1 أسقطوا سيادة العراق ويتباكون عليها
د باهرة الشيخلي العرب بريطانيا
انشغل كل من كتب عن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للعراق بالتباكي على السيادة العراقية أو الحديث عنها، واصفا هذه الزيارة بأنها كانت ثلما لسيادة العراق، وكيف أقامت الزيارة قيامة الميليشيات الإيرانية في العراق، من دون أن يفطن إلى أن النظام السياسي الحالي في العراق، ومنذ مجلس الحكم، يعيش حالة انعدام وزن في السيادة والاستقلال تحت هيمنة ثنائية القطب أميركية وإيرانية.
هل أدرك أولئك السادة الذين كتبوا عن زيارة ترامب أن العراق، في ظل تسلّط حكامه الحاليين، منزوع الإرادة ولا يملك قرارا مستقلا؟ وإذا أرادوا دليلا على ذلك فسيقوم بدل الدليل الواحد ألف دليل، ومنها استباحة واشنطن، التي لقواتها كامل الحرية في التواجد على التراب الوطني، والأمر نفسه يصدق على اختراق طهران للحدود الوطنية وحرية حركة الحرس الإيراني في الدخول والخروج من دون أي إذن مسبق، وهناك الآلاف من الإيرانيين الذين يزورون العراق ومن دون تأشيرة رسمية، وبين الحين والآخر يندفع مئات الألوف من الإيرانيين عبر بوابات الحدود من دون تأشيرات ومن دون رسوم، ويطيب لهم المقام في العراق فيمكثون من دون أن يسائلهم أحد.
انظروا إلى قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، الذي يمتلك حرية التجوال في عموم البلاد، ودققوا النظر في تدخلات السفيرين الأميركي والإيراني، وسيظهر لكم أن مجيء ترامب إلى البلاد هو تحصيل حاصل لجمهورية الفوضى الدينية.
حينما أحرج رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي بأسئلة عن تجول قاسم سليماني بين القوات العراقية أجاب إجابة تنطوي على تفريط واستهانة بالسيادة العراقية فقال: إن سليماني مستشار في الحكومة العراقية! فكيف يكون قائد عسكري في دولة أجنبية مسؤولا في دولة أخرى؟
لا علاقة أبدا لزيارة ترامب إلى العراق، بهذه الصفة الخارجة عن القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول، بموضوع السيادة، لأن الحكومات الست، التي جاءت بعد احتلال العراق، لا شأن لها أصلا بموضوع السيادة، فمسؤولوها موظفون لدى الإدارتين الأميركية والإيرانية وأسطورة السيادة لن تساوي وزنها ترابا لديهم. ونحن لم نسمع، يوما أن أيا من الطرفين تقدم بمذكرة دبلوماسية إلى الخارجية العراقية يطلب فيها السماح له بدخول الأجواء الوطنية العراقية. ومثلما دخل ترامب فقد دخل قبله الرئيسان الأميركيان جورج بوش الابن وباراك أوباما ونزلا في قاعدة أميركية أو في سفارة بلدهما وأرسلا في طلب المسؤولين العراقيين، لكن المفارقة أن أحدا لم يتحدث عن أسطورة السيادة، وقتها، فلماذا يحق لبوش وأوباما ما لا يحق لترامب؟
فسر لي هذه المفارقة ناجي صبري الحديثي وزير الخارجية العراقي الأسبق، بقوله إن ترامب تجاهل حكام النظام تجاهلا تاما بعدم المرور بالعاصمة وبعدم لقائهم، كما أهانهم حينما قال إن فريق حمايته اتخذ إجراءات احترازية شديدة جدا بإطفاء أنوار الطائرة تماما وإغلاق نوافذها وإنه كان خائفا على حياة زوجته. وقد أفصح بهذا عن موقف خطير وهو أن الحكومة الأميركية فقدت الثقة تماما بقدرة النظام الحاكم على بسط الأمن والنظام، وأن الفوضى تضرب أطنابها في العراق، ولذلك حرص ترامب على الوصول بهذه الصفة تفاديا للمخاطر في العاصمة!
لا يمكن تفسير تصريحات بعض أحزاب السلطة والميليشيات الإيرانية وتهديداتها والصخب الذي أحدثته، بعد زيارة ترامب إلا أنها للاستهلاك المحلّي، وإلا من يجرؤ من حكام مستوطنة الفوضى الدينية على قول (لا) لسيد البيت الأبيض ولممثلي الولي الفقيه.
