1 مرحلة عراقية جديدة د. وحيد عبد المجيد الاتحاد الاماراتية
أثار اختيار عادل عبد المهدي رئيساً لوزراء العراق، في إطار التسوية التي أسفرت عن تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة في الثاني من أكتوبر الجاري، جدلاً واسعاً حول النتائج المحتملة لهذه التسوية. ويبرز في هذا الجدل خلاف بين اتجاهين على بعض أهم القضايا المتعلقة بمستقبل العراق. يشمل الاتجاه الأول من يتوقعون، أو بالأحرى يتطلعون، إلى تغير ما في سياسة العراق الإقليمية باتجاه تحقيق توازن فيها، ومن ثم تقليص العلاقات مع إيران، خصوصاً في ضوء العقوبات الأميركية الجديدة عليها، وما ترتبه من التزامات.
ويضم الاتجاه الثاني من يعتقدون أن التغلغل الإيراني الذي استمر، وتراكم، منذ عام 2003، أعمق من أن يمكن وضع حد له في وقت قصير، وأن رئيس الوزراء الجديد لن يكون مطلق اليدين في إعادة صوغ سياسة العراق الإقليمية، والداخلية أيضاً، لأن لطهران أذرعاً صارت قوية في البلاد، كما أن التسوية التي جاءت به حدثت بين طرفين أحدهما موالٍ لإيران ويضم أهم أذرعها، والثاني يأخذ مسافة ليست بعيدة كثيراً عنها. ويفيد حاصل هذه التسوية، وفق مَن لا يرون أفقاً لتغير ملموس، أن هامش حرية الحركة المتاح لرئيس الوزراء الجديد سيكون ما بين محدود للغاية، وضئيل.
ولا يختلف من يتوقعون تغيراً ملموساً في سياسة العراق الإقليمية على أن عبد المهدي مقيد بتوازنات دقيقة، لكنهم يرون أن الهامش المتاح له أوسع مما يتصوره الاتجاه الآخر، وأن بإمكانه العمل من أجل زيادة مساحته تدريجياً.
لذلك يبدو أن السؤال المحوري الآن هو عن حدود الهامش الذي يمكن أن يتحرك فيه رئيس الوزراء العراقي الجديد. وتتوقف إجابة هذا السؤال على عوامل موضوعية تتعلق بمعطيات الوضع في العراق وحوله، وأخرى ذاتية ترتبط بتكوين عبد المهدي السياسي وأثره في تحديد خياراته وأولوياته.
على صعيد العوامل الموضوعية، سيكون بإمكان عبد المهدي الاستناد إلى العقوبات الأميركية والعواقب الوخيمة لعدم التزام العراق بها، للعمل على تقليص العلاقات مع إيران تدريجياً، لكن في الحدود التي تسمح بها التوازنات الداخلية الجديدة، وبما لا يؤدي إلى انفجار حكومته. فإذا اختار طريق التوازن في علاقات العراق الإقليمية، يستطيع الاستناد إلى الآثار الضارة لعدم الالتزام بالعقوبات على إيران، خصوصاً في ظل تداعي النظام الاقتصادي العراقي الذي وصل إلى حالة لا تتحمل هذه الآثار. كما أن مواصلة الاعتماد على إيران، والتسامح إزاء تغلغلها القوي في البلاد، قد يضع العراق في خطر يمكن أن يفوق آثار عدم الالتزام بالعقوبات، وهو تحويل البلاد إلى ساحة رئيسية للصراع الإيراني الأميركي المتوقع تصاعده في الفترة القادمة.
موضوعياً، يبدو أن الهامش الذي يستطيع عبد المهدي التحرك فيه، والعمل على توسيعه، من أجل إعادة صوغ العلاقات مع إيران، ليس ضيقاً جداً، لكنه ليس واسعاً أيضاً. فأي تأثير للعامل الذاتي، أي تكوين عبد المهدي وتوجهاته، في هذا السياق؟ يظل الخلاف قائماً أيضاً في الإجابة عن هذا السؤال الذي يمكن تحديده على نحو أكثر دقة ليكون منطوقه: هل يمكن أن يُعد عبد المهدي سياسياً مستقلاً بالمعنى الدقيق؟ الجواب ليس سهلاً بالنسبة لسياسي غير اتجاهه عدة مرات منذ أن كان شاباً يافعاً. مر عبد المهدي بمراحل سياسية فكرية متعددة. بدأ بعثياً في العراق، ثم تبنى الماركسية على طريقة ماوتسي تونج (الماوية) خلال دراسته في فرنسا، وانتقل بعد ذلك إلى تيار الإسلام السياسي الشيعي، وانضم إلى «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية»، وبلغ مراتب قيادية فيه، قبل أن يختار الاستقلال.
استقلال عبد المهدي عن الاتجاهات والحركات والأحزاب السياسية، إذن، حديث جداً. لكنه يبدو جدياً. كثير من السياسيين مروا في منعطفات متعددة، وانتموا لتيارات وأحزاب مختلفة، قبل أن يستعيدوا استقلالهم. لذا يجوز أن نعتبره أقرب إلى الاستقلال. كما أن دراسته الاقتصاد قد تجعله أكثر وعياً بالحاجة إلى الابتعاد مسافة أكثر عن إيران، لكي يفتح أبواباً للدول العربية التي يمكن أن تبث استثماراتها الروح في الاقتصاد العراقي.
فهل يتحرك عبد المهدي في الاتجاه الضروري لإنقاذ العراق ويأخذه إلى مرحلة جديدة؟ ربما، خصوصاً أنه ليس محسوباً على أي طرف الآن، فضلاً عن أن استغناءه يمنحه قوة، وهو الذي لم يسع إلى رئاسة الحكومة، بل سبق أن تنازل عنها عام 2005.
