1 العراق: نظام سياسي فاسد قوته في ضعفه
سلام السعدي العرب بريطانيا
قوة النظام السياسي العراقي تكمن في ضعفه، وبالتالي فإن على جموع العراقيين أن تتجاوز غضبها المحض نحو عمل سياسي عقلاني يعرّف النظام القائم وتقترح بديلا عنه.
انتفاضة شعبية على نظام سياسي ضعيف وفاسد
خرجت مدينة البصرة عن سيطرة الحكومة إذ أحرق المتظاهرون عددا كبيرا من المنشآت الحكومية فضلا عن مقرات الأحزاب السياسية والميليشيات العسكرية في صورة رمزية تذكر بمآل ما سمي بـ”العملية السياسية” التي انطلقت قبل عقد ونصف العقد بعد الغزو الأميركي والتي نقلت البلاد من استبداد الحزب الواحد إلى استبداد النخبة الطائفية المهيمنة وفسادها.
لم تندلع التظاهرات في مدينة البصرة بصورة مفاجئة بل تطورت ببطء طوال العام الماضي في كل مدن جنوب العراق. خلال العام 2017 تجاوز عدد التظاهرات 200 تظاهرة احتجت جميعها على ضعف التزويد بالكهرباء والماء وقلة فرص العمل، وطالبت بزيادة الأجور وتطوير البنية التحتية والخدمات العامة.
ومع بداية فصل الربيع لهذا العام 2018، حشدت التظاهرات أعدادا أكثر وتواصلت في جنوب البلاد. حدث التحول النوعي في حجم وعدد التظاهرات في فصل الصيف وتحديدا خلال الشهرين الماضيين حيث لا يمر يوم واحد من دون عدة تظاهرات في أنحاء متفرقة من البلاد، وصولاً إلى اليوم الذي شهد انتفاضة شعبية عارمة في مدينة البصرة.
لم يشكل تزايد أعداد التظاهرات في فصل الصيف مفاجأة بحد ذاته، إذ يحدث ذلك في كل عام حيث يزيد حر الصيف الشديد من آلام العراقيين ومن إحباطهم من حقيقة مرور عقد ونصف العقد من الفشل التنموي للبلاد. الجديد هو حدة غير مسبوقة لتلك التظاهرات وغياب الاستقطاب الطائفي ومهاجمة الطبقة السياسية وليس الحكومة العراقية فقط. يعبر ذلك عن فقدان الأمل في قدرة تلك الطبقة على تحقيق أي تقدم اقتصادي وخدماتي وفقدان الثقة بالنظام السياسي بصورة عامة.
كان السقوط اليسير لنظام صدام حسين بعد نحو شهر على بدء الهجوم العسكري الأميركي دافعاً للتفاؤل من قبل حكام العراق الجدد، وهم في ذلك الوقت خليط من قوى الاحتلال وطبقة سياسية طائفية كانت منفية خارج البلاد وعادت على ظهر الدبابة الأميركية لتعد العراقيين بمستقبل ديمقراطي مشرق.
الإدارة الأميركية بدورها روجت لمقولة أن حل جميع مشاكل العراق، ومعه كل دول المنطقة، يكمن في إحلال الديمقراطية التي ستحقق، بصورة ما وفي يوم ما، استقراراً سياسياً وتحافظ على السلم الأهلي وتخفف من جاذبية التنظيمات المتطرفة لقاعدة واسعة من الشباب الذي عانى من بطش الأنظمة السلطوية. وفوق كل ذلك روج البعض إلى أن الديمقراطية قادرة على وضع البلاد على المسار الصحيح للنمو الاقتصادي بما يحدث قفزة تنموية تشبه القفزة التي حققتها دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان وماليزيا وبعض دول أميركا اللاتينية.
بالطبع، لم يحدث أي من ذلك في العراق. بل حدث العكس تماما، إذ بعد عقد ونصف العقد على بداية “عهد الديمقراطية” يرزح العراقيون تحت حكم دولة فاشلة وحكومة غارقة بالفساد وعاجزة، أو غير مهتمة، بتقديم الخدمات الأساسية كالكهرباء والصحة والتعليم والماء القابل للشرب، فضلا عن حق العمل. وفوق كل ذلك تنتعش التنظيمات الجهادية في العراق الذي خرج للتو من معركة طويلة معها كلفته خسائر بشرية ومادية هائلة وزيادة في حدة الانقسام الأهلي وتعميقاً للنفوذ الأجنبي الأميركي والإيراني في البلاد.