ثم ها هو رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، يصل إلى العراق على متن طائرة شحن أسترالية هبطت في معسكر التاجي شمالي بغداد، الجمعة، يرافقه قائد القوات الأسترالية، في زيارة لم يعلن عنها مسبقا، حسبما أفاد مصدر حكومي عراقي.
وأيضا لم يلتق موريسون أي مسؤول عراقي، وسبقه في هذا الفعل مسؤولون إيطاليون وبريطانيون، بل إن قطعات عسكرية كاملة أميركية أو إيرانية باتت تدخل إلى العراق من دون علم بغداد، فالعراق أضحى من دون أسوار.
2 لماذا جاء ترامب الى العراق تحت جنح الظلام؟! عادل الجبوري راي اليوم بريطانيا
خلسة، ومن دون مقدمات، دخل الرئيس الاميركي دونالد ترامب، العراق، برفقة زوجته ميلانيا ترامب، ومستشاره لشؤون الامن القومي جون بولتون، وتوجه مباشرة الى قاعدة عين الاسد الجوية غرب محافظة الانبار،التي يتواجد فيها اكثر من الفي جندي اميركي، ليبقى هناك مدة ساعتين فقط، حيث هنأ جنوده بأعياد الميلاد، وتحدث اليهم والتقط معهم الصور التذكارية!.
ماذا يعني ذلك؟..
لاول وهلة، يعني ان رئيس اكبر دولة بالعالم، الذي كان بأمكانه ان يدخل البيت من ابوابه وفي وضح النهار، بدلا من ان يقفز عبر الشباك، تحت جنح الظلم، وكأنه لص، تجاوز كل المعايير والضوابط الاخلاقية والعرفية والدبلوماسية، وجاء متسلحا بعقلية القوة والهيمنة والغرور، التي تتمثل بعقيلة “الكاوبوي” المتغطرسة والمتحجرة.
وهو نفسه اقر بذلك، حينما صرح لوسائل الاعلام قائلا، “لو رأيتم ما الذي كان علينا المرور به في الطائرة المظلمة ونوافذها المغطاة بستائر بحيث لا يوجد أي ضوء في أي مكان، ظلام شديد السواد”!.
الم يكن بأمكان ترامب زيارة العراق وفق السياقات الاصولية المتعارف عليها، لتحط طائرته في المطار ويحظى بأستقبال رسمي، ويلتقي نظرائه العراقيين، ويتحدث اليهم ويتحاور معهم، ومن ثم التوجه للقاء جنوده في “عين الاسد”؟.
والم يكن بأمكان ترامب ان يتصرف كأي رئيس او زعيم دولة، وان يكون اكثر شجاعة، بحيث لايصل به الامر الى اطفاء انوار الطائرة واسدال ستائر نوافذها، والعودة سريعا من حيث اتى؟.
سلوك ترامب، اذا كان يعكس في جانب منه غرورا وغطرسة واستخفافا بالسياقات الدبلوماسية، فأنه يعبر في جانب اخر منه عن شعور كبير بالخوف، وعدم الثقة بالنفس، وعدم الثقة بمجمل منظومة الدولة العظمى التي يتزعمها.
ولعل هذا الشعور متأت من ادراك حجم الجرائم التي اقترفتها بلاده في العراق، وما خلفته تلك الجرائم من ماسي وويلات ومشاعر سلبية لدى معظم-ان لم يكن جميع-العراقيين.
وكذلك فأن هذا الشعور الكبير بالخوف متأت من ادراك مدى الرفض الواسع من قبل العراقيين للوجود الاميركي في بلادهم.
كيف لايدرك ترامب كل ذلك، وهو يعرف بالارقام والتفاصيل، العدد المهول للضحايا العراقيين وغير العراقيين، التي تسببت حروب بلاده، والسياسات العدوانية في سقوطها، وكيف لايدرك ذلك، وهو يسمع ويشاهد ويلمس يوميا مايقوله وما يطالب به العراقيون، حيال الوجود العسكري الاميركي، والتدخلات السافرة لساسة البيت الابيض في العراق.
