1 ما حكاية المندسين في سوريا والعراق
فاروق يوسف العرب بريطانيا
في مارس من عام 2011 فيما كنت أتجول في السوق الحرة بمطار دمشق تناهى إلى سمعي حوار بين امرأة ورجل هما من العاملين في السوق. كانت المرأة تخبر الرجل، بيقين كامل، عن أن أحد أقربائها قد كشف لها عن وجود مندسين بين المحتجين السلميين. أولئك المندسون هم الذين كانوا ينادون بإسقاط النظام. لم يكتف الرجل بهز رأسه موافقا، بل قال بحماسة مبالغ فيها “هناك مَن يؤكد أن أولئك المندسين ينتمون إلى جماعات إرهابية تسللت إلى البلد من الخارج”.
تذكرت تلك الحادثة وأنا أقرأ خبرا يتعلق بنتائج التحقيق في الأحداث المأساوية التي شهدتها البصرة نتيجة تدخل القوات الأمنية والميليشيات لقمع المحتجين السلميين، تلك الأحداث التي أدت إلى سقوط عدد من القتلى ومئات الجرحى. لقد خلص تقرير اللجنة المشكلة من قبل رئيس الحكومة لإجراء ذلك التحقيق إلى أن هناك مندسين هم المسؤولون عن تلك الأحداث.
في الحالة السورية وجد النظام في حماية التظاهرات السلمية من المندسين سببا للجوئه إلى القمع في مواجهة الاحتجاجات، وفي الحالة العراقية أعفت الحكومة، بأحزابها وأجهزة أمنها وميليشياتها، نفسها من مسؤولية القتل. في الحالتين كان المحتجون أبرياء مثلما هي الحكومة، غير أن اللوم كله يقع على المندسين.
لكن من أين هبط المندسون على دمشق والبصرة؟
أتذكر أن الشام شهدت حملة اعتقالات كبرى قبل أن ينتقل الحراك السلمي إلى بقاع سورية أخرى. كما أن البصرة وبعد أن خف الاحتجاج فيها بعد أن أشفى المحتجون غليلهم حين حرقوا القنصلية الإيرانية شهدت هي الأخرى حملة اعتقالات شبيهة. فهل كان الغرض من الحملتين اعتقال المندسين؟
لم تعرض الحكومة السورية على الجمهور مندسا واحدا، وهو بالضبط ما فعلته الحكومة العراقية بعد سبع سنوات متأثرة بحليفتها.
المندسون كانوا أشباحا. أما زبائن المعتقلات فهم رفاق القتلى. الشباب الذين كان من الممكن أن يُقتلوا ليكونوا ضحايا لمندسين آخرين. الأمر الذي يعني أن كل إنسان خرج محتجا يمكن اعتباره مندسا. لا لشيء إلا من أجل أن يبدو كل شيء نظيفا. فالعلاقة بين حَمَلة السلاح الرسمي والقتلى السلميين كانت جيدة لولا دخول أطراف غريبة على الخط، الأمر الذي أدى إلى وقوع قتلى بين الطرفين. فمثلما قتل المندسون عددا من المحتجين، فإنهم قَتلوا أيضا عددا من أفراد الجيش والأجهزة الأمنية. وهكذا سنكون متساوين.
“كانت الحكومة حريصة على حياة المحتجين المطالبين بزوالها”. كيف يستقيم ذلك الحكم في بلدين مثل العراق وسوريا؟ أعتقد أن من يرغب في أن نصدق ذلك الهراء إما أن يكون معتوها أو انتهازيا من طراز صفيق.
فما من جريمة يستحق صاحبها القتل مثل المناداة بإسقاط النظام في كلا البلدين. وهو عرف يقره جزء من المجتمع. ذلك الجزء المنتفع من استمرار الأوضاع على ما هي عليه من غياب للعدالة الاجتماعية ومن تهميش وإفقار وتجهيل وعزل وإبعاد لفئات عديدة من المجتمع.
