3 مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم الاثنين

1 الأمن القومي العربي (2 – 3) عبيدلي العبيدلي
الايام البحرينية

وقبل تناول موضوع التهديادات ذات الطابع الأمني التي تحيط بالبلاد العربية، لا بد من التوقف، وبتجرد علمي موضوعي، عند بعض السمات المشتركة لتلك البلاد، ذات الاتصال المباشر بقضايا الأمن القومي، والتي يمكن رصد الأكثر حضورا بينها في النقاط التالية:
1. الطبيعة السياسية التي تحكم الواقع العربي، إذ تتحكم في السلوك السياسي العربي سمتان أساسيتان تتضاربان فيما بينهما: الأولى هي الانتماء القومي العربي الذي يسيطر، وبتفاوت على سلوك المواطن العربي، وهو الانتماء العروبي، الذي تفرضه عوامل التاريخ المشترك، والرقعة الجغرافية المتصلة، والانتماء الديني للغالبية العربية الساحقة، كما يطرح المنتمون للفكر القومي، بمختلف اتجاهاته، منطلقين في دعوتهم التوحيدية، من خلفية الوحدة في الحضارة، واللغة والتاريخ. على نحو موازٍ، هناك الواقع السياسي العربي الذي يمزق الكتلة العربية إلى مجموعة تفوق العشرين كيانًا سياسيًا، تتفاوت فيما بينها من حيث، مصادر الدخل وحجمه ومكوناته. يخلق هذا الواقع نوعًا من «الانفصام» السياسي، الذي يجعل من القول بوجود أمن عربي مشترك، على النحو الذي يوصف به أمن بلدان أخرى شبه مستحيل. فمن المنطق «الأمني»، القول بوجود أمن قومي أمريكي، أو فرنسي، أو حتى ألباني، في حين يصعب القول بوجود أمن عربي بفضل التمزق السياسي، الكياني، الذي يشظي الواقع العربي. والحديث هنا لا يقف عند حدود تفاوت في طبيعة الأمن، أو مستواه، بل يصل، أنه في محطات تاريخية معينة شكلت إحدى الدول العربية تهديدا أمنيا مباشر لشقيقتها العربية، بفضل المصالح الضيقة لهذه الدولة العربية على حساب الدولة الأخرى. بل وجدنا في حالات معينة أن تلك الدولة، تشكل تهديدا أمنيا مباشرا للدولة العربية الأخرى. شاهدنا ذلك عندما غزا صدام حسين الكويت في أواخر القرن العشرين، وكما تصادمت عسكريًا بشكل مباشر أو عبر أطراف أخرى بلدان المغرب العربي تحت مسمى قضية الصحراء المغربية. وهناك قائمة طويلة من الحالات المشابهة التي لا تستحق السرد هنا.
2. التنوع الإثني، وإن جاز القول العرقي لمكونات العرب المجتمعية، حيث تحتضن الكتلة السياسية العربية، مجازًا، مجموعة لا يستهان بها من التعددات النابعة من تلك المصادر التي لم تنجح الحكومات العربية، حتى يومنا هذا، في صهرها في بوتقة وطنية واحدة، دع عنك النجاح في صهرها في البوتقة الأكثر شمولية وهي الدائرة العربية. وشكل النزوع السياسي الذي حكم سلوك العديد من تلك القوميات، أو الإثنيات مصدر تهديد مباشر وخطر على الأمن العربي، سواء بأنشطته السياسية الداخلية التي لم تتردد في المطالبة بالانسلاخ من المكون السياسي العربي، أو الاستعانة بطرف أجنبي ضد الكيان السياسي العربي القائم. هذا التنوع الذي يكاد أن يكون حالة عربية استثنائية بلغ في حالات معينة مصدر تهديد مباشر وخطر لـ«الأمن العربي»، عندما لم يتردد هذا المكون «الأقلي» أو ذاك من الاستعانة بأطراف خارجية معادية للعرب من أجل الاستقواء بهم على المكون العربي الأكثر شمولية. نورد هنا مثالين، قد يتفاوتان في مطالبهما، ومن ثم في مستوى الخطورة التي مثلاها، لكن كل منهما على حدة شكل وفي مرحلة تاريخية محددة ذلك الخطر الأمني الذي نتحدث عنه. فهناك أولاً، الحالة الكردية، والتي شكلت النموذج الأكثر حضورًا عندما لم تتردد قيادة الحركة الكردية العراقية من الاتصال بالصهيوني كي «ينتصر» لها ضد معركتها التي تخوضها ضد الحكومة المركزية العراقية. يمكن ان تساق العديد من المبررات لهذا السلوك الذي ليس هنا مجال الخوض فيه، كي لا نحرف نظر القارئ عن القضية المركزية، وهو ان ذلك الاتصال شكل خرقًا أمنيًا هدد مقومات منظومة الأمن العربي التي سوف نتحدث عنها. على نحو موازٍ هناك الحالة الأمازيغية في المغرب العربي، فمهما طرحت المبررات التي دفعت بكل المنادين بحقوق تلك الأقلية، لكن تلك الحقوق لا ترقى إلى تبرير استعانة قيادة تلك الحركة بدول مثل فرنسا كي تدس أنفها في قضايا داخلية مغاربية مست من خلالها الأمن لدول مثل المغرب والجزائر، بل وحتى ليبيا.
