1 الكهرباء.. خيانة عظمى
مشرق عباس الحياة السعودية
عندما قررت الولايات المتحدة منح العراق 45 يوماً فقط لتسوية ملف استيراداته بالدولار من الغاز والكهرباء الايرانيين، كانت قد وضعت اصحاب القرار امام خيارات معقدة، وبمواجهة حلول وبدائل تبدو مستحيلة لتوفير الكهرباء خلال موسم الصيف القادم، ولكنها القت المزيد من الضوء على ملف عراقي غامض يدور في فلك الارقام والتبريرات المبهمة، ويرفع من وتيرة الشكوك حول ما هو ابعد من الفشل والفساد قاد ويقود الى خراب هذا البلد.
يحتاج العراق حسب المختصين قرابة 25 الف ميغاواط من الطاقة الكربائية، لتلبية احتياجات السكان، وهذا الرقم يتصاعد ليصل الى 30 الف ميغاواط خلال العامين المقبلين، لكنه ينتج في المقابل 9 الاف ميغا واط معتمداً على محطاته التي تعمل بالغاز او النفط الاسود المنتج محلياً، ونحو 4.5 الاف ميغا واط تنتجها محطات غازية عراقية مرتبطة بانبوب ناقل للغاز الايراني المستورد، بالاضافة الى 1250 ميغا واط مصدرة بشكل مباشر من ايران.
وهذه الارقام تكشف اعتماد العراق على الكهرباء والغاز الايرانيين بنحو ربع احتياجاته من الكهرباء، فيما يعاني مع ذلك عجزاً يصل في الصيف الى قرابة 10 الاف ميغا واط، ما يعني ان تطبيق العراق للعقوبات الاميركية وفشل قادته في اقناع واشنطن باستثناء دائم، يسقط البلاد في ازمة طاقة كهربائية غير مسبوقة، مع العلم ان العجز عن توفير الكهرباء كان من ابرز اسباب تظاهرات البصرة والجنوب اخيراً، وهي قضية وقفت دائماً خلف حركات الاحتجاج العراقية التي تساءلت على الدوام عن المنافذ التي ذهبت اليها قرابة 40 مليار دولار صرفت على الكهرباء خلال السنوات الماضية في الموازنات الحكومية.
ثلاثة عوامل تدور في فلك هذه القضية، الاول هو عجز العراق عن ربط منظومته الكهربائية بدول المنطقة باستثناء سورية وايران، والثاني يخص العجز عن انتاج الغاز الذي يهدر من سنوات في الابار النفطية لتزويد محطاته بالغاز، والثالث هو الاصرار على عدم تحديث شبكة نقل الطاقة الكهربائية الداخلية. المعلومات المتوفرة ان السعودية والكويت والاردن قدمت للعراق عروضاً للربط الكهربائي، ويسرب بعض الحكوميين ان العروض من الدول الثلاث كانت تشمل تكفلها بناء الخطوط الناقلة حتى حدودها، على ان يتكفل العراق ببناء هذه الخطوط حتى حدوده، حيث قدر الخبراء تكلفة كلية لهذه الخطوط الثلاثة بما لايزيد عن 100 مليون دولار، لم تتمكن الحكومات العراقية المتعاقبة من توفيرها!. في الملف الثاني عجزت الحكومات العراقية عن ايقاف الهدر في الغاز المصاحب في الحقول النفطية، على رغم ان التقديرات تؤكد قدرة العراق على تصدير الغاز بعد سد احتياجاته، ومع ان شركات عالمية كبرى قدمت عروضاً مغرية لاستثمار الغاز المصاحب، وان هذه الشركات مازالت تضع هذه العروض على مكاتب وزراء النفط المتعاقبين.
