1 دَيْن صدام حسين في عنق جورج هربرت بوش صبحي حديدي
القدس العربي
جسدياً، مات جورج هربرت بوش (1924 ــ 2018)، وهذا مآل البشر وسنّة الحياة. لكنّه، في ناظر الآلاف، وربما الملايين، من ضحايا سياساته في مشارق الأرض ومغاربها، سوف يواصل العيش على هيئة قاتل تارة، ومجرم حرب طوراً؛ أو مجرّد الرئيس الـ41 للولايات المتحدة. ليس لأنه اقتدى بأسلافه الرؤساء في ممارسة قبائح القوّة العظمى الأولى كونياً، فحسب؛ بل كذلك لأنه لم يكن مرشحاً لدخول التاريخ من أية بوّابة، واسعة أم ضيقة، لولا ضربة الحظّ التي وفّرها له رجل واحد وحيد يُدعى صدّام حسين، حين اجتاح الكويت وقدّم الذريعة الفريدة كي تعسكر الولايات المتحدة في قلب الخليج العربي. تلك كانت الفرصة الذهبية الوحيدة، والدراماتيكية بكلّ المقاييس، التي مكّنت بوش أخيراً من إسباغ المعنى على رئاسة شبه جوفاء، واختلاق القنطرة التي أتاحت ذلك العبور العجيب: من سأم اليانكي المعاصر جرّاء اختتام الحرب الباردة، إلى إشعال حرب فعلية وقودها مئات الآلاف من الضحايا.
ومنذ عام 1964 (حين تولى رئاسة الحزب الجمهوري في مقاطعة صغيرة في ولاية تكساس، وكان الجمهوريون يومئذ يعدّون على الأصابع)؛ وحتى منتصف عام 1990 (حين اجتاحت القوّات العراقية الكويت)؛ لم يكن أحد يعرف على وجه الدقة السبب الذي يجعل بوش يشغل الموقع الذي يشغله… أياً كان! ورغم أنه ظلّ شخصية عامة معروفة طيلة 20 عاماً، فإنّ أحداً لم يتمكن من توصيف معتقداته وفلسفته السياسية: فمن جهة أولى، لم يكن الرجل مستعداً لإعلان شيء منها (بافتراض وجودها أصلاً!)؛ ومن جهة ثانية، كان دائم الاستعداد لتبديلها واعتناق فلسفة المحيطين به في هذه الحقبة أو تلك. كان تارة جمهورياً معتدلاً أقرب إلى خطّ نلسون روكفلر، وطوراً محافظاً متشدداً يصرف سحابة نهاره في ترداد مقولات رونالد ريغان؛ ولكنه ظلّ، كما وصفته أسبوعية «إيكونوميست» البريطانية، «لا يؤمن بشيء ما خلا ذاك الذي يسمح بتوطيد مواقعه، ولا يقوده شيء ما خلا العجالة في ارتقاء سلّم السلطة»!
وبعد انتخابه أواخر سنة 1988، بدا وكأنّ الأحداث تسير لصالحه تماماً: انهيار الإمبراطورية السوفييتية، العلاقة المريحة مع ميخائيل غورباتشوف، الانسحاب السوفييتي من أفغانستان، خفض الأسلحة والقوّات، نهاية الحرب الباردة و«انتصار الرأسمالية»، بل نهاية التاريخ نفسه حسب فرنسيس فوكوياما… ماذا يريد أكثر؟ كان ينقصه أمر واحد في الواقع، وهو حلّ معضلة تراجع الدور القيادي للولايات المتحدة في أوروبا واليابان خصوصاً، وذلك بعد اضمحلال الخطر الشيوعي.
وكانت الإدارة تنقسم إلى محورَين: جيو ــ اقتصادي يدعو إلى تحجيم المؤسسة العسكرية الأمريكية والتركيز على استثمارات هائلة في ميادين العلوم والتكنولوجيا والتجارة لمجاراة اليابان وألمانيا؛ ومحور جيو ــ ستراتيجي شدّد على دور للولايات المتحدة أكثر رسوخاً وتعاظماً في «رعاية» الغرب وحماية التجارة وموارد الموادّ الخام ضدّ تهديدات كامنة هنا وهناك في العالم. وجاء الاجتياح العراقي للكويت لكي يدحر دعاة الخطّ الأوّل، ولا يرجّح كفّة دعاة الخطّ الجيو ــ ستراتيجي، فحسب؛ بل يعيّن أمريكا شرطي الكون الأوّل والأوحد، ويطلق «النظام الدولي الجديد»، ويحوّل الرئيس من شخص عاطل عن العمل تقريباً، إلى «طبعة أمريكية من الإسكندر الأكبر الذي عبر نهر الروبيكون» كما كتب هنري كيسنجر.