3. التفاوت في تحديد الطرف الخارجي الذي يشكل العنصر الأكثر تهديد للأمن العربي، سواء كان ذلك الطرف يمثل حضورًا إقليميًا أم ينتمي للخارطة السياسية العالمية. نورد هنا مثالين الأول منهما إقليمي والثاني دولي. فعلى المستوى الإقليمي وجدنا تفاوتًا واضحًا في تحديد الطرف الأشد خطورًا، حتى في هذه المرحلة التاريخية من التطور السياسي العربي. فاليوم هناك من لا يزال يضع الكيان الصهيوني في قائمة القوى الإقليمية من حيث درجة الخطر الذي تمثله على الأمن القومي العربي، حتى عندما نفصل ذلك الحضور عن صلب الصراع العربي الصهيوني، والذي هو حقوق الشعب الفلسطيني المهدورة. مثل هؤلاء يدعون لإخضاع الدفاع عن حياض الأمن القومي العربي وفق أولويات هذا التحديد في طبيعة التناقض، ومن ثم درجة الخطر التي يشكلها الكيان الصهيوني على ذلك الأمن. مقابل هذا التحديد في أولويات التناقض، هناك من يضع إيران، وآخرون تركيا، في قائمة البلدان التي تشكل الخطر الأشد على الأمن القومي العربي. وفي سياق هذا التحديد نجد هذا الطرف العربي يورد المسوغات والأسباب التي تبرر صياغته للطرف الذي يتبوأ قائمة الدول التي تهدد الأمن القومي العربي. مرة أخرى ليس الهدف هنا الانتصار لهذا الطرف أو ذاك، بقدر ما أردنا الإشارة إلى العناصر التي تقود إلى التباين في وضع أولويات ما يمكن وصفه بالمهدد للأمن القومي العربي. وعلى مستوى التهديد العالمي هناك التفاوت بين من يضع الولايات المتحدة مقابل من يضع روسيا في مقام تصدر قائمة الدول التي تهدد الأمن العربي. كلمة لا بد من قولها هنا، وهي أن بعض قوى المعارضة العربية وضعت تناقضها الأساسي مع القوى الحاكمة، ومن ثم وجدت في اسقاط تلك الأنظمة الهدف الأول في برامج عملها، عند الحديث عن مهددات الأمن القومي العربي.
كل ما سرد أعلاه، يثبت أن هناك جدلاً واسعًا، علنيًا أو مبطنًا يقود إلى الاختلاف حول تحديد المهدد الأساس للأمن القومي العربي، ومن ثم ففي خضم هذا التنافر، يصبح من الصعب، إن لم يكن من الاستحالة بمكان، الحديث عن صيغة عربية موحدة لذلك الأمن، وبالتالي فمن الضرورة بمكان هنا، وضع حلول لمثل هذه الأوضاع القائمة كي تكون هي الخطوة الاولى الصحيحة على طريق تحديد عناصر الأمن القومي العربي الذي نتحدث عنه.