2 «الانتقال الآمن» ليس آمناً في العراق مشرق عباس الحياة السعودية
المسألة لا تخص نقل المهمات من حكومة سابقة إلى حكومة جديدة. فلو كان الأمر بهذه البساطة لتمكن رئيس الوزراء المكلف عادل عبد المهدي من تشكيل حكومته في يومين، لكنه والوسط السياسي العراقي بمجمله، ومعهم واشنطن وطهران، يدركون أن العراق على وشك انتقال مفصلي خلال الأعوام المقبلة أو ربما الشهور، وان هذا الانتقال يخص جوهر العملية السياسية، وان ما يتم العمل عليه اليوم سيحدد الكلفة التي سيتكبدها العراق في تحولاته الانتقالية الجديدة. ربما مستوى فهم طبيعة المرحلة متفاوت بين طرف وآخر، وبين مجموعة سياسية وأخرى. ونزعم أن شخصيات دينية مثل السيد السيستاني والسيد الصدر، وعدد من الوجوه السياسية والفكرية إضافة إلى عبد المهدي نفسه، يفهمون بشكل أكثر عمقاً نمط المتغيرات التي يجب أن تحدث اليوم، واليوم حتماً، من دون تردد أو مماطلة أو تأجيل، ويرون أن العملية السياسية التي ولدت عام 2003 بتقاليدها وآليات عملها تنازع في هذه الأثناء، وان الدولة التي بنيت على أساسها هشة لدرجة أن كل الأسوار العالية التي تشيدها القوى السياسية حول مربعاتها الأمنية الآمنة لن تكون أعلى من موجة التغيير المنتظرة. القيادات الإيرانية، أكثر فهماً من الطبقات السياسية العراقية للضرورات والمتطلبات وإدارة التوازنات في المراحل الانتقالية، ولهذا قد يبدو مفاجئاً، ان الجنرال قاسم سليماني المعني بالملف العراقي، يضغط في هذه الأثناء لحض القوى السياسية العراقية على التنازل بشأن رغباتها بالاستيلاء على وزارات الحكومة، وان تلك الأحزاب حتى الأكثر قرباً من ايران تناور وتماطل وأحياناً تتمرد على عرابها!. سليماني الآتي من بلاد تنتظر بدورها انتقالاً يراد له ان يكون آمناً، ولن يكون من دون انتقال عراقي آمن، لن تقنعه الإعلانات الدرامية عن تورط القنصلية الأميركية في حرق قنصلية بلاده في البصرة، فمعادلته الوحيدة اليوم، مفادها ان بلاده بدأت تدفع ثمن فشل رموز العملية السياسية في العراق الذين نالوا الدعم والرعاية الإيرانية، وان العراقيين لأسباب عدة يحملون إيران مسؤولية الفشل في إنتاج تجربة حكم ناجحة. واشنطن التي تدرك لعبة الانتقالات جيداً، فهمت في وقت مبكر ان عادل عبد المهدي ليس رجل ايران في العراق، لكنه سينال دعماً إيرانياً ليس للحفاظ على السياسات الإيرانية الحالية ولا حتى على العملية السياسية برمتها، بل لأن المرحلة تتطلب تهشيم البنى الحزبية وتفتيت التقاليد السابقة، وإزاحة جيل كامل من المشهد. وأن الأكثر أمناً ان يتم الأمر بيد جراح من المجتمع السياسي نفسه لا من خارجه، وان الولايات المتحدة التي تنتظر بدورها انتقالاً ما بعد مرحلة ترامب، لا تريد ان تتوسط مرة أخرى صورة غير واضحة يتقافز فيها أطفال السياسة مرة في حضنها وأخرى برمي البيض الفاسد عليها. المشهد الانتقالي واضح لدى ممثل مرجعية دينية عميقة الجذور كالسيستاني، الذي أزاح تمركز المرجعية بصبر وفخامة لتكون بعيدة في اللحظة الخطيرة عن المتكالبين على السلطة، ويجعلها جزءاً من فلسفة الانتقال الآمن. لكن ماهو غير آمن بالنسبة إلى الجميع، أن الدكاكين السياسية التي رعيت أميركياً وايرانياً في العراق، أصبحت مصارف ومؤسسات مافيوية كبيرة، وباتت تتحكم بربع انتاج الطاقة في العالم، وتستعين بمراكز بحوث وشبكات علاقات عامة ووسائل اعلام، وتداخلت مع شركات عملاقة لغسل الأموال وتبادل المصالح وتجارة السلاح والمخدرات والمشروبات والسجائر، وهي مستعدة للانقلاب على سليماني وماكورغ معاً إذا استدعت مصالحها ذلك!. ولهذا تحديداً يمكن تلمس مستوى الممانعة لخطط إنتاج حكومة عبد المهدي بما يضمن تغييراً جزئياً في معادلة التقاسم، تمهيداً لتغيير كلي عام 2022. والممانعون يدركون تماماً انهم يمهدون بذلك لحرب أهلية جديدة بأطراف ومحركات مختلفة لا تقل قسوة عن سابقتها، لكنها تمثل من وجهة نظرهم، لحظة تأجيل وإعادة رصف أولويات وأوراق تعرقل الانتقال المحتوم. العراق ليس بلداً طيعاً، هو أرض معقدة توهم المغامرون قبل 14 عاماً ان بالإمكان تدجينها، لكن المشكلة التي تواجههم اليوم، ان المعادلة وهي في طريقها للانفراط، تكشف عن خيوط أكثر اتساعاً وتعقيداً من قدرة اي طرف على جمعها، وربما هنا تحديداً يفترض البعض ان الاستراتيجية ستضع شروطها من جديد لتستدعي ما يمكن أن يطلق عليه «رعاية دولية لانتقال عراقي آمن».