لم يكن ينقصه، استطراداً، سوى شركاء من قارعي طبول الحرب، أمثال مارغريت ثاتشر وإدوارد شيفارنادزة، وأناس من أمثال الملك السعودي فهد، ممّن يستعينون بأسد كاسر لردّ الذئب عن ديارهم، وتشكيلة من العملاء والزبائن والمرتزقة. ولأنه لم يكن ثمة شكّ حول الموقع الذي يطمح إلى احتلاله في التاريخ، فإنّ هذه كانت، على وجه الدقة، اللحظة والأزمة والمناخات التي احتاج إليها بوش. ولقد تردّد أنه، في الأيام الأولى التي أعقبت اجتياح الكويت، كان يطيل الوقوف أمام صورة أبراهام لنكولن وهو يتمتم: «لقد خاض اختبار النار، وأثبت عظمته». وفي 11 أيلول (سبتمبر) 1990، ظهر على شاشات التلفزة لا كما ظهر أو سيظهر في أيّ يوم، وألقى خطبة العمر، وبريق إمبراطوري عارم يلتمع في عينيه: «الأحداث الراهنة برهنت على عدم وجود بديل عن القيادة الأمريكية. لا يشككنّ أحد بعد اليوم في مصداقية الولايات المتحدة. لا يشككنّ أحد في قوّتنا الآبدة»…
ولقد كانت حرباً «بهيجة» حقاً… قصيرة ونظيفة وظافرة، بحفنة من القتلى الأمريكيين، وبأعلام تخفق، وشرائط صفراء ترفرف، وملايين تحتفل في الشوارع. ما هَمّ أن يكون العراق قد دُكّ إلى خراب القرن التاسع عشر، وما الفارق في أن تكون أعداد الضحايا 100 ألف أو 200 ألف؟ مانشيتات صحيفة «وول ستريت جورنال» لخّصت الموقف هكذا: «روح انتصار 1991 تطرد أشباح سنوات فييتنام»، و«الأجواء الإنهزامية تتبخر»، و«كلمة متقاعد حرب تستعيد مكانتها من جديد»… لكنّ كلاب الحرب التي أيقظها بوش على رمال الصحراء وأطلقها في أرض ومياه وسماء العراق، انتقلت إلى أمريكا وأخذت تعوي في شوارعها الفارهة قبل أزقتها البائسة. كانت الأزمات الاقتصادية تتوالى، والمرشّح الديمقراطي الصاعد بيل كلينتون يُحْسن توظيف شعار «إنه الاقتصاد يا غبي!»، والأزمات الاجتماعية تتفاقم، والمستقبل يلوح قاتماً أكثر فأكثر.
وبات الشارع يصغي إلى خطابَيْن اثنين عملياً: ذاك الذي يهتف به بوش: «نحن الرقم واحد، ساعدوني لكي أضمن بقاء أمريكا في موقع الأمّة الأعظم»؛ وخطاب أجاد اختزاله الكاتب الأمريكي غور فيدال: «ما الذي يجعلني أهتمّ بصدّام حسين إذا كانت شرطة لوس أنجليس أشدّ قسوة منه»؟ وهيهات لرئيس يتربع على كلّ هذا الخراب أن يُهدى رئاسة ثانية، وأمام خصم مراوغ أريب مثل كلنتون؛ خاصة وأنّ الأمريكي العادي كان يقضي النهار والليل وهو يتحسس محفظة نقوده، وعينه على الفواتير والضرائب والرسوم. وهكذا، في صبيحة 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1992 شيّع الناخب الأمريكي هذا الرئيس/ الإسكندر الأكبر إلى مزبلة التاريخ، حسب الاستعارة الشهيرة التي نحتها ليون تروتسكي وكان ــ يا لمفارقات التاريخ! ــ بين أوائل ضحاياها.
