1 من أي طائفة أنت؟
فاروق يوسف العرب بريطانيا
يكفي لكي أفقد لذة استعادة مواطنتي على سبيل التعريف أنني حين أقول “أنا عراقي”، يُقال لي “من أي طائفة أنت؟”
شعور المواطنة هو الأساس الذي يكفل وجود وطن
هل خُلقت الأوطان للذكرى؟ لقد كذبنا على أنفسنا حين صدقنا الكذبة اللئيمة التي تقول “بلادي وإن جارت عليّ عزيزة”.
كان هناك قدر هائل من السذاجة يقابله قدر عظيم من الخداع. بالتأكيد أن هناك جهات مستفيدة من تلك المعادلة العبثية المضللة.
في قمة اضطراب تلك المعادلة يصل المرء إلى درجة من اليأس تدفعه إلى الهروب حاملا معه حطام شبابه. هو ما تبقى لديه من وطنه.
خدعنا أنفسنا حين توهمنا أن الوطن هو المكان الذي ولدنا وترعرعنا فيه ولنا فيه أهل وأحبة وأصدقاء وذكريات. لقد صنعنا أسطورة من تراب.
في حقيقته فإن الوطن هو اختراع له صفة قانونية. هو مفهوم تجريدي لا يتحقق عمليا إلا من خلال الحصانة القانونية لمفهوم المواطن. شعور المواطنة هو الأساس الذي يكفل وجود وطن. من غير ذلك الشعور فلا شيء يؤكد أن الوطن قابل للتحقق.
بالنسبة لي فقد كانت مواطنتي مؤجلة دائما. وهو ما يشير إلى ارتباك صلتي بالعراق باعتباره وطنا. كان ذلك الوطن مؤجلا هو الآخر. وهي كما أرى حال الكثيرين من أبناء العالم العربي. كان مفهوم الوطن قد اتخذ معاني بدائية ارتبطت بمكان الولادة والعيش، أكثر من ارتباطها بالواجبات والحقوق في سياق قانوني.
فجأة يكتشف المرء أنه وقع ضحية الأداء الصاغر لواجبات، هي أكبر من قدرة الإنسان العادي على القيام بها وفي المقابل فإن كل ما يحيط به يؤكد له إنه إنسان من غير حقوق. فكرامته وحريته واختلافه وسواها من شروط الوضع البشري السوي ليست متاحة بما يجعل حياته الشخصية مصانة.
كان هناك دائما ما يقف بين المرء وممارسة حقه في العيش الحر الكريم.
الدولة والنظام والحزب والوضع الأمني والشعارات والمنطلقات النظرية والأهداف السياسية غير المنظورة والمؤامرات الخارجية والأعداء الواقعيون والوهميون والحروب وقانون الطوارئ، كلها كانت تقف حائلا دون أن يتم الاعتراف بحقوق المواطنة.
يقضي العربي حياته في انتظار تلك اللحظة التي يحصل فيها على أدنى حقوق المواطنة. وهي لحظة تبقى معلقة. وإذا ما كانت الأحزاب اليسارية قد انتهكت حقوق الإنسان، فإنها لم تنتهك حق المواطنة، ذلك لأن ذلك الحق لم يكن موجودا أصلا.
لقد هربت أجيال من الشباب العربي وكانت السياسة عنوانا لذلك الهروب. غير أن السياسة لم تكن سوى ذريعة.
المشكلة هي أكبر من السياسة. ما عانت منه تلك الأجيال يمكن تلخيصه في غياب الوطن. وإذا ما كان اللجوء قد وفّر حلا وهميا بعنوان الوطن البديل، فإن ذلك الحل لا يمحو شعور المرء بغصة كونه من غير وطن.
المعادلة الناقصة التي ينتهي إليها اللاجئ تقع في حصوله على حقوق المواطنة كاملة من غير أن تغمره نعمة أن يكون له وطن. يظل وطنه المؤجل الذي يقع هناك هو وطنه الحقيقي. ولكنه وطن لا يمتّ إلى الحقيقة التي يمكن استعادتها بصلة. لا يصدق أحد أن وطنه ذهب من غير عودة.
لقد انتصرت الدول والأنظمة والأحزاب والجماعات المسلحة على الأوطان يوم حوّلتها إلى مداجن. ومثلما غُيّب مفهوم المواطنة فقد تمّ تغييب مفهوم الوطن، بحيث صار الوطن مرتبطا ببقاء النظام وأمنه. إن ذهب ذلك النظام فلا وجود للوطن.
