1 مكتبة مكنزي البغدادية
حميد سعيد العرب بريطانيا
في مقالة بعنوان “التراث الثقافي المادي لحضارة العراق بعد جرائم النهب والتدمير” بقلم الناقد والروائي المصري عبدالمقصود محمد، نشرت في مجلة الموروث التي تصدر عن معهد الشارقة للتراث، يستعرض فيها الخراب الذي عصف بمعظم المؤسسات الثقافية والمواقع الآثارية في العراق وما تعرضت له من إهمال وتخريب ونهب، في ظل الاحتلال الأميركي – الإيراني والحكومات التي توالت في العراق بعد سنة 2003، وورد في المقالة المذكورة ما آل إليه شارع الرشيد، أهم شوارع بغداد وأكثرها عراقة وحيوية، حيث فقد أهم معالمه الجمالية والحضارية، وأدوارها الوظيفية، ومنها كما ورد في المقالة مكتبة مكنزي.
إن هذه الإشارة هي التي دفعت بي إلى هذه الوقفة عند مكتبة مكنزي، لأن كثيرين ممن زاروا بغداد لم يتعرفوا عليها، بل إن الأجيال الجديدة من البغداديين، بمن فيهم الكتاب والأدباء والصحافيون والأكاديميون، لم يدركوا أيام حضورها الثقافي، حين كانت توفر من الكتب والدوريات الأجنبية وبخاصة الإنكليزية، والأدوات والأجهزة العلمية، ما لا توفره المكتبات الأخرى، لذا كان روادها سواء من العراقيين أم من الأجانب المقيمين في العراق أو العاملين فيه، يختلفون في توجهاتهم الثقافية، وما يحتاجون إليه من كتب ودوريات وأجهزة علمية، عن رواد مكتبات سوق السراي وشارع المتنبي، ومن ثم شارع السعدون.
لقد تأسست هذه المكتبة في بدايات العقود الأولى من القرن العشرين واستمر حضورها الثقافي حتى أواسط تسعينات القرن المذكور، إذ كاد نشاطها يتوقف بفعل ظروف الحصار المفروض على العراق وتراجع الوضع الاقتصادي وضعف إدارتها، غير أنها لم تغلق أبوابها نهائيًّا، على أمل أن تتحسن الظروف لتعود إلى نشاطها، لكن الاحتلال الأميركي – الإيراني، وما نتج عنه من دمار وما عرفت فيه بغداد من تخريب، أنهى كل أمل بعودتها، فتحولت أخيرا إلى مخزن بائس للبضائع.
وقد ظهرت كتابات كثيرة، تذكِّر بها وبتاريخها ودورها الثقافي وتدعو إلى عودتها، لكن من يقرأ هذه الكتابات، ومن يستجيب لما تدعو إليه؟! وقبل ذلك وردت في مذكرات وكتابات عدد من الرموز الثقافية، وأذكر هنا على سبيل المثال ما كتبه الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا في كتابه” شارع الأميرات”، ومن الطبيعي أن مثقفا مثل جبرا الذي كانت الترجمة من بين نشاطاته الثقافية، أن يكون على علاقة وثيقة بمكتبة توفر له ما يحتاجه من كتب ودوريات باللغة الإنكليزية.
أما اسمها فقد اقترن باسم مؤسسها الأول “كينيث مكنزي”، وهو مواطن اسكتلندي، أحب بغداد وتوفي فيها في العام 1928، ويقول الباحث عبدالجبار العتابي “إن بغداد التي تعرفه جيدًا وربما عدته واحدا من أبنائها، واعترافا بفضله، شيعت جنازته بحضور عدد كبير من العراقيين والبريطانيين، ودفن في المقبرة البريطانية في الباب الشرقي”، وورث إدارة المكتبة “دونالد مكنزي” حتى العام 1946، حيث أدارها بعد ذلك أحد العراقيين واسمه كريم، غير أنه اشتهر باسم “كريم مكنزي” وكان الأكثر نشاطاً والأوسع علاقات مع الكتاب والباحثين والأكاديميين والطلبة الجامعيين. ويذكر بعض الذين كتبوا عن مكتبة مكنزي أسماء آخرين توالوا على إدارتها إلى حين إغلاقها، وستبقى هذه المكتبة حاضرة في تاريخ بغداد الثقافي والاجتماعي، كما سيبقى غيابها يمثل حالة وجع تضاف إلى أوجاع المثقفين العراقيين في ظل كل هذا الخراب والتخريب.
2 عين الأسد.. الجريمة والعقاب في العراق
حامد الكيلاني
العرب بريطانيا
بعد 16 سنة من احتلال العراق تبدو المناخات السياسية أكثر تعقيدا من السنة الأولى التي اتسمت بنشوة التدافع على استرضاء الحاكم المدني الأميركي، بول بريمر، الذي تم تعويضه بالحاكم العسكري لولاية الفقيه قاسم سليماني قائد فيلق “القدس” في الحرس الثوري الإيراني. فوضى أمنية لا يمكن إنكارها بعد فترة تدريب طويلة في صناعة الإرهاب ومكافحته واحتلال المدن وتحريرها ووضع الصبات الكونكريتية ورفعها، وما بينها من قتل على الهوية وفتاوى ومصالحات على مزاج سلاح الميليشيات ومقاعدها الانتخابية، حيث نشهد النهايات الموعودة لتنظيم داعش في آخر جيوبه السورية.
