الدور الأمريكي للحد من هذا التهديد، إلإ انه يتوجب على إسرائيل أن تسعى لوقف هذا التهديد، وإتخاذ قرارها بتوجيه ضربات إستباقية، إذا شعرت بأنها مُلزمة بالتحرك، وستكون الغارات الجوية العلنية خيارها الأول.
ما لم تذكره الدراسة، أن روسيا أيضا ، لن تقف مكتوفة الأيدي، في حال نشوب صراع مسلح في المنطقة ،لأنها ستكون مجبرة أن تدافع عن مصالحها الحيوية وإمتيازاتها العسكرية، والسياسية، والإقتصادية التي تربطها بإيران وسوريا، ونفوذها في المنطقة، وأن منطقة الخليج تُعتبر مكشوفة أمام الإيرانيين بسبب الجغرافيا، في حال إندلاع أية مواجهة، وستُشكل مسألة إمدادات النفط أو توقفها ، وارتفاع أسعاره ،عاملا حاسما لكثير من الدول.
6 العراق: استهداف الخضراء.. من المستفيد؟
سلام محمد العامري راي اليوم بريطانيا
تَشهدُ منطقة الشرق الأوسط, زوابع مخيفة ومياهاً تَقطعُ الطرق, وعلى من يريد السير بأمان, أن يبحث عن طريقٍ سالك, إلا أنَّ هناك, من يزيد الطين بلة فيربك المسير.
أزمةٌ تشتد وجهودٌ تُبذل لكبحها, يتمنى جميع من في المعمورة, سحق فتيل القنبلة, التي لو انفجرت ستحرق المنطقة برمتها, مع أنَّ ذلك لا يعجب بعض الأطراف, ليحافظوا على مصالحهم.
قتالٌ متوقع بين دولتين, تمتلكان من الأسلحة ما يدمر المنطقة, أمريكا من جانب, وجمهورية إيران الإسلامية, والعراق هدفٌ من أهداف الحرب, فيجب حساب كل خطوة, فنحن فوق لغم نووي.
“نَعي جَيدا المَخاوِفَ التي تُحدِق بالعراق, نتيجة الصراع الإيراني الأمريكي، والعراق يقعُ في قلب المنطقة, وضمن جغرافية الصراع، وعلينا ان نبعد البلاد, من سياسة المحاور”/ السيد عمار الحكيم 10/5/ 219.
كلام السيد الحكيم, زعيم تحالف الإصلاح والإعمار, ينم عن تفهم كاملٍ, لما سيجري في المنطقة عامة, والعراق بصورة خاصة, وما دعوته لإبعاد البلاد, والركون الى سياسة الوسطية, و ترك سياسة المحاور, تُمثل الحل الأوضح, للوطنية واحترام دول الجوار, كون تطور الصراع, سيضر بمصالح جميع دول المنطقة, إضافة لما يحدثه من أذاً, لأغلب دول العالم.
هناك من يتربص بالعراق شراً, فالخلايا النائمة لداعش, متواجدة وتعمل بعض الأحيان, تَحت غطاء المقاومة الوطنية وطرد الإحتلال, للنيل ممن قضى على حلمها, بتكوين دولة الخرافة, فحريق السُفِن في الشارقة, لم يأتي أكله مع ارتفاع إصبع الإتهام, ضد جمهورية إيران الإسلامية.
اِستهداف المنطقة الخضراء, بقذيفة هاون مساء الأحد 19/5/2019, تعطي الضوء الأخضر لأعداء العراق, ليكون كمن يصب, الماء على الطين, لينزلق العراق في أتون الحرب, ويخرب ما تقوم به الحكومة, بالتوصل لحلٍ ينزع فتيل الحرب, بين طرفي النزاع, وكلنا يعلم مَن المُستهدف.
أنَّ حكومة إيران الإسلامية, لا تريد بدء القتال, فذلك ليس بمصلحتها, ولا يمكن أن يفيد غير أعداءها والعراق, ولا أعتقد أن التي استنفرت قوتها, لمساعدة العراق, في حربه ضد داعش, تعمل بعد ذلك الجهد, أن تكون سبباً لتخريبه.