وفي الملف الثالث يقدر الخبراء ضياع ما يصل الى ربع الطاقة الكهربائية المنتجة داخلياً، بسبب رداءة وتهالك شبكات نقل الطاقة، وعدم المباشرة بتحديثها، وان لاخطة فعلية لتحديثها فعلياً لا اليوم ولا غداً. رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي شغل منصب وزير النفط سابقاً، وهو على اطلاع مباشر على ملف الكهرباء واسراره، وكان كتب مقالاً في شهر تموز الماضي بالتزامن مع تظاهرات البصرة حول الحلول المصرية المعلنة لتوفير الكهرباء جاء في ختامه: “اعتقد ان المشكلة لدينا ليست مالية او فنية، بل هي الفساد والبيروقراطية والتخبط في الخطط والمافيات في الدولة وخارجها والتجاوزات. فنحن نعلم ان هناك مذكرات وقعت مع (سيمنس) وغيرها. فهل سنرى النتائج قريباً؟ ام ان للعراق اسرارا اخرى” (انتهى الاقتباس). والإجابة: نعم “للعراق اسرار اخرى” وهي اسرار قد تتجاوز الفساد والبيروقراطية الى “الخيانة العظمى” التي سمحت بتحويل ملف يخص عصب حياة البلد وابرز واجبات الدولة ازاء مواطنيها مثل توفير الطاقة الكهربائية الى قضية سياسية، قبل ان تكون فنية.
2 «الكوفة» لهشام جعيّط: دعوة لاستعادة المدينة الأولى في الإسلام ابراهيم العريس
الحياة السعودية
في القرن الـ14، حين قام الرحالة ابن بطوطة بجولته في العالم الإسلامي، اكتشف حين وصل إلى جنوب ما يسمى اليوم بالعراق، أن المدينة التي كان يتشوق لرؤيتها والتجوال فيها لم تعد موجودة. حين زارها ابن بطوطة كان لا يزال قائماً في الكوفة مسجدها الذي بقي، على أي حال قائماً حتى أيامنا هذه، بشكل أو بآخر. وكيف كان بالإمكان إزالة ذاك الذي كان أول مسجد بني حقاً من لا شيء، في التاريخ الإسلامي؟ فالحال أن مسجد الكوفة، كما الكوفة كلها على أي حال، لم يُقم في هذه المدينة مكان أي معبد سبق وجوده كما الحال بالنسبة إلى معظم مساجد الإسلام الأولى، بل في مكان وسط المدينة التي أُسست بدورها في مكان خال يقع على ضفة فرع من فروع الفرات، يدعى الهندية، على مبعدة فراسخ قليلة إلى الشمال الشرقي من النجف الأشرف، بالتالي فإن الكوفة نفسها ستكون في التاريخ الإسلامي، أول مدينة ينشئها المسلمون العرب خارج الجزيرة العربية وذلك أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، لكنها سوف تكون بعد قرون قليلة، أول مدينة إسلامية تزول من الوجود، ولأسباب سياسية على الأرجح.
هذا ما نستشفه على الأقل من الكتاب الذي كرسه الباحث التونسي هشام جعيط لهذه المدينة وتجلى أول الأمر لديه كأطروحة دكتوراه متميزة.
الحقيقة أن هذا الكتاب، الذي لم يلق ما يستحقه من اهتمام لدى صدوره، لا يمكن اعتباره كتاباً عادياً عن مدينة عادية. بل هو من تلك الكتب التي تؤسس وتشتغل على لب الموضوع التاريخي الذي لا يكتفي بالسرد والوصف ليطلع باستنتاجات يغلب عليها الطابع الأيديولوجي كما اعتاد أن يكون هذا النوع من الكتب في الثقافة العربية المعاصرة. بل هو يبدو لنا أقرب إلى ما يدعو إليه «التاريخ الجديد» كما عبّرت عنه مدرسة «الحوليات» الفرنسية، من اهتمام بالتفاصيل وتوقف عند الأبعاد الاقتصادية والثقافية وضروب الحياة اليومية العائدة إلى الموضوع المؤرَّخ، وفي نوع من التضفير بين التاريخ والجغرافيا. ربما يكون علينا أن نتوقف أول الأمر عند ما يقوله «الناشر» عن الكتاب –ونرجح أن المؤلف نفسه هو الذي صاغ العبارات ناسباً إياها إلى الناشر!