فبأيّ زاد سوف يدخل التاريخ حين سيوارى جثمانه الثرى؟ رئاسة الولايات المتحدة لم تكن في أيّ يوم كافية لاحتلال مكانة رفيعة في أدراج التاريخ وطبقاته، وهي قطعاً لم تكن كافية بالنسبة إلى هذا الرئيس الـ41 تحديداً، رغم «درع الصحراء» و«عاصفة الصحراء» و«طرد أشباح فييتنام». وفي الأصل كان صعوده إلى سدّة الرئاسة نتيجة اجتماع عاملين لا يخلو أيّ منهما من طرافة خاصة: ضعف خصمه مايكل دوكاكيس، ونزوع شعبوي أمريكي لرؤية مثيل جون واين، بعد رونالد ريغان، في البيت الأبيض! وإلى جانب سجله القاتم في العراق، أشرف بحماس على تنظيم عملية تهجير 800 يهودي إثيوبي إلى دولة الاحتلال، كما أدلى بالصوت المرجح (50 مقابل 49) في مجلس الشيوخ لصالح إنتاج نوع جديد من أسلحة غاز الأعصاب.
وكان جيمس بيكر، مساعد بوش ووزير خارجيته لاحقاً، قد قضى ساعات طويلة من التفاوض الشاق لكي تتوقف أسبوعية «نيوزويك» الأمريكية عن وصف رئيسه بـ«الخرع»؛ بالنظر إلى أنّ الرئاسة كانت خاوية رتيبة مملة، لا حرب باردة فيها ولا حرب نجوم، لا شيوعية ولا «عدوّ أحمر» ولا مكارثية… حتى مثّل اجتياح الجيش العراقي للكويت الذريعة الأهمّ لنفض الغبار عن رئاسة خاملة. وليست مبالغة في التشديد، استطراداً، على أنّ جورج هربرت بوش يغادر هذا العالم وفي عنقه دين باهظ مستحقّ لأبرز الدائنين: صدّام حسين!
2
مقعد العراق شاغر في برلمان المحاصصة حامد الكيلاني العرب بريطانيا
ذروة النظام السياسي الحاكم في العراق، دون ريب، مستمدة من ثوابت لحظة الاحتلال وما تلاها من انهيارات شاخصة على طريق الانحطاط العام والتي تمثلت بكتابة الدستور وتشريع قوانين خاصة وتأسيس لهيئات وإجراء الانتخابات، إلى ما وصل إليه حال العراق كدولة، وأحوال العراقيين كشعب، من بؤس وانقسام وإرهاب وتخريب وتخلف.
في هذه الفترة من التداعيات تكونت مرجعيات إجبارية دينية وسياسية، شخصيات وأحزاب؛ أصبحوا واقعاً وقَدراً على الشعب وبإجازة مرخصة من المجتمع الدولي، على الرغم من اعترافهم الصريح والموثق بوصولهم إلى نقطة الهاوية والفشل كشركاء أو تحالفات وتوافقات.
اعترافهم محاولة سياسية لإعادة السير إيابا لقطع مسافة العودة إلى لحظة الاحتلال، أي لما يطلقون عليه المربع الأول في تجاوز للانتهاكات والخروقات التي لامست، أكثر من مرة، ما يمكن اعتباره وفق القوانين الدولية جرائم ضد الإنسانية.
ما جرى في العراق بعد الانتخابات الأخيرة هو سلسلة من حلقات للملمة ملفات التدمير والانتقام والسرقات والإثراء المبعثرة لتنفيذ الأجندات العقائدية والقومية لمشروع ولاية الفقيه الإيراني. بمعنى أن أكثر من 15 عاما من الاحتلال الأميركي انتهت بدعوة العراقيين إلى إعادة بناء الثقة بالمخربين والإرهابيين من زعماء مافيات السياسة وعصابات المال والميليشيات؛ لأنهم ببساطة قرروا أن يعيدوا حساباتهم ويعترفوا بفشل تجربتهم الطويلة وفتح صفحة جديدة لرفع ألغامهم ومفخخاتهم القديمة.