العراقيون مع اقترابهم من ذكرى كارثة الاحتلال يبدو أنهم أصبحوا أكثر قدرة على التأمل في الحفرة التي سقطوا فيها بعد أن جرّتهم إليها قوى سياسية انشغلت بترتيب أوضاعها، ثم وصلت إلى نقطة التقاء بعد انجلاء الرغبات وفوضى السلاح لتنتبه إلى حتمية النجاة بالخلاص من الواقع الذي وصفه رئيس الجمهورية برهم صالح بالدولة العميقة للفساد، وفي تصريح آخر يستنجد بأربعين سنة قادمة ليتعافى العراق من أمراض هذه الدولة.
الاعتراف بـ“العراق أولا” ينبغي أن يبدأ بالاعتراف بالفشل وبسقطة الاحتلال بما يفترض أن تؤدي إليه من معاينة الأضرار ومراجعة الحسابات للخروج من المأزق التاريخي، ومواجهة الحقائق بالإجابة على أسئلة تتعلق بتغير العلاقات مع الدولة العظمى المحتلة بانسحاب قواتها العسكرية التي وصلت أعدادها إلى 160 ألف مقاتل بعد تفكيك الجيش الوطني بمؤسساته ومعاهده وكلياته ومعسكراته وخبراته القتالية.
هل احتلت الولايات المتحدة العراق لتتركه إلى زعماء الميليشيات الإيرانية وجوعهم المزمن للجاه والمال والسلطة، أم أنها ضحت بالأموال الطائلة والآلاف من الجنود لتحافظ على مصالحها في العراق والمنطقة؟ أي أن الولايات المتحدة جاءت لتبقى، وذلك لا يعني أبدا الإبقاء على قواتها القتالية بما تكلفها، إنما بما يضمن مصالحها وإستراتيجياتها وبأقل التكاليف وخارج المساءلة والمحاججات القانونية الوطنية والدولية إن وجدت.
سفارة الولايات المتحدة في بغداد هي الأكبر في العالم من حيث المساحة والمنشآت والمهمات الوظيفية، بما يوازي قاعدة استخبارية وقاعدة دبلوماسية تتسع وتتقلص عند الحاجة لتراوح بين 6 آلاف إلى 15 ألف منتسب، وكذلك الأمر في قنصليتها في أربيل العاصمة الإدارية لإقليم كردستان.
إذا الولايات المتحدة “باقية وتتمدد” ولو ضمن سقف الدبلوماسية، أي بواجبات السفارة والقنصليات، أما إشارة الرئيس دونالد ترامب إلى تخصيص 3 مليارات دولار لتطوير قاعدة عين الأسد في الأنبار لمحاربة ومراقبة أنشطة الإرهاب وتدريب القوات العراقية، فهي تجيب دون لبس وعلى طريقة إشارات المرور لحركة سير القوى السياسية في العراق إن كانت حكومية أو برلمانية أو بتوجهات مشروع إيراني أو بنادق ميليشياوية صرفة، والغريب أن تلك الإشارة مرت بانسيابية ودون تعليق.
النظام الإيراني قال من كربلاء على لسان وزير الخارجية المستقيل محمد جواد ظريف “نحن باقون وهم سيمضون”، وهو ما تؤكده كل الأطراف المتصارعة على أرض العراق بما فيها تنظيم داعش الذي تتفاقم عملياته وسط مراجعة سياسية وعسكرية تصل حد الاتهامات باستذكار أرقام قتلى تنظيم الدولة في المواجهات الصادمة التي شهدتها المعارك في الموصل، وكيفية تضخيمها مقابل أرقام الضحايا الأبرياء الذين مازالت بعض جثثهم تحت الأنقاض وأصبحت عرضة لمزايدات ومناقصات تدحضها الأرقام الفعلية المسجلة لانتشال الجثث وهي بالآلاف.
تحجيم أرقام الضحايا الأبرياء من المدنيين والإفاضة في أعداد قتلى داعش لا يحققان المطلوب في الحرب على الإرهاب من ناحية الخطط الأمنية أو في إعادة النازحين وإعمار مدنهم، أو حتى للترويج لمكاسب شخصية وحزبية، فأرقام المقاتلين من داعش هي أرقام مبعثرة وغير دقيقة، تتحدث حسب قراءات استخبارية ومن مصادر في السلطة عن تقديرات تصل إلى أكثر من 10 آلاف مقاتل.
السؤال يتجه إلى التحقيق في أعداد قتلى داعش في معارك الموصل وهل كانت مؤثرة جدا في هيكلية التنظيم أم أن غالبيتهم هربوا باتجاه سوريا. المعلومات العسكرية أثناء تلك المعارك كانت تستبعد فتح الثغرات لهروبهم رغم المطالب المتعددة من أجل تخفيف الخسائر بين المدنيين، لكن قراءة الموقف الآن تؤكد أن أعداد قتلى التنظيم أقل من المعلن وأن أرقام الضحايا من المدنيين لا تتناسب مع ما كان يذكر عن هامش الخطأ في العمليات الحربية.
الأخطر كامن في المتبقي من الأفراد، وهم كما هو واضح باقون أيضا ويتمددون لأن من تبقى منهم هو الأكثر تدريبا وقدرة على المناورة والبقاء على قيد الحياة رغم الهجمات الواسعة من سلاح جو التحالف الدولي أو هجمات المعارك البرية التي شرذمتهم إلى مجاميع متناثرة قد تمكنهم خبراتهم من خوض حرب عصابات طويلة.