2 من «الأفغان العرب» إلى دواعش أوروبا
عائشة المري
الاتحاد الاماراتية

تثير عودة مسلحي تنظيم «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى من سوريا والعراق إلى بلادهم، قلقاً مشروعاً لدى قطاع كبير في الغرب وفي العالم العربي على حد سواء، وسط جدل مستمر حول عودة المقاتلين من بؤر التوتر. وبالنسبة للدول العربية فإن تجربة العائدين من أفغانستان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي لا تزال حاضرة، ويبدو أن احتمالية تكرار سيناريو أزمة «الأفغان العرب» اليوم قائم ويضيف إليها تعقيداً أن للمقاتلين أسراً وأطفالاً.. فإلى أي مدى يشكل هؤلاء خطراً على أمن دولهم ومجتمعاتهم؟
في الثمانينيات ذهب مَن ذهب إلى أفغانستان ليحارب السوفييت تحت راية «الجهاد ضد الشيوعية»، وتلقوا التدريب على أيدي مختصين وزادت خبرتهم القتالية، وتكفلت الدعاية لـ«الجهاد الأفغاني»، عبر مختلف وسائل الإعلام، بتشجيع «المجاهدين» وتصويرهم كأبطال خارقين! لكن العالم العربي استفاق بعد انتهاء الحرب الأفغانية في التسعينيات على وجود آلاف «المجاهدين» العائدين هرباً من الحرب الأهلية بين الفصائل الأفغانية. وأصبح هؤلاء العائدون إلى بلدانهم ملفاً أمنياً ثقيلا، لاسيما عقب انخراط بعضهم في عمليات ضد نظم الحكم في دولهم، كما حدث في مصر واليمن والجزائر، بينما بحث آخرون عن ساحات قتال جديدة، مثل البوسنة والشيشان وكشمير والصومال.. لذا تعرف الدول العربية جيداً إمكانية تكرر سيناريو الأفغان العرب، وهي بصدد استقبال أبنائها من الدواعش والمقاتلين السابقين في صفوف التنظيمات المتشددة الأخرى في كل من سوريا والعراق.
ومن ناحيتها تعيش أوروبا على وقع خلافات حول مصير العائدين من مواطنيها، إذ أشارت دراسة أجريت عام 2016 إلى أن ما بين 3900 و4300 من مواطني دول الاتحاد الأوروبي التحقوا بـ«داعش»، أغلبهم من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا، وأن 30% منهم عادوا إلى بلدانهم. ودعا الرئيس الأميركي دونالد ترامب حلفاء واشنطن الأوروبيين إلى السماح بعودة 800 عنصر من مواطنيهم الدواعش المعتقلين في سوريا، وإلا فسيتم الإفراج عنهم. ويبلغ عدد المقاتلين الأجانب المحتجزين لدى «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من واشنطن بين 800 و1000 مقاتل أجنبي، بينهم بريطانيون وأميركيون وفرنسيون وألمان، ونحو 4000 من أقاربهم (أغلبهم نساء وأطفال).
وتباينت مواقف الدول الأوروبية من ملف مواطنيها الدواعش، حيث ظلت كل من بريطانيا وفرنسا ترفضان دعوات استقبال مواطنيهما المعتقلين في سوريا والعراق، بينما أبدت ألمانيا مواقف أقل تشدداً. وعقب تهديد ترامب المبطن، عبّرت فرنسا عن استعدادها للنظر في قضية مواطنيها حالة بحالة، وقالت إنها لن تستجيب لطلب الرئيس الأميركي بترحيل المقاتلين السابقين وعائلاتهم فوراً. أما بريطانيا فصرح وزير داخليتها، ساجد جاويد، بأنه لن يتردد في منع عودة البريطانيين الذين قاتلوا مع «داعش».
وما بين إعادة الدمج ورفض العودة، تحتاج الدول الأوروبية إلى صياغة سياسة مشتركة فيما يخص التعامل مع الدواعش السابقين.
اليوم أصبح مصير المقاتلين الأجانب في «داعش» والمنظمات الإرهابية الأخرى في سوريا والعراق وليبيا، من أكثر المشاكل جدية للمجتمع الدولي. وتشير الخبرة التاريخية إلى أن العائدين من أفغانستان والعراق والبوسنة والشيشان وألبانيا، شكلوا نواة للكثير من الجماعات المسلحة التي مارست العنف والإرهاب في مجتمعاتها، كما أسسوا التنظيمات المسلحة الجديدة في سوريا، كـ«داعش» و«النصرة» و«أحرار الشام». ومع انتهاء الحرب انطلقوا إلى ميادين قتال جديدة مما يحولهم إلى عنصر تهديد أساسي عابر للحدود.
ويحذر المراقبون من الاستهانة بالخطر الذي يشكله الإرهابيون العائدون دون إعادة تأهيل اجتماعي وفكري ونفسي أو مراقبة لصيقة. ويبقى التساؤل الأكثر إلحاحاً حول التدابير التي ستضعها الدول لمواجهة المقاتلين العائدين خلال الأشهر المقبلة.