لقد تم تمرير حكاية المندسين في الشام إلى أن امتلأت المدن السورية بقطاع الطرق وشذاذ الآفاق القادمين من مختلف أنحاء العالم. أما البصرة فإن المندسين الحقيقيين فيها هم الإيرانيون الذين يديرون مدينة النفط كما لو أنها تابعة لسلطة الولي الفقيه.
ولكن ما معنى أن يكون المرء مندسا؟
ذلك مصطلح تم اختراعه في سوريا والعراق على عجل. لم يكن الغرض منه سوى إضفاء نوع من العلاقة الصافية بين الشعب والحكومة، وهو أمر ليس حقيقيا، بل هو الكذب بأبشع صوره.
فالعلاقة بين الطرفين كانت سيئة دائما.
لو كانت حكومتا البلدين صريحتين في قول ما تفكران فيه لاعترفتا بأن الشعبين اللذين تصرفان شؤونهما هما من أسوأ الشعوب. وهو اعتراف يمكن أن يحرجهما. ذلك لأنهما لا تستطيعان تغيير شعبيهما. الممكن الوحيد هو أن يغير الشعب حكومته.
لذلك فإن حكاية المندسين تبدو مريحة لما تنطوي عليه من نسيان لتلك العلاقة المضطربة. وقد تلجأ حكومتا البلدين إلى منح أشباح المندسين أوراقا ثبوتية من أجل أن يتمتع شبح المندس بحقوق المواطنة أسوة بإخوته المواطنين المندسين.
2 الأحواز تغني عربي بدر عبدالملك الايام البحرينية
نؤكد قبل كل شيء أن الشعب الاحوازي من الناحية التاريخية والعرقية كان ولا يزال شعبًا عربيًا، ونتيجة التآمر السياسي العالمي قبل الحرب العالمية الاولى على منطقة جغرافية مهمة هي الشرق الاوسط، كون النفط هي طاقة المستقبل الواعدة، فإن من الضروري البت في وضع هذا الاقليم الجغرافي الحساس (الاحواز)، هل يمنح حق تقرير مصير كامل كدولة مستقلة ذات سيادة تكون الامبراطورية العجوز متفاهمة مع الباب العالي المريض في اسطنبول حول مصير منطقة شاسعة كالعراق والاردن والخليج والاحواز ومصير شعب كردستان وشعوب وأعراق اخرى في المنطقة كالبلوش، كانت تتوق لنيل حريتها الكاملة.
هل يتم إلحاق الاحواز ضمن البصرة والعراق بشكل عام وفصل هذه المنطقة النفطية عن إيران، التي كانت تعاني في الشمال من انفصال دولة اذربيجان وتمزقها، ثم آلت إلى ما آلت اليه شطر سوفيتي وشطر ايراني، وما زال هذا النبض القومي والخنجر التاريخي كامن في الجسد الاذربيجاني، وهو عرضة لمشروع صراع حالي ومستقبلي، فالعرق الاذري في إيران حاليًا يشكل ثقلًا سكانيًا وأهمية ديموغرافية واقتصادية في العملية السياسية الراهنة، ومن المهم في الصراع بين قوى الانتفاضة والثورة كسب ميلان هذا الحصان لصالحه.
ولكن السيناريو الثالث كان إلحاق وضم الاحواز كإقليم استراتيجي إلى الحكومة المركزية في طهران، ليس لمجرد قيمته الاقتصادية وحسب وإنما لكونه مجاورًا على نافذتي الخليج ودولها وشط العرب والعراق، هذا العازل العربي كان تراجيديا الضحية التاريخية للتقسيم العالمي لمناطق النفوذ، بتحويله الى ملحق إيراني كعازل جغرافي بين الضفتين الفارسية والعربية، فكان على النظام المركزي وحكومته في طهران التعامل مع هذه المنطقة بخصوصية ثقافية وسياسية متميزة، فآلة القمع الشاهنشاهي وحدها لن تكون مجدية مع أساليب الهيمنة الاخرى.