وكما يبدو فإن ذلك الأمر لا يرتبط بنظام سياسي بعينه. فالعراق الذي نكب بمواطنته المؤجلة لا يزال بالرغم من تغيّر نظامه السياسي حريصا على أن يعلب الانتساب إليه في القالب الذي ينسجم مع سياسة نظامه. لذلك فإن الإنسان الذي يحرص على كرامته وحريته في الاختلاف يبقى محروما من الشعور بأن لديه وطن.
في ذلك السياق يبدو الوطن كما لو أنه هبة من النظام السياسي، وليس مفهوما قانونيا يقع فوق الدولة والنظام والحزب والملل والنحل.
يكفي لكي أفقد لذة استعادة مواطنتي على سبيل التعريف أنني حين أقول “أنا عراقي” يُقال لي “من أي طائفة أنت؟”.
2 لماذا لا يعقد العراقيون الأمل على مجلس النواب والوزارة الجديدين سعد ناجي جواد راي اليوم بريطانيا
لا تزال عملية تشكيل الحكومة الجديدة في العراق تراوح مكانها. ولا يوجد في الأفق ما يدلل على انها ستكون عملية سهلة. يضاف الى ذلك، وقياسا على الوجوه المرشحة لرئاسة السلطتين، لا يوجد ما يدلل على ان رئيس الوزارة الجديد و طاقمه الوزاري، الذي بالتأكيد ستفرضه الكيانات الفائزة، سيختلف عن سابقيه. و ربما يكون من غير المنصف الحكم المسبق على مجلس النواب الجديد وقبل ان يباشر أعماله، الا ان اداء المجلس بعد جلستين عقدها منذ ان تمت مصادقة المحكمة الاتحادية على نتائج الانتخابات، لا يبشر بالخير هو الاخر. حيث ان عددا غير قليل من النواب قد فاز بالتزوير، وهذا ليس اتهاما اعتباطيا ولكنه امر اعترف به الكثيرون ابتداءا من رئيس الوزراء الحالي وانتهاءا برووساء الكتل واجهزة الاعلام المختلفة. كما ان عددا غير قليل من النواب السابقين الفاسدين قد تم تدويرهم وعادوا مرة ثانية للمجلس. والاهم من كل ذلك ان المجلس قد اثبت منذ الجلسة الافتتاحية الاولى، والتي كان يفترض بها ان تشهد انتخاب رئيسا له مع نائبين، ورئيسا للجمهورية، و يسمي الكتلة التي الأكبر التي ستشكل الوزارة، انه مجلسا لا يهتم بمعاناة العراقيين، حيث عمد عدد غير قليل من النواب الى ترك الجلسة بعد ان ادوا اليمين الدستورية. مما يدلل على ان هَمْ الغالبية العظمى من الأعضاء كان هو لتثبيت أنفسهم كنواب كي يحصلوا على الامتيازات الكبيرة التي تصاحب هذا المنصب، من منح و رواتب و حمايات بالاضافة الى امتيازات كبيرة اخرى، هذ اولا. وثانيا الحالة التي سجلت على عدد غير قليل من النواب، بل وحتى روؤساء الكتل والمتمثلة بالقفز من كتلة الى اخرى بدون حياء وخجل، وأصبحت هذه الحالة محل تندر بين العراقيين الذين لا يزالون يتذكرون حالات العداء السافر والاتهامات الكبيرة التي صبغت العلاقة بين المتحالفين الجدد. كما قيل ان حالات القفز هذه كانت مقابل إغراءات مالية كبيرة و وعود بمناصب، وليس لأسباب مبدأية وتخدم الصالح العام. وثالثا ان الوجوه المرشحة لرئاسة البرلمان، باستثناء واحد او اثنين منهم، عليهم اما شبهات او ملفات فساد او فشل في ادائهم السابق. رابعا والاهم فان البرلمان لم يراع خطورة الموقف والحالة الملتهبة في العراق، وخاصة في البصرة وما يعانيه ابناءوها، بل فضل أعضاءه ان يخرقوا الدستور وان يدخلوا البلاد في فوضى جديدة إرضاءا لمصالح قادة الكتل، والتي اغلبها تدار من قبل لاعبين خارجيين.