إنَّ اتهام أمريكا بحرق المزارع, وضرب الخضراء بحجة المقاومة, خلفه أيادٍ تعمل على تأجيج الصراع, والمستفيد أياً كان, فهو عدوٌ للمنطقة, وليس للعراق فقط.
7 من المستفيد من إشعال الحرب بين أمريكا وإيران؟!
محمد حسن الساعدي راي اليوم بريطانيا
تناقلت وسائل الإعلام حديثاً لرئيس تحالف الإصلاح السيد عمار الحكيم عن وجود طرف ثالث يريد الحرب أن تشتعل بين الطرفين ، وأكد الأخير في لقاءات جمعته مع مسؤوليين أميريكان أن بلاده لن تخوض حرباً بالنيابة عن احد ، وسيكون للعراق موقفاً من هذا الصراع الذي بدأت ملامح تصاعده مع دخول البوارج الأمريكية إلى المنطقة ، وسحب الكوادر والموظفين من السفارة الأمريكية في بغداد ، الأمر الذي ربما يكون إعلان مواجهة بين الطرفين ستبدأ في العراق،وان إسرائيل لعبت دوراً محورياً في هذا التصعيد ، ولكنها في نفس الوقت ترغب أن يكون محصوراً على الأرض العراقية ،وان لا يتسع ليشمل عموم المنطقة العربية ، وذلك تفادياً لاقتراب نار الصراع إلى حدود الصهاينة، حيث تؤكد التقارير أن الاستخبارات الإسرائيلية عقدت اجتماعات مهمة مع الاميركان في دفعهم للصدام مع طهران ، الأمر الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ إجراءات سريعة في الشرق الأوسط وإرسال سفن حربية إلى الخليج ما استدعى طهران إلى اتخاذ إجراءات مشابهة ونشر صواريخ باتريوت باتجاه تل أبيب، وتحريك قطعها الحربية باتجاه مضيق هرمز والتهديد بغلقه أمام الملاحة الدولية ، حيث يعتبر المضيق المتنفس الوحيد لنفط دول الخليج وتجارتها الاقتصادية مع العالم .
إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وهما أهم حلفاء الإدارة الأمريكية في المنطقة، تقفان موقف المرحب بالخطوة في دخول البارجة الأمريكية وتأجيج الموقف ، إلا أن شركاء الإدارة الأمريكية في أوروبا يشعرون بعدم الارتياح إزاء ما ستؤول إليه الأمور، فقد اتخذت كل من إسبانيا وألمانيا وهولندا خطوات من شأنها وقف أي أنشطة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط مشاركة مع الأمريكيين، نظرا لتصاعد التوترات في المنطقة، وهذا ليس الوقت المناسب لتجربة كيف سيكون النزاع بين الولايات المتحدة وإيران، أضف على ذلك أن مقارنة هذا النزاع بغزو العراق عام 2003 لن يكون مفيدا،لان الظروف ليست كالسابقة ، والنظام البعثي ليس كالقيادة في طهران ، ولا الظروف كسابقتها أبان غزو صدام للكويت ، ودخول واشنطن على خط المواجهة ، إذ أن إيران تعتبر مثالا مختلفا عما كان عليه الوضع في العراق إبان حكم البعث ، ففكرة شن غزو شامل على إيران لن يكون ضمن الخيارات المطروحة، بل قد ينشأ صراع عسكري جوا وبحرا تختلف طريقة إيران في التعامل معه، مما قد يشعل المنطقة بأسرها.
الحكيم في حديثة إلى الاميركان عبر عن موقف العراق الرسمي ، في ضرورة إبعاد البلاد عن أي مواجهة أو حرب بالوكالة ، ويمكن أن تكون بغداد طاولة الحوار لا ساحة حرب ، وجلوس الفرقاء إلى الحوار ، والخروج بتفاهمات من شانها التهدئة بالمنطقة ، وتفويت الفرصة على العدو الصهيوني الذي يتحين الفرص لإشعال المنطقة من جديد، لذلك فأن أي تصعيد أمريكي يأتي من خلال سياسة العصا الغليظة يستهدف إجبار النظام الإيراني على الدخول في حوار مع الولايات المتحدة ولكن إدارة ترامب تريد هذا الحوار على طريقتها ووفق شروطها الاثني عشر التي أعلنها مايك بومبيو من قبل وتشمل الملفات الثلاثة وهى وقف برنامج إيران النووي وبرنامجها الصاروخي الباليستي ودعمها الإرهاب, وليس الحوار على طريقة أوباما, الذي ركز على إبرام اتفاق نووي والتغاضي عن الملفات الأخرى ، ولطن وكما يرى بعض المحللون أن خيار المواجهة العسكرية الشاملة مستبعد إلا إذا أدت سياسة حافة الهاوية الإيرانية إلى الصدام مع الولايات المتحدة عبر إغلاق مضيق هرمز، أو استهداف القواعد والمصالح الأمريكية في المنطقة.