لذا كان على النظام التعامل مع فسيفساء التكوين العرقي في ايران بدهاء وحذر وألاعيب السياسة والخبث والوعود والكذب والمماطلة، دون أن تنسى العصا الغليظة في ملاحقة الصوت العربي المنتفض على الدوام وعلى مدار حقبة ناهزت القرن. ودون العودة للسرد التاريخي من مواجهات شعبية بين النظام المركزي القمعي لحكومة الشاه الأب ثم الابن ثم نظام الملالي (الثورة المستبدة)، فإن الاهمية التي نوليها في هذه المقالة هو كيفية محاولة نظام عرقي استعلائي يسعى لصهر هوية أخرى في بوتقة سيطرته، تذويبها وتدميرها بالكامل، واجتثاث كل المقومات الكامنة في سر بقائه وديمومة مقاومته في أعمدة متعددة الأوجه، وهي أسلحة استعملها وابتدعها الشعب الاحوازي طوال تلك العقود، بعضها بشكل عفوي وبعضها نتاج التحدي التلقائي لصراع الوجود والحفاظ على الذات.
حاول النظام قتل اللغة واللسان والهوية المتنوعة الكامنة في التراث والموروث الشعبي، في رمزية الاشياء المعبرة عن الهوية العربية، فكان الشعر سيف الاهوازي والغناء حصانه الحرون الرافض للترويض والاذلال، كان العصيان الاحوازي يتبدل ويتشكل مع كل الظروف والمتغيرات، غير أن الاغنية والشعر واللغة عند الاحوازي هي سلاحه، وعليه توريث اللغة للاطفال وللادب، لنمط الحياة الصغيرة حتى مع فنجان القهوة والدلة وعنقود الرطب والنخلة.
من أراد أن يهزم شعب عليه تدمير هويته من الجذور، وجذور الاحواز هم أطفالها وأغانيها وشعرها المتوارث، وهذا ما نلحظه في السنتين الاخيرتين من خلال المنتوج الثقافي الاعلامي المتزايد، والذي أجبر السلطات برفع يدها عن قمعها المتناهي لتمارس سياسة «التنفيس» ففي شوارع المدن الايرانية الانتفاضات والغليان الشعبي فيها مستمر، والاحواز في غمرة ذلك الفيضان والزلزال يواصل أغانيه في المناسبات فيغني بصوت عربي، فيقلق سهاد ونوم حكومة الملالي في طهران.
ونحن نرى أن من واجب بل ومن الضروري متابعة القنوات الفضائية وكل وسائل التواصل «كالسوشل ميديا» تلك الانشطة الثقافية والفنية بين دول مجلس التعاون والاحواز، وخلق جسور من التواصل الثقافي المكثف بتفعيل كافة منظمات المجتمع المدني على ضفتي الخليج العربي.
انتهى زمن الشعارات اللامعة عن الاخوة الكاذبة وحان الأوان للفعل والعمل والتضامن.