3 صفحات مشرقة في تاريخ الكويت الحديث
د.عمر الحسن
السياسة الكويتية

حقًّا إن الرجال مواقف، وإن القادة الذين يصنعون فارقًا في حياة شعوبهم وأمتهم لا يرحلون. إنها حقيقة يشهد على رسوخها الزمان. ففي أوائل العام 1988 اشتدت رحى الحرب العراقية – الإيرانية، التي بدأت في سبتمبر1980، ومالت كفتها لصالح إيران، بحيث أصبحت الجبهة العراقية مكشوفة ومهددة، ما كان له انعكاسات سلبية على أمن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما تطلب تحركًا على كل الاتجاهات: عربيًّا لحشد الطاقات لدعم العراق. ودوليًّا لمطالبة الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وبريطانيا برفع أعلامها على ناقلات النفط وبواخر الشحن الخليجية، بعد أن هددت إيران بمهاجمتها. وأمميًّا نحو مجلس الأمن الدولي، لوضع حد للحرب، فكان قراره رقم 538 الذي طالب الدولتين بوقف القتال فورًا واللجوء إلى الحلول السلمية.
ووسط هذا الزخم من المساعي المؤازرة للعراق، كان تحرك مجلس السفراء العرب في لندن، والذي جاء مختلفًا، حيث اتصل بي في أوائل شهر فبراير 1988 سفير المملكة العربية السعودية آنذاك المرحوم الشيخ ناصر المنقور، وحدد لي موعدًا لمقابلته بمكتبه، فذهبت ووجدت معه سفير الكويت غازي الريس – شفاه الله- وذكر لي أن مجلس السفراء قرر تكليفي، بصفتي رئيسًا لمركز الخليج للدراسات الستراتيجية، والأمين العام الفخري لمجموعة أصدقاء الخليج في البرلمان البريطاني، باصطحاب وفد من البرلمان البريطاني، يضم مختلف الأحزاب (المحافظين والعمال والديمقراطيين الأحرار) لزيارة الكويت والبحرين وبغداد بهدف تعزيز العلاقات البريطانية الخليجية، ولتوجيه رسالة إلى إيران بأن بريطانيا تقف إلى جانب العراق.
وبالفعل تشكل الوفد من 14 نائبًا، وتحملت سفارة الكويت نفقات سفرهم، في حين تحملت كل دولة من هذه الدول نفقات إقامتهم. وبدأنا بزيارة الكويت يوم 9 فبراير 1988، والتقى الوفد الشيخ سعد العبد الله السالم – رحمه الله- وكان وليًّا للعهد، ورئيسًا لمجلس الوزراء، وسمو الشيخ صباح الأحمد الجابر، وزير الخارجية آنذاك الأمير الحالي – أمد الله في عمره – ووزير النفط الشيخ علي الخليفة. وأثناء اللقاء، طرح أعضاء الوفد على الشيخ سعد مسألتين، الأولى عرضها توني مارلو رئيس الوفد، حيث رأى أن الوقت قد يكون مناسبًا لفتح موضوع النزاع الحدودي بين الكويت والعراق مع الرئيس صدام حسين، باعتبار أن الكويت تقف إلى جانب العراق في حربه مع إيران، وتمد له يد العون سياسيًّا وإعلاميًّا وماليًّا. وكان رده – طيب الله ثراه- أن هذه قضية أسرية، سيتم حلها إن شاء الله بعد نهاية الحرب، وبعد أن يعم السلام المنطقة. أما المسألة الثانية فأثارها نيكولاس بيجين وكانت بشأن حل مجلس الأمة وتعطل الحياة البرلمانية في الكويت منذ منتصف الثمانينات، فأجابه الشيخ سعد، بأن الحياة النيابية ستعود قريبًا، وأن الكويت ستظل دولة قانون ومؤسسات ودستور.
ومن الكويت انتقلنا إلى البحرين يوم 12 فبراير 1988، والتقينا المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان، أمير البحرين، ورئيس الوزراء، الأمير خليفة بن سلمان، ووزير الخارجية بالإنابة الشيخ محمد بن خليفة، الذي طرح عليه النائب نيكولاس نفس المسألة التي طرحها مع الشيخ سعد عن توقف الحياة البرلمانية في البحرين منذ العام 1975. وكان رد الوزير عليه، إن ذلك سيتم عندما تهدأ الأحوال السياسية والأمنية المضطربة في المنطقة.