اما السيد رئيس الوزراء الحالي، والذي يطمح الى ولاية ثانية، فلقد اهتزت حظوظه بشكل كبير بعد الجلسة الطارئة التي عقدت لمناقشة احتجاجات وتظاهرات البصرة والموقف الملتهب فيها. وفِي الحقيقة فان السيد العبادي قد اضاع فرصا ذهبية كبيرة لكي يضمن بقاءه في السلطة. فبعد أن تمتع الرجل بدعم داخلي وخارجي غير مسبوق بعد تسميته رئيسا للوزراء، ونجح في قيادة حملة طرد تنظيم داعش الإرهابي من المحافظات الغربية، وكان هذا يفترض ان يكون داعما كبيرا له في محاربة الفساد وإعادة إعمار العراق الذي دمره الاحتلال والسياسات الطائفية و المحاصصة المقيتة منذ بداية الاحتلال و لحد الان، وبعد ان تعامل بصورة جيدة مع الأزمة التي حدثت مع اقليم كردستان بعد الاستفتاء، الا انه تردد وتراجع وسكت عن أمور كثيرة، مما فسح المجال للآخرين بالتحالف ضده، على الرغم من الفشل السابق لاغلب معارضيه، و شبهات الفساد التي تحوم حول عددا لابأس به منهم. كما ان خضوعه لتسميات الكتل المتنفذة للوزراء العاملين معه قد تجلى بالاداء الضعيف والمهلهل في الجلسة الاستثنائية، للوزراء الذين رافقوه في الجلسة. وكل هذه الأمور انعكست سلبا على حظوظه. وبالتالي فانه اليوم يحصد نتائج تردده وضعفه في مواجهة الفساد الذي طالما أمَّلَ العراقيين بانه سيحاربه، طبعا انا لا أريد ان اقول هنا ان الرجل هو الشخص المثالي لهذا المنصب، وإنما فقط اريد ان أوضح أسباب تراجع حظوظه.
بالمقابل، وفِي ظل التشرذم الذي تعيشه الساحة السياسية العراقية، فان كل الدلائل تشير الى ان كل محاولة لتشكيل الوزارة القادمة سوف لن تنجح الا اذا ما تم ارضاء عدد غير قليل من الكتل المتواجدة في البرلمان، وهذا يعني استمرارا لعدة أمور سلبية وهي المحاصصة والطائفية والقبول بترشيح فاسدين والقبول باشخاص غير كفوءين، لأنهم الأكثر قدرة على ارضاء كتلهم. وهذا بدوره يعني استمرار الفساد ونهب ثروات العراق. وكل من يتحدث عن إنهاء معاناة العراقيين من الصادقين في نواياهم، عليه ان ينتظر اربع سنين قادمة و مكررة حتى يتحقق له هذا الحلم البعيد المنال.
وعلى كل حال فان الصراع على منصب رئيس الوزراء القادم لم يحسم بعد، و من المؤسف ان من يحكم هذا الصراع ويسيره ليس العراقيون انفسهم وإنما بالدرجة الأساس الولايات المتحدة وإيران وبعض الدول الخليجية، بل وحتى اسرائيل. وحتى تتفق هذه الأطراف على شخصيات تمثل مصالحها سوف لن يتم تسمية الروؤساء للمناصب الاساسية الثلاث ، الجمهورية والوزارة والنواب. بسهولة، الا اذا نجحت احدى القوتين الخارجيتين، أميركا وإيران ، في فرض ارادتهما. وهذه هي الكارثة الكبرى التي نتجت عن الاحتلال البغيض. فبعد ان كان العراق من اهم الدول الإقليمية و أقواها وأكثرها تأثيرا في السياسة الدولية، اصبح ينتظر ما يقرره الغير له و لمستقبله.
ومع هذا يبقى الأمل، حتى وان كان ضعيفا جدا، موجودا في نفوس الغالبية العظمى من العراقيين، فكما كسرت المقاومة العراقية غطرسة الولايات المتحدة وأجبرتها على الانسحاب العسكري، وقبل ان تضمحل و تتفكك، ومثلما وجهت انتفاضة البصرة ضربة موجعة للنفوذ الايراني في العراق، ولتصورهم بانهم أصبحوا يمتلكون العراق، فان العراقيين قادرون على يعيدوا بناء وطنهم ولو بعد حين. والتاريخ يخبرنا بان بغداد ومنذ تأسيسها تعرضت لاحتلالات كثيرة، وخيانات اكثر من مَن يدعون انهم ابناءها، ولكن بالنتيجة كانت تنهض ويسطر مورخوها اسماء من بناها وأعاد تألقها وأسماء من خانها واصطف مع الأجنبي ضدها. وعلى العكس مما قام به من أطلقوا على انفسهم اسم المعارضة من اللجوء الى الولايات المتحدة و بريطانيا وإيران واسرائيل لكي يقوموا باحتلال بلادهم بادعاء تحريرها، فان لسان حال العراقيين سيظل يردد بيت شعر شاعر العرب الجواهري الذي ورد في قصيدته الرائعة ( المقصورة) و الذي يقول فيه مخاطبا ابناء العراق النجباء
الا من كريمٍ يَسُرُ الكرامَ
بجيفةِ جلفٍ زَنيمٍ عَتا
3 البصرة تنتفض لمواجهة المستقبل محمد عاكف جمال البيان الاماراتية
الأنظار، عراقياً وإقليمياً، مسلطة على مدينة البصرة إحدى أغنى المدن في العالم، ومع ذلك لا تجد ماء لتشربه ولا كهرباء لتخفف من لهيب ما تتعرض له، وهي مصنفة ضمن المدن الأكثر حرارة في العالم هذا فضلاً عن نسبة البطالة المرتفعة جداً فيها.