8 إيران في الأصفاد!!
وليد صبري الايام البحرينية
يبدو تفسير وزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس بشأن قرار تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط والذي أكد من خلاله أنه «لردع إيران وتغيير سلوكها التدميري وليس لشن حرب»، الأقرب إلى الواقع والحقيقة، لاسيما وأن السياسة الأمريكية في المنطقة قائمة على أساس تحقيق أكبر المكاسب، دون أدنى خسائر، بغض النظر عن توجهات الرئيس الذي يمسك بزمام الحكم في البيت الأبيض، سواء كان ديمقراطياً أو جمهورياً. وهذا يبدو جلياً من تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي يصدرها بين الحين والآخر، والتي تحمل تهديداً لإيران، غير أنه يبقي الباب مفتوحاً أمام الحوار من أجل الجلوس للتفاوض على اتفاق نووي جديد، دون تجاهل سلوك إيران في المنطقة.
على الجانب الآخر، تبعث إيران بعدة رسائل مختلفة، منذ فرض العقوبات عليها، حيث اختارت أن توظف الميليشيات المسلحة التابعة لها في المنطقة من أجل زعزعة الاستقرار وللقيام بعمليات إرهابية وتخريبية متفرقة، لاسيما ميليشيات المتمردين الحوثيين في اليمن.
وفي واقعة نادرة، أعلنت الإمارات قبل أسبوع تقريباً تعرض سفن شحن تجارية مدنية من عدة جنسيات لعمليات تخريبية في المياه الاقتصادية لها قرب إمارة الفجيرة «على بعد نحو 115 كلم من إيران». ولم تمض سوى 24 ساعة، حتى أعلنت السعودية عن «تعرض محطتي ضخ لخط الأنابيب شرق – غرب، الذي ينقل النفط السعودي من حقول النفط بالمنطقة الشرقية إلى ميناء ينبع على الساحل الغربي، إلى هجوم من طائرات بدون طيار مفخخة، وقد نجم عن الهجوم حريق في إحدى المحطات وتمت السيطرة عليه، بعد أن خلف أضراراً محدودة»، وقد سارع مصدر في وزارة الدفاع الأمريكية إلى التأكيد على أن «المعلومات تدل على أن مجموعات مدعومة من إيران وراء عمليات تخريب تستهدف قطاع النفط الخليجي».
ومنذ يومين، تم استهداف السفارة الأمريكية في بغداد بهجوم صاروخي، وفي حين أعلنت السلطات العراقية العثور على منصة إطلاق الصاروخ في منطقة تخضع لهيمنة فصيل عراقي مسلح، معروف بقربه الشديد من المرشد الإيراني علي خامنئي، سارعت الميليشيات العراقية المسلحة الموالية لطهران، لاسيما منظمة «بدر» التابعة لميليشيات «الحشد الشعبي»، وكتائب «حزب الله»، و«عصائب أهل الحق»، إلى أن تنأى بنفسها عن الهجوم وتنفي قيامها بهذا العمل، في محاولة منها لإبعاد شبح جر العراق إلى حرب بالوكالة، على حد تفسير مراقبين ومحللين، لاسيما مع تصاعد التوتر بين إيران وأمريكا في المنطقة.
ولابد من الأخذ في الحسبان التصعيد الأخير من ميليشيات الحوثي بإطلاق صواريخ على السعودية.