الميليشيات المذهبية إن كانت تحت إمرة الحشد “الشعبي” أو خارجه ممن تشتكي منها الحكومة وتعترف بفشل السيطرة عليها، هي الأخرى باقية وتتمدد في إمكاناتها وتجربتها القتالية أو في التكيف مع أهداف المناورة الإيرانية بالتغلغل في مفاصل السياسة وإدارة شؤون الأمن والتحريض على خروج القوات الأجنبية لإملاء الفراغات. ما يتبقى هم العراقيون الذين لا مصلحة لهم بدولة الفساد العميقة أو حفرة الاحتلال.
3 ندم عناصر داعش هدفه البحث عن مخرج من المأزق
محمود زكي العرب بريطانيا
تطرح الهزيمة النهائية الوشيكة لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا عدّة أسئلة تتمحور حول مصير التنظيم المتشدد والخطر الذي يمثله أتباعه المؤمنون إيمانا راسخا بأفكار من قبيل “استهداف الغرب الكافر للمسلمين” و“الجهاد في سبيل الله” و”التآمر ضد الإسلام” وأفكار أخرى غرسها تنظيم الدولة الإسلامية في أذهانهم وعلى رأسها فكرة “أرض الخلافة”. فكل هذه المعتقدات الراسخة تجعل مشاعر الندم التي أبداها من كانوا من بين المحاصرين في الجيب الأخير لداعش في شمال شرق سوريا تبدو بوضوح مشاعر زائفة هدفها البحث عن مخرج للإفلات من العقاب فقط دون نوايا حقيقية لـ”التوبة”. لكل هذه الأسباب ترفض الدول الغربية السماح بعودة مواطنيها الذين قاتلوا في صفوف داعش وتقبل فقط بعودة أطفال المقاتلين مع التردد في قبول عودة النساء.
بات الشغل الشاغل لكافة القوى الدولية متأرجحا حول مصير فلول تنظيم الدولة الإسلامية من عائلات وأسرى متعددي الجنسيات من دول شرق آسيا وأوروبا ودول عربية، مع هزيمة داعش شبه النهائية في سوريا.
فيما احتفل الكثيرون بإعلان النصر في آخر معاقل داعش بسوريا، ورفعت أعلام الانتصار وابتهج العالم بإنهاء أحد أسوأ كوابيسه في العقود الأخيرة، بدا المشهد أكثر ضبابية حول المخاطر المحتملة والقادرة على خلق أمواج وعواصف أخرى من التطرف.
يحذر الكثير من الباحثين والخبراء من كون هزيمة التنظيم الدموي هي نهاية حقبة الخطر الأصغر وبداية الإذعان لمواجهة أكثر شراسة وهمجية من قبل المتطرفين المفعمين برغبة أشدّ في الانتقام، والثأر من تفتيت قلب أيديولوجيا الخلافة وحلم الدولة الإسلامية. وهو الأمر الذي طرح مسألة ماذا يمكن أن يفعله العالم بشأن التعامل مع هؤلاء الجهاديين وأسرهم.
أجابت أستاذة العلوم السياسية بجامعة ميريلاند الأميركية فيرا ميرونوفا عن تلك المعضلة الصعبة، بتفنيد ديموغرافي لهؤلاء المهزومين الجهاديين عبر دراسة نشرت مؤخرا بالمجلة العلمية “تريرست بريسبكتيف” قامت خلالها بعقد مقابلات مع جنود تابعين لداعش قبض عليهم في سجون سورية وعراقية وتركية خلال العامين الماضيين. ترى ميرونوفا أن التحقق من مصائر الجهاديين وضمان عدم تحقيقهم أي تأثير في المستقبل متعلقان بفهم طبيعة تواجدهم في سوريا واتساقها مع كلّ مِن الخلفية العلمية والاجتماعية القادمين منهما.
قسمت الدراسة الجهاديين المهزومين حديثا بحسب إطارين؛ الأول طبقا للأهداف التي دفعت نحو الانضمام في البداية. والثاني مرهون بتحول تلك الأهداف مع عواقب الحرب والهزيمة. إذ يعُقد التنوع الكبير في جنسيات وأشكال وأفكار المنتمين إلى داعش في سوريا والعراق مسألة تطبيق نظام واحد وآلية مشتركة لمجابهة خطر تطرفهم وردعهم مستقبلا.
أسباب الانتماء إلى داعش
البعض من نساء مقاتلي داعش لجأن إلى إبداء شعور الندم لكنه يبدو خيارا فرضته عليهن الظروف المنبثقة عن انحسار التنظيم المتشدد وحملة التضييق المتواصلة عليهالبعض من نساء مقاتلي داعش لجأن إلى إبداء شعور الندم لكنه يبدو خيارا فرضته عليهن الظروف المنبثقة عن انحسار التنظيم المتشدد وحملة التضييق المتواصلة عليه فبحسب الدراسة، توجد خمسة أسباب أساسية جذبت الجهاديين إلى داعش، بداية من أفراد انضموا لأغراض عقائدية مربوطة بأفكار الموت والشهادة وضمان دخول الجنة. وهؤلاء دائما اعتلوا مناصب قيادية داخل التنظيم وترأسوا الصفوف الأولى في الهجوم.
وتأتي أنواع أخرى منها الباحثون عن المدينة الفاضلة أو الـ”يوتوبيا”؛ وهم أغلب الظن لم يستهدفوا التضحية بأرواحهم، ولكنهم بحثوا عن خلافة إسلامية بلا خطيئة تطبق معايير الدين بطريقة ترضيهم ولا تقبل المساس بها، بالإضافة إلى مرتزقة ومجرمين اختاروا داعش بحثا عن الثراء والمال.