3 هل يُعقل أن هذا هو العراق؟
أ.د.جمال سند السويدي الاتحاد الاماراتية
لا أستطيع، وأنا أراقب ما وصل إليه حال العراق اليوم من طائفية، وفساد، وتشرذُم، وتبديد لموارده، ومعاناة لشعبه، وتهديد لوحدته الوطنية، واستباحة لأرضه، وتجرُّؤ على سيادته من قوى كثيرة، إلا أن أتساءل بألم وحرقة: هل هذا هو العراق الذي عرفناه؟ وهل من المعقول أن يصل إلى هذا المنحدَر الذي لا يعلم نهايته إلا الله؟ وهل هذا هو العراق الذي رفد الحضارة العربية والإسلامية بأعظم العلماء والمفكرين، وله دوره المشهود في مسيرة الحضارة الإنسانية؟ وهل هذا هو العراق الذي كان يؤمَّل منه أن يقدم إلى العالم العربي، ومنطقة الشرق الأوسط كلها، نموذجاً حضارياً للتعايش بين المذاهب والطوائف والأعراق، فإذا به يتحول إلى نموذج للصراع والحقد والكراهية؟ وهل هذا هو العراق الذي يملك كل المقومات التي تجعله من أغنى دول العالم وأكثرها رفاهيةً وتقدماً، فإذا به يتحول إلى دولة تعاني وطأة الفساد المستشري في أوصالها (جاء العراق في المرتبة الـ169 من بين 180 دولة على مؤشر مدركَات الفساد لعام 2017، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في 2018، بـ18 نقطة فقط من 100 نقطة)، ويعاني أهلها الفقر والحرمان والتشرد واللجوء في داخل الوطن وخارجه؟
وما يزيد من عمق الألم والمرارة أن العراق لا ينقصه أي سبب من أسباب التقدم، فلديه التاريخ العريق، والحضارة الخالدة، والأرض الخصبة والمياه، والنفط والغاز والثروات الطبيعية الأخرى، والبشر، فلماذا وصل إلى ما وصل إليه؟ ولماذا الإصرار على السير في طريق الخسران نفسه، الذي سارت فيه شعوب وأمم عبر التاريخ، فكان ما كان من دمارها وخرابها، وسار فيه العراق خلال السنوات الماضية، ولم يجنِ منه سوى الدم والخراب؟ إن الأمر المثير للحيرة أن العراقيين من أكثر الشعوب العربية إدراكاً لمعنى الحروب والصراعات وما تخلِّفه من دمار وخراب ومآسٍ إنسانية، لأنهم عاشوا منذ عام 1980 سلسلة متصلة من الحروب والصراعات التي راح ضحيتها مئات الألوف، ولذلك كان من المفترَض أن يكونوا أحرص الناس على الوفاق والاستقرار والوحدة، واستثمار أي فرصة لتحقيق ذلك. لكن للأسف، فإن دائرة الصراع والحقد والكراهية استمرت في الاتساع بعد عام 2003، ولا تزال مستمرة، بينما يدفع الثمن الأجيال بعد الأجيال من أمنها وحياتها وحاضرها ومستقبلها.
«قسطنطينية» القرن الخامس
حال العراق، اليوم، يذكرني بحال أهل مدينة القسطنطينية في القرن الخامس عشر الميلادي، فبدلاً من أن تتجاوز المدينة خلافاتها، وتركز جهدها لمواجهة الخطر الأكبر الذي كان يتهدد وجودها، المتمثل في السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي كان يحاصرها، ويمطرها بمدافعه، ويستعد لاقتحامها والسيطرة عليها، كانت مشغولة بقضايا خلافية وجدلية عقيمة، مثل جنس الملائكة، وحجم الشيطان، وغيرهما من القضايا التي عُرف بها «الجدل البيزنطي» الشهير في التاريخ. وما أشبه الليلةَ بالبارحة، ففي حين يتعرَّض العراق لمخاطر تهدد وجوده كدولة موحَّدة، وتتعرض أراضيه وسيادته للاختراق الخارجي بشكل مستمر، ويقف البلد كله على فوهة بركان غضب شعبي، واحتقان طائفي وعرقي يمكن أن ينفجر في أي وقت ليأكل الأخضر واليابس، تنشغل قواه وأحزابه وطوائفه بجدالات وسفسطات عبثية تتمحور حول تقسيم الغنائم، وتعظيم مصالح الطائفة والمذهب على حساب الوطن، بل إن هناك من هو مستعد للتنازل عن سيادة العراق لمصلحة الأجنبي، من أجل أن يحظى بنصيب من كعكة السلطة والثروة، من دون إدراك لحقيقة أن هذا الأجنبي سوف ينقلب عليه في النهاية لا محالة إذا تعارضت المصالح، فضلاً عن أن الوطن لم يعد هو الأساس، وإنما تتقدم عليه الطائفة والمذهب والعرق، وسوف يكتشف الجميع في النهاية أنهم خاسرون، لكن بعد فوات الأوان، وضياع الوطن.