غادرنا المنامة يوم 15 فبراير إلى بغداد، وكان بانتظارنا برنامج حافل باللقاءات مع كبار المسؤولين في المجالات المختلفة السياسية والاقتصادية والتشريعية والأمنية والعسكرية، منهم طارق عزيز، وطه ياسين رمضان، وعزة الدوري، وسعدي مهدي صالح، وحسين كامل، ووكيل وزارة الدفاع (لا أتذكر اسمه).
وكنت قد نبهت قبل لقاء صدام على النائب نيكولاس بعدم تكرار مسألة تعطل الحياة البرلمانية للمرة الثالثة، وقلت له مداعبًا: أخشى إن سألت السؤال نفسه للرئيس صدام أن تكون البريطاني رقم 3 في سجون بغداد، فتزداد مهمتنا تعقيدًا، حيث كانت الخارجية البريطانية قد طلبت منى بمناسبة هذه الزيارة، إجراء محاولة مع المسؤولين العراقيين لإخلاء سبيل بريطانيين تم احتجازهما في العراق بتهمة رشوة مسؤولين عراقيين.
واختتمت الزيارة بلقاء مطول مع الرئيس صدام حسين استمر لأكثر من ثلاث ساعات،بحضور طاقمه الرئاسي والوزراء، وكانت علامات الارتياح بادية عليه أثناء اللقاء، ظهر ذلك من طريقة ترحيبه بأعضاء الوفد، والاستقبال الحافل له عندما وصل القصر الرئاسي في المنطقة الخضراء ببغداد. وازداد ارتياح الرئيس بعد أن قال رئيس الوفد توني مارلو: أن رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر طلبت من الوفد نقل تحياتها لكم، وأنها قررت زيادة التسهيلات الائتمانية الممنوحة للعراق من 250 إلى 750 مليون جنيه استرليني.
تحدث الرئيس صدام في مواضيع عدة، أهمها الحرب مع إيران، وقال: نتمنى على بريطانيا ممارسة الضغوط على إيران لقبول قرار مجلس الأمن رقم 538 المشار إليه، الذي يقضي بوقف الحرب، والبحث عن حلول سلمية للصراع بين البلدين، وتمنى على أعضاء الوفد مطالبة وزير الخارجية البريطاني – آنذاك- جيفري هاو والذي كان ينوي القيام بزيارة إلى موسكو بممارسة الضغوط على إيران ومطالبتها بقبول القرار المذكور. هذه الأجواء المريحة شجعت، رئيس الوفد توني مارلو على توجيه نفس السؤال الذي وجهه للشيخ سعد العبد الله، بشأن النزاع الحدودي بين العراق والكويت، فكان رد صدام أنه على استعداد للتوقيع على ورقة بيضاء لصالح الكويت في هذا الموضوع.
وفي نهاية اللقاء، أبلغ الرئيس صدام حسين الوفد أن بإمكانهم اصطحاب أحد الموقوفين البريطانيين إلى لندن، بعد أن قرر إخلاء سبيله، والثاني سيتم الإفراج عنه بعد أشهر معدودة. وكان هذا الموضوع قد أثير مع المرحوم طارق عزيز، وزير الخارجية والمرحوم حسين كامل، زوج ابنة صدام، قبل لقاء الرئيس مع الوفد، واللذين وعدا بنقل الموضوع للرئيس.
وهكذا، كانت جميع اللقاءات إيجابية ومثمرة، وكان واضحًا من خلال ردود الفعل والتعليقات والمناقشات التي كانت تدور بين النواب بعد كل لقاء أن هناك تعاطفًا من جانبهم تجاه العراق في حربه مع إيران.
ورغم أنه كان مقررًا أن أعود مع الوفد إلى لندن، لكنني وجدت من الأنسب أن تكون عودتي عن طريق الكويت لأنقل ما دار من حديث مع الرئيس صدام إلى الشيخ سعد، وبالفعل، استأذنت الوفد، وغادرت إلى الكويت، والتقيت سموه ولخصت له ما دار من مناقشات بخصوص النزاع الحدودي، واقترحت تكليف رئيس الوفد توني مارلو للقيام بهذه المهمة. فكان رده أن “هذا الموضوع مش وقته” نتركه لحين الانتهاء من حرب العراق مع إيران وإرساء السلام بينهما، وحين وجد في حديثي إصرارًا على تحرك ما في هذا الاتجاه نظر إليّ وقال لي مرة أخرى: “مش وقته”.