وُعُودهم بالإصلاح والبناء وتشكيل الحكومة بالتوافق على مرشح ترضية لرئاسة الوزراء والتحضير له كمستقل؛ تطرح إشكالية الخلافات والتصعيد على تسمية المرشحين لمنصبيْ الداخلية والدفاع، بما حصل في مجلس النواب من صراع على إرساء الهوية العراقية لهذا الطرف أو ذاك من معادلة الاحتلال الإيراني للعراق وبحجم رفاهية وفائض وطني يبعث على السخرية من تعفف التحالفات الطائفية عن المناصب، أو عن فرض الإرادات والوصاية على رئيس الوزراء أو التحالفات داخل البرلمان أو على الشعب.
عقدة نقص المواطنة تلاحقهم، وعقدة الاحتلال والاستقواء بالأجنبي تلاحقهم، وجرائم الحرب الأهلية والتحريض على العنف والطائفية تطاردهم؛ لذلك المشهد في العراق يتجه نحو تجزئة “منجزات” الاحتلال الأميركي وتفكيكها إعلامياً لطرحها في مناقصة يشرف عليها “مناضلي” ولاية الفقيه وبحماية أسلحتهم وأدواتهم الرقابية وإعادة بيعها كمشروع إصلاحي لإعمار العراق وبنائه.
الصراع يجري بشراسة على امتلاك دولة وليس مقاعد برلمانية أو مناصب وزارية. الاحتلال الإيراني للعراق لم يعد بحاجة إلى النموذج اللبناني في تمادي الميليشيا الإيرانية على حساب الدولة أو الجيش النظامي، ومن يعتقد أن ثمة قرارا عراقيا مستقلا أو لأحدهم قوة تمثيل الشارع العراقي في البرلمان، فليراقب مدى انفتاح ملالي طهران وثقتهم من المرشد خامنئي إلى قاسم سليماني بكافة التحالفات السياسية على اختلاف توجهاتها المذهبية والقومية في العمل السياسي داخل العراق.
ذلك الاطمئنان الإيراني جاء كمحصلة لانهيار العراق بعد الاحتلال الأميركي وقياساته لبناء وإصلاح النظام السياسي الذي أدى إلى فقدان الذاكرة الوطنية الموحدة، وما زاد في اطمئنانهم عمق الصلات التي طفت كحالات شاذة من الخيانة العظمى باصطفاف بعض الأحزاب والتنظيمات للقتال ضد وطنهم الأم خلال الحرب الإيرانية العراقية، لأسباب تأكدت في كل يوم من أيام استلامهم للسلطة في العراق بما ارتكبوه من مجازر واغتيالات استهدفت بشكل عام من دافع في تلك الحرب عن مرجعيته الوطنية.
تحت مانشيت “الفرصة الأخيرة” تطرح الأحزاب المختلفة على مزاد بيع وشراء العراق مشاريعها لاستثمار خط الرجعة إلى مربع الاحتلال لكسب سنوات مضافة في السلطة بإدانة المحاصصة الطائفية والسياسية، بمزيد من الإصرار على فرض إرادات مشروع الاحتلال الإيراني بحجة التوافقات أو الصراع السياسي الحاد داخل قبة البرلمان. وهو صراع مكشوف الدوافع تداخلت فيه الزعامات الدينية مع السياسية للاستحواذ على رضا الاحتلال الأميركي أو الإيراني، أو كلا الطرفين، أو على الأقل فرض سلطة الأمر الواقع بالسلاح أو باستعراض تضحيات الأتباع.
التهديد بالفرصة الأخيرة للإصلاح، رغم ما يحمله في طياته من واقعية انسداد أفق الحل لدى الشعب تجاه العملية السياسية وفقدان الأمل بأحزابها وشخوصها، إلا أنه في الوقت ذاته احتكار لصوت الشارع الرافض للنظام السياسي أو بالأحرى لهؤلاء العملاء الذين تاجروا بالعراق.
قرار العراقيين لا يمت بصلة لأحزاب سياسية أو زعامات فساد ولصوص المال العام، ولا يذعن لمرجعيات السلاح وفتاوى رجال الدين أو وصايا المرشد الإيراني وجنراله بما يشاع عنهما في هذه المرحلة من ترك الحريات لشعب العراق ومرجعياته في حق اختيار نظامه السياسي وحكومته. رغم أن هذا الطرح ينطوي على سيطرة شبه مطلقة على مقدرات السلطة بعد استحواذ التنظيمات والميليشيات على مقاعد البرلمان، وتحول الصراع المذهبي والطائفي داخل البرلمان من صراع محاصصة أحزاب وكتل طائفية إلى صراع لمصادرة صوت العراقيين، بما استدعى ترويضه بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين واستحضار هيمنة الميليشيات.