وتشير الدراسة إلى أن أغلب من جاءوا من شرق آسيا حملوا سجلا إجراميا بين سطو مسلح وقتل وسرقة بالإكراه، ورأوا في داعش تحقيقا لأحلامهم بمكاسب أشمل ومساحة أكبر لممارسة رغباتهم الإجرامية بلا رقيب. وتقول ميرونوفا “البعض لم يخبئ على قادة داعش نيته في البحث عن المال والقتل، وهم لم يرفضوا انضمامه، وذلك أمر غريب يكشف مرونة عقائدهم الزائفة”.
يضاف إلى تلك الأنواع، نمط آخر من المنضمين اختاروا داعش فقط بحثا عن مرتب ثابت وكبير ومكاسب أخرى مادية كسيارات وعقارات داخل المدن التي سيطر عليها التنظيم، بينما البعض أجُبر على الانضمام من مزارعين وأهال بمدن وقرى في شمال سوريا رفضوا النزوح وترك بيوتهم.
وتتناسق رواية ميرونوفا مع ما حكى عنه يوسف العائض -وهو أحد المقبوض عليهم من قبل قوات سوريا الديمقراطية- متحدثا لصحيفة “دي فيلت” الألمانية، حيث يقول إنه مجرد مزارع فقير في قرية ذيبان بسوريا تعاون مع داعش بتقديم حصاد أرضه لسد حاجة جنود التنظيم مقابل جزء من المال والعيش في سلام.
ولا ينكر العائض أنه استحب العمل مع التنظيم لأنه كان يدفع بسخاء وأنقذ المزارعين من الإفلاس والجوع قائلا “يدفعون (مقاتلو داعش) للمزارع 9 دولارات يوميا وهو ضعف الأجر اليومي لشخص آخر في البلاد المجاورة”.
لجأ الكثير من عائلات مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية -سواء الأسرى في سوريا والعراق أو الموجودون داخل مخيمات اللجوء التي خصصت لاستقبالهم- إلى إبداء شعور الندم في كل التصريحات الإعلامية والتحقيقات الأمنية لكن ندمهم لا يبدو حقيقيا بل هو خيار فرضته عليهم الظروف المنبثقة عن انحسار التنظيم المتشدد وحملة التضييق المتواصلة عليه.
توجد خمسة أسباب أساسية جذبت الجهاديين إلى داعش، بداية من أفراد انضموا لأغراض عقائدية مربوطة بأفكار الموت والشهادة وضمان دخول الجنة. وهؤلاء دائما اعتلوا مناصب قيادية داخل التنظيم وترأسوا الصفوف الأولى في الهجوم
الكثير من الذين كانوا ضمن تنظيم الدولة الإسلامية أعلنوا ندمهم لكنه لم يكن سوى وسيلة إنقاذ قد تقيهم شر العقاب الذي ينتظرهم، وهو ما يبرز في تعبير الكثير منهم -خاصة من الحاملين لجنسيات بلدان أوروبية- عن رغبتهم في استعادة حياتهم السابقة والقول إن انضمامهم إلى تنظيم داعش قبل سنوات “كان خطأ”.
فهؤلاء يدركون أن منظومة حقوق الإنسان المترسخة في الغرب هي آخر ملجأ لهم للإفلات من العقاب فهم يدركون أن إجراءات إعادتهم ستتضمن في أسوأ الحالات محاكمة تفضي إلى عقوبة بالسجن لفترة محددة تنتهي ليعودوا إلى حياتهم العادية والتمتع بالحرية. لنفس الأسباب يرفض المنتمون سابقا إلى تنظيم داعش البقاء في الأسر لدى قوات سوريا الديمقراطية أو لدى السلطات أو في العراق لأن مصيرهم في هذه الحالة غير مضمون.
صحيح أن الكثير من المنتمين سابقا إلى تنظيم الدولة الإسلامية أبدوا ندمهم لكن لا أحد منهم على الإطلاق أعلن إدراكه أن الجهاد فكرة متطرفة وسلبية تم الاتكاء عليها لتبرير غايات دموية وأهداف لا يربطها أي منطق بحقيقة الإسلام وفهمه الصحيح. فشعور الندم لم يكن مطروحا عندما كان التنظيم المتشدد في أوج قوته ويغدق الأموال على تابعيه وعائلاتهم، بل ظهر هذا الشعور فقط عندما نقصت التمويلات وأصبح حتى تأمين وجبة يوم واحد مهمة صعبة في ظل ملاحقة التنظيم إلى آخر جيوبه.
ورغم أن الكثير من هؤلاء المنضمين لم تكن لهم أهداف متشددة، فإن ذلك لا يسهل مهمة السلطات -في سوريا أو في العراق أو في البلدان الأوروبية- في استيعاب الخطر وقنصه.
ويذهب مراقبون إلى أن استمرار سيطرة داعش على مساحات كبيرة من سوريا والعراق بداية من عام 2014 حتى عام 2018، ومحاولة صناعة كيان لدولة لها شكل ونظام تعليمي وفكري ساعدا في تغيير عقول الكثير من هؤلاء الذين لم يحملوا فكرا متطرفا من البداية. وتزداد الصورة تعقيدا مع صعوبة التوغل داخل عقول الآلاف من الذين قبض عليهم وأضحى البت في مدى تشددهم وكيفية التعامل معهم مسألة ضبابية.