بعد شهرين، أي في أبريل 1988، زار الشيخ سعد لندن، وأبدى الوفد البرلماني بكامل عدده (الـــ 14) عضوًا، إضافة إلى 15 عضوًا من مجلس اللوردات رغبتهم في السلام على سموه والترحيب به. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مكانة الرجل، والتي لا تنبع من سلطة بقدر ما هي نتيجة نقائه وسلوكه الإنساني، واستقبلهم سموه بحفاوته المعهودة.
في هذه الأثناء، كانت الضغوط التي مارستها دول مجلس التعاون مع بعض الدول الشقيقة والصديقة على إيران قد أثمرت قبولها في أغسطس 1988 قرار مجلس الأمن رقم 538 الداعي إلى وقف إطلاق النار، ببيان صدر عن الخميني وصف قبوله القرار وكأنه “يتجرع السم” والغريب حينها، أن صدام اعتبر ذلك انتصارًا له، وبدأ يقوم بممارسات استعلائية وعدوانية ضد أشقائه في الخليج، ويطالبهم بمطالب يصعب، إن لم يكن من المستحيل تنفيذها، ناسيًا أو متناسيًا وقوفهم إلى جانبه في حربه مع إيران بكل ما يستطيعون على مدى عقد من الزمان، متحملين عداء إيران وردود أفعالها الانتقامية.
وهكذا، بعد أن كان العراق يمثل حائط الصد الشرقي للأمن القومي العربي، وأمن بلدان الخليج، إذا به يصبح أحد مصادر تهديد وانتهاك هذا الأمن، مع أن الواجب كان يقتضي تقديم الشكر إلى من وقفوا إلى جانبه، وفي مقدمتهم الكويت، ولكن بدلاً من ذلك قررغزوها واحتلالها يوم 2/8/1990.
ورغم فداحة هذا الحدث إلا أنه كان بمثابة الكاشف الحقيقي عن معدن الرجال، فالشيخ سعد العبد الله، الذي قال عنه من عرفوه أنه كان مقاتلاً صلبًا مدركًا لمسؤولية القيادة وأمانتها، وكان يرى دائمًا أن اتخاذ القرار وصناعته يجب أن تتم بعناية وفق رؤى مدروسة حاسمة وحازمة لا مساومة فيها ولا مجاملة على حساب وطنه. عندما وقعت كارثة الغزو أدرك بفطنته أن مهمته الأولى هي ضرورة حماية أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح – رحمه الله – ومغادرته إلى المملكة العربية السعودية، لأن وصول القوات العراقية إليه، وهو الرمز، يعني انهيار روح الشعب المعنوية، كما أن وجوده خارج البلاد مهم لحشد دول العالم حول قضيته، خصوصا أن أول أهداف الغزو كان السعي للقضاء على الشرعية متمثلة في أمير البلاد.

فاجعة مروعة
كانت كارثة الغزو فاجعة مروعة بكل المقاييس، فقد أدت إلى تشريد مئات الآلاف من الكويتيين، والذين توزعوا في عواصم العالم المختلفة ومنها لندن، فضلاً عن عودة عشرات الآلاف من الوافدين إلى بلدانهم بعد فقدانهم لوظائفهم ومصدر رزقهم. وبعد أن فشلت نداءات ونصائح الكثيرين من قادة العالم وسياسييه للنظام العراقي بالانسحاب، بدأت قوات التحالف الدولي المكونة من 39 دولة، بقيادة أميركية سعودية، في 17 يناير 1991 حرب تحرير الكويت بموافقة الأمم المتحدة.