انطلاقاً من ذلك شعر المواطنون العراقيون، وخاصة أولئك الذين دعموا تغيير نظام صدام حسين حالمين بنظام سياسي ديمقراطي وعادل، شعروا بالاغتراب عن النظام السياسي القائم. تحققت الديمقراطية ولم تتحقق أي من أحلامنا، يردد العراقيون الغاضبون. أدرك العراقيون فساد الأحزاب السياسية ولكنهم أدركوا أيضاً فساد النظام السياسي نفسه، وعدم قدرته على نقل العراق من مرحلة الضعف الاقتصادي والتفتت الأهلي، إلى مرحلة يكون فيها العراق بلداً متطورا يقدم الحاجات الأساسية لمواطنيه.
يفترض أن تكون الديمقراطية وسيلة لإنجاز تعاقب سلمي للحكومات التي تعمل على خدمة المواطنين ضمن منظور اقتصادي اجتماعي عام وتخطيط طويل الأمد. بهذا المعنى تضمن الديمقراطية محاسبة الحكومات واستبدالها بما يخدم الهدف العام المتمثل في التنمية الاقتصادية والسياسية للدولة والمجتمع.
وعندما تفشل الديمقراطية في تحقيق ذلك، لأسباب متعددة منها فشل وفساد النظام السياسي الديمقراطي نفسه، تفقد وظيفتها الرئيسية ومعناها، ولا يبقى من خيار سوى العمل من خارج النظام السياسي. بهذا الشكل تحدث الثورات والانتفاضات الشعبية عبر التاريخ سواء في الأنظمة السلطوية أو الديمقراطية. إفقار شديد ومتواصل للطبقات الشعبية وعجزها عن تأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة لها ولأبنائها، وتوصلها لقناعة باستحالة الإصلاح من داخل النظام السياسي تدفعها إلى الثورة على ذلك النظام. فهل ما نشهده في العراق اليوم هو ثورة؟
إنها انتفاضة شعبية على نظام سياسي ضعيف وفاسد، ولكن احتمالات نجاحها ضئيلة نسبياً بسبب طبيعة ذلك النظام بالذات. إنها مفارقة بكل تأكيد، حيث يتسبب ضعف الدولة وتوزع مراكز القوة بعجزها عن قيادة عملية تنموية ذات معنى وبغضب المواطنين من جهة، ولكنه في نفس الوقت يحميها من خطر “الإسقاط” من قبل الجماهير المنتفضة بسبب عدم وجود مركز سياسي يستقبل نقمة الجماهير. في الماضي كان من السهل توجيه أصابع الاتهام لشخص مستبد هو صدام حسين واقتلاعه من السلطة، أو إلى أيديولوجيا الدولة البعثية واجتثاثها، ولكن ذلك غير متاح اليوم.
يبدو النظام العراقي الحالي ضعيفاً ومنقسماً على نفسه، ولكنه قد يستطيع التعامل مع التحديات الشعبية بصورة أفضل حتى من أكثر الأنظمة تسلطاً ومركزية. إن قوة هذا النظام في ضعفه، وبالتالي فإن على جموع العراقيين أن تتجاوز غضبها المحض نحو عمل سياسي عقلاني يعرّف النظام القائم ويقترح بديلا عنه.
2 إحراق أوراق المشروع الإيراني في البصرة
حامد الكيلاني
العرب بريطانيا
بعد خراب العراق، أليس من حق الشعب أن يطالب بإسقاط العملية السياسية للاحتلال بعد بيع أشلاء المدن العراقية كما تباع اليوم المناصب والمقاعد البرلمانية في السوق السوداء؟
الميليشيات لم تولد بقرار عراقي، فالولادة إيرانية
السفير الإيراني المقيم في بغداد إيرج مسجدي يطالب حكومة العراق بالاحتجاج بشدة على العقوبات الأميركية المفروضة على بلاده؛ والسفير أو المندوب السامي الإيراني غير المقيم في بغداد يتجول بمهمات سياسية وعسكرية وتنسيقية وإدارية بالإشراف على سير عمليات الحرس الثوري في العراق وسوريا، أو ليتابع، عن قرب، أنشطة ميليشياته في دول أخرى.