لحظة الحقيقة توفر للجميع حق مراجعة مرجعياتهم مهما كانت مصادرها؛ فالجياع والعاطلون عن العمل تجمعهم مرجعية الوطن مع الغارقة خيامهم في البؤس والأحزان، ولأن العراقيين جربوا مرجعية الموت في كل بيت تقريباً، صار عليهم رفض المرجعيات السياسية والعقائدية ومشاريع الخيانة وتقرير المصير نيابة عنهم.
الفرصة الأخيرة لن يمنحها شعب العراق لولاية الفقيه والميليشيات، ولا لمناورات الأحزاب الطائفية ومافيات الفساد ولا لسارقي إرادته الانتخابية بعدم التصويت لتجربة الاحتلال.
ماذا يعني الإصلاح غير ترميم عملية سياسية تناوبت على العراقيين بالمآسي والكوارث، وماذا يعني البناء في أقصى سلم النيات الحسنة لميليشيات الحشد الشعبي وغيرها سوى حسنات ملالي طهران لمن تهدمت ديارهم بأسرارها التي تفضحها موازنة 2019، وحصة المحافظات المدمرة قياساً بباقي محافظات العراق التي ستذهب هي الأخرى لخدمة الفاسدين أو إطالة أعمارهم في السلطة.
لكل ذلك لا مقعد للعراقيين في البرلمان، مقعدهم سيظل شاغرا وليس لأحد أن يتحدث باسمهم أو أن يدعي حتى استحقاقه لصوت المعارضة. المعارضة هناك في الشارع وهي وحدها من يقرر تحديد اللحظة الفاصلة حيث لا مرجعية إلا مرجعية الوطن.
3 حكومة العراق وعواصف الرفض والاحتجاج د. محمد عاكف جمال البيان الاماراتية
الجمود في الوضع السياسي العراقي وما يكتنف ذلك من صراعات وما يترتب عليه من إرباكات يزيد من تعقيدات حالة الالتباس المتعلق بمستقبل الحكومة التي لمّا تُكتمل بعد عددياً، ويتجاوز ذلك إلى مستقبل العملية السياسية.
قد نحكم على هذه الحكومة من خلال الاطلاع على برنامجها الفضفاض الصعب التنفيذ، الذي يعرضها لشتى التساؤلات المحرجة عن استحقاقات تنفيذه زمنياً، ومن خلال السير الذاتية لبعض وزرائها المهددين بالإقالة، ولكن الأهم من هذا وذاك من خلال التمعن بإرهاصات تشكيلها. فبالقدر الذي كان ميلادها عسيراً سيكون من الصعوبة بمكان الحفاظ على بقائها طويلاً لأسباب عدة، منها سهولة كسرها لعدم وجود كتلة نيابية قوية تستند إليها، ولتباين الأهداف والمصالح للكيانات التي تكتلت فيها، ولسهولة انهيار عملية التوافق الهشة التي أنجبتها.
الذهاب لخيار الأخذ بمرشح تسوية وتكليف الدكتور عادل عبد المهدي برئاسة الوزارة، باعتباره مستقلاً وليس طرفاً في التجاذبات السياسية، جاء نتيجة وصول التنافس بين الفرقاء في المشهد العراقي إلى حدود خطيرة في التصعيد.
على المستوى الداخلي، العناق الحار والابتسامات العريضة المرتسمة على الوجوه حين يقابل الساسة بعضهم بعضاً لا تستطيع أن تخفي حقيقة العلاقات السياسية المتشنجة، فمناخ التنافس وآلياته الذي يتجاوز أطر اللعبة السياسية المقبولة في الأنظمة الديمقراطية مسكوت عنه، إن لم يكن مقبولاً في الوسط السياسي، مناخ ترسم في أطره سياسات التسقيط السياسي، وهو ما نشهده مع قرب وصول مرحلة التوافق إلى نهاياتها. أما على المستوى الخارجي، بنية الحكومة لا تمكنها من مواجهة المهام الجسام التي تواجهها في ظروف إقليمية ودولية تضاعف من الصعوبات أمامها، فهي تتعرض لضغوط كبيرة داخلية وإقليمية بغية الالتفاف على العقوبات الأميركية على إيران، أو على الأقل غض الطرف عن المحاولات لذلك، وهي من جانب آخر لا تتمكن من الوقوف بوجه الولايات المتحدة التي لا تزال تمسك بخيوط اللعبة السياسية، خاصة ما يتعلق بالحرب على تنظيم داعش الذي بدأ يستعيد نشاطاته في بعض مناطق العراق.