الكلمات لا تستطيع التعبير عن عمق وسعة مأساة هذه المدينة وأهلها، عشرات الآلاف من حالات التسمم، بسبب المياه المتوافرة لها والتي ليست غير صالحة للاستهلاك البشري فحسب.
بل ليست صالحة لأي استخدام آخر. هذا وحده يبرر انتفاضة المدينة واختراقاتها لخطوط التماس مع الإدارات الحكومية ومع عدد من الأحزاب والحركات السياسية دون الحاجة لتسطير قائمة طويلة من المفردات كل منها يتطلب إقامة دعوات قضائية تطال النظام السياسي بكامل «عَرَّابِيه»، الذين لم يتركوا نافذة أمل أمام الشباب إلا وأغلقوها، تاركين إياهم يائسين مكرهين لانتزاع ما سلب منهم بقدراتهم الشخصية المحدودة.
ومع أن جميع مدن العراق تعاني من سوء الخدمات إلا أن تداعيات ذلك تصبح أكثر ثقلاً على كاهل المواطن كلما اتجهنا جنوباً وصولاً إلى البصرة، حيث يصلها النزر الضئيل جداً من المياه بعد أن حملت معها كل ما أفرزته المدن التي سبقتها من ملوثات.
التظاهرات في مدينة البصرة بدأت سلمية تتماشى مع وداعة المدينة ودماثة خلق مواطنيها وبصمات إرثها الثقافي والحضاري، الذي لا ينازعها فيه أية مدينة عراقية أخرى مطالبة بحقوق مشروعة تتعلق بنقص كبير في الخدمات الأساسية كتوافر الكهرباء والماء.
ولكن الصورة بدأت بالتغير بعد فشل مجلس النواب في الثالث من سبتمبر الجاري إنهاء الأزمة السياسية في إقرار الكتلة الأكثر عدداً وانتخاب رئيس المجلس ونائبيه كما ينص الدستور، فأصبح الخروج من المأزق السياسي والأمني أكثر صعوبة وأشد تعقيداً وأصبح اللا يقين هو من يرسم معالم المستقبل حيث تحولت انتفاضة البصرة إلى قضية سياسية جهات عديدة تحاول توظيفها واستثمارها لصالحها.
هذه الانتفاضة تختلف عن سابقاتها فقد سقط فيها عدد من القتلى وعشرات الجرحى من المتظاهرين ومن القوات الأمنية، وأحرقت فيها مقرات الحركات والأحزاب القريبة من إيران وأضرمت النار في القنصلية الإيرانية ورفعت فيها شعارات معادية للوجود الإيراني، وهي من هذا المنظور تبعث برسائل سياسية متعددة وشديدة اللهجة لإيران ولحلفائها.
الموضوع غير معزول عن تفجر الصراع بين حلفاء الأمس، الذي لم يعد بقدرة أطرافه التكتم عليه والذي اندلع بإقالة فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي من جميع مناصبه الأمنية وبدأ صراع كسر العظم بين العبادي وقوات الحشد أو بتعبير آخر بين العبادي والتيار، الذي يمثله وبين التيار المقرب لإيران.
محافظة البصرة تشهد تراجعاً وضموراً بيئياً لا يخطئه الراصد، فالنقص المزمن في الماء والكهرباء والتردي في الخدمات على جميع المستويات ليست وليدة الحاضر القريب.
فهناك عوامل عديدة تضافرت وعلى أمد طويل لإيصال الحال فيها إلى ما وصلت إليه دون وجود سياسات تعالج هذا التراجع. سلسلة من الحروب وحصار طويل تلاه الغزو الأميركي وظهور تنظيم داعش وسوء الإدارة وتفشي الفساد وتجاوزات دول الجوار على منظومة مياه الأنهار في المنطقة، التي تضرر منها العراق بوصفه دولة المصبات لهذه الأنهار.