ويعكس تواتر طرق التعامل الدولية مع فلول داعش، مخاطر عدة؛ فدول مثل أوروبا تنأى بنفسها عن استقبال هؤلاء، بينما يرغب الداعشيون الأوروبيون في العودة إلى أوطانهم لضمان محاكمة عادلة وقانون يمكن أن يطلق سراحهم بعد فترة رغم كل ما اقترفوه من جرائم. بينما لا يبحث متطرفون من دول عربية كمصر وتونس عن طريق العودة إلى بلدانهم لأنهم يدركون جيدا أنهم لن يلقوا مصيرا أفضل داخل السجون العربية، بل ربما الخضوع لمحاكمة عراقية أو سورية ستكون أكثر رحمة.
تخبط أوروبي
صعوبة التوغل داخل عقول الآلاف من الذين قبض عليهم وأضحى البت في مدى تشددهم وكيفية التعامل معهم مسألة ضبابيةصعوبة التوغل داخل عقول الآلاف من الذين قبض عليهم وأضحى البت في مدى تشددهم وكيفية التعامل معهم مسألة ضبابية
يقول شارلي وينتر -وهو باحث متخصص في مكافحة الإرهاب والجماعات المتشددة يقيم في الولايات المتحدة- إن غياب الرؤى عن كيفية التعامل مع أفراد داعش بعد هزمهم نهائيا يزيد من خطر تحول هؤلاء إلى قنابل موقوتة تنفجر في وجه أوروبا ودول أخرى.
ويدلل وينتر، في تصريحات لـ”العرب”، على التخبط الأوروبي قائلا إنه بدا واضحا من الجدال الواسع الذي صاحب قضية سحب الجنسية من المواطنة البريطانية البنغالية شـــميما بيغوم، التي هاجرت إلى سوريا للانضمام إلى داعش عام 2015، لمنع عودتها إلى لندن، أن هناك تذبذبا واضحا في آلية استيعاب الإرهابيين.
وتكشف أمثلة أخرى ذلك التخبط العالمي وتناقضه، فدول أخرى مثل الولايات المتحدة رفضت بشكل واضح عودة مواطنيها المتطرفين كحالة هـــدى مثنى اليمنية الأصل، بينما عقدت الحكومة الألمانية اتفاقا مع العراق على محاكمة الألمان المقبوض عليهم تحت سلطة القضاء العراقي.
ويشير وينتر إلى أن عدم الإجماع على نظام استيعاب ومراقبة واحد يفرض على العالم الانتظار لخروج “غول” جديد أكثر عنفا وشراسة ويهاجم في مختلف بقاع العالم.
وتبدو الصورة أكثر قتامة مع التحذيرات من أن التنظيمات المتطرفة بدأت في التمحور مجددا لاستيعاب صدمة الهزيمة الكاملة والخروج بتكوين متطرف جديد أكثر تشددا ورغبة في الفتك بالعامة، تماما مثلما تحول المقاتلون الأفغان في تسعينات القرن الماضي إلى تنظيمات متعددة انتهت بتكون تنظيم القاعدة، ومن رحم القاعدة ولد تنظيم داعش، وسيكون على العالم البقاء على وضعية المترقب لمشاهدة ولادة مسخ جديد.
فكرة ولادة تنظيم متطرف جديد بتسمية جديدة لكنه يحمل نفس الأفكار والأيديولوجيا وحتى نفس أساليب الإقناع التي استقطب بها داعش -ومن قبله القاعدة- عناصره، تستند إلى أن فكرة “الجهاد في سبيل الله” وأن “الإسلام مستهدف من قبل الغرب الكافر” وأن أميركا تترأس القوى التي تتآمر على المسلمين لا تزال راسخة في أذهان الذين تم إجلاؤهم من آخر جيب محاصر لتنظيم الدولة الإسلامية في الباغوز بشمال شرق سوريا.
البعض من زوجات المقاتلين اللاتي خرجن في الأيام الأخيرة من آخر جيب لتنظيم الدولة الإسلامية بشمال شرق سوريا أعلن صراحة ودون أي تردد أن إيمانهن بـ”أرض الخلافة” راسخ وأن “الدولة الإسلامية” لم تنته، مبديات عداء صريحا وواضحا للغرب.
فكرة ولادة تنظيم متطرف جديد بتسمية جديدة لكنه يحمل نفس الأفكار وأساليب الإقناع التي استقطب بها داعش -ومن قبله القاعدة- عناصره، أصبحت مطروحة
وبنفس الثقة قالت أرملة أحد مقاتلي داعش وتدعى أم ولاء إنها لم تر مقاتلين أو أشخاصا يحملون السلاح ضد الولايات المتحدة بل رأت الأميركيين يقتلون الكثيرين من الأشخاص، معتبرة أن “أميركا ترهب الناس أكثر من داعش”. وتابعت “رأيت أميركا تقتل المسلمين في العالم كله ليس فقط في سوريا. يجب أن يعرف العالم أن الأميركان إرهابيون”.
هذه التصريحات المدججة بالعداء ضد الولايات المتحدة والغرب بشكل عام ليست سوى مثال عن المشاعر التي تتملك المئات من أتباع ومقاتلي داعش من الذين غادروا المعقل الأخير للتنظيم في شمال شرق سوريا خلال الشهر الماضي.
ومع استعداد قوات سوريا الديمقراطية لشن الهجوم الأخير على تنظيم داعش في جيبه الأخير في الباغوز، يؤكد الخبراء أن السيطرة على هذه المنطقة ستمثل علامة فارقة في جهود محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. ورغم ذلك يقول الخبراء إن التهديدات الأمنية التي يشكلها التنظيم لا تزال مستمرة مع إمكانية شنه هجمات. وكانت كبرى هزائم تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2017 عندما خسر معقليه الرئيسيين في الموصل العراقية والرقة السورية.
