مقالان عن العراق يوم السبت في الصحف العربية

1 قانون “السواني” يتحكم في المجتمع العراقي زيد بن رفاعة العرب بريطانيا

كان المجتمع العراقي في العهد العثماني، العرب المسلمون والكرد من أهل الأرياف على وجه الخصوص، تحل فيه النزاعات عن طريق شيوخ العشائر، ومنهم من يجمع بين الإقطاع ورئاسة العشيرة، فالشيخ هو الحاكم المطلق في ناحيته أو قريته، إلى جانبه عقلاء القوم أو من عُرفوا بالفرضيين، وهو ما يسمى في العشيرة بـ”الفريضة”، ففي الريف العراقي ليست هناك محاكم يلجأ إليها المتنازعون، وإن نشأت المحاكم فهي في المدن فقط. كان شيخ العشيرة المتحكم المطبق، ولكن بأصول العشيرة آنذاك، قبل أن يعم الخراب وتتخلخل التقاليد أو الأعراف
العشائرية.
بعد العهد العثماني، الذي انتهى مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ثبت البريطانيون قانون العشائر، ويُسمى بالسواني، وهو إبقاء الأعراف العشائرية على ما كانت عليه، سواء كان ذلك في الجرائم الكبرى أو الصغرى، ومنها القتل والخطف، واللذان كثيرا ما كانا يقطعان على النساء، صحيح هناك حق عام للدولة، لكن ذلك يسقط في ما حُلت القضية عشائريا، وهو أن يأتي وفد من عشيرة القاتل أو الخاطف ويتم التفاوض مع عشيرة الواقع عليه الجرم، وينتهي الموضوع بالفصل، ومعلوم أن الفصل كان يستوفى بالمال والنساء، ومن العادة أن المرأة التي قُدمت فصلا مقابل جُرم أخيها أو أبيها ليست لها حقوق، وكثيرا ما كانت المرأة المظلومة تصف نفسها بـ”الفصْلية”. بعدها يتم الالتزام بما اتفق عليه بين العشيرتين، وما حكم به الفرضيون، وإضافة إلى الفصل من العادة أن يُطلب بل يفرض على القاتل أو الخاطف أن ينتقل من المنطقة، ويُقال “جلوة”، ويكون لفترة معلومة أو مدى الحياة. فحسب تحكم هذا القانون “السواني” من الصعب على العراقي في الأرياف بل وداخل المدن، أن يبقى بلا انتساب لعشيرة، وإذا ترك عشيرته يذهب ليكون دخيلا عند عشيرة أخرى تتكفل بحمايته، وإن عمل جرما ما تُقدم عنه الفصل، وبالمقابل أن الفصل، الذي يحصل عليه ذوو المقتول يوزع على العشيرة، وفي حالة رفض توزيعه من قبله يُطرد من العشيرة.
ظل قانون العشائر نافذا حتى نهاية الحكم الملكي، والسبب أن شيوخ العشائر كانوا يتحكمون في مجتمعاتهم تماما، وأن السياسيين العراقيين آنذاك كانوا يستغلون العشائر في نزاعاتهم، أي تحريكها في وقت الحاجة، مثلما حدث في الثلاثينات من القرن الماضي في الفرات الأوسط. بعد ثورة 14 يوليو 1958 ألغت الحكومة قانون العشائر، وظهرت قوة الدولة عبر محاكمها المدنية، لكن ذلك تم رسميا فقط، أما اجتماعيا فظلت النزاعات لا تحل كاملة عن طريق الدولة، بل الحال الأكمل يكون داخل العشيرة، وكثيرا من الذين يقع عليهم الجرم لا يلجأون إلى الدولة، وإنما تبقى الحالة البدوية فاعلة، أي محاولة أخذ الحق باليد، لذا يسرع أهل صاحب الذنب إلى العشيرة لحل القضية.
غير أن إلغاء ذلك القانون “السواني” رسخ ثقافة مدنية، وظلت حتى التسعينات من القرن الماضي، فكانت محاربة العشائرية معلنة، وألغت الدولة في السبعينات الألقاب، كجزء من القضاء على المحسوبية والمنسوبية، وتقوية الدولة، ودور الحزب الحاكم آنذاك حزب البعث، مقابل إضعاف العشيرة، وقد لعبت الجمعيات الفلاحية دورا ملموسا في هذا المجال، كما عملت الدولة على إعفاء رؤساء البلديات، في الأقضية والنواحي، والذين عادة يكونون من شيوخ العشائر وأبنائهم.
لكن في التسعينات التفتت الدولة، في حال ضعفها بعد الحروب والحصار، وتكاثر المعارضة الدينية، المدعومة من إيران، إلى دور العشائر، وأخذت تقوم بتعيين شيوخ من المضمون ولائهم إليها، فسمي ذلك شعبيا بشيوخ التسعينات و”شيوخ أصل”، ومعلوم أن المشائخ يتوراثون المشيخة، لأن رئاسة القبيلة بالوراثة، أو أن تحصل حرب يتغلب فيها شخص ما يُقبل به شيخا.
عندما غزا الأميركان والبريطانيون العراق، وأسقطوا الدولة، تضاعف دور العشيرة، وحلت محل السلطة تماما، وهذا أمر معروف أنه في حال ضعف الدولة تقوى الانتماءات الأخرى، وفي مقدمتها الانتماء العشائري، فصار الحكم العشائري هو الحاسم في النزاعات، لكن الجديد في الأمر أن اللجوء إلى العشيرة أصبح تجارة رائجة، وموضع ابتزاز، وبلا قيود، فالمريض عندما تسوء حالته يقاضي الطبيب عشائريا، والمعلم الذي يضرب الطالب أو يسمه بكلمة ما يقاضيه أهله عشائريا، وحتى حوادث المرور والخصومات بين الأصدقاء، في الكبير منها والصغير، تحل عشائريا، والمال هو الهدف. ويأتي هذا، من الفساد والخراب العام، الذي ساد في المجتمع العراقي، فمؤسسة العشيرة ليست بمعزل عن بقية المؤسسات، فحتى المرجعيات الدينية لم تسلم من هذا الخراب.
2 نفوق أم سقوط؟ احمد صبري الوطن العمانية