ولسان حال العراقيين، هو ما عبر عنه نائب في البرلمان العراقي، بقوله “إن زيارة ترامب إلى العراق مرفوضة ومستنكرة، فنحن ضد سياسة ترامب وضد اي تدخل بالشأن العراقي، وان أمريكا على رأس الدول المتدخلة بالشوؤن الداخلية، وهي لها تأثير سلبي على العراق من خلال تدخلاتها، خصوصا أن هذه الزيارة لها أهداف ومآرب، فسياسة ترامب باتت واضحة ومكشوفة للجميع”.
ولانحتاج للعودة كثيرا الى الوراء، بل ان ما قالته اوساط وشخصيات سياسية عراقية بخصوص قرار ترامب سحب القوات الاميركية من سوريا، يكفي للتدليل على حقيقة وجوهر المواقف العراقية من السياسات والتوجهات الاميركية، ويكفي للتدليل على ان العراقيين اصبحوا يفهمون ويعرفون جيدا نوايا واهداف واشنطن الحقيقية، التي لاتعكسها الاقوال بقدر ما تثبتها الافعال.
فأذا كان ترامب صادقا في ادعائه بأن قرار سحب القوات الاميركية من سوريا، جاء بعد زوال خطر تنظيم داعش الارهابي، فهنا يقفز التساؤل التالي: “اذا كان الامر كذلك، فلماذا لايسحب ترامب قواته من العراق بعد القضاء على داعش”، وهو بدلا من سحبها يأتي لزيارتها وتقديم التهاني لها بمناسبة اعياد الميلاد، واكثر من ذلك يكشف عن نيته الابقاء على قواته في العراق بالقول “ان الجيش الأميركي قد يتخذ العراق قاعدة لشن عمليات داخل سوريا”، واكثر من ذلك، افصح عن وجود مخططات لانشاء ثلاث قواعد عسكرية جديدة في العراق.
ولسنا هنا بحاجة الى البحث والتفتيش في دلائل واثباتات ومؤشرات على ما تسعى واشنطن لفعله، حيث ان ما افصح عنه ساسة وعسكريين اميركان كبار في مناسبات عديدة، بشأن البقاء في العراق، كان واضحا كوضوح الشمس في رابعة النهار.
بيد ان ما ينبغي على ترامب ومن يدعم ويؤيد ويساند سياساته، ومن يتحمس لها، سواء في العراق او في المحيط الاقليمي والفضاء الدولي، القيام به ، هو ان يتوقف قليلا عند خلفيات وابعاد الانسحاب الاميركي المذل من العراق قبل سبعة اعوام، والرجوع اليه مجددا بعد ان وفر تنظيم داعش الغطاء لذلك، من خلال اجتياحه لمساحات من الجغرافيا العراقية في صيف عام 2014.
ربما لايعلم البعض ان واشنطن انسحبت من العراق قبل سبعة اعوام بعد ان بلغ عدد جنودها القتلى اربعة الاف وخمسمائة، بينما تجاوز عدد الجرحى الثلاثة والثلاثين الف!.
ولاشك ان اية محاولات ومساعي ومخططات جديدة للبقاء طويلا في العراق، وتوسيع نطاق ذلك البقاء، تعني مزيدا من القتلى، ومزيدا من الانكسارات والمشاكل والازمات، التي لن يقو ترامب-العاجز بعد مرور عامين على دخوله البيت الابيض، ان يشكل فريقا مستقرا ومنسجما للعمل معه-ان يوجهها ويتعامل معها بحكمة وهدوء.
ولعل الامين العام لحركة عصائب اهل الحق الشيخ قيس الخزعلي، اوجز الصورة بعبارات مقتضبة من خلال تغريدة له في موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، اذ قال “ان زيارة ترامب لقاعدة عسكرية أمريكية بدون مراعاة الأعراف الدبلوماسية يكشف حقيقة المشروع الأمريكي في العراق”، وخاطب ترامب، “ان رد العراقيين على ذلك سيكون بقرار البرلمان بإخراج قواتك العسكرية رغما عن انفك، وإذا لم تخرج فلدينا الخبرة والقدرة لإخراجها بطريقة أخرى تعرفها قواتك التي اجبرت على الخروج ذليلة في 2011”.
يبقى الموقف السياسي والشعبي العراقي العام حيال زيارة ترامب “الليلية” السريعة، وحيال بقاء القوات الاميركية وتوسيع نطاق ذلك الوجود، عدديا وزمانيا ومكانيا، يحتاج الى قرارات شجاعة وجريئة وحازمة من قبل السلطات التشريعية والتنفيذية العليا، حتى تأخذ الامور مساراتها الصحيحة والصائبة، وتنتهي الى النتائج المرجوة والاهداف المطلوبة، ولكي لايعد بمقدور ترامب او غيره التسلل خلسة الى العراق.