4 لن ينتهي “داعش” إلا بنهاية البغدادي
فاطمة عبد الله
الوطن البحرينية
كما أنهى صلاح الدين الأيوبي الكردي آخر دولة صليبية بعد معركة حطين في الشام 4 يوليو 1187، ينهي الأكراد من قوات سوريا الديمقراطية مرة أخرى دولة لا تنتمي للواقع الجغرافي أو السكاني أو السياسي أو حتى الاقتصادي، حيث ينهون «خلافة» عابرة أثارت الرعب على مدى سنوات بين العراق والشام تحت اسم «داعش».
بتاريخ 29 يونيو 2014 أعلنت «داعش» عن الخلافة الإسلامية ومبايعة البغدادي خليفة المسلمين، لكن الأخبار الواردة من الأراضي التي ظهرت منها «داعش» تقول إن بقايا المقاتلين يشعرون بـ»غضب وخيبة أمل عميقة»، لأن زعيمهم، أبوبكر البغدادي، اختفى في الصحراء بدلاً من المشاركة في المعركة الأخيرة للتنظيم ببلدة «باغوز»، شرقي سوريا. وقد رجح مسؤولون أنه ربما يكون في الأنبار غرب العراق، وهي محافظة صحراوية، كانت توجد لقادة «الدولة» فيها روابط أسرية. فهل فعلها البغدادي وهرب كما فعلها سابقاً في نوفمبر 2017 حين أفادت أنباء بأن البغدادي هرب من قضاء راوة بالعراق، واتجه إلى الأراضي السورية بسيارة تاكسي صفراء بعد أن أصبحت حياته تحت التهديد. لكنه لم ينسَ أن يدعو عناصر التنظيم إلى الاستماتة في القتال وعدم التسليم، إلا أنهم خذلوه وهربوا بسياراتهم إلى الأراضي السورية. ولكنهم استسلموا في المعركة الأخيرة الشهر الجاري. غير أن من استسلموا لا يتعدون 1500 إرهابي، فأين البقية وماذا نتوقع من البغدادي الهارب؟
لا تعني هزيمة «داعش» في دير الزور انتهاء خطر التنظيم، في ظل قدرته على تحريك خلاياه النائمة في المناطق المحررة وانتشاره في البادية السورية والعراق، بل يتوقع أن يقوم بهجمات انتقامية خارج المنطقة وإعادة توزيع إرهابييه في مناطق أخرى مثل أفريقيا. أو العمل السري وتحيّن الوقت المناسب للانقضاض على من حطموه. إذ فعلها في أوقات مشابهة لما يحل به الآن، ولعلنا نذكر في 2017 عندما شنت خلايا نائمة في العراق حملة متفرقة من عمليات الخطف والقتل لإضعاف الحكومة، كما نفذ التنظيم تفجيرات كثيرة في شمال شرق سوريا. وقد حذر رئيس وكالة المخابرات البريطانية «إم أي 6» من أن التنظيم سيعاود شن هجمات مختلفة في بلدان مختلفة، ربما بعمليات فردية دون توجيه منه.
* اختلاج النبض:
قد يعيّن «داعش» زعيماً جديداً لو تم قتل البغدادي، لكن بقاء الزعيم حياً يعني بقاء الفكرة، فهو الرأس المدبر وهو من تحققت على يده توسعات «داعش» وانتصاراته، لذا يجب قطع رأس الحية وقتل البغدادي.
5 هل يعود داعش ببزة جديدة؟ د. محمد عاكف جمال البيان الاماراتية
هناك مقاربات متناقضة داخل المؤسسة السياسية الأمريكية حول الإرهاب والموقف منه خلقت حالة من الإرباك تعيق صياغة موقف محدد وواضح من وجود القوات العسكرية في سوريا، حيث اتسمت القرارات التي اتخذت بشأن ذلك بالتردد بين سحبها أو إبقائها أو إبقاء بضعة مئات منها في إعلان صارخ يعكس الخلافات والتجاذبات بين البيت الأبيض والبنتاغون، وربما سنشهد ما يشبه ذلك فيما يتعلق بمستقبل هذه القوات في العراق بعد أن انتقد الرئيس ترامب بشدة وامتعاض سياسات بلاده الخارجية في العراق وسوريا في الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر العمل السياسي المحافظ، الذي عقد في ميريلاند في الثالث من مارس الجاري.
هذا الموضوع رغم أنه يبدو أمريكياً إلا أنه في الحقيقة ليس كذلك لأن الوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا هو بسبب الحرب على التنظيمات الإرهابية، التي نشطت في هذين البلدين، إذ سيترتب على الانسحاب المتسرع للقوات الأمريكية من سوريا أو تقليص عددها بشكل كبير تداعيات على الولايات المتحدة وعلى شركائها الذين قاتلوا معها وخصوصاً قوات سوريا الديمقراطية الفصيل الأكثر قرباً لها، فهو من هذا المنظور لا يهم الولايات المتحدة بالقدر الذي يهم دولاً أخرى في منطقة الشرق الأوسط أنتجت تنظيم داعش، وأنتجت التنظيمات الإرهابية الأخرى التي سبقته واكتوت بنيرانها، لذا يصبح من الضروري إضاءة بعض محاور التصدي للإرهاب وتقويم مدى فعالية ما أنجز في أطرها.