وجميع هذه الميليشيات لم تسعفه في إخفاء أعراض الشلل الرعاشي، بعد تجدد العقوبات إثر الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، حيث بدت قبضة النظام تعاني من فقدان للأعصاب واختلاط في السلوك والتصريحات والمواقف والإجراءات، في توقيت حرج ومضغوط ومكشوف جداً للمواطن في إيران.
مزدوجو العمالة والخيانة من عملاء ملالي طهران يعترفون، بفخر، أثناء عرضهم لسيرهم الفكرية والنضالية، بعدم انسجامهم مع الثقافة والفنون والآداب المترسخة كتقاليد حياة في مدن العراق ومنها المدن الكبرى، كالعاصمة بغداد والموصل والبصرة، بل إن بعضهم يستذكر مساهماته متطوعاً في التخريب وحرق المؤسسات في زمن الاستقرار والسلم أو في زمن الحرب.
هذه النماذج في أعماقها تلتقي مع تنظيم داعش ومع أي تنظيم إرهابي كتنظيم دولة الفقيه في إيران؛ وانتماؤها صرف غير مشكوك به والتزامها مبدئي بثوابت محاربة الأعراف الحضارية للمجتمع الناهض بقوة في منتصف السبعينات من القرن الماضي، حيث حملات محو الأمية بين الفلاحين وفي قراهم أو بين العمال في مصانعهم، أو في متابعة وإلحاق ربات البيوت من النساء بالمدارس دون الالتفات إلى أعمارهن.
في وحدتي العسكرية وأثناء ضراوة الحرب مع إيران كنت قريباً من تلك الحملة لتعليم الجنود مبادئ القراءة والكتابة ضمن منهج المرحلة الابتدائية، والتي ساعدت آلاف المتلهفين من الذين فاتتهم فرصة الالتحاق بالمدارس لنيل الشهادات وتكملة تحصيلهم، وبعضهم أكمل دراساته العليا فيما بعد، أو تدرج في مجال عمله، ومن كان متطوعاً في الجيش انتقل إلى رتب أعلى وأصبح ضابطاً في خدمة المؤسسة العسكرية للعراق.
فترة النهوض، كان فيها حكام عراق ما بعد الاحتلال من أكثر المستفيدين من مجانية التحصيل العلمي حتى في الجامعات، ومنهم من تم ابتعاثه إلى الخارج على نفقة الدولة لإكمال دراسته، مع مراحل التدريب في مراكز هندسية وطبية وتكنولوجية متقدمة؛ كان بعض هؤلاء من بين أدوات المستقبل لإنجاز طفرة عراقية في التنمية.
لكن علامات التراجع برزت في العراق مع مجيء الخميني للسلطة في طهران، وبدء تصدير المشروع الطائفي للثورة الإيرانية الذي وضع يده على تلك الزمرة من الذين أغدق عليهم العراق ثرواته وخيراته وتاريخه، وأيضاً رغبته في تأسيس نواة لدولة حقيقية تضيء على ما لأمتنا العربية من طاقات كامنة ودور حضاري إنساني.
تلك الحفنة مجبولة على الجهل والتجاهل رغم ما تحصلت عليه من فرص للدراسة والسفر والعيش الكريم، لأنها أثبتت تمسكها بنتاجها في مراحل قصر النظر الشديد بخيانة الوطن تحت مفاهيم الولاء للمرجع أو العقيدة، والتي تجسدت بالمحاصصة الطائفية أثناء استلامهم للسلطة بعد الاحتلال.
