مقالان عن العراق في الصحف العربية والاجنبية يوم الاربعاء

 

1 بغداد.. اِفْتِرَاس التَّبَغْدد رشيد الخيّون الاتحاد الاماراتية

حصل انقلاب جذري في القيم، ما كان يُعد ثابتاً كقاعدة صار شاذاً، وقد جرت العادة، وأتكلم هنا عن المدن العراقية، أو المجتمع العراقي، أن الرِّيفي عندما يحل بالمدينة يتطبع بطباعها، لكنَّ في الثلاثين عاماً الأخيرة، ومع الصَّحوة الدِّينية العارمة، أخذت المدن تتريف، وياليتها زهت زهو حقول وبساتين وجداول الأرياف والقُرى وطباع أهلها الطيبة، إنما تولدت كائنات أضاعت تحضر المدينة وجمال الرِّيف أيضاً.
هذا ما حصل لبغداد، أتاها البشر في أزمنة زهوها، مِن كلِّ حدبٍ وصوبٍ، فتبغددوا، ومَن يقرأ شرفها وعلوها وأثرها في كتب البلدانيين القدماء سيأخذه العجب العجاب، مما آل إليه حالها بعد أكثر مِن ألف عام. آنذاك كانت تصنع الصَّابون والزجاج والشموع وتحتفظ بالثلج. ذُكرت مطاعمها وأنواع طبيخها في مقامات الحريري، وفي كتاب الطِّبيخ للبغدادي (كتبه العام 623هـ)، ودونت أنواع السُّفن، ذات الأشكال والألوان المختلفة، التي تمخر في مياه دجلة، وذُكر استهلاكها للورد، في المجالس والتَّحايا والاحتفالات، كما ذكرت مناظرات الفلاسفة والمتكلمين فيها.
جاور زاهدها معروف الكرخي(ت200هـ) شاعرها أبا نواس(توفى نحو198هـ)، وارتفعت قبة على قبر الكرخي، وأُطلق اسم أبي نواس على أرحب شوارعها حيث شاطئ دجلة، إلا أن الصحوة الدينية العابثة غير القادرة على رفع تمثاله، عمدت إلى قطع أصابعه التي تحمل الكأس، مع أن مكتبات كبار فقهائها لا تخلو مِن ديوانه وخمرياته. يُذكرنا هذا المشهد بقطع جماعة النِّصرة لرأس أبي العلاء المعري(ت449هـ) بمعرة النُّعمان، وأبقت بدنه، لأن ثأرهم مع رأسه، كذلك ماذا أبقوا لأبي نواس بعد كسر كأسه وقطع أصابعه، هنا نقول الصحوة واحدة، واختلاف المذهب لا يعني شيئاً.
انقلبت الموازين، وأخذ الريف يزحف على بَغْداد ويريّفها، بنموذجه المشوه، مع الصَّحوة الدينية، لا الصُّورة الأولى، التي كان عليها في الثلاثينيات وحتى الثمانينيات مِن القرن الماضي. فترى الأزياء تبدلت والأذواق انحدرت، والوحشية باسم الدِّين والمذهب قد تفاقمت. حتى اضطر المدني، أو لنقل المتَبَغْدد، يجامل الرِّيفي، بعشائريته وسلوكه، فغابت الصَّورة التي كان عليها البغدادي، المتَبَغْدد حقاً، والذي قصده التوحيدي في أدبه والجواهري في شعره، وصار لديه شارع أبو نواس رمزاً للمجون، وشارع الرشيد، وهو قلب بَغْداد النَّابض في ما مضى، رمزاً للقبح، والحقد الطَّائفي.