3 أميركا أولاً… نهج يضع سورية آخراً
كريستوفر ر. هِل بروجيكت سنديكيت
لا يوجد في الشرق الأوسط أي صراع يتسم بمثل هذا القدر من التعقيد الذي يتفرد به الصراع المحتدم في سورية، فتشمل المعركة التي تدور رحاها هناك حكومة معاكسة تماما للقيم الغربية، وتمردا سُنّيا متطرفا استولى عند مرحلة ما على الأراضي الحدودية الواقعة بين سورية والعراق وشق طريقه مقاتلا حتى بوابات بغداد، والواقع أن الرهان على هذه الحرب مرتفع إلى الحد الذي جعل مجموعة متنوعة من القوى الأجنبية تنجذب إليها جميعها. بيد أن الحروب التي تُخاض في سورية عديدة في حقيقة الأمر، وأحد الصراعات الدائرة هناك ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، معروف جيدا لدى الجمهور الأميركي، أما الحرب الأكثر تعذرا على الأفهام فهي تلك التي تستهدف خلافة بيت الأسد، الذي حَكَم البلاد كأسرة علمانية لما يقرب من الخمسين عاما، ويشمل صراع ثالث أكراد شمال سورية، الذين انضموا إلى الولايات المتحدة في محاربة تنظيم “داعش” لكن جهودهم أثارت المخاوف بين القادة الأتراك من أن تُفضي تطلعات السكان الأكراد في سورية إلى تشجيع الأكراد في تركيا. والآن، أضف إلى هذا الصراع المتعدد الجوانب رئيسا أميركيا لا يشعر بالارتياح إزاء الفوارق الدقيقة والتفاصيل. الواقع أن دونالد ترامب لا يملك عقلية أممية ولا يفهم الرسالة التي تنقلها القوة الأميركية، ولكن في حين كان من الممكن أن يُغفَر لترامب زعمه بأن مصلحة أميركا الوحيدة في سورية كانت إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش، فإن قراره الأخير بسحب كل القوات الأميركية لا يمكن تبريره. من الواضح أن قرار ترامب سيشجع بشار الأسد، الذي كان حكمه لسورية كارثيا، فقد أظهر الأسد على نحو ثابت عجزه عن الإبحار عبر التعقيدات التي تحيط بالأزمة، بما في ذلك التحول السريع إلى حياة الحضر والمدن، وما ترتب على ذلك من اتجاه السُنّة الريفيين النازحين بفِعل تغير المناخ إلى التطرف؛ وحضانة السُنّة المتطرفين في العراق المجاورة في خضم محاولات توطيد السلطة السياسية الشيعية في بغداد؛ ونمو المشاعر القومية الكردية في المنطقة.
لكن الأسد كان يعلم من ينبغي له أن يدعو لمساعدته في الإبقاء على قبضته على السلطة، فكان ضخ مجموعات روسية وإيرانية وشيعية إقليمية كافيا لتحويل المد لمصلحته، وقد أعطى هذا نظامه فرصة جديدة للحياة في منطقة ليست معتادة على منح القادة فرصة ثانية، ومع ذلك، يبدو الأسد، مثله في ذلك كمثل البوربون الفرنسيين، وكأنه لم يتعلم أي شيء ولم ينس شيء خلال ثمانية عشر عاما قضاها في السطلة، ومن غير المرجح أن يذهب إلى تعزيز انتصاره المزعوم بتقديم الهياكل غير الفدرالية اللازمة لحكم سورية بشكل فعّال.
كانت سياسة الولايات المتحدة في سورية تستند لفترة طويلة على ركيزتين: الاستقرار في العراق وهزيمة داعش، وقد عملت القوات الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما، ثم لفترة وجيزة في عهد ترمب، مع المقاتلين المحليين لتركيع داعش، لكن على النقيض من ادعاءات ترامب، لم ينهزم تنظيم داعش ولم يمت؛ وفي غياب مؤسسات قابلة للحياة وترتيبات سياسية مستقرة في سورية، فمن المرجح أن يعود التنظيم في هيئة أو أخرى.