مصيبة حكام العراق اليوم وأحزابهم وميليشياتهم هي في تجاوز الحدود الوطنية واستثمارها في “خيانة مشروعة” لضرب العراق والأمة، وأحياناً الضرب ببعض المراجع الدينية العراقية أو حتى جميعهم، حسب الحاجة، عرض الحائط أو توريطهم بمهمات خارجية على حساب هيبتهم ومكانتهم بين الملايين من مقلديهم، بما تسبب في انخفاض مناسيب الولاء الحاسمة لهم، من خلال التظاهرات، عند شباب لا يمكن بعد الآن خداعه بطقوس أو إرشادات دينية للمزيد من الصبر الاستراتيجي على حكم الطائفة.
ثورة البصرة، ثورة ملل على بصرة بلا حياة وبلا عمل أو تخطيط. مدينة تصبّ فيها كل مياه العراق وتصب فيه النفط والثروات؛ البصرة يراد لها أن تكون إيرانية في مصيرها وثرواتها؛ هل قررت إيران ضمها نهائياً إلى عبادان والمحمرة، ولو من الباطن، بالاتفاق مع عملائها مقابل رفع اليد عن ممنوعات استلام السلطة أو تسامح ميليشيات حرسها الثوري في تقبل الانتقال الديمقراطي السلمي في الدورة البرلمانية، وتشكيل الكتلة الأكبر على مقاسات المنافع والتراضي الطائفي والمصالح الإيرانية في مرحلة العقوبات.
الهرولة نحو إلقاء موعظة التقصير في الأداء الحكومي بإطلاق الأموال والتخصيصات لإدارة المشاريع المائية والخدمية وإيجاد المعالجات اللاهثة “لقمع الاحتجاجات” هي إرادة إيرانية وتلاعب بالأزمات ومصائب شعبنا، وتحويل معاناته إلى تكتيك سياسي في قبضة الولي الفقيه، المرتعشة في طهران. تكتيك تستخدمه في الإرهاب والاقتصاد والسياسة لتمكين أدواتها بطلائهم حسب الرغبة إلى حين ميسرة.
الاحتلال ليس تقصيراً في الخدمات وأداء الموظفين والإداريين، ومصيبة العراق أنه ابتلي باحتلاليْن وحاله يشبه ما تعرض له الأسير العراقي من شد لذراعيه في عجلتين عسكريتين إيرانيتين، تحركت كل منهما باتجاه لتنتزع منه الحياة بانتقام ووحشية أثناء حرب الثمانينات.
الاحتلال فكرة استعباد وتبعية مطلقة، لن ينجو معها العملاء بمناقلة مبرراتهم أو غضبهم أو ما يعتصر قلب نوري المالكي من ألم على البصرة، وربما على الموصل الحدباء التي لم تعد تنفعهم بعد في تمرير كراهيتهم وأهداف مشروعهم الإيراني.
هل تقرر تهجير سكان البصرة مع تهريب المخدرات واستغلال النفط وتحويل الموارد المائية في الروافد إلى الداخل الإيراني؟ لماذا الإصرار الإيراني على تقريع سلطتهم في العراق على تراجع منسوب المياه في حوض الأهوار المشترك؟ ماذا وراء تصاعد المطالبة بتعويضات الحرب وربطها بالخسائر البيئية؟
ولماذا لم يطالب أي زعيم ميليشيا أو حزب، من الذين أُحرقت مقراتهم، النظام الإيراني بإعادة الجريان الطبيعي ولو لنهر واحد إلى شط العرب لدفع اللسان الملحي الذي فشلت حكومات حزب الدعوة في إيجاد حل يمكن أن يوفره بناء سد في مقتربات المياه العذبة لمنع اختلاط المياه المالحة بمياه شط العرب، واعتبار حوض النهر بأعماقه وامتداداته حوضاً للخزن وبيئة صالحة لإعادة الثروات السمكية إليه، وهو ما تطالب به تركيا في مباحثاتها مع الجانب العراقي لتقليل نسبة هدر المياه العذبة في الخليج، كأحد تبريراتها لقلة الإطلاقات المائية.
المعالجات الفنية ممكنة وعملية، والخبرات العالمية المختصة لا تبخل بدراسات معمقة وحلول فنية تبادلية بين احتجاز المياه ومنع اختلاطها مع المياه المالحة، إضافة إلى إطلاق الفائض أو ربطه بروافد طبيعية أو صناعية داخل العراق.