حكومة عبد المهدي يتجاذبها ائتلافان، الإصلاح بزعامة الصدر، والبناء بزعامة العامري، وقد ذهبا مع بعض بمسيرة التوافق على معظم الكابينة الوزارية، إلا أن هذه المسيرة بدأت بالتعثر على قاعدة الخلاف الشديد حول من يشغل الوزارتين الأمنيتين الداخلية والدفاع. فقد سبق أن اتفق الائتلافان على أن من يشغلهما ينبغي أن يكون من المستقلين غير المنتمين إلى أي حزب أو أية كتلة سياسية. العقدة تكمن في التنصل من هذا الاتفاق وإصرار تحالف البناء على ترشيح فالح الفياض لحقيبة الداخلية وإصرار تحالف الإصلاح على رفضه.
تمسك تحالف البناء بترشيح الفياض له دلالات عدة لا تقف عند حد القناعة بجدارته الشخصية لهذا المنصب، بل تتجاوز ذلك إلى تلبية استحقاقات سياسية تتعلق بالعلاقات التي تربط قادة التحالف بقوات الحشد الشعبي الذي ترأسه الفياض منذ تأسيسه، الذي يستمد منه التحالف قوته على الأرض. كما أنه من جانب آخر مدخل لإنهاء مسار التوافق والذهاب إلى استفتاء نيابي حول ترشيحه ليثبت البناء بأنه الكتلة الأكبر حين ينجح بتمرير ذلك، بعد أن يكون قد استعد له لوجستياً في استراتيجية لي الأذرع وكسر الإرادات.
ومع أن عبد المهدي قد أعلن بأنه لن يستقيل تحت أي ظرف من الظروف إلا أنه قد لا يكون قادراً على الاستمرار في مواجهة الرفض والاحتجاج، فالجدل حول مستقبل حكومته في تصاعد وسط العواصف التي بدأت تهب في مجلس النواب، مع تراجع إرادة الذهاب إلى طاولة التوافق التي أصبحت مقفرة، فهو يواجه صعوبات كبيرة في استكمال كابينته الوزارية على الرغم من الجهود التي تبذل من جانب الدكتور برهم صالح رئيس الجمهورية لتذليل العقبات. في أجواء الفوضى التي بدأت تعصف بالعملية السياسية ليست حكومة عبد المهدي وحدها مهددة بالانهيار وإنما الائتلافات نفسها، فهناك مؤشرات تتجاوز الإرهاصات عن التوترات داخلها التي قد تقود لاصطفافات جديدة لتغيير الخارطة السياسية.
4 نبوخذ نصّر من وجهة نظر أخرى وليد الزبيدي الوطن العمانية
جميع المصادر والكتب التي قرأناها منذ زمن تتحدث بإعجاب بالقائد البابلي الشهير نبوخذ نصّر، لكن قبل فترة شاهدت وثائقيا بثته إحدى الفضائيات العربية يرسم صورة مغايرة تماما، وتفاجأت بحجم التحامل والضغينة التي تضمنها الوثائقي، حاولت أن أجد إجابات لأسئلة عديدة عن سبب بث هذا الفيلم الوثائقي من قبل فضائية عربية، لكن سرعان ما عرفت السبب بعد أن تبين أن إنتاج الفيلم قد تم من قبل شركة ألمانية، وأن ما تضمنته هذه المادة التاريخية تشير إلى الأطراف التي تكن الحقد والضغينة لبابل وملكها الكلداني، أنه أحد الملوك الكلدان الذين حكموا بابل، وأكبر أبناء نبوبولاسر، ويعتبر نبوخذ نصر أحد أقوى الملوك الذين حكموا بابل وبلاد ما بين النهرين، حيث جعل من الإمبراطورية الكلدانية البابلية أقوى الإمبراطوريات في عهده، بعد أن خاض عدة حروب ضد الآشوريين والمصريين، كما أنه قام بإسقاط مدينة أورشليم (القدس) مرتين الأولى في سنة 597 ق م والثانية في سنة 587 ق م، إذ قام بسبي سكان أورشليم وأنهى حكم سلالة داؤود، كما ذكر أنه كان مسؤولًا عن بناء عدة أعمال عمرانية في بابل مثل الجنائن المعلقة وبوابة عشتار. وتتفق على هذه الحقائق الغالبية العظمى من المصادر التاريخية، كما أن آثار بابل التي ما زالت شاخصة تؤكد ذلك.