وتأتي هذه الأزمة في ظروف حساسة حيث تُرسم الخريطة السياسية الجديدة والتي تتضمن تعيين الرئاسات الثلاث وتشكيل الحكومة لتستغل من قبل القوى المتناحرة وتوظف ضد رئيس الوزراء العبادي للمطالبة باستقالته. وليستغل الحشد الشعبي هذه الفرصة ليتخذ قرار الانتشار في البصرة لحفظ الأمن، متجاهلاً دور الدولة في الانفراد بأحد أهم عناصر سيادتها وهو صلاحياتها في رسم سياساتها الأمنية، ومُخاطراً بتحمل مآلات التصادم مع أجهزتها.
الحكاية لم تنته بعقد جلسة استثنائية لمجلس النواب المنتخب لمعالجة أوضاع البصرة بطلب من زعيم
ائتلاف «سائرون» مقتدى الصدر، فالمجلس ليس لديه سلطات تنفيذية وما لدى الحكومة من قدرات محدودة جداً لا يرقى إلى مستوى ما يراد منها وهي في وضع يفرض عليها قيود كثيرة سياسية وأمنية ومالية في
هذه الظروف الحساسة التي تقرر المصير السياسي لرئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي تضاءلت فرص بقائه في الحكم إلى حد بعيد خاصة بعد تفكك ائتلاف النصر الذي يتزعمه.
4 تحوّلات عراقية بين إفشال إيراني ومحدودية أميركية عبدالوهاب بدرخان
الحياة السعودية
يصعب على طهران أن تعترف بتغييرَين في العراق في آنٍ: من الجانب الأميركي، لكن أيضاً من الجانب العراقي. ويصعب الاعتقاد بأنها فوجئت بهما، فالمؤشّرات كانت واضحة ومبكرة، إلا أن امتلاءها بفائض الثقة بما حقّقته هيمنتها واستحواذاتها جعلها تستبسط البديهيات، وأهمها أن الأميركيين اشتغلوا على تظهير الدولة بتعزيز قواها المسلّحة، وأن المجتمع العراقي صبر طويلاً على القوى السياسية آملاً بأن تجد طموحاته ومطالبه فسحة ولو ضيّقة من اهتماماتها.
تأخّر الإيرانيون في قراءة توجّهات إدارة دونالد ترامب، بل ظنّوا أنها لن تحيد في العراق على الأقلّ عن نهجَي الإدارتَين السابقتين وركونهما إلى توافقات ضمنية وموضوعية وغير مباشرة مع طهران، أما الآن وقد أصبحت المواجهة واضحة على وقع العقوبات الأشدّ فلم يعد بإمكان الإيرانيين تجاهل الانقلاب الحاصل وبات تجنيد ميليشياتها لمحاربته، وهو ممكنٌ طبعاً، يجازف أيضاً بإفساد «مكاسب» تلك الميليشيات.
لم يكن لطهران أن تتأخّر في ملاحظة تحوّلات عراقية، ولو بطيئة، فمنذ اشتعل الغضب الشعبي في الشارع صيف 2015 كان بعضه موجّهاً صراحة ضدّها باعتبارها العرّاب الخفيّ للحُكم، لكنها استهزأت به وتجاهلته تماماً على رغم أنه/ بل ربما لأنه أنطلق من البيئة الشيعية، التي تعتبر أنه يمكن دائماً استعادتها تحت السيطرة، لا بهيبة الدولة والقانون، فإيران غير معنية بهما، بل بسطوة الدولة الموازية الممثّلة بالميليشيات.
رفض الإيرانيون عام 2014 الاعتراف بأن رجلهم نوري المالكي أخطأ بل تسبّب بكارثة لعموم العراق، إذ كانوا يعلمون أنه تصرّف طوال ولايتَيه وفقاً لنزعته الطائفية ولتعليمات قاسم سليماني، وبالتالي لا يمكن لومه على توفير كل الظروف السياسية والعسكرية لظهور تنظيم «داعش» وانتشاره. وعندما فُتح لاحقاً ملف «تسليم الموصل» إلى «داعش» قاوم الإيرانيون بشدّة اتهام المالكي وإدانته وأي تلويحٍ بمحاسبته، ذاك أنهم لم ينظروا إلى «داعش» كخطر عليهم بل كفرصة عملوا بكل الوسائل مع أتباعهم للحصول عليها، وكان الإيعاز للمالكي بطلب مساعدة الولايات المتحدة بداية استثمارهم في تلك «الفرصة» التي ستجعلهم، بفضل ميليشيات «الحشد الشعبي»، جزءاً حيوياً من المجتمع الدولي الذي يحارب الارهاب.