خطر الانتماءات الفرعية
لا يمكن القول إن التنوع العرقي والطائفي والمذهبي هو السبب الأساسي في الوضع الخطير الذي وصل إليه العراق اليوم، لأن هذا التنوع ليس سبباً في حد ذاته للصراع والتشرذم، فهناك دول كثيرة في العالم بها هذا التنوع، لكنها نجحت في تحويله إلى مصدر للثراء والتقدم، وليس مصدراً للخلاف والاقتتال. ولكن السبب، من وجهة نظري، هو الفشل في بناء مواطَنة حقيقية يستظل بها الجميع، وتجُبُّ ما عداها من انتماءات فرعية، عرقيةً كانت، أو طائفيةً، أو مذهبيةً، أو قبَليةً، أو دينيةً، أو غيرها. وللأسف ليس هذا هو حال العراق وحده، وإنما حال بعض الدول الأخرى في المنطقة العربية، وهو ما ظهر بشكل خاص بعد أحداث ما يُسمَّى «الربيع العربي»، لأن هذه الدول اهتمت بعد استقلالها ببناء المؤسسات والهياكل العسكرية والأمنية والسياسية وغيرها، ولم تعطِ الاهتمام نفسه لبناء الأمة التي ينصهر فيها الجميع، وتعزيز قيم المواطنة التي تلعب دور الرابط لمكوِّنات الشعب، ولذلك عندما انهارت مؤسسات السلطة في العراق، على سبيل المثال، بعد عام 2003 فوجئنا بأن هناك عراقاً شيعياً، وعراقاً كردياً، وعراقاً سُنياً، وكل واحد منها لا يريد العيش مع الآخر، وأن العراق الواحد، الذي عرفناه منذ الاستقلال، كان قائماً بفعل قوة السلطة، وليس بفعل المواطنة المؤسَّسة على الرضا والقبول والتعايش.
مبادرات عربية جادة
ولا شك في أن التدخلات الخارجية في شؤون العراق، على مدى سنوات طويلة، كان لها دورها الذي لا يمكن إنكاره في الوضع الصعب الذي وصلت إليه البلاد اليوم، لكني أقول دائماً إن نجاح هذه التدخلات في تحقيق أهدافها ليس قدراً محتوماً، وإنما لا بدَّ أن تكون هناك عوامل داخلية تدعمها، وتوفر لها الظروف المناسبة لتحقيق أهدافها، وإذا كانت المؤامرات الخارجية جزءاً أساسياً من السياسة في العالم كله، فإن أصحاب هذه المؤامرات لا يمكنهم تحقيق أهدافهم في الدول المحصَّنة من الداخل.
وثمَّة من يحمِّل العرب المسؤولية، ولو جزئياً، عما جرى للعراق وفيه على مدى العقود الماضية، لأنهم تركوه لقمة سائغة لإيران وأتباعها، لكن في الوقت نفسه لا يمكن أن نغفل الجهود والمبادرات العربية الجادَّة والمخلصة التي حاولت أن تعيد العراق إلى حضنه العربي، وفي مقدمتها جهود دولة الإمارات العربية المتحدة، التي حاولت، وغيرها من الدول العربية، مساعدة العراق بعد عام 2003، وتقديم كل أوجه الدعم إليه، فقام وزير الخارجية والتعاون الدولي، سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، بزيارة بغداد في يونيو 2008، وكان أول وزير خليجي عربي يزور العراق منذ عام 2003. وخلال زيارة رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، لأبوظبي في يوليو 2008، تم إعلان إسقاط كل الديون الإماراتية لدى العراق، البالغة سبعة مليارات دولار. وقام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، بزيارة بغداد في أكتوبر 2008. لكن القاعدة، التي يعرفها الجميع، هي أن كل دول الأرض لو اجتمعت لمساعدة من لا يملك إرادة مساعدة نفسه، فلن يمكنها أن تفعل له شيئاً، وهذا ما حدث في حالة العراق، حيث انحرف مساره، واتسعت صراعات أبنائه، وبدلاً من أن يتجاوزوا أحقاد الماضي ليبنوا بلدهم انغمسوا في وحل الثارات وتصفية الحسابات، واستعانوا بالقوى الخارجية، وأهملوا بُعدهم العربي وانتماءهم القومي لمصلحة انتماءات أخرى. وعلى الرغم من تنكُّر بعض القوى العراقية للعرب، وانتصارها للانتماء الطائفي المذهبي على حساب الانتماء القومي، فإن العرب لا يزالون يقابلون أي خطوة عراقية تجاههم بخطوات وخطوات، لأنهم يدركون أهمية العراق، التاريخ والحضارة والجغرافيا والبشر، كركن مهم من أركان الأمن القومي العربي، وحاضرة من أبرز الحواضر العربية، وأهمها على مرِّ التاريخ.