وفي تلك الأثناء، وفي أوائل نوفمبر 1990 أبلغني، الشيخ ناصر المنقور، السفير السعودي في لندن، أن هناك وفدًا سعوديًّا برئاسة الأمير عبدالله بن فيصل بن تركي، وعضوية عبدالعزيز كانو، ووهيب بن زغر – رحمهما الله – وعبدالعزيز عريعر وكيل وزارة المالية، والدكتور أسعد عبده الأستاذ بجامعة الملك سعود وثلاثة غيرهم لا أذكر أسماءهم. مكلف من قبل الملك فهد – رحمه الله- بزيارة لندن لشرح الموقف الخليجي من غزو العراق للكويت لجمعيات الصداقة العربية – البريطانية والإسلامية – البريطانية ووسائل الإعلام ومراكز البحوث والجامعات وأعضاء البرلمان والنقابات. وأن مجلس سفراء دول الخليج في لندن، يرى أنك الأقدر في مساعدة الوفد على إنجاح مهمته، والتي ستستغرق أسبوعين. لم أتردد في قبول شرف التكليف، طالما أن الهدف هو إنهاء الاحتلال وعودة المشردين من الكويتيين إلى ديارهم. وفعلاً جاء الوفد إلى لندن وتم ترتيب فعاليات ولقاءات ناجحة له.
وأود أن أشير هنا إلى أنني كنت يوميًّا أجري مقابلات في قنوات تليفزيونية ومحطات إذاعية بريطانية وأوروبية وأميركية ويابانية وأسترالية وكندية، والكتابة في الصحف البريطانية “التايمز” والأميركية “وول ستريت غورنال وهيرالد تريبيون” لشرح مأساة الاحتلال وتداعياته. وأشارك في المسيرات التي كانت تتم كل يوم أحد للتنديد بالاحتلال والمطالبة بإنهائه.
وفي المساء كنت أنتقل أنا وزوجتي، وكذلك سفير البحرين كريم شكر وزوجته إلى المقار التي كان يقيم بها الكويتيون للتعرف على احتياجاتهم وتلبية طلباتهم والتخفيف من مأساتهم. وكان أكثرهم قربًا إلينا عائلة معالي الأخ محمد أبو الحسن، المستشار الحالي لصاحب السمو أمير البلاد، ومندوب الكويت الدائم الأسبق في الأمم المتحدة أثناء الاحتلال.
لقد مثّل الاحتلال كابوسًا مروعًا لكل عربي مخلص لوطنه وأمته، وأحدث شرخا كبيرا في منظومة العمل العربي المشترك، مازالت تعاني منه حتى هذا اليوم، حيث أصيبت بكارثة كان المستفيد الوحيد منها إسرائيل وأعداء الأمة العربية.
حصل التحرير يوم 26/2/1991، وعادت الكويت حرة، وعاد أميرها وولي عهدها وشعبها الذي بدأ يضمد جراحه، ويتفقد ما بقي له من بشر وحجر.
وفي الذكرى الأولى للغزو، يوم 2/8/1991، دعت الكويت نخبة من مختلف الشخصيات العربية (70 شخصية) ما بين دينية، وإعلامية، وأكاديمية، وبحثية، وسياسية، وكان لي شرف أن أكون من ضمنهم بدعوة كريمة من المرحوم الشيخ سعد العبد الله، نقلها إليّ سفير الكويت غازي الريس. التقينا الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد في خيمته بقصر بيان، الذي هدمه الاحتلال، وتشرف الوفد بدعوة الشيخ سعد العبد الله على غداء في فندق “السفير” وحينما أقبلت عليه محييًا ومهنئًا، بادرني بالقول: عمر أنت الصح.. فأجبت: طويل العمر أنتم دائمًا الصح. ما ترونه يا صاحب السمو نحن لا نراه.

الأسرى والمفقودون
بعد أن لملمت الكويت جراحها، وبدأت تحصي ما فقدته من أحبة أعزاء، تبين لها أن هناك 635 أسيرًا ومفقودًا، فقررت الدولة تشكيل لجنة تحت مسمى “لجنة شؤون الأسرى والمفقودين” برئاسة المرحوم الشيخ سالم صباح السالم، للعمل على تحريرهم أو معرفة مصيرهم. وبالتوازي وبالتعاون مع السفير غازي الريس تشكلت لجنة أخرى دولية، برئاسة مشتركة بيني وبين الليدي أولغا ميتلاند من حزب المحافظين، تحت مسمى “اللجنة الدولية للتضامن مع الأسرى والمفقودين الكويتيين”وتم إشهارها تحت رعاية المرحوم الشيخ سالم الصباح ودوغلاس هيرد، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، بحضور أكثر من 400 شخصية ضمت سفراء عرب وأجانب ونوابًا من البرلمان البريطاني، ورجال الصحافة، وجمعيات الصداقة البريطانية من جهة والإسلامية والعربية من جهة أخرى إلى جانب عائلات الأسرى.