حرب الميليشيات في البرلمان للاستحواذ على السلطة، والتهديدات المتقابلة لإنصاف أهل البصرة أو إسقاط الحكومة التالية خلال أشهر؛ لن تمنع الحقائق من أن تحفر مجرى لها تصفع به كل من يندد بالميليشيات ودورها، في حين كان هو من يحميها أو يلتف على حماية جزء منها ومازال، لأن الميليشيات لم تولد بقرار عراقي، فالولادة إيرانية ومن تعهدها هو الولي الفقيه بالتربية والرعاية والتمويل. بعد خراب العراق، أليس من حق الشعب أن يطالب بإسقاط العملية السياسية بعد بيع أشلاء المدن العراقية كما تباع المناصب والمقاعد في السوق السوداء؟
3 العراق وغياب ثقافة المعارضة د. محمد عاكف جمال البيان الاماراتية
أصبحت منطقة الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مسرحاً لشتى أنواع الصراعات السياسية والدينية والطائفية والثقافية التي تهدأ أحياناً وتلتهب أحياناً أخرى بدرجات متفاوتة لأسباب محلية وأخرى خارجية.
ولأهمية المنطقة جغرافياً واقتصادياً حظيت السياسات المتقلبة لدولها باهتمام الأسرة الدولية وقلقها في الوقت نفسه خاصة بعد أن تحولت في السنوات الأخيرة إلى مرتع للإرهاب الذي لم تقتصر آثاره المدمرة على شعوبها بل تجاوز ذلك إلى مناطق عدة من العالم مما ضاعف الاهتمام بالثقافات السائدة في المنطقة .
وبالجذور التاريخية للتعقيدات الظاهرة والكامنة لمجتمعاتها. إلا أن معظم الدراسات التي صدرت عن مختصين وعن مراكز البحوث حول ذلك اقتصرت إلى حد بعيد على تسليط الضوء على الأحداث وعلى القيادات التي صنعت سياسات الشرق الأوسط منذ البدايات الأولى من القرن العشرين من منظور ما تتسم به هذه المنطقة من تشنجات تبرر ميل شعوبها لتقبل حكومات مركزية قوية غالباً ما تكون استبدادية.
هذه الدراسات عدا ما صدر منها في الآونة الأخيرة لم تعر لقوى المعارضة سوى القليل من الاهتمام متجاهلة بشكل ملحوظ التطرق إلى دورها في صناعة خزين الرفض للأوضاع القائمة الذي سيعمل لاحقاً على تقويض الاستقرار ونشر الفوضى في المنطقة وتعريض دولها وشعوبها لشتى أنواع المخاطر.
ولعل ما يدعو للدهشة في سياق الصحوة التي نشهدها أن يدعو سياسيون عراقيون مخضرمون ممن خبروا الواقع العراقي، في غمرة المناظرات الدائرة حول أزمة تشكيل الحكومة وتفادي تفاقمها، إلى إعادة العمل بمبدأ التوافق وتشكيلها بحيث تضم جميع الكيانات الفائزة في الانتخابات بحجة «عدم توافر أو اكتمال ثقافة المعارضة الآن ولا حتى في المنظور القريب نتيجة الظروف والتحديات التي يعيشها العراق».
والحقيقة أن من الصعب الاقتناع بجدية الحديث عن إقامة نظام ديمقراطي حقيقي في العراق مع تجذر ثقافة الاستهانة بالرأي الآخر لدى سياسيين بارزين فيه.
هذه الدعوة تتطلب بعض التوقف عند مَهمات المعارضة البرلمانية التي لا تتجاوز التشكيك برجاحة السياسات التي تنتهجها الحكومة وكشف ما تتستر عليه ومساءلتها أمام الجمهور وليس بالضرورة السعي للإطاحة بها، فالمعارضة تحت قبة البرلمان وسيلة لتنفيس الأزمات والحد من تفاقمها عند انتقالها إلى الشارع وأداة لتقويم سياسات الحكومة حتى لو كانت هذه المعارضة صغيرة الحجم غير قادرة على تشكيل تهديد جدي لها.
