1 «انتصار» إيران هزيمة للعراقيين
عبد الوهاب بدرخان الاتحاد الاماراتية
يشير الإعلام الإيراني والقريب من إيران، تصريحاً أو تلميحاً، إلى مواجهة تقترب مع الولايات المتحدة في العراق. وما فُهم حتى الآن أن الخطط تُنسّق لتسبق أو تتزامن مع الحزمة المقبلة من العقوبات التي ستشمل النفط بيعاً وشراءً، ما تعتبره طهران «إعلان حرب» عليها، وقد استخدمت في الأسابيع الماضية كل الإنذارات الممكنة في هذه المرحلة، من التلويح بإغلاق مضيق هرمز، إلى إطلاق الحوثيين صواريخ على ناقلة سعودية في البحر الأحمر، إلى مواصلة التهديد بالردّ على منع مرور نفطها بمنع مرور أي شحنات لدول أخرى في المنطقة. أما استهداف الأميركيين في العراق فغدا تطوّراً متوقّعاً منذ انتهاء الحرب على تنظيم «داعش» واقتلاعه من مناطق سيطرته، إذ كانت هذه الحرب قد ولّدت ميليشيات «الحشد الشعبي» كجيش موازٍ للجيش العراقي الذي أعاد الأميركيون تأهيله مع قوات مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية وجعلت منها حامياً قوياً للدولة العراقية، وبالتالي عنصراً مهدّداً لـ«الحشد» وهو الذراع العسكرية للهيمنة الإيرانية.
في خضم الأزمة السياسية الناشبة لبلورة التحالف الأكبر المؤهّل لتشكيل الحكومة الجديدة، معطوفة على اضطرابات البصرة، سقطت فجأة ثلاث قذائف مدفعية في المنطقة الخضراء داخل بغداد حيث توجد مقار الحكومة ومجلس النواب ومعظم السفارات. كان الحادث الأول من نوعه منذ فترة طويلة جداً، وكان يمكن اعتباره «عادياً»، إلا أن رد الفعل الأميركي عليه لم يكن عادياً، إذ حمّلت واشنطن إيران المسؤولية وحذّرتها بأنها «سترد بشكل سريع وحاسم» على أي هجمات يشنها حلفاؤها وتؤدي إلى إصابة أميركيين أو إلحاق أضرار بمنشآت أميركية. قبل ذلك كان تقرير لـ«رويترز» أفاد بأن إيران نقلت صواريخ باليستية إلى «جماعات شيعية مسلحة متحالفة معها»، وأنها تبني قدرات لصنع المزيد في العراق. نَفَت بغداد واقعة الصواريخ، أما إسرائيل فبَنَت عليها لتتوعّد بضرب مواقع لأسلحة وصواريخ إيرانية في العراق، لكن واشنطن أعلنت أنها ستمنع إسرائيل من القيام بأي ضربة.
غير أن دوافع المواجهة المحتملة لا تقتصر على مسألة العقوبات أو على تعزيز وضعية «الحشد» والدفاع عن النفوذ الإيراني في العراق، بل باتت مرتبطة بالتهديد الذي تستشعره طهران لتوسّعها الإقليمي وخطوط الاتصال والإمداد التي أنشأتها. فالخطر على وجودها في سوريا لا يزال قائماً رغم تقلّبات الموقف الروسي، أما وجودها في العراق فبات موضع تساؤلٍ وخطراً على العراق نفسه. إذ يواصل الأميركيون نشر القواعد والتمدّد غرباً في العراق بموازاة تعزيز انتشارهم في شمال شرقي سوريا، بهدف منع «ممر طهران -بيروت» الذي يقول الإعلام الإيراني إنه بات مفتوحاً وعاملاً. المفارقة أن الجانبين يراهنان على روسيا، فواشنطن تربط توافقاتها مع موسكو في شأن سوريا بإخراج إيران منها في حدٍّ أقصى أو بمنع الإيرانيين من تكريس ذلك «الممر» عبر الحدود العراقية السورية كحدٍّ أدنى، أما طهران فتعوّل على استمرار الخلافات وتصاعدها بين روسيا والولايات المتحدة ولعلها تجد هامشاً للمناورة في المناخ المتوتّر حالياً بين الدولتَين الكبريَين.