يبدو أن بغداد والتَّبغدد خصمان للصَّحوة الدِّينية، التي أصبحت في أعلى السُّلطة، وياليت إنها صحوة صريحة صادقة، إنما صحوة منافقة، تتقدم المصلحة الحزبية والسِّياسية والشَّخصية عليها، تريد بغداد دار متعة مستورة متخلفة، ودار تقوى ظاهرة لرجالها.
بعد هذا، نأتي إلى التَّبَغْدد، ما أصل المصطلح، وماذا يعني، وهل هو مقترن بالتمدن أم بالرَّفاه؟! وأحسب أن التَّمدن والرَّفاه أحدهما يعبر عن الآخر. حسب ما توفر مِن المصَّادر أن أول مَن نحت وأورد وبث المصطلح أبو حيان التَّوحيدي(ت 414هـ)، إذا لم يكن هناك مَن سبقه إليه، وفاتنا العثور عليه، عندما قال، وهو يتحدث عن أبي الوفاء البوزجاني(ت376هـ)، وكان مهندساً ومترجماً: «البغدادي إذا تخرسن كان أحلى وأظرف مِن الخراساني إذا تبغدد، وإن شئت فضع الاعتبار على ما أردت، فإنك تجد هذا القول حقاً، وهذه الدَّعوة مسموعة»(الصَّداقة والصَّديق). يذكر لنا أبو عبيد محمد عمران المرزباني(ت384هـ)، وهو معاصر لأبي حيان، استخدام المصطلح لقباً لشاعر عباسي يُدعى علي بن محمد الهاشمي، حيثُ عُرف بـ «تَبَغْدد»(معجم الشُّعراء).
كذلك نجده في معاجم العربية، ونأخذ منها «القاموس المحيط»: تبغدد «انتسب إلى بَغْداد، أو تشبه بأهلها»، ولم تزد بقية المعاجم شيئاً على هذا. فالمصطلح المنحوت مِن بَغْداد المدينة أصبح كناية عن التَّحضر والتمدن، وقد يستخدم للتعبير عن الكبرياء. أخذه محمد مهدي الجواهري(ت1997) بالمعنى الأول، فقال، في نونيته «يا دجلة الخير(1962): يا أُمَّ بغدادَ مِن ظرفٍ ومِن غنجٍ/مشى التَّبغددُ حتى في الدَّهاقين (تعني القرى). أما لميعة عباس عمارة فاستعارت المصطلح لتأكيد المعنى الثَّاني، أي الرَّفاه والكبرياء عندما قالت، في قصيدتها«أغني لبغداد»: «لأن العراقةَ معنى العِراق/ويعني التَّبغدد عزاً وجاها».
لا نجد مَن سمى أبناءه «بغداد»، مدى خمسة قرون عباسية ومثلها عثمانية، وما بينهما مِن سلطنات وممالك، وإذا كان موجوداً فهو مِن النِّدرة النَّادرة. لذا يلفت الانتباه اسم «بَغْداد خاتون» زوجة السُّلطان المغولي، حفيد هولاكوخان، أبي سعيد بهادر خان بن الجايتو(736هـ)، وابنة أمير الأمراء أو قائد الجيوش الجوبان(قُتل719هـ)، وزوجة سابقة للأمير المغولي التتري الشّيخ حسن الجلائري(ت757هـ).
يلفت النَّظر أيضاً إلى أن ابن جوبان اسمه «دمشق»، وقد تركه والده حاكماً على بغداد. كانت بَغْداد خاتون مِن أجمل النِّساء، كبَغْداد في عزها، غيورة لا تسمح بالشَّراكة، أي بالضَّرة عليها، فلما تزوج أبو سعيد من دلشاد خاتون غارت عليه «وسمته في منديل… فمات وانقرض عقبه»(ابن بطوطة، الرِّحلة). ختاماً أقول: ماذا بقي لبغداد، مِن اسم ومجتمع وجَمال، بعد افتراس التَّبَغْدد؟!