تساؤلات عديدة تطرح نفسها بقوة حول مستقبل المنطقة القلقة سياسياً ومجتمعياً وسط حالة اللا استقرار التي تشهدها بعض دولها والمآلات اللا يقينية التي تنتظرها وفي ضوء الفشل المتكرر في قراءة أحداثها ومن ثم إعادة إنتاج السياسات الخاطئة التي عملت على تفاقمها على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، لأن استراتيجيات بلدانها متأثرة إلى حد بعيد بالموقف الدولي من الإرهاب الذي تقود الولايات المتحدة التحالف الذي يتصدى له.
لا يجد المتابع للحركات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في العراق صعوبة في استنتاج أن هذه الحركات رغم هزائمها عسكرياً تعود لتتجدد في كل مرة بنسخة أخرى تحت مسمى جديد لا يقل قوة عن سابقه إن لم يكن أشد بأساً وصرامة، فقد برز أول هذه التنظيمات عام 1999 في الأردن تحت مسمى «جماعة التوحيد والجهاد» بزعامة أبو مصعب الزرقاوي وبدأ بممارسة نشاطاته في العراق بعد التغيير في 2003 وأعيدت تسميته مراراً ليصبح في نهاية المطاف «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بزعامة أبو بكر البغدادي التي عرفت اختصاراً باسم (داعش) عام 2014 وليكون النسخة الأكثر سعة وهمجية من سابقاتها، وفق هذه السياقات ألا يصبح التساؤل حول طبيعة النسخة القادمة من هذه التنظيمات منطقياً وفي محله؟
منذ البدايات الأولى لسيطرة تنظيم داعش على أجزاء هامة من العراق انخرط في صفوفه عدد من العسكريين في شتى الصنوف الذين وظفوا خبراتهم وقدراتهم لصالح هذا التنظيم وعملوا على بناء جيش خاص به من أبناء المناطق التي احتلها وليس من المستبعد أنه ترك عند انسحابه جهاز مخابراته وخلاياه النائمة.
من الصعب الاقتناع بأن تنظيم داعش قد انتهى لمجرد هزائمه العسكرية وخسارته للأرض، وذلك لأن مبررات ظهوره لم تنتهِ أو تزُل، فعلى الرغم من انقضاء أكثر من سنة على طرده من المدن التي كانت تحت سيطرته إلا أنه لا يزال يقوم بعمليات هنا أو هناك. الحملة على هذا التنظيم قد اقتصرت على الجانب العسكري دون إعارة كبير أهمية لعوامل أخرى تكمن وراء توفير المناخ الملائم لنشأته، فهناك ما يساعد على عودته، فوجود ما يقرب من خمسة ملايين عراقي يعيشون في مخيمات النزوح أو في مناطق سكناهم التي عادوا إليها، حيث لا يتوافر فيها أبسط متطلبات الحياة لافتقارها إلى البنى التحتية من كهرباء ومياه ووقود وشبكات النقل والاتصالات، وتفشي البطالة وضعف أو انعدام الفرص أمام الشباب المحبط وهي عوامل تساعد التنظيمات الإرهابية على كسب الكثير من هؤلاء.
لقد وفرت الولايات المتحدة، على المستوى الدولي، الجهد الأكبر في التصدي للإرهاب إلا أنها تنوي التخلي عن الاستمرار بالمهمة بحجة أنها قد أنجزت، وهو مما لا يتفق معها الكثيرون.
6 مذكرات بندر بن سلطان
فهد الدغيثر الحياة السعودية
سلسلة أحاديث الأمير بندر بن سلطان التي نشرتها صحيفة «الإندبندنت» بنسختها العربية الجديدة وانتهت قبل أسبوع، فتحت الباب على مصراعيه لكل من يريد التعرف على العمل السياسي بأعلى وأصعب مستوياته. الذي يشد الانتباه أولاً هو المواقف السعودية الحاسمة التي كانت تصدر من القيادة وظهرت بجلاء في ثنايا حديث الأمير، فترة عمل الأمير سفيراً لبلاده لدى الولايات المتحدة لمدة ٢٢ سنة متواصلة متوافقة تماماً مع سنوات حكم الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- وهي الفترة التي شهدت في مقدمتها استمرار حرب العراق وإيران حتى انتهائها وغزو العراق للكويت الذي انتهى بتحرير الكويت ومفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية وعملية الحادي عشر من سبتمبر وغيرها من الأحداث المهمة الأخرى، كما أن هذه الفترة احتوت تبادل أربعة رؤساء لأميركا الحليف الأهم والأقوى للمملكة، لفترات مختلفة، وهم الرئيس رونالد ريغان وجورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن. من حسن حظ الأمير السفير أنه لم يعاصر فترة الرئيس باراك أوباما.
المؤشر الأهم هنا هو ثبات وصلابة العلاقات السعودية – الأميركية، على رغم التفاوت الكبير بين سياسات البلدين في قضايا عدة كالقضية الفلسطينية على سبيل المثال، مهندس هذه العلاقة في فترة عمل السفير كان الملك فهد بن عبدالعزيز والملك عبدالله – رحمه الله – فيما بعد، وساعدهما الأميران سعود الفيصل وزير الخارجية – رحمه الله – وبندر بن سلطان، من كان يعتقد أن السياسة تدار بالمكالمات الهاتفية من القصور أو جلسات المخيمات أو من خلال دفع الرشاوى وشراء الذمم كما تمارسه بعض الأنظمة المراهقة حالياً فعليه إعادة حساباته.