أما حين تكون المعارضة كبيرة الحجم ومن لون واحد تصبح بمثابة حكومة بديلة أو حكومة ظل تتحدى سياسات الحكومة القائمة وتضع بدائل مختلفة حيثما كان ذلك مناسباً .
كما هو الحال في عدد من الدول الغربية كبريطانيا والولايات المتحدة. المعارضة ليست مجرد جهة تعمل على مناكفة الحكومة وخلق المتاعب لها، فهناك مناسبات تتفق فيها مع الحكومة حين تكون السياسات المعتمدة في بعض القضايا مدعومة على نطاق واسع وقائمة على أسس سليمة.
هناك ما هو غريب حقاً في أجواء مجلس النواب العراقي، فعلى مدى ثلاث دورات انتخابية لم نشهد موقفاً يطرح فيه أسئلة اعتراضية على السياسات المتبعة أو القرارات المتخذة علماً أننا شهدنا على مدار سنين هذه الدورات تظاهرات واعتصامات احتجاجية في مختلف المدن العراقية لها مطالب مشروعة، قمع بعضها بما لا يتفق مع ما ورد في الدستور من حقوق للتظاهر.
وهذا يطرح سؤالاً مهماً: أليس لهؤلاء المتظاهرين الذين تبلغ أعدادهم عشرات وربما مئات الألوف صوت أو أصوات تمثلهم في مجلس النواب؟
لا أحد ينفي حقيقة ضعف ثقافة المعارضة في الوسط السياسي، فهناك قناعة لدى قطاعات واسعة من المجتمع بعدم نضج التجربة الديمقراطية أصلاً، لأن نظام التوافق السياسي القائم لم يسمح بممارستها بشكل صحيح على مدى الخمس عشرة سنة المنصرمة. إلا أن هذه الإعاقة لا تبرر الاستهانة بها وعدم فسح المجال لها لممارسة دورها، إذ كيف يمكن إنضاجها من غير أن تتاح الفرصة لحضورها سياسياً لأداء دورها.
إن عدم وجود معارضة داخل قبة البرلمان لا يعني عدم وجودها في مكان آخر فهي تهدر بصوت مرتفع في شوارع المدن وساحاتها، ففي معظم الدول الديمقراطية قلما نشهد تظاهرات تنظمها المعارضة لأن أصوات ممثليها ترتفع بشدة في البرلمان نفسه.
4 التدهور البيئي في العراق د. جيهان بابان الشرق الاوسط بريطانيا
في العالم تعد موضوعاً أساسياً يستقطب اهتماماً واسعاً، فقد أصبحت تحدياتها وذيولها الآنيّة ملحّة في العراق، كما يحدث اليوم في مدينة البصرة حيث أُصيب آلاف المواطنين بإصابات معوية نتيجة التلوث المائي بالنفايات الكيميائية والنفطية والبيولوجية.
وهناك العديد من المسببات التي تؤثر في سلامة الماء والهواء والتربة ولها انعكاسات مباشرة على صحة المواطن العراقي. وليس هذا أمراً خفياً، فقد أصدر العديد من المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية واليونيسكو والمنظمة الدولية للغذاء، تقارير تسلّط الضوء على جوانب التدهور البيئي في العراق، وعلى أهمية وحيوية وضرورة أن تقوم الجهات الحكومية العراقية المسؤولة بالاستجابة لهذه التغيرات البيئية بشكل فاعل متناسق بين المؤسسات العراقية ذات العلاقة، وتوعية المواطن العراقي عبر برنامج توعية مجتمعية يبدأ من الأسرة والمدرسة في سياق نشاط مجتمعي واسع.
إن تحقيق مهمة الحفاظ على البيئة كي تكون آمنة وسليمة وخضراء وتتسع للجميع، هو حق من حقوق الإنسان في العراق، وتهمّ الجميع حكومةً وشعباً وحتى الأجيال القادمة.