عندما وافقت واشنطن على التدخّل اشترطت أولاً تنحية المالكي، وثانياً إعادة تأهيل الجيش وقوى الأمن، وثالثاً إصلاح العملية السياسية وتهيئة الظروف لمصالحة وطنية. ضحّت طهران برجلها طالما أن بديله حيدر العبادي هو أيضاً من «حزب الدعوة»، وأقلقتها «اعادة التأهيل» لكنها عوّلت على اختراقاتها للقوات المسلحة ثم أنها ضغطت لجعل «الحشد» جزءاً منها بتشريع برلماني. أما «المصالحة» فلم تعدم طهران الوسائل لمواصلة تأجيلها في عهدَي المالكي والعبادي، وكانت ذرائعها تستند خصوصاً الى ضلوعها في شرذمة السنّة والأكراد، علماً بأن المصالحة ليست همّاً كردياً رئيسياً.
التدخّلان الأميركي والإيراني أصبحا بمثابة قَدَر أو حقيقة أولى للعراق، بل صار مجرّد تمنّي العراقيين الإمساك بزمام الأمور في بلدهم أشبه بـ «تدخّل» غريبٍ ومُستهجَن. كان بالإمكان دائماً أن يُهاجَم الأميركيون على خلفية الغزو والاحتلال، وأن يُتبَع ذلك بهجوم على العرب متدخّلين أو غير متدخّلين، وكان من الصعب دائماً بل من النادر انتقاد إيران على رغم أن النتائج الكارثية لتدخّلاتها تصفع الأبصار بصورٍ متعمّد نشرها لسليماني وأركان حربه العراقيين الممثَّلين في «الدولة» والمتحدّين شرعيتها والمستفزّين أبناء «وطنهم» من سائر المكوّنات.
هل تصحّ المفاضلة؟ هناك فارق بالطبع، فالإيرانيون تجاوزوا التدخّل إلى الاحتلال وجعلوا من أتباعهم قوات «احتلال ذاتي» يعملون في خدمة قوة خارجية ويساهمون في سلب دولتهم وبلدهم طموح استعادة السيادة والاستقلال، ما يمكّنهم بالتالي من إجهاض أي استنهاض للوطنية العراقية. أما الأميركيون فغدوا متدخّلين بطلب من الحكومة العراقية ولم يعودوا محتلّين بل الأهم أنهم لا يريدون ذلك، وعندما لاحت الضرورة وتوفّرت لديهم الارادة، استطاعوا أن يمدّوا الدولة العراقية بأحد المقوّمات الأساسية التي تحتاج إليها، فلولا تطويرهم قطاعات في الجيش وجهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية لما أمكن اقتلاع «داعش» من معاقله. وفيما بقي الدور القتالي لـ «الحشد» ثانوياً، انحصرت «بطولاته» في المناطق «المحرّرة» بالتنكيل بالمدنيين وتصفية مئات منهم بعد خطفهم. لكن هذا الدعم الأميركي يبقى محدوداً ما لم تكن هناك مواكبة عراقية حيوية لإعادة الاعتبار الى الدولة ومؤسساتها.
ولا شك في أن الشروط السياسية التي فرضها الأميركيون لمواكبة الحرب على الارهاب هي التي انعكست على خطاب حيدر العبادي وسلوكه، متّبعاً لغة رجل الدولة ومنفتحاً على الجميع وساعياً قدر الإمكان إلى رسم مسافة بين الدولة والميليشيات. كما أنه وبتشجيع من الأميركيين فتح صفحة في الانفتاح على الجوار العربي، وعلى الخط نفسه تحرّك أيضاً مقتدى الصدر وعمار الحكيم وآخرون. وبناء على هذه السياسة أمكن لبغداد أن تضع استحقاقات إعادة إعمار المناطق المنكوبة على الأجندة الدولية في المؤتمر الذي نظّمته الكويت. ومع كل خطوة كانت التساؤلات تستكشف منسوب الاستياء في طهران، فمن الواضح أنها تعادي أي انفتاح لا يكون بهندستها وبمعاييرها، كما أنها وأتباعها غير معنيين بإعادة أعمار مناطق رغبوا في رؤيتها مدمّرة، بل يعتبرون الدمار في العراق وسورية واليمن من الأدلة الدامغة لـ «انتصاراتهم».