سوء الإدارة والطائفية
إن حجم المآسي التي عاشها العراق على مدى العقود الماضية، وحولته من دولة من أغنى الدول العربية وأكثرها تقدماً وقوةً ومنعةً إلى دولة من أفقر دول المنطقة وأكثرها انقساماً وتشرذماً وفساداً واختراقاً من الخارج، نتيجة لسوء الإدارة والطائفية والصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية، يجب أن يكون كفيلاً بإقناع أبنائه بأنهم جميعاً لا مستقبل لهم إلا معاً، ولا تنمية ولا عزة ولا كرامة ولا تقدم إلا بالوفاق، وجَعْل مصلحة الوطن فوق كل المصالح الضيقة، والإيمان بأن مكان العراق الطبيعي هو بين أشقائه العرب، وضمن المنظومة العربية، لأن الذين يحاولون اختطافه في هذا الاتجاه أو ذاك، ويعملون على عزله عن محيطه العربي، لا يريدون إلا مصالحهم الخاصة، ولا يستهدفون إلا السيطرة على موارده وتفريغه وتفتيته خدمةً لأهداف طائفية أو عرقية أو إمبراطورية حالمة، فهل حان الوقت لكي يعيَ العراقيون ذلك؟
4 إرهاصات الجعفري طوني فرنسيس الحياة السعودية
لم يكن لبنان أنجز تشكيل حكومته، ولا العراق تمكن من إنجاز ولادتها، عندما قرر إبراهيم الجعفري وزير الخارجية العراقي، إضافة بيروت إلى الزيارة التي قادته إلى دمشق بدعوة من نظيره السوري وليد المعلم، تلقاها قبل ساعات من تلبية تلك الدعوة.
ثلاث سنوات وثمانية اشهر مرت منذ آخر زيارة قام بها الجعفري إلى سورية (آذار 2015)، وكانت زيارته الأخيرة إلى بيروت في 21 كانون الثاني (يناير)2017، وقد تزامنت مع مجيء السيد مقتدى الصدر إلى العاصمة اللبنانية في ذروة اشتباكه السياسي مع نوري المالكي رئيس الوزراء السابق المدعوم من إيران. لم يعلن مسبقاً عن زيارة الرجلين ولم يعرف الهدف الفعلي من حضورهما المتزامن في بيروت، ووضعت لقاءات الجعفري الرسمية في إطار المجاملات البروتوكولية، فهو هنأ بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وبتشكيل الحكومة، في واجب قام به في حينه العديد من الزوار العرب والأجانب.