وقد زادت الضغوط الاقتصادية على إيران، منذ بداية شهر مايو الجاري عندما وجهت إدارة ترامب ضربة قاصمة للاقتصاد الإيراني، بعدما أنذرت مشتري النفط الإيراني بضرورة وقف مشترياتهم بحلول الأول من مايو، تفادياً للعقوبات المحتملة عليهم، وهذا يفسر اعتراف الوزير الإيراني السابق سيد محمد حسيني، بأن «العلميات التخريبية التي تعرضت لها المنشآت النفطية السعودية في الدوادمي وعفيف، والتي نفذتها ميليشيات الحوثيين بطائرات مسيرة كانت بإيعاز من طهران، وجاءت رداً على محاولات أمريكا لفرض المقاطعة الكاملة على النفط الإيراني».
وإذا كان الرئيس الإيراني حسن روحاني قد طالب بالحصول على صلاحيات تنفيذية موسعة يطلق عليها «زمن حرب»، للتعامل مع الضغوط التي تتعرض لها طهران في الآونة الأخيرة، مذكراً بـ «حرب العراق عام 1980، عندما تمكن «مجلس زمن حرب أعلى» من تخطي فروع أخرى لاتخاذ قرارات بشأن الاقتصاد والحرب»، إلا أن هامش المناورة الدبلوماسية موجود لاسيما من جهة طهران.
وفي هذا الصدد، لا يمكن تجاهل الزيارة المفاجئة التي قام بها الوزير المكلف بالشؤون الخارجية في سلطنة عمان، يوسف بن علوي لطهران، والتي بالتأكيد، شملت مباحثات حول قضايا جوهرية، مع نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، أبرزها التوتر المتصاعد بين واشنطن وطهران، مؤخراً، ولاشك في أنها تجاوزت المسائل الإقليمية والدولية التي تحدثت عنها وكالة أنباء إيران الرسمية، دون ذكر مزيد من التفاصيل، ولعل أبرز تلك القضايا «تفادي أي مواجهة عسكرية في منطقة الخليج»، بيد أن المعلومات التي سربتها وسائل إعلام أجنبية نقلاً عن مصادر دبلوماسية غربية تتعلق برسائل أمريكية موجهة بشكل مباشر للقيادة في إيران، موضحة أن «أمريكا ستصعد إجراءاتها ضد إيران في حال أقدمت الأخيرة على عمل عدائي ضد واشنطن وحلفائها في المنطقة»، لكن في الوقت ذاته، تبدي واشنطن «رغبة في التفاوض مع طهران استناداً إلى شروط معينة»، وهو ما دائماً يشير إليه الرئيس الأمريكي في تغريداته. ويبدو من وجهة النظر الأمريكية أن التفاوض لن يكون على اتفاق نووي جديد فقط بل يتعلق الأمر بسلوك إيران، وهذا تذكير بالشروط الـ 12 التي ذكرها مسبقاً وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بشأن جدية التفاوض مع طهران.
* وقفة:
تصعيد إيران الأخير في المنطقة محاولة يائسة للخروج من أزمات العقوبات الأمريكية لاسيما الأصفاد والأغلال التي تطوق نظام «ولاية الفقيه» وتثقل كاهل شعب فقير!!
60
9 إذا لم تقع الحرب
فاروق يوسف
العرب بريطانيا
الحرب بين الولايات المتحدة وإيران يمكن أن لا تقع في حالة إذعان الأخيرة للشروط الأميركية. وهو أمر لا يمكن توقع حدوثه ما دام المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي حيا.
لا يمكن التعرف بشفافية على المزاج السياسي في إيران ما دامت آليات عمل النظام هناك قائمة على تقديس الوصاية العقائدية واعتبارها أساسا للعمل السياسي.
لقد تفاعلت إيران مع العالم سياسيا في السنوات التي سبقت إبرام الاتفاق النووي وذلك لأسباب نفعية، غير أن توقيع الاتفاق بالرغم من منافعه الكثيرة لم يحظ برضا المؤسسة الدينية وعلى رأسها خامنئي شخصيا.
لذلك فشلت الدبلوماسية الإيرانية في الاستمرار في الحوار مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من أجل ترسيخ الاتفاق بطريقة لا تسمح للولايات المتحدة بالانسحاب منه. كانت تلك فرصة فوتتها إيران على نفسها.