ووفقا للمراجع التاريخية، فقد عامل نبوخذ نصر اليهود في بابل أحسن معاملة مع إغداق السخاء والكرم عليهم، بغية الاستفادة من وجودهم في إعمار بلده، الذي كان يحرص على تقدم العمران فيه، وسمح لهم أن يقيموا في وسط المجتمع البابلي بعد أن أقطعهم أحسن الأراضي الزراعية، كما سمح لهم أن يكونوا لهم مجتمعا موحدا مستقلا في إدارة شؤونه الاجتماعية والدينية، ويذكر Graetz في كتابه (History of the Jews) أن نبوخذ نصر، سمح للعائلة المالكة، أن يعيشوا أحرارا مجتمعين في مكان واحد هم وخدمهم وعبيدهم يمارسون إدارة الأعمال وفق عاداتهم وتقاليدهم من غير أي تدخل في شؤونهم.
ويؤكد ذلك الكاتب اليهودي (ابراهام بن يعقوب) إذ يذكر: أن الوضع الاقتصادي والسياسي والروحاني ليهود بابل كان جيدا في ذلك الوقت، فقد تمتعوا بكل حقوق المواطنة، فعملوا في الزراعة والتجارة والصناعة، وكان عدد منهم أصحاب ثروات وأصحاب حقول وبساتين وأصحاب أملاك وتجارا وجباة وما شابه ذلك.
ويشير ارنولد توينبي المؤرخ المعروف إلى أن ملك بابل قد سمح لليهود بالعيش الرغيد في ظل الدولة البابلية واستفاد اليهود كثيرا من الامتيازات، التي منحهم إياها الكلدان، فأصبح في صفوفهم الكثير ممن تمرسوا على أساليب الحكم والسياسة وممن أتقنوا الحرف والصناعات المختلفة، وعظم شأنهم بين البابليين (أنبياء إسرائيل ص202).
وتعترف المصادر اليهودية بأن اليهود في بابل، أصبحوا في غضون مدة وجيزة أغنى أهل بابل، فبعضهم امتلك الأراضي الزراعية والبعض الآخر كان يزرع بالفعل في الأراضي التي اقتطعت لهم، وحفروا شبكة من جداول الري والقنوات لإيصال المياه السيحية إلى مزارعهم، وأقاموا السدود لحمايتها من الفيضان، وورد في التلمود البابلي كثير من الشروح والتعاليم والإرشادات المتعلقة بالزراعة، وهي موجهة لليهود الذين يعملون في الزراعة في بابل ويتناول التلمود أيضا كيفية زراعة النخيل والعناية بها.
على الطرف الآخر نجد الكثير من الكلام المغاير عن بابل وعن العراق أيضا.
5 التعليم في العراق يشكو الإهمال احمد صبري الوطن العمانية
إن تدهور التعليم يعكس خطورة مساره على الأجيال القادمة ومنعة المجتمع وتحصينه من التخلف والتجهيل، فعزوف الالتحاق بالمدارس وتسرب الطلاب أصبح ظاهرة دقت منظمات محلية ودولية ناقوس الخطر من احتمالات الكارثة التي ستحل بالعراق، إذا لم تعالج أسبابها، وتوضع الحلول اللازمة..