هذه المرة حضر الجعفري إلى دمشق وبيروت بوصفه وزير تصريف للأعمال، الحالة متشابهة بين لبنان والعراق، وفقط في سورية يبقى الوزير وزيراً حتى يتقرر مصيره لا منصبه. وحضوره بهذه الصفة يخفف من قيمة المداولات التي يجريها، لكن يخدم موقعه ودوره الذي يرسمه لنفسه في المسار اللاحق للتطورات العراقية. ويعزز هذا الانطباع القضايا التي جرى بحثها بين الضيف العراقي ومضيفيه السوريين واللبنانيين. ففي دمشق تكرر كلام عام عن خوض الجانبين المعركة ضد الإرهاب، وهو الكلام نفسه الذي قيل في 2015 مع اختلاف الظروف، وتحدث الجانبان عن فتح المعابر بين البلدين، من دون تحديد مواعيد وإجراءات عملية، فهما يعرفان العقبات التي تؤخر فتحها خصوصاً بين أبوكمال والقائم حيث ينشط بقايا «داعش»، والتنف حيث يتحرك عناصر المعارضة في حماية القاعدة الأميركية، والحسكة منطقة سيطرة الأكراد.
وفي بيروت بدت المطالبة العراقية بأموال مجمدة منذ عهد صدام حسين النقطة الأساسية الأكثر إثارة، وربما كان هذا الضمور في عناوين البحث العراق اللبناني المشترك وراء علم الكلام الذي لجأ اليه الجعفري في الحديث عن أهداف هبوطه في بيروت. أوجز الرجل مبتغاه بالقول: «المنطقة مقبلة على إرهاصات… أي على تحولات نوعية وحادة وبالغة التأثير. وعادة يأتي كل الخير من رحم الإرهاص الحاد… فتنطوي هذه الإرهاصات على الخير لأبناء المنطقة…».
على المرء أن يبحث وراء كلام الجعفري لمعرفة ما يسعى إليه. فالرجل الذي يقدم نفسه صديقاً لإيران ولأميركا ودول الخليج وروسيا، قام بإطلالته الضرورية عشية ولادة حكومة بلاده، وفي الجولة بين بغداد ودمشق وبيروت زاد يمكن تقاسمه مع محور الممانعة وحصيلة يمكن بحثها مع من يرغب. وهذه، ربما، زبدة السياسة في الزمن العربي الراهن.
5 «العدوى» من العراق إلى لبنان وليد شقير | الحياة السعودية
كان معبّراً جواب وزير خارجية العراق إبراهيم الجعفري على تمني نظيره اللبناني جبران باسيل أن تصيب «العدوى» بلاد الرافدين فتتشكل الحكومة العراقية قريباً، اقتداء باقتراب ولادة الحكومة اللبنانية التي مضى على أزمة تأليفها قرابة الخمسة أشهر نتيجة تناتش وتجاذب القوى السياسية، لا سيما المسيحية، الحقائب والحصص فيها.
فالجعفري الذي لا تنقصه مَلَكة الكلام، أتاحت له اللباقة الرد على باسيل بأن «العدوى تعني المرض ولا يُستعمل هذا المصطلح للصحة الجيدة»، معتبراً أن لبنان والعراق نموذج للحوار، ومتمنياً أن ينتقل إلى سورية.
الأرجح أن المفارقة تكمن في أن لبنان هو الذي يفترض أن تكون العدوى انتقلت إليه مما يحصل في العراق لجهة تسريع خطوات تأليف الحكومة بعدما أخرتها العقد المفتعلة والواقعية، والتي شهدت تنقلاً بين المعايير في التوزير، في شكل بدا معه أن سبباً خفياً يقف وراء تعليق ولادتها.