ليس أدلّ على التوترات المتصاعدة بين الأميركيين والإيرانيين من المواجهة السياسية التي يخوضونها للتأثير في الاستحقاقات الوشيكة، وبالأخصّ تشكيل التحالف الحكومي. وقد أتاحت أحداث البصرة لإيران أن تتصيّد حيدر العبادي بدفع أحزابها إلى تحميله المسؤولية وتبرير إقصائه كمرشح للبقاء في رئاسة الحكومة. قبل ذلك كانت آثار الاختراق الإيراني ظهرت أيضاً في التلاعب بالتكتل الكردي، وكذلك بالتكتل السنّي الذي حاول توحيد موقفه إلا أنه توزّع بين التحالفَين الكبيرَين، فتحكّم الموالون لإيران باختيار رئيس البرلمان. في المقابل انحصر الرهان الأميركي بالعبادي ولم يُرفَق ببلورة أي «بديل» محتمل، بل ارتبط بـ«مصداقية» التزام تيارَي الصدر والحكمة تأييده. تبدّد هذا الالتزام بعودة التيارَين إلى التحالف مع «الحشد» وإعادة توحيد «البيت الشيعي»، لذلك أظهر الإيرانيون أنهم سجّلوا نقطة ضد الأميركيين، بل فرضوا تغييراً جوهرياً على مسار تشكيل الحكومة. إذ كان يتمّ في السابق، كما في حالَي المالكي ثم العبادي، بتوافق ضمني وغير مباشر بينهم وبين الأميركيين، أما هذه المرّة -وما دامت «المواجهة» مفتوحة- فإن الإيرانيين سيسعون إلى الانفراد باللعبة. لكن إذا أمكن للإيرانيين أن يقيموا حكومة كاملة الولاء لهم وغير متعاونة مع الولايات المتحدة، هل تستطيع حكومة كهذه أن تحكم وتوطّد الأمن وتكافح الفساد وتعزّز مناخ مصالحة وطنية وتجتذب الاستثمارات لتعيد الإعمار وتنهض بالاقتصاد والخدمات؟ برهنت السوابق أن كل «انتصار» لإيران يعادل هزيمة للعراق والعراقيين.
2 الاقتصاد العراقي: الأزمات والتنمية
وليد خدوري
الحياة السعودية
يعتبر كتاب الدكتور علي خضير مرزا الذي يحمل عنوان «الاقتصاد العراقي: الأزمات والتنمية»، والصادر في بيروت في تموز (يوليو) الماضي، مرجعاً أساسياً عن الاقتصاد العراقي، يضاف إلى المؤلفات الاقتصادية لكل من الدكتور محمد سلمان حسن والدكتور خير الدين حسيب، التي نشرت في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين.
وتشكل هذه الأدبيات المراجع الأساسية للتطور الاقتصادي العراقي، إضافة إلى عشرات الكتب والمصادر المتخصصة التي ترفد المكتبة العربية بالدراسات عن دولة العربية موعودة اقتصادياً، ولكن تعثرت وتدهورت بسبب الحروب والسياسات المرتجلة وسوء الإدارة والفساد.
وما يميز المراجع الأساسية أنها عالجت تحول الاقتصاد العراقي من الاعتماد على الزراعة والتجارة، إلى الاقتصاد الريعي النفطي. وشرح مرزا في البداية مسلسل الأزمات السياسية والاجتماعية والجيوسياسية التي تركت آثاراً سلبية في الاقتصاد العراقي، على رغم الموارد الطبيعية والبشرية المتوفرة له. ولا يُخفى موقع البصرة الاستراتيجي، التي تشهد حركة احتجاجية ملتهبة، والتي تعتبر عاصمة العراق الاقتصادية كونها ميناء البلاد على مجرى شط العرب وذات التاريخ التجاري مع الدول المجاورة والإقليمية الممتدة من دول الخليج إلى الهند وأوروبا. وشكل مطار البصرة نقطة عبور للعديد من شركات الطيران العالمية ذهاباً وإياباً من الشرق إلى الغرب. وتحوي البصرة أيضاً عائلات يُشهد لها بتاريخها التجاري وبأدائها الناجح والواسع داخل العراق وخارجه. وكان بعض هذه العائلات يدير أسطولاً بحرياً تجارياً، وأخرى بدأت تصدير التمور المغلفة والمعلبة، وبعضها تخصص في تجارة الحبوب والماشية. والإشارة إلى البصرة اليوم ضروري على ضوء الحركات الاحتجاجية والشلل الذي أصابها وشحّ مياه الشرب والانقطاع المستمر للكهرباء. فشح المياه لا يعود فقط إلى عدم توافرها، خصوصاً وأن شط العرب يحاذي شواطئ المدينة، والمشكلة لا تكمن فقط في السدود التي شيّدتها تركيا، فهذه المشاريع ليست جديدة. وإغلاق إيران عشرات الأنهر والروافد خلال الشهور الماضية كان أُعلن عنه مسبقاً. ولكن المشكلة تكمن في عدم إنجاز محطة جديدة لتكرير المياه في الوقت المناسب، وفي سياسة التوظيف العشوائية التي اعتمدها النظام منذ عام 2003، والتي نتج عنها تعيين موظفين حزبيين غير مؤهلين ومن دون خبرة وتعليم مناسب، وشيوع ظاهرة النهب والسرقة.