من هذا كله نستنتج أن إيران لن تذهب إلى مفاوضات، تعرف أنها لا تحظى بمباركة الولي الفقيه بسبب وجود الشروط الاثني عشر التي لا يمكن للولايات المتحدة أن تتراجع عنها، أو عن عدد منها.
من غير مفاوضات هل يمكن تجنب الحرب؟
نعم يمكن تجنبها في حالة أن إيران قررت أن تصمد في وجه العقوبات المتصاعدة. وهو رهان ينطوي على مغامرة استعادة سيناريو الحصار الدولي الذي فُرض على العراق.
غير أن الإيرانيين يمنون النفس في أن يكونوا في حالة صمودهم أفضل حالا من العراقيين الذين كان الحصار عليهم قد فُرض بموجب قرارات دولية، فيما هو في الحالة الإيرانية حصار أميركي لا يتمتع بتأييد دولي معلن.
سيكون ذلك صحيحا لو لم تكن الولايات المتحدة مهيمنة على أسواق النفط والمال وهما ركيزتا المشروع الإيراني في المنطقة. لذلك لا يمكن مقارنتها بالعراق الذي اكتفى أثناء سنوات حصاره بإطعام شعبه. إن صمدت إيران في وجه العقوبات في ظل نقص حاد في الأموال، فإنها ستكون عاجزة عن تمويل برامج تسلحها والميليشيات التابعة لها في لبنان والعراق واليمن وسوريا. وهو ما سيقود حتما إلى إضعاف وجودها خارج حدودها الإقليمية.
سيكون يومها على إيران أن تتخلى عن محور المقاومة المزعوم الذي تتزعمه، إضافة إلى أنها ستكون عاجزة عن تطوير برنامجيها النووي والصاروخي. ذلك ما يجعل صمودها من غير نفع.
إذا لم تتفاوض ولم تقرر الصمود في وجه العقوبات التي ستستمر إلى ما لا نهاية، فإن إيران ستكون مضطرة إلى أن تختار الحرب حلا. ستكون الحرب خيارها الساخن من أجل أن لا تقع ضحية للخيارات الباردة.
ولأن إيران تدرك أن حربا جديدة في المنطقة ستكون مكلفة للجميع، فإنها تراهن على أن ذلك سيكون بوابة لتسويات قد تكون أقل تأثيرا على مكانتها في المنطقة من القبول بالشروط الأميركية الجاهزة من غير حرب.
ترغب إيران اليوم بسبب الضغوط التي تعرضت لها في توقيع اتفاق نووي جديد، غير أنها تنظر بعين الشك إلى ما يحيط بها من مخططات تسعى إلى التضييق عليها وتحجيم دورها في المنطقة.
ما لا تستطيع إيران اليوم الإعلان عنه سيكون ممكنا بعد حرب قصيرة.
سيكون يسيرا عليها أن تتخلى عن محمياتها. ذلك لأنها ستكون مطمئنة إلى أنها تترك تلك المحميات في قبضة ميليشياتها.
تلك مشكلة أخرى، سيكون على الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة أن يعالجوها بوسائل مختلفة. وهو ما تأمل إيران من خلاله أن تسترجع نفوذها بعد مضي العاصفة.
ولكن تلك الحرب إن وقعت قد لا تنتهي إلى التسويات التي تحلم بها إيران. فقد تكنس الحرب ميليشياتها في الوقت الذي تشل فيه قدرتها على الدفاع عن النفس. وهو أمر يمكن توقعه في أنظمة الحرب الحديثة.
يومها ستندم إيران على أنها رفضت خيار التفاوض.