تأملوا فقط مهمة الأمير بندر عندما قرر الملك عبدالله -وكان آنذاك ولياً للعهد- الدخول في مساعي رفع العقوبات عن ليبيا بطلب من الليبيين أنفسهم، يصل الرجل إلى مطار جربه في تونس بسبب غلق الأجواء الليبية، ثم يضطر لركوب عربة لسبع ساعات أملاً في لقاء معمر القذافي في طرابلس والذي لم يكن موجوداً في العاصمة. ما العمل فالقذافي في مدينة سرت وتبعد عن العاصمة ١٢ ساعة بالسيارة. هنا اضطر الأمير أن يعتذر عن اللقاء ما لم تتوافر له طائرة وهذا ما حدث عندما رتبوا له طائرة ليبية أقلته إلى سرت على اعتبار أن الطيران الداخلي غير مشمول بالعقوبات. تخيلوا حال الرجل الذي طار من واشنطن إلى جدة فمدينة جربه التونسية فطرابلس الليبية بالسيارة ثم إلى سرت. أكثر من ٣٦ ساعة متواصلة من التعب والمعاناة، كل هذا فضلاً عن ما دار من حديث عجيب ومزعج مع ذلك الشخص المتقلب الأطوار. لا ننسى بالطبع فكرة الأمير بضم الرئيس الراحل نيلسون مانديلا للتفاوض كشاهد خوفاً من إنكار القذافي فيما بعد. نجح الأمير بمهمته على رغم تعقيدات المهمة وبعد المكان عن مقر إقامته.
المثال الآخر حول العمل السياسي الذي أوكل به الأمير بندر هو تنفيذ رغبة الملك فهد بعد اتضاح دور الصواريخ في حرب العراق وإيران، ببناء قوة صاروخية سعودية رادعة، وذلك بشراء صواريخ من الصين بعد أن تعذر عليه تأمين ذلك من الدول الغربية. كيف ولماذا اختار الملك هذه الشخصية تحديداً لتنفيذ المهمة يدعو إلى التأمل وبعد النظر الذي كان يتمتع به الملك فهد. يقول الأمير إن هذه المهمة كانت من السرية العالية إلى درجة أنه لا يعلم عنها أحد قبل اكتمالها غير الملك وهذا السفير. تبع ذلك بالطبع بعض ردود الفعل المتشنجة من وزير الخارجية الأميركي آنذاك جورج شولتز، والتي كادت أن تشكل أزمة سياسية كبيرة بين البلدين لولا مهارة الأمير بندر ودهاؤه وتدخل الرئيس ريغان.
من زاوية أخرى وعطفاً على حديث الأمير، نلاحظ أن الحكومة السعودية لم تكتفِ فقط بالدفاع عن مصالحها وهو حق مشروع بالطبع. في حديث الأمير بندر تفاصيل كثيرة ومثيرة عن دفاع بلاده عن فلسطين ولبنان ومصر والكويت إضافة لليبيا، هذا خلافاً لمواضيع أخرى لم يتطرق لها السفير كاليمن والبحرين والسودان وغيرها، يأتي هذا الحديث في غاية الأهمية، تحديداً في هذه الأيام التي يعلو بها بعض الضجيج عن التشكيك في المواقف السعودية الثابتة لأسباب لا تخفى على كل ذي لب، لو يقوم أحدنا بحسبة بسيطة فربما يجد أن الأمير بندر أمضى أضعاف الساعات في خدمة قضايا عربية أخرى خارج مهمته كسفير لخدمة بلاده. لا يوجد عندي أدنى شك بأن تلك السياسة مستمرة حتى هذا اليوم، الفرق ربما يكمن في نفاد الصبر السعودي مع بعض الكيانات التي لم تعد تخفي عداءها ومخططاتها لإضعاف المملكة والذي تزامن مع انضمام السعودية لدول الـ20 وتبنيها رؤية تنموية جديدة وطموحة. أتحدث هنا عن أحزاب إسلامية مشبوهة وأخرى ممولة من إيران ودويلات صغيرة لا تكل ولا تمل من محاولات إلحاق الأذى، ما دفع الحكومة السعودية إلى مواجهة هذه الأطراف علناً واتخاذ التدابير غير المسبوقة لمعاقبتها.
السياسة السعودية التي حضرت هناك هي اليوم حاضرة بقوة مع تغير الأشخاص، إذ إنه وللمرة الأولى نعاصر الزمن الذي تم به تعيين سفيرة سعودية تعتلي منصب السفير في أعظم دولة وأهم حليف للمملكة في العالم. لا غرابة أن هذه السفيرة الأميرة هي ريما بنت بندر بن سلطان ابنة الأمير بندر ومن نهلت من مدرسته وتجربته طيلة حياتها.
ما تجدر إليه الإشارة هو أن هذه المقابلة، التي أسهم في ظهورها رئيس تحرير «الإندبندت العربية» الصحافي السعودي الشاب عضوان الأحمري، تعتبر الأولى في محتواها وأهميتها، إذ لم يسبق لمسؤول سعودي كبير باستثناء غازي القصيبي -رحمه الله- أن تحدث بهذه الدقة عن تجربته ونجاحاته وفشل بعضها وما أحوجنا لمثل ذلك. نتمنى ألا تكون الأخيرة كون مثل هذه المكاشفات خصوصاً بعد مضي عقود على حدوثها وانتفاء السرية عنها تعتبر مهمة وملهمة في بناء التجارب العميقة في علوم السياسة وبناء العلاقات مع الدول وتفادي الأخطاء في عالم تكتنفه المتغيرات كل يوم. لعلنا نلحظ ذلك بصفة مستمرة في الدول الغربية، إذ وبمجرد خروج المسؤول من منصبه يشرع بتأليف كتاب السيرة الذاتية ويستعرض مع العالم من حوله ما حدث إبان فترة عمله وكيف تعامل مع كل ملف.