ومن الصعب التطرق إلى أزمات الاقتصاد العراقي الحديث من دون الولوج في التحديات الاجتماعية، أي أسباب هجرة العائلات التجارية وتهجير الأقليات المتخصصة في الأعمال التجارية. ولا يمكن توجيه أصابع الاتهام فقط إلى دور «الفخ الريعي النفطي»، على رغم أن هذا عامل مهم في الأزمة، إذ استطاعت دول مجاورة التعايش مع الريع النفطي وفي الوقت ذاته الحفاظ على التجارة الحرة والتخطيط الاقتصادي.
وسلط مرزا الضوء على مشكلتين، الأولى الارتفاع الكبير في عدد السكان العالية، الذي يبلغ نحو 3 في المئة سنوياً، البطالة، والثانية شحّ المياه. ولكن كان من الضروري التعمّق في شرح تحديين آخرين ذات أهمية أيضاً، الأول خسارة العراق البيوت التجارية وكبار المزارعين، التي بدأت منذ التحولات السياسية خلال ثورة 1958 وبعدها. أما التحدي الثاني فيتمثل في انتشار الفساد بشكل غير مسبوق من قمة السلطة إلى أسفلها بعد غزو عام 2003.
ووضع مرزا إصبعه على الجرح الكبير للاقتصاد العراقي الحالي، حيث تتمحور سياسة حكومات بعد عام 2013 على التوظيف الحكومي العشوائي، وقال: «بعد انهيار أسعار النفط في 2014-2015، ظهر واضحاً أن التوظيف في الجهاز الحكومي وصل حدّه، وبدأت بوادر تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي نهاية عام 2016، والذي اشترط وضع حد أعلى للتوظيف الحكومي».
وتوقع الكتاب زيادة عدد الداخلين إلى سوق العمل بحوالى 482 ألف شخص سنوياً، وتكمن معضلة الحكومات بعد عام 2013 في اعتمادها سياسة توظيفية حزبية عشوائية تشترط إفادة الحزبيين والانصار على رغم عدم خبرتهم أو درايتهم بالعلوم والإدارة، وافتراض استمرار أسعار مرتفعة للنفط تغطي مسيرتهم الخاطئة، ولكن ظهر كل هذه الرهانات أثبتت فشلها عند انهيار الأسعار.
وحرص مرزا، وهو الخبير النفطي والاقتصادي، على شرح السياسات النفطية العراقية والمتغيرات الدولية، أي سياسات منظمة «أوبك، المؤثرة فيها، ومرحلة الامتيازات النفطية والإدارة الوطنية. ويعتبر الفصل عن «المشهد النفطي بعد تغيير عام 2003» مرجعاً أساسياً، مدعوماً بالتحاليل والتفاصيل لهذه الفترة التي اكتظت باللغط حول ماهية العقود النفطية للحكومة المركزية وإقليم كردستان، والعلاقات والخلافات النفطية بين المركز والإقليم، والتي كادت أن تؤدي إلى تقسيم البلاد.
وقدم مرزا تحليلاً للتفاوت في علاقة بغداد بالمحافظات في ظل النظام الفيديرالي، ولقواعد تقاسم الريع النفطي. وعالج الاقتراحات والانتقادات حول سياسة التوزيع المباشر لعوائد النفط على المواطنين العراقيين. وهذا الموضوع الذي لا يزال يثير الكثير من الجدل، اذ يدعي بعض مؤيديه أنه سيؤدي إلى إضعاف نفوذ الحكم الديكتاتوري، وكأن الديكتاتوريات تكون فقط مع الريع النفطي. ويدعي مناهضون للموضوع أن المشروع غير عملي وسيعرقل التنمية الاقتصادية، ناهيك بصعوبة تنفيذه في ظل غياب عقد اجتماعي وشيوع الفساد.
وشكل تحليل مرزا لمختلف جوانب هذا النقاش، أي إيجابايته وسلبياته، مرجعاً في النقاشات حول مشروع توزيع الريع النفطي، وأهمية نجاح أو إخفاق تنفيذه في الدول النفطية الأخرى. ويوفر شرح السياسة النفطية بعد عام 2003، وجهة نظر دقيقة ومهنية في ظل اللغط التي صاحبها، خصوصاً العائدات المالية الناتجة عنها والمسؤولية تجاه الشركات.