بدلا من التصرف الأحادي الجانب، كما فعل بوضوح، كان من الواجب على ترامب أن يطلب من فريق العمل التابع له المعني بالسياسة الخارجية توضيح عدد من الأسئلة الشائكة، فما الفصل الختامي الذي ينبغي للولايات المتحدة أن تسعى إليه في سورية؟ ونظرا للدعم الذي يتلقاه الأسد من روسيا وإيران وتركيا، فإلى أي مدى قد يكون رحيله محتملا؟ وأي الحلول السياسية قد تكون في حكم الممكن؟ وهل الانتخابات ممكنة أو مرغوبة في سياق خال من أي مؤسسات عاملة؟
ولكن حتى مجرد طرح مثل هذه الأسئلة البسيطة بدا وكأنه خارج إطار قدرة ترامب ونطاق خبرته، فبدلا من طرح أي أسئلة، اختار ترامب إعلان النصر والرحيل، ويتناسب هذا القرار، والانسحاب المتوقع من أفغانستان وربما من أماكن أخرى، مع نمط مألوف: فالمشاركات الأميركية مع العالَم غالبا ما تسترشد باعتقاد غير ناضج وسابق للأوان بأن الهدف قد تحقق.
لكن الانسحاب من سورية أكثر وضوحا من أغلب مثل هذه القرارات، لأن من أمر به رئيس أميركي من الواضح أنه ليس لديه أي إدراك لأفعاله أو تبعاتها، فضلا عن عجزه عن قياس أفعاله على دروس التاريخ، فالحقائق ليست معرفة، والمعرفة ليست حكمة، ولكن من منظور ترامب للعالَم، ليس هناك مجال ببساطة لفكرة مفادها أن التاريخ من الممكن أن يُعَلِمُنا وربما يتكرر، أو أن هناك روابط بين العديد من التحديات الأمنية الأكثر إلحاحا التي تواجه العالَم، سواء كانت سورية، أو روسيا، أو إيران.
يُنظَر إلى السياسة الخارجية الأميركية عادة على أنها تفويض ليس لصرامة الرئيس وحسمه فقط، بل لمسؤوليته عن استخدام كل الموارد المتاحة تحت تصرفه في التصدي لأمور تتعلق بالدولة والأمن الوطني والتي قد لا يراها أو يدركها عامة الناس، لكن في حالة ترامب، لا يوجد أي شيء من هذا، بل يُصَوَّر كل التهديد والوعيد والتبجح والأخطاء الفادحة المرئية للجميع على أنها نتاج لدراسة متأنية وعبقرية استراتيجية.
*مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق لشؤون شرق آسيا، وهو كبير مستشاري مستشار المشاركة العالمية، وأستاذ الممارسة في الدبلوماسية في جامعة دنفر، ومؤلف كتاب «المخفر الأمامي».
4 «كَركوك»… إحدى قنابِل العِراق «المُتكْتِكَة»! محمد خروب الراي الاردنية
تعود أزمة كركوك (المدينة والمحافظة) لِتصَدُّر المشهد العراقي المُحتقِن والمأزوم,وخصوصاً غير المُكتمِلة حكومته بعد انتخابات الثاني عشر من ايار الماضي,والتي تبدو(استكمال وزراء حكومة عادل عبد المهدي)وكأنها استمرار لـِ( الحرب) التي لم تضع أوزارها بعد, بين المكونات السياسية والحِزبية العراقِية المُبتلاة بداء الطائفية والمذهبية.
هذا الداء الذي يُعلِن الجميع براءتهم منه ورفضهم إياه وإدانتهم له في كل تصريح ومناسبة ،إلا أنهم كلهم (حتى من رَحِم ربي) يَغرِفون من معينه ويشربون منه حتى الثمالة,ولا غرو أو مفاجأة في أن العراق وبعد قرابة ستة عشرعاما على الإحتلال الأميركي لبلاد الرافدين في العام 2003, ما يزال أسير» الرطانة الطائفية المذهبية والعِرقية «,وحرب تصفية الحسابات التي سلاحها الرئيسي هو تلك الآفة التي يتحدث» قادتها «بتلك اللغة البغيضة والمقيتة ذات البُعد العِرقي,في كل ما يخص كركوك مدينة ومحافظة.حيث»الألسِنة»الثلاثة…العربِيّ والتُركماني وخصوصا الكُردي.