ومع رغبة البعض في تشبيه ما يحصل في أحد البلدين بما يحصل في الآخر، فإن الفارق يكمن في الكثير من النواحي: لم تكن المشكلة في العراق التأخير في استيلاد الحكومة كما في لبنان، لأن هناك مهلة دستورية للرئيس المكلف لا تتعدى الشهر ليعلنها. وبالتالي فإن الرئيس عادل عبد المهدي الذي جرى تكليفه في 2 تشرين الأول الجاري مجبر وفق الدستور، على إنجازها قبل الثاني من الشهر المقبل. التأخير قرابة 4 أشهر في العراق، بعد الانتخابات، أصاب تشكيل السلطة على مستوى رئاسات الجمهورية والبرلمان والحكومة، وهوية كل منهم السياسية. في لبنان انحصرت إعادة تشكل السلطة بكيفية تحقيق التوازن داخل مجلس الوزراء، بوجود رئيس للجمهورية وبحسم رئاسة البرلمان مسبقاً. فرضت مشاكل العراق الكبرى نتيجة الإدارة الإيرانية التي شكلت مظلة للفوضى فيه، الأخذ بمعيار وحيد وضعه المرجع الشيعي السيد علي السيستاني وهو تغيير القيادات التي تبوأت الحكم في المراحل السابقة، لأنها عجزت عن وقف تدهور أوضاع البلد الغني الذي أفقره الفساد والهدر والتصرف بثرواته. فرض معيار السيستاني على النفوذين الأميركي والإيراني في بغداد، تقاسماً جديداً للسلطة، فخرجت التسوية مطلع هذا الشهر. ولكل من الرؤساء الثلاثة هذا المقدار أو ذاك من الصلة بالدول النافذة في السلطة في بغداد.
ومع جهود عبد المهدي لتأليف حكومته، التي يتابعها الأميركيون والإيرانيون عن كثب، بدا أن الأمر يحتاج إلى تدخل خارجي لتسهيل العملية. ولذلك زار قاسم سليماني بغداد وشجع القوى الحليفة على الأخذ بالمعيار الذي وضعه الرئيس المكلف لاختيار الوزراء الممثلين للكتل السياسية الكبرى، بعد أن اتبع أسلوب تلقي الترشيحات للمناصب الوزارية عبر موقع إلكتروني خصصه لهذا الغرض، لينتقي هو منهم، مع هذه الكتل، من يفترض إسناد الحقائب إليهم، بدلاً من أن تفرض الكتل عليه أن يختار من بين من تسميهم.
منذ أن بدأت الأمور تشهد حلحلة في بغداد مطلع الشهر الجاري، أخذت التعقيدات التي تعترض الرئيس المكلف في لبنان سعد الحريري، تتراجع. وما سمي نصائح فرنسية لكبار المسؤولين، لا سيما لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفريقه بوجوب تسريع قيام الحكومة بذريعة خيبة المجتمع الدولي من إضاعة الوقت في تنفيذ برنامج المساعدات والإصلاحات في لبنان لإنقاذ اقتصاده، كان بالفعل ضغوطاً. مقابل الدورين الأميركي عبر السفارة، والإيراني عبر سليماني في بغداد، حصل التحرك الفرنسي الذي يحظى بالتفويض الأميركي، وكذلك لقاءات الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله مع الوزير باسيل، ثم المسؤول الأمني في الحزب وفيق صفا، للحض على الإقلاع عن الشروط التي تعيق إنجاز الحكومة. والرئاسة الفرنسية أسمعت الرئيس عون وباسيل كلاماً قيل إنه متشدد على هامش القمة الفرانكوفونية.
منذ انتهاء الانتخابات العراقية (تزامنت مع انتخابات لبنان)، التي خضعت نتائجها لأخذ وردّ بسبب تعديل أحجام الكتل قبل أن يتم تثبيتها على وقع ترتيبات التوافق الأميركي والإيراني على الحصص، هناك من أخذ يترقب إنجاز هذا التوافق، لأن على ترجمته العملية يتوقف الإفراج عن حكومة لبنان. لم يكن عن عبث أن نصر الله كان يردد خلال الأشهر الخمسة الماضية أنه ليس محشوراً أو قلقاً من العقوبات الأميركية، رداً على التكهنات بأن الحزب مستعجل على إنجازها بسبب ضغط الحصار الأميركي الإقليمي عليه بفعل العقوبات، فإظهار عدم الاكتراث بالعقوبات كان الوجه الآخر للتعايش مع التأخير في إنجاز التسوية على الحكومة، انتظار اكتمال التسوية في العراق والذي كرسه التوافق على عبد المهدي.
هناك من حاول الإفادة من فترة الانتظار، وحين انتهت انتقلت «العدوى» من العراق إلى لبنان، لا العكس.