في المقابل، فرض التدخّل الإيراني على العراق تقوقعاً وانكفاءً على ذاته، على الميليشيات التي يفرّخها «الحرس الثوري» ولا هدف لها سوى تهميش الدولة والالتفاف على سلطة القانون والتشكيك بفاعلية القوات المسلحة الشرعية في حماية نظام الحكم وأمن المجتمع، وبالتالي ترهيب المكوّنات العراقية كافةً. كانت مصالح إيران ولا تزال الهدف الأول والوحيد، كذلك تطويع العراق كلّه في خدمتها. فالميليشيات هي الذراع المنفّذة لسياسة «فرِّق تسُد» ضد السنّة والأكراد، بل ضد الشيعة أيضاً، حتى أن ولاء الميليشيات للولي الفقيه لم يشكّل لدى إيران حافزاً لمراعاة مصالح العراق. لعل المذهل كيف أن قادة الميليشيات أظهروا تعامياً مفزعاً عن مصالح بلدهم وشعبهم وحتى أبناء طائفتهم. لذا لم يكن مفاجئاً ولا صادماً أن يضرم الغضب البصراوي النار في مقار أحزابهم ثم في مبنى قنصلية الدولة التي يدينون لها بالطاعة العمياء.
ليس مضموناً أن تكون إيران وميليشياتها تلقت رسالة الشارع، إذ كانت احتجاجات 2015 الانذار الأول، والعزوف عن التصويت في انتخابات أيار (مايو) الماضي إنذاراً ثانياً، والتظاهرات منذ مطلع تموز (يوليو) الماضي إنذاراً شبه نهائي. إيران منشغلة حالياً بأزمتها الداخلية والخارجية وبكيفية استخدام أتباعها لمواجهة الضغوط الأميركية، لذلك فإن احتجاجات البصرة ومدنٍ اخرى لا تعنيها بأسبابها وتطوّراتها طالما أنها لا تنعكس على مكانة أتباعها وسطوتهم في بغداد ولا تستثير نقمة المكوّن السنّي في مناطقه والمنكوبة أو تشجّع الأكراد على التحرّك لتغيير الوقائع التي نجمت عن استفتاء الاستقلال. ومع أن قادة الميليشيات المهووسون باستمداد القوة من الرضا الإيراني يكتشفون مع كل موجة احتجاج أن لا قوى سياسية وراء الحراك في الشارع وأن ثمة في المجتمع قوّةً لم يحسبوا لها حساباً، إلا أنهم بدورهم لا يبدون استعداداً لتغيير الأولويات في البلد. فالعراقيون على اختلاف انتماءاته يفقدون إمكانات العيش نفسه بعدما فقدوا مقوّمات من العيش الكريم، أما الأحزاب والميليشيات فتتكالب على مقدّرات البلاد لأن وجودها واستمرارها ارتبط بنهش الموارد ونهبها.
البصرة العائمة على الماء والنفط، المتاخمة للأراضي الإيرانية والمتشاركة معها شط العرب، تعاني العطش والظلمة والقيظ وخطر الموت بالسموم وتدهور الإمكانات الطبّية، إضافة إلى الفقر وبطالة شبابها. إنها نموذج المنطقة المنكوبة التي لم تدمّرها الحروب بل دمّرها الإهمال وجشع السياسيين وميليشياتهم والتضخّم الاسطوري لفسادهم وأنانياتهم. لم يكن مستغرباً أن تلقي إيران بنفاياتها في شط العرب ولا أن تحوّل مجرى نهر الكارون أو تقطع الكهرباء لاستعجال دفع الفواتير، فهي تعامل المناطق العراقية المجاورة كمستعمرة عاجزة عن المطالبة بحقوقها… وقياساً إلى البصرة يمكن تقدير مدى تردّي الأوضاع في المحافظات الأخرى المنكوبة التي تنتظر جهود إعادة إعمارها، لكن مصير الأموال يتوقّف الآن على حسم الصراع الأميركي- الإيراني على الحكومة المقبلة شكلاً وموضوعاً.
5 ناسا ومشروع ماء البصرة عادل سعد الوطن العمانية
”.. الطريف في هذا الموضوع أن مسؤولا عن أحد المتنزهات في فرنسا غرب البلاد لا ينقطع عن الإشادة بجهود مجموعة طيور غربان تم تدريبها على التقاط مخلفات الزائرين لهذا المتنزه ورميها في مكبات قمامة معدة لهذا الغرض مقابل حصول الغراب الذي يتولى تنفيذ هذه (المهمة) على قطعة بسكويت، أو قضمة طعام بمنقاره من الذي يفضله.”
بين النسيان والتناسي والتسويف والإهمال والتغييب تضيع جهود العديد من الخبراء والكفاءات وأصحاب الرأي تحت وطأة التضليل على أصحابها، ويصل هذا التضليل حد التعتيم الكلي وربما في صفحة أخرى تجيير تلك الجهود إلى مسؤولين سياسيين متسلطين يعلنون عنها من غير مناسبات وبمناسبات، كمؤتمرات وحلقات عمل وندوات ولقاءات وجلسات نقاشية لحل معضلات معينة.