10 كتاب جديد يعيد النظر في تاريخ الحضارات
أبو بكر العيادي
العرب بريطانيا
شغف الإنسان بمعرفة تاريخ وجوده على الأرض منذ بدء الخليقة، وأبدى اهتماما كبيرا بكل الجهود التي حاولت رصد خطوات أجداده الأوائل، من “موجز تاريخ العالم” لهربرت جورج ويلز، و“حضارات” لكينيث كلارك، و“ارتقاء الإنسان” لجاكوب برونوفسكي، وخاصة “قصة الحضارة” لويل ديورانت وزوجته أرييل، ولكنها كانت في معظمها تزعم الكونية فيما هي تضع أوروبا محورا لاهتماماتها، سواء في تاريخ الفنون، أو العلوم والتكنولوجيا، أو ظهور الحضارات وزوالها. ولذلك، لا يسع المهتم إلا أن يستبشر بظهور كتاب “قصة الحضارات”، لكونه سعى إلى مقاربة شاملة في دراسة الوجود الإنساني على هذا الكوكب، لا تستثني عصرا من العصور، ولا منطقة من مناطق العالم.
هذا الكتاب الذي جمع مساهمات واحد وسبعين من كبار علماء الآثار في العالم، تحت إشراف جان بول ديمول أستاذ علم الآثار بالسوربون، ودومنيك غارسيا رئيس المعهد الفرنسي لدراسات الأركيولوجيا الوقائية، وألان شناب أستاذ الأركيولوجيا اليونانية بالسوربون ومؤسس المعهد الوطني لتاريخ الفن، هو عمل جليل جاء نتيجة “ثورة صامتة” كما ورد في مقدمة الكتاب، بدأت في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وغيرت معارفنا عن تاريخ البشرية بفضل التطورات التقنية والمنهجية في علم الآثار، لاسيما في مجال الأركيولوجيا الوقائية، التي تهدف إلى الكشف عن مواقع أثرية قد تدمرها الأشغال المرتبطة بالتهيئة العمرانية، ودراستها علميا.
ولئن ظهرت منذ ذلك التاريخ مؤلفات عديدة تتوسل بتلك التقنيات، فإنها كانت محصورة في مجالات معينة أو جهات محددة، مثلما كانت تتوجه في عمومها إلى المتخصصين، ولم تكن بمثل هذا الشمول الذي ينهض به هذا الكتاب الضخم (608 ص)، ولا بالوضوح الذي يفهمه القارئ العادي.
يقترح الكتاب قصة جديدة عن الحضارات تشمل كل العصور والقارات، وتتوقف عند مظاهر التقدم الأكثر دلالة، كتحديد مهد الأنسنة، ونشوء الحضارات وتوسعها سواء في الشرق الأوسط أو في أستراليا وأفريقيا أو القارتين الأميركيتين، والاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية التي أدت إلى تأسيس إمبراطوريات عظمى أمثال الإمبراطوريات الصينية والمنغولية والخميرية والرومانية والبيزنطية، وظروف انحطاطها وتفتتها أو بَيادها، وظهور الديانات، وأنماط العولمة في العصرين الحديث والمعاصر، علاوة على عمليات الهجرة المتتالية من عصور ما قبل التاريخ إلى الآن.
الكتاب يقترح قصة جديدة عن الحضارات تشمل كل العصور والقارات يقدمها برؤية شاملة للمسيرة الإنسانية كشفتها الأركيولوجياالكتاب يقترح قصة جديدة عن الحضارات تشمل كل العصور والقارات يقدمها برؤية شاملة للمسيرة الإنسانية كشفتها الأركيولوجيا
ونكتشف بفضل هذه الرؤية الشاملة للمسيرة الإنسانية كيف ساهمت الأركيولوجيا في معرفة شتى المجتمعات، سواء تلك التي كانت تستعمل الكتابة أم التي لم تعرفها أصلا، وكيف مهدت لإقامة حوار جديد بين المصادر النصية والمصادر المادية، كان من أثره إعادة النظر في كثير من المسلمات المتداولة، واكتشاف ملامح تاريخية أخرى كانت مجهولة. مثلما نكتشف أن الإنسان العاقل Homo sapiens ليس وحيدا، بل سبقه بشر آخرون، لولاهم ما كان ليبلغ ما بلغه، إلى جانب نقاط أخرى طالما ظلت حكرا على أهل الاختصاص، ونعني بها فرضيات الاستيطان في القارتين الأميركيتين وأستراليا، والظاهرة العالمية لشيوع العصر الحجري الأخير (النيوليتي) وأثره في منظومات التفكير التي لا نزال نعيش عليها حتى الآن.