نجحت اللجنة في تنظيم الفعاليات لتشرح من خلالها مأساة عائلات الأسرى، وشاركت في حضور مؤتمرات الأحزاب البريطانية السنوية بمشاركة بعض أعضائها أذكر منهم د. محمد الحداد، ودعيج العنزي، مدير اللجنة، وكذلك تم عقد حلقات نقاشية في مبنى البرلمان البريطاني بمشاركة نواب من مجلسي العموم واللوردات، وإصدار التصريحات والبيانات الصحافية، وعقد لقاءات مع منظمة العفو الدولية وتزويدها بما كان يتوافر لدينا من بيانات ومعلومات جديدة عن الأسرى، وتم تعيين ناشطة في مجال حقوق الإنسان، اتخذت من مقر مركز الخليج للدراسات الستراتيجية في لندن، مكتبًا لها لتوثيق ومتابعة شؤون الأسرى.
وبعد حفل التدشين بأيام، اتصل بي السفير “عبدالله بشارة”، الأمين العام الأسبق لمجلس التعاون الخليجي، ومندوب الكويت الدائم لدى الأمم المتحدة الأسبق، وأبلغني أنه مكلف بمهمة حكومية للاتصال مع عدد من المؤسسات البريطانية البحثية والأكاديمية والإعلامية وجمعيات الصداقة، لشرح قرارات الأمم المتحدة الخاصة بترسيم الحدود بين الكويت والعراق وغيرها ويريد مساعدتي، فأبديت استعدادي لذلك.. استمرت مهمته في لندن 12 يومًا تقريبًا؛ حيث تم ترتيب العديد من اللقاءات في المؤسسات المشار إليها، وتم توثيق محاضر هذه اللقاءات وإصدارها في كتاب هو الآن مرجع للباحثين والدارسين.
وأختتم القول كما بدأته، إن “القادة الذين يصنعون فارقًا في حياة شعوبهم وأمتهم لا يرحلون”، وهو ما انطبق على الشيخ “سعد العبد الله”، الذي رحل عن عالمنا مخلفًا سجلاً حافلاً ومسيرة عطاء زاخرة، وصفحات مشرقة، فقد كان صاحب مواقف وصاحب قرار، مدركًا لمسؤولية القيادة، لاسيما أثناء وبعد الغزو العراقي للكويت، فقد كان الدرع الحصينة لحماية أمير البلاد الشيخ “جابر الأحمد” – رحمه الله- وصاحب فكرة خروجه من الكويت إلى السعودية للإبقاء على الشرعية التي كانت هدف الغزو العراقي.
كما حشد طاقاته وقدراته منذ اللحظات الأولى للغزو على جميع المستويات الداخلية والخارجية لحشد الشرعية الدولية من أجل تحقيق النصر وعودة الكويت إلى أهلها، لذا لم يكن مستغربًا أن يطلق عليه لقب “بطل التحرير” لدوره في تحرير الكويت.
وطوال أشهر الاحتلال السبعة زار عددا من الدول الخليجية والعربية والأجنبية، فاستطاع أن يشكل تحالفًا عالميًّا غير مسبوق لدعم الشرعية، وعمل على دعم صمود الكويتيين في الداخل من خلال خطاباته الموجهة إليهم والتي كانت تبعث الحماسة وتبث الأمل في قلوبهم، وبإيصال المؤن والأموال إليهم ليكونوا قادرين على الصمود، وترأس المؤتمر الشعبي الذي انعقد في مدينة جدة خلال الفترة من 13-15 أكتوبر عام 1990، بحضور أكثر من 20 ألف كويتي يمثلون كل أطياف الشعب، حيث تبلورت فكرة المؤتمر لديه بعد لقائه في لندن عددًا من الحكماء الكويتيين، وعلى رأسهم المرحوم عبدالعزيز الصقر الذي منحه الأمير لقب المواطن الكويتي الأول لدوره في إنجاح عقد المؤتمر. فيما حظيت قضية الأسرى والشهداء ورعاية أهاليهم على اهتمام خاص منه.
ستبقى ذكرى هذا الزعيم ماثلة في أذهان أهل الكويت التي أحبها وأحبته وبذل من أجل شعبها الغالي والنفيس، فبادله الكويتيون الحب والوفاء والتقدير والعرفان. ومع مرور أحد عشر عامًا على وفاته، تظل أعمال بطل التحرير وفارس الكويت خالدة في نفوس الكويتيين والخليجيين.