كحال القطاعات الأخرى يشهد القطاع التعليمي في العراق تدهورا خطيرا في شتى الميادين إلى حد بقائه في آخر سلم جودة التعليم التي تصنفها اليونسكو في معرض تقييمها السنوي، في حين غاب العراق عن مؤشر جودة التعليم العالمي الصادر من المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس مؤخرا؛ لأن التعليم في العراق لا يمكنه الدخول في المنافسة في هذا المؤشر لعدم توفر الشروط والمواصفات اللازمة لهذه المنافسة.
حال التعليم في العراق يعكس أزمات العراق التي ترحل من عام إلى آخر من دون معالجة الكوارث التي حلت بهذا القطاع الحيوي الذي بقي منذ احتلال العراق وحتى الآن في آخر أولويات الحكومات المتعاقبة بعد أن كان العراق يتصدر دول المنطقة، باعتباره يمتلك أفضل أنظمة التعليم، وحاز على جوائز كثيرة من منظمة اليونسكو، ناهيك عن خلوه من الأمية قبل فرض الحصار عليه عام 1990م.
وبحسب إحصائية منشورة تعكس حجم التدهور الذي يشهده قطاع التعليم فإن عدد الطلاب المسجّلين في الصف الأول الابتدائي في أحد الأعوام بلغ مليونا، وصل منهم إلى السادس الإعدادي وشاركوا في امتحانات البكالوريا نحو 400 ألف طالب فقط، ما يعني أن العراق خسر 600 ألف طالب، وهذا مؤشر على انحدار التعليم.
غير أن إحصائية وزارة التربية العراقية تشير إلى أن الطلبة الذين شاركوا في امتحانات البكالوريا للعام الماضي، لم ينجح منهم 4 بالمئة، من مجموع مليون طالب تم تسجيلهم في المدارس؛ أي أن 900 ألف طالب وطالبة لم يصلوا أو يتجاوزوا السادس الإعدادي.
ولم يقتصر الأمر على المدارس وإنما تعداه إلى الجامعات التي انحدر مستوى التعليم فيها إلى الهاوية لافتقارها إلى الأقسام الداخلية وإلى المختبرات وقاعات الدراسة المقبولة، ناهيك عن تدني مستوى التدريسيين بسبب ضعفها وقلة خبرتها وتبوؤ عناصر غير كفؤءة وغير مؤهلة، ولا تمتلك الخبرة والتجربة مناصب عمداء الكليات ورؤساء الجامعات، حسب نظام المحاصصة الطائفية التي انعكس سلبا على سمعة الجامعات خلال السنوات الماضية، ناهيك عن سماح الدولة بفتح جامعات وكليات أهلية لا تتوافر في أغلبها أبسط شروط الجامعة، لا سيما قبول الطلاب من ذوي المعدلات المتدنية جدا مقابل مبالغ مالية، وتمنح الشهادات بعد حصولهم على شهادات من مدارس دينية من دول الجوار لتسهيل قبولهم في الكليات الأهلية وحتى الحكومية.
وما يفاقم أزمة التعليم في العراق وسبل النهوض به هو تدني التخصيصات المالية له في الموازنة العامة التي كشفت لجنة التربية النيابية عن أنه لا يكفي لإصلاح وتأهيل القطاع التربوي، وتخصيص المدارس المخصصة للطلاب، ناهيك عن خلو تخصيصات وزارة التربية عن أي درجة لتعيين أي معلم او مدرس.
إن تدهور التعليم يعكس خطورة مساره على الأجيال القادمة ومنعة المجتمع وتحصينه من التخلف والتجهيل، فعزوف الالتحاق بالمدارس وتسرب الطلاب أصبح ظاهرة دقت منظمات محلية ودولية ناقوس الخطر من احتمالات الكارثة التي ستحل بالعراق، إذا لم تعالج أسبابها، وتوضع الحلول اللازمة، لا سيما تأمين الأجواء المناسبة للدراسة، فليس من المعقول أن تكتظ قاعات الدراسة بنحو 60 طالبا نصفهم يجلسون على الأرض في مدارس طينية لا تتوافر فيها مستلزمات الدراسة، ناهيك عن وقف تسرب آلاف الطلاب بسبب الحاجة المادية أو انعدام أجواء الدراسة في وقت استدار السياسيون عن هذه الظاهرة، وفضلوا مصالحهم على معالجة هذه الظاهرة التي ستضع العراق أمام كارثة حقيقية ستزيد من عزلته وعجزه في مواكبة العلم والمعرفة والتعليم.