وبالمقابل أيضا هناك مسؤولون أمناء على الواقع حريصون على أن لا يضيع جهد أحد حتى وإن كانوا يختلفون معه في الموقف الشخصي العام.
والطريف في هذا الموضوع أن مسؤولا عن أحد المتنزهات في فرنسا غرب البلاد لا ينقطع عن الإشادة بجهود مجموعة طيور غربان تم تدريبها على التقاط مخلفات الزائرين لهذا المتنزه ورميها في مكبات قمامة معدة لهذا الغرض مقابل حصول الغراب الذي يتولى تنفيذ هذه (المهمة) على قطعة بسكويت، أو قضمة طعام بمنقاره من الذي يفضله.
والطريف الأكثر أن التدريب على تلك المهمة لم يستغرق طويلا وقد تحولت إلى نمط (جهادي) لغربان ذلك المتنزه.
إن المحزن المقابل لتلك الطرافة، هناك العديد من البشر يتم تعليمهم وتدريبهم وإعدادهم لمهمات اعتيادية تقليدية تقتضيها الحياة اليومية للمجتمعات، ولكنهم يظلون مغلقين على نمط متخلف من الأخطاء قصدا أو بدون قصد، وعلى أي حال النتيجة واحدة يحكمها تدني الإنجاز وافتقاد الأهلية ونضوب الأذهان التي يمكن أن تكون عونا في البناء والتطور اللازم، والمرارة هنا في التعصب المستدام للإهمال والتسويف وعدم التغيير تحت وطأة ضغوط سياسيين حين يعجزون عن ابتكار أفكار ومبادرات معينة فيلجأون إلى السطو على أفكار الآخرين وتسويقها على أنها من إبداعهم خوفا من الانتباه إلى أصحاب تلك الأفكار، مما قد يسحب البساط من تحت أقدامهم؛ لأنهم ليسوا سوى ناقلين لها، وبذلك يكون الاعتراف واضحا بعدم أهليتهم للمسؤوليات التي يضطلعون بها مع شعورهم الدائم بالنقص وبالحاجة إلى من يعينهم على أن يكونوا عرابين للواقع وحلالي مشاكل على غرار (حلال المشاكل) الذي تعتقد به نساء عراقيات، إذ يلجأن إلى شراء كمية من (المكسرات واللب) وتوزيعها على سكان الجوار أو المعارف مع دعاء أن ينصرهن الله في حل مشاكلهن، أو لإبطال حسد معين طالهن، خصوصا وأن هناك ميلا واضحا في الوقت الحاضر لهذا التوجه في المجتمعات التي يضربها الجهل أو الغنوسية الدينية والانسداد الذهني وعندها تتغلب الخرافة.
إن هذا التمويه في المواقف واحد من الأمراض المستعصية، وربما يصل هذا (الوجع الاجتماعي) للتغطية على عجز باعتماد سياسات إرضائية معينة لأصحاب الأفكار الجيدة من خلال تقديم مكافآت لهم على أعمال أخرى وليس على النشاطات التي تمثل أفكارا متميزة غير تقليدية فيتم تكريمهم بإيفادات إلى خارج البلاد أو مكافآت نقدية او إقامة ولائم!
نحن في العراق، وربما في بلدان أخرى نعاني هذه الاختلاطات في الأفكار والمبادرات وإذا كان في اليابان يعترفون سنويا بأكثر من ٢٥ ألف ابتكار علمي متميز فإننا نجد صعوبة كبيرة للاعتراف الحقيقي بـ١٪ من هذه النسبة، وتحضرني للإشادة هنا جهود أربع فتيات عراقيات يعشن في الولايات المتحدة الأميركية، فلقد فزن بالمركز الأول لاختراع منظومة تصفية مياه، وقد اختارت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) هذا الإنجاز العلمي العراقي لاختباره في رحلتها القادمة إلى محطة الأبحاث العلمية العائمة الآن في الفضاء الخارجي لغرض اعتماده.
للعلم أن مشروع ماء البصرة المنكوبة بخطر التلوث بقي في أروقة وزارة البلديات مدة سنتين ليحصل على توقيع موافقة الوزيرة من أجل تنفيذه، وللعلم أيضا أن طبيبة روسية جراحة تبلغ من العمر ٩٠ عاما وما زالت تعمل في أحد مستشفيات موسكو وتنجز سنويا أكثر من ١٠٠ عملية جراحية معقدة.