-: «يطمح هذا الكتاب إلى أن يكون إحياء أو قل ترميماً للكوفة، أولى الحواضر العربية الكبرى، زمنياً، خارج الجزيرة العربية التي وُلدت مع الفتح، وكانت أحد المراكز الحساسة في الإمبراطورية، وزالت اليوم من الوجود»(…). والحقيقة، يتابع كاتب هذه الفقرة: «أن الكوفة تمثل بامتياز تاريخ الحضارة الإسلامية في أقدم تعابيرها وأهمها التي يُحكى عنها الكثير ويُعرف عنها القليل من حيث حياتها النابضة التي تتراءى في آخر المطاف مثيرة للخيال اليوم…». وكيف لا تثير مثل هذا الخيال مدينة عرفت كيف تكون خلال القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الإسلامي- وقبل أن يبدأ دمارها على أيدي القرامطة ثم إهمالها على أيدي العباسيين-، مركز إشعاع فكري وأدبي وبخاصة لغوي، حيث نعرف، ويفيدنا المؤلف بالتأكيد، أنها كانت مع توأمها البصرة، وانطلاقاً من جغرافيتها القريبة من مناطق سكنى البدو من العرب الأقحاح، مركز انطلاق أولئك الباحثين في شتى الشؤون الفكرية من الذين كانوا يقصدون عرب الصحارى لكي يتعلموا على أيديهم قواعد اللغة وتواريخ الشعراء الأقدمين وتفاصيل الفكر والإبداع اللذين ارتبطا بتلك العصور التي دعاها المسلمون بـ«الجاهلية»، وكانت في حقيقتها خزانة حضارة لا تضاهى من المهم أن نقول هنا أنها وصلت عبر تطور اللغة وحفظ الأشعار والتلاقح بين «الكوفيين» والأعراب، إلى استعادة ذلك الإرث والحفاظ على جذوره العربية.
عن هذا يحدثنا هشام جعيط في هذا الكتاب بالتأكيد، لكنه كأساس لأطروحاته، يقول لنا لماذا كان هذا ممكناً هو الذي يرى أن «الكوفة المتخفية اليوم في رمالها، تبدو أكثر تخفّياً في ثنايا أقدم النصوص التاريخية، وتنهض لنواظرنا مجلببة بكل هيئاتها وأجهزتها الكثيفة والكثيرة في آن. فقد خالجتها رعشات الحياة النابضة بقوة، وهي تتكون بين النهر والصحراء مشرفة على سهول بلاد الرافدين…»، هي التي إنما أسسها في الأصل أبناء قبائل جنوب الجزيرة العربية، لا سيما يمانيو الأصل منهم، أولئك الذين قصدوا بلاد السواد (العراق) في جيوش الفتح وأرادوا الاستيطان هنا بعد تحقيقه. ومن هنا ما يقوله جعيط على خطى المستشرق الفرنسي ماسينيون الذي كان من أوائل الباحثين، وميدانياً بالتحديد، في تاريخ الكوفة. غير أن المؤلف التونسي، إذ ينطلق من كتابات ماسينيون، وغالباً في نظرة ناقدة حاذقة تعتمد أساليب في البحث التاريخي لم يكن للمستشرق الفرنسي عهد بها– ولكن من دون أن يبخس هذا الأخير حقه-، يشتغل على مئات المصادر العربية القديمة والحديثة، بخاصة منها تلك التي أرخت لتكوّن مدينة الكوفة متحوّلة مما يشبه المعسكر إلى تلك المدينة المزدهرة فكريا والتي أنجبت كباراً من الشعراء والمفكرين العرب– ومنهم بالطبع أبو الطيب المتنبي الذي تتزامن بدايات سيرته كما نعرف، مع هجوم القرامطة على المدينة وتدميرها في مشهد عايشه طفلاً ولن يبرح مخيلته أبداً-.
وموضوع هو بناء وسقوط تلك الحاضرة العربية التي يتساءل منذ البداية عما إذا كانت معسكراً أم مدينة حقيقية، قبل أن ينتقل بعد قليل إلى دراسة مسألة التمدن والاستقرار وصولاً إلى اعتبار الكوفة نموذجاً في هذا السياق ليختم دارساً الوجه المدني لتلك المدينة التي يطمئن نفسه في الختام بقوله إن «ما من مدينة تنتهي أبداً من بنائها الذاتي لأن نبضات حياتها ترتبط بالمادة البشرية الموجودة داخلها»، فهل نحن أمام دعوة دائمة لعودة الكوفة؟