2 ما بين ماتيس وترامب
ديفيد إيغناسيوس
عن «واشنطن بوست» الأميركية

الى اليوم، كان جواب جيم ماتيس، وزير الدفاع الأميركي، عن إعلان الرئيس دونالد ترامب عزمه على إرسال 15 ألف جندي الى الحدود الأميركية – المكسكية، لجبه ما يرى خبراء كثيرون أنه خطر «غير موجود»، هو التأييد والصمت. وعلى رغم أن النفي والغضب كانا جواب ماتيس لمراسل سأله عما إذا كان نشر الجنود على الحدود مع المكسيك هو حيلة سياسية، يرى كثيرون من زملائه أنه يدعم دعماً مضمراً خطاب ترامب التحريضي على المهاجرين و»اجتياحهم». والحق يقال أن مشاهدة ماتيس وهو يغامر بالسير مثل بهلوان على حبل سياسات ترامب ويوازن بين مقتضيات منصبه وخطاب الرئيس، أليمة. فالجنرال المتقاعد هو في عين أميركيين كثيرين نموذج الرجل المستقيم – فهو المستقل وصاحب خبرات تخوّله شد أواصر الأمة الأميركية في وقت الانقسام. لكن حين التعامل مع ترامب، غالباً ما يتنحى ماتيس جانباً ويسعى من دون جلبة الى التعامل مع خطاب الرئيس التقسيمي والهائج. فهو على ما يبدو يسعى الى تطويق النيران والعمل من الداخل لإقرار سياسات معقولة.
لكن ماتيس اليوم يغامر بخسارة صدقيته أمام الطرفين (وزارة الدفاع، المجتمع الأميركي) والرئيس. ويبدو أن ترامب لم يعد يمنحه الثقة المطلقة، وبعض زملائه في البنتاغون يتساءلون عن دواعي صمته عن سياسات تفتقر الى الحكمة، والتزامه موقف المتفرج. ولا شك في أن دور ماتيس في الإدارة الأميركية بالغ الأهمية، شأن صدقيته أمام الأميركيين.
ونشر القوات الأميركية على الحدود مقلق في أوساط المارينز من جيل ماتيس. فهم يتذكرون حادثة وقعت في غرب تكساس في أيار (مايو) 1997: إطلاق العريف كليمنت بانيولوس النيران على راع أميركي في الثامنة عشرة أثناء دعم المارينز عمليات مكافحة تجارة المخدرات. فالعريف بانيولوس حسِب أن راعي الماعز يطلق النار على المارينز.
ويومها، خلص القادة العسكريون من الحادثة هذه الى وجوب الامتناع عن اللجوء الى القوات المدربة على قتل العدو في أعمال الشرطة – وعلى وجه التحديد في عمليات ضبط أمن الحدود، وهي عمليات كانت يومها بالغة التسييس، شأنها اليوم. «لم يكن استخدام المارينز في محله. فنشرهم لجبه حادثة محلية وهم مدججون بالسلاح ويسيّرون الدوريات، لم يكن ملائماً»، يقول اللفتانت جنرال المتقاعد غريغ نيوبولد، وهو صديق قديم لماتيس، عن حادثة 1997. ونيوبولد تقاعد في 2002 احتجاجاً على خطة اجتياح العراق، وهو اليوم واثق بأن ماتيس سيدير دفة نشر المارينز اليوم إدارةً تبعدهم من المواجهات المباشرة. والتردد في إرسال قوات للمشاركة في عمليات مبهمة الباعث عليها دواع سياسية، عميق. ويقول نيوبولد أن تفجير مقرهم في بيروت في 1983 خلّف أثراً عميقاً في قوات المارينز. ومذاك، صار ملحاً جواب سؤال عن جواز استخدام المارينز أسباباً سياسية شائكة وليس لحاجة عسكرية، على نحو ما كانت الحال في بيروت.
وتعاظمت حدة مشكلة السعي الى حل عسكري لمشكلات سياسية في الأشهر الأخيرة، مع تأجيج ترامب المخاوف من قافلة مهاجرين تقترب من الحدود مع المكسيك. ويريد المهاجرون هؤلاء، وعددهم حوالى 3500 مهاجر، طلب اللجوء في الولايات المتحدة. وفي تغريدة في 29 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، نفث ترامب غضبه قائلاً: هذا اجتياح لبلدنا… جيشنا ينتظركم!». وقبل أمر الرئيس بنشر قوات عسكرية على الحدود، كان الشقاق بين ماتيس وترامب، يبرز. فالرئيس هاجم وزير دفاعه في منتصف الشهر الماضي في مقابلة تلفزيونية، واصفاً إياه بأنه نوعاً ما ديموقرطي الميل، وقد يغادر منصبه. وسارع ماتيس الى إعلان ولائه، ونفى احتمال مغادرته منصبه. واتصل به ترامب إثر المقابلة التلفزيونية ليبلغه أنه يؤيده «100 في المئة».
وليست مسألة إذعان ماتيس للأوامر شاغل دوائر وزارة الدفاع الأميركية، اليتيم. فكثير من المسؤولين السابقين تساءلوا، إثر إرسال وزارة الدفاع 7 آلاف جندي على الحدود، عن صمت الجنرال جوزيف أف. دانفورد جونيور، رئيس هيئة الأركان المشتركة. وقال جنرال متقاعد أن الاعتراض واجب في بعض المراحل، وأن نشر القوات هذه هو مضيعة للوقت والمال، وأن الباعث عليه سياسي بحت. ويريد الأميركيون بقاء ماتيس في منصبه، فهم يثقون في حكمه السديد ويعولون على احتجاجه على سوء استخدام الصلاحيات في اللجوء الى الجيش لغايات سياسية. لكن مع نشر الجيش على الحدود، وهو انتشار غير مشروع، يبدو أن الوقوع في المحظور وشيك.