لقد تحول العراق بفعل الأزمات المكتوي بنيرانها منذ خمسة عشر عاما إلى بلد منكوب، وغير قادر على النهوض، ولا حتى مواجهتها وإيجاد الحلول لها، لا سيما أزمة الكهرباء التي أهدر العراق أكثر من ثلاثين مليار دولار من دون أن يرى العراقيون النور في بيوتهم بشكل مستمر وطبيعي.

لم يكن نفوق آلاف الأسماك في أنهر وبحيرات جنوب العراق معزولا عن حال العراق ونفوق دولته، كما لم تكن ظاهرة عابرة ألمت بالثروة السمكية وإنما عكست أزمات العراق التي تولد أزمات بأشكال وصيغ جديدة المتضرر الأكبر فيه المواطن وتطلعاته وحاجاته الحياتية.
وعلى الرغم من تقليل أهمية نفوق الأسماك ومخاطرها على أرواح المشتغلين بهذه التجارة، إلا أن اللافت بالموضوع هو صدود الحكومة والبرلمان عن معالجة هذه الظاهرة وحماية الثروة السمكية التي يعتاش عليها ملايين العراقيين، حيث انصب الاهتمام بالبحث عن اسم مقبول ليس عراقيا، وإنما إقليميا لشغل وزارتي الداخلية والدفاع في حكومة جديدة لا تختلف عن الحكومات التي أعقبت غزو العراق واحتلاله.
إن نفوق الأسماك جراء تسمم مياه الأنهر والبحيرات ومخاطرها على حياة السكان ليس في وارد اهتمام القائمين على الحكم، وإنما انصب اهتمامهم على البحث عن حصصهم في الحكومة والعملية السياسية من دون حتى البحث عن أسباب تلك الأزمة التي باتت ظاهرة خطيرة تهدد حياة الملايين.
لقد تحول العراق بفعل الأزمات المكتوي بنيرانها منذ خمسة عشر عاما إلى بلد منكوب، وغير قادر على النهوض، ولا حتى مواجهتها وإيجاد الحلول لها، لا سيما أزمة الكهرباء التي أهدر العراق أكثر من ثلاثين مليار دولار من دون أن يرى العراقيون النور في بيوتهم بشكل مستمر وطبيعي.
وعندما نتحدث عن أزمة الكهرباء فإن أزمات أخرى عطلت مسيرة العراق ونهوضه، وحرمته من التمتع بثرواته المتأتية من تصدير النفط، ناهيك عن غض النظر عن حيتان الفساد التي أتت على أموال العراقيين من دون إجراءات رادعة لحمايتها وملاحقة اللصوص الذين استسهلوا العبث وسرقة المال العام معتمدين من نظام الحماية، وهو المحاصصة الطائفية التي حالت دون ملاحقة اللصوص واسترداد الأموال المنهوبة وجلب مرتكبيها إلى القضاء.
وطبقا لإحصائيات فإن الأموال المهدورة، سواء أكانت بالسرقة أم بالمشاريع الوهمية خلال السنوات الماضية تجاوزت 800 مليار دولار معظمها كانت في ولايتي نوري المالكي من 2006-2014م.
ولم يقتصر الأمر على هذه الأموال المهدورة والمنهوبة، وإنما بالقروض التي حصل عليها العراق من دول وبنوك دولية وعربية لتغطية حاجاته بفعل خواء الخزينة المركزية التي أضافت هي الأخرى أعباء إلى الموازنة العامة التي اعترف رئيس الحكومة الجديد عادل عبدالمهدي أن حكومته غير قادرة على تسديد ديونها وخدماتها الخارجية، ناهيك عن انعكاس العجز المالي على حاجات العراقيين الحياتية.
إن ما يجري في العراق بعد عقد ونصف هو كارثة بسبب الانقسام السياسي والطائفي وفشل الطبقة السياسية في تأمين حاجات العراقيين في الأمن والاستقرار ومتطلباتهم الحياتية المشروعة، ناهيك عن القوانين الاجتثاثية التي طاولة ملايين العراقيين، الأمر الذي يشير إلى أن القائمين على الحكم ما زالوا تحت وطأة الماضي وجراحاته لم يغادروه للبحث عن مخرجات تنقذ البلد من إخفاقاتهم.
إن النفوق السياسي الذي يعاني منه العراق بسبب الأزمات التي يعاني منها حولته إلى بلد منكوب، ويقف في ذيل قائمة الدول التي تعاني من الفساد والبطالة والفقر وعدم الاستقرار إلى حد اعتبار بغداد أسوأ عاصمة للعيش في العالم.
ونختم بالقول: هل ما يجري في العراق هو نفوق أم سقوط؟