وقد شمل الكتاب كل مناحي الوجود البشري منذ ظهور الإنسان ثم خروجه من أفريقيا لغزو العالم، مرورا بالمجتمعات الزراعية في الشرق الأوسط وأستراليا والصين وسواها، وفتح حقول دراسة ومقاربة جديدة لعلم الآثار، بالاستفادة مما تحقق في علم الوراثة وعلم جينات العصور القديمة، واستعمال “الدرون”، ووسائل الاستشعار من بعد، أو بتجديد أساليب التأريخ وأثر الأركيولوجيا في المجتمع.
والمعلوم أن الأركيولوجيا الحديثة ترتكز على ثلاثة مبادئ هي: استخدام التقنيات المتطورة كالحاسوب الذي يستعمل للتحليل البياني والإحصائي للمعلومات، والاستعانة بالوسائل الفضائية والأرضية لدراسة حياة القدماء وتوسيع علوم البيئة الأثرية وتوضيح الأسس المعيشية والاقتصادية في مجتمعات ما قبل التاريخ وما بعده؛ تحديد الحضارات بواسطة منظومات متطورة؛ توثيق العلاقة بين علم الإناسة (الأنثروبولوجيا) وعلم الآثار (الأركيولوجيا)، ودورهما في دراسة أشكال الاستيطان عبر العصور وتبين المتناظرات الاثنوغرافية، إضافة إلى تتبع مسيرة حياة الإنسان في شتى مراحلها عبر التاريخ.
ومجم ل القول إن كتاب “قصة الحضارات” يبين لغير العارف أن غاية الأركيولوجيا ليست البحث عن آثار فنية مدهشة أو أنصاب بديعة، وإنما هي معرفة المواقع والمجتمعات السابقة عبر علامات محفوظة في الأرض منذ الآثار الأولى للحضور البشري إلى العصر الحجري، أي منذ ما لا يقل عن خمسمئة ألف عام قبل التاريخ إلى يوم الناس هذا، بفضل مقاربة تقوم على دراسة التقنيات وأنماط العيش والعلاقات الاجتماعية والسياسية إلى جانب الاستيطان، ما يسمح حتى بتبين التطورات المناخية، وتحولات المشهد العام وما يطرأ على النباتات من تغيير.
لا جدال أن “الأركيولوجيا أصبحت، بفضل الوسائل التقنية التي اعتمدتها لوضع تأويلات المنظومات الاجتماعية وتطورها، علما معاصرا لا غنى عنه لفهم تاريخ العالم”، كما ذكر جان بول ديمول في مقدمة الكتاب، ولكن كيف السبيل إلى بلوغ تلك الغايات النبيلة الهادفة إلى رسم خارطة صحيحة عن تطور الوجود الإنساني عبر العصور، من خلال الحفر الأركيولوجي عن دقائق آثاره في مختلف القارات، والإنسان لا ينفك يدمّر حتى البادي منها، سواء بشن الحروب وإزالة مواقع أثرية برمّتها.
كما حصل خلال العدوان الأميركي على العراق، أو العدوان الفرنسي البريطاني الأميركي على ليبيا، أو بتحطيم كل ما له صلة بالتاريخ بتعلات عقائدية زائفة كما حدث في تدمر بسوريا ومدينة الحضر بالعراق وتماثيل باميان في أفغانستان، على سبيل الذكر لا الحصر، لأن التدمير شمل المواقع جميعا؟ وما مدى نجاعة الأركيولوجيا الوقائية في بلدان تشهد دمارا متواصلا، إما بسبب الحروب وإما بسبب جشع الشركات العملاقة التي لا تنفك تدمّر البيئة وما تكتنزه من آثار الشعوب القديمة، بموافقة الحكومات في أغلب الأحيان؟
لقد كان من غايات الكتاب إقامة الدليل المادي بأن للبشرية قاطبة جذرا واحدا، وأن ما يقرّبنا أكثر مما يفرّقنا، وأن من الحكمة الإقرار بأن أصلنا واحد وقدرنا واحد؛ ولكن الواقع الملتبس، الطافح بالعنف والعدوان في بقاع كثيرة من الأرض، يخالف ذلك، حتى لكأن قدر الأركيولوجيا أن تبحث في ما خلّفه الإنسان بعد الدّمار. 10