يرفُض الكرد التنازل عن إدارة كركوك ورفع العلم الكردي على مبنى محافظَتها،فيما يُصر المُكوِنان العربي والتركماني (دع عنك نِسَب السكان وعددهم في هذه الحال الخاصّة والمُحتقِنة) على عدم عودة الأمور الى ما كانت عليه قبل 16 تشرين الأول 2017 ,وهو اليوم الذي أحكمَت فيه القوات العراقية سيطرتها على المدينة ومطارها العسكري،ما أسهم ضمن أمور أُخرى في إنتهاء السيطرة الكردية,التي بدأت مباشَرة بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003,وفي الوقت ذاته اندلاع الخلاف والتراشق الإعلامي العنيف,المحمول على تخوين وتواطؤ بين الحِزبَيْن الكرديين الكبيرين المُمسكَين أو المتقاسِمَين (حتى تلك اللحظة) السلطة في إقليم كردستان العراق,وهما الحزب الديمقراطي (بارزاني) والإتحاد الوطني (طالباني).
مياه كثيرة تدفّقَت في أنهارالعراق…مركَزَه والإقليم،ولم يعُد بمقدور الحِزبين الكبيرين إعادة الأمور في الإقليم الى سابق عهدها,بعد انهيار موازين القوى التي تكرّست منذ تشرين الأول 2017 ,رغم كل محاولات الضغط والإحتجاج,وتواصُل «أزمة» تشكيل حكومة جديدة في الإقليم بعد انتخابات أيلول 2018 الماضي,التي انتهت بفوز كبير وساحق للحزب الديمقراطي بزعامة رئيس الإقليم السابق مسعود بارزاني,وتراجُع الاتحاد الوطني رغم بقائِه في المرتبة الثانية,حيث يُشكّل الخلاف (بين الحزبين الكرديين الكبيرين) على «حُكْمِ» كركوك,جزءاً من هذه الأزمة المُتدحرِجة,التي يبدو ان لا أفق يلوح لحلها قريباً،إن لجهة الخلاف الكردي مع بغداد أم لعُمق وتأَصُّل الخلاف الكردي ـــ الكردي حولها.
المناكفة المُتواصِلة والضربات تحت الحزام,التي تتبادلها أطراف الأزمة داخل كركوك وبين أربيل وبغداد,كرّسَت طابع الخلاف العِرقِي الذي تستفيد منه قوى سياسية وحزبية ترى في استمراره مصلحة لها,وإن كان الجميع يسعى الى تحسين شروط تفاوضهِ وتعظيم مكاسبه,وبخاصة في اتّكاء الأطراف كافة على مُستجِدات الخلاف (إقرأ الصراع) الذي بدأ يأخذ طابعا شخصِياً,محمولا بالطبع على بُعد عِرقي,كما هي حال رفض الكُرد لبقاء محافظ كركوك الحالي» راكان الجبوري «في موقِعه,حيث يتّهمونَه بالعمل على إبعادهم عن المؤسسات المُهمة في المدينة وتحديداً المؤسسات الأمنية «.
فيما يضع عرب المدينة والتركمان فيها «فيتو» على اي شكل من أشكال عودة الكرد لحكم المدينة ولأي سبب أو مبرر كان.ما يوصِل المسألة الى طريق مسدود,يستدعي تدخّلاً جِراحياً وحكيماً من بغداد وإربيل,لتفكيك هذه القنبلة التي يرتفِع صوت تَكْتكِتها,والتي إذا ما انفجرَت (وهو احتمال وارِد,رغم الاختلال في موازين القوى وجنوح أنقرة للاستثمار فيها) فإنها ستأخذ العراق الى مسار خطير آخر,وكأن بلاد الرافدين في حاجة الى مزيد من الأخطار والأزمات التي ما تزال تعصف به,بل تضعه في عين العاصفة,وبخاصة بعد أن أعلن الرئيس الأميركي وفي غطرَسة وصفاقة غير مسبوقتين,عن نِيّته نقل قواته المُنسحِبة من سوريا,الى العراق واستخدامها قاعدة عين الأسد الجوية,التي هبط فيها خِلسة عشية عيد الميلاد,لضرب أهداف في سوريا,ما يعكِس استهتاراً وإزدراءً لسيادة هذين البلدين العربيين الكبيرين،وإصراراً على مواصَلة عدوانه الغاشِم عليهما.وهو أمر ترفُضه بحزم بغداد كما دمشق,وما تعاونِهما وتفاهُماتِهما العسكرية والأمنية الأخيرة,سوى تظهير سريع لمشهد جديد ونوعي آخذ في التَبلّوُر والبروز.