أحد هذه التقارير الصادرة حديثاً دراسة بدعم من المؤسسة البريطانية الحكومية (DFID) وتتناول أهم الظواهر البيئية في العراق. وقد اعتمدت الدراسة على مصادر رصينة منشورة داخل العراق وخارجه وأيضاً على شهادات من مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات مهتمة بالبيئة العراقية مثل جمعية البيئة والصحة العراقية في المملكة المتحدة و«PAX» و«UNEP». وكانت هذه موضوع محاضرة ألقيتها في المركز الأنكلوعراقي في لندن في 25 أغسطس (آب) الماضي، والتي كانت ذات طابع تقييمي قدمتُ فيها إضافات لمعالجة النواقص التي تعاني منها الدراسة، خصوصاً مع عدم وجود حلول ومعالجات لأنها ركزت على وصف مظاهر التدهور البيئي في العراق.
وتناولت الدراسة محاور مهمة هي: التغير المناخي، والجفاف، والموارد المائية، ومخاطر شح المياه، وإدارة الموارد المائية، والملوحة، والمياه الجوفية، وفقدان التنوع الأحيائي، وأهوار العراق، والتلوث البحري، والتلوث نتيجة النزاعات، والمواقع الملوثة والمواقع الخطرة في العراق، والتلوث نتيجة احتراق الآبار وتوسع القطاع النفطي، والأنقاض والنفايات، واستخدام الماء كسلاح. وسأستعرض المهم منها.
إذا بدأنا بالتغير المناخي وتأثيره على البيئة، نجد أن منطقة الشرق الأوسط هي أكثر منطقة في العالم تأثراً بالاحتباس الحراري، ما يؤدي إلى زيادة معدلات درجات الحرارة وانخفاض سقوط الأمطار وزيادة نسبة الجفاف والتصحر التي أثرت سلباً على الأمن البيئي والمائي والغذائي والاقتصادي. وأشار تقرير البنك الدولي في 2017 إلى أن العراق أكثر البلدان تأثراً بالتغير المناخي من بقية دول الشرق الأوسط، فمثلاً سجلت درجات الحرارة أرقاماً قياسية واعتُبرت الأعلى في العالم خصوصاً في البصرة والمثنى وذي قار. وقد شهد العراق موجتين كبيرتين من الجفاف في عامي (1998 – 1999) وفي (2007 – 2008) خصوصاً في مناطق وسط وجنوب وغرب العراق.
وكان المحور الثاني يتعلق بشحّ المياه الذي وصل في العراق إلى حالة غير مسبوقة. مائياً يعتمد العراق بالدرجة الأولى على مياه الأمطار والمياه السطحية، أي نهري دجلة والفرات وروافدهما ونهر شط العرب والمياه الجوفية. وأدت سياسات دول الجوار في بناء مشاريع عملاقة من السدود لري مناطق زراعية واسعة ولتوليد الكهرباء التي كانت بشكل انفرادي من دون تنسيق وتعاون مع الدول المتشاطئة، إلى تقليص نسبة المياه التي تصل إلى العراق وأدت إلى انخفاض حاد في معدلات المياه في نهري دجلة والفرات وشط العرب وتصاعُد غير مسبوق في مستوى الملوحة في شط العرب.
هذا هو وضع العراق الحالي الذي كان في العهود السابقة جزءاً من منطقة الهلال الخصيب وسلة غذاء العالم والآن يعاني من الجفاف والتصحر وتقلص الأراضي الزراعية الصالحة وعرضة للعواصف الترابية، وأصبحت البصرة والمحافظات الجنوبية تغلب عليها المناطق الجرداء بسبب موت النخيل وانعدام الغطاء النباتي في الأرض والتجريف الجائر للبساتين والنخيل. وضاعف المشكلة التلوث الكيميائي والجرثومي للمياه نتيجة رمي النفايات المنزلية والمخلفات الصناعية في الأنهار وعدم تصفية وتنقية المياه.
لقد كُتب الكثير عن المعالجات الممكنة لهذه التحديات وعن إهمال الحكومات السابقة والحالية لتنظيف وصيانة القنوات والمبازل، وتحديث منظومة وطرق الري واستخدام طرق ري حديثة، ومراقبة ومحاسبة ظاهرة رمي النفايات والملوثات في الأنهار.
وكان المحور الثالث المرتبط بالثاني هو التدهور الكبير في التنوع الأحيائي نتيجة عدم وجود مياه كافية في الأهوار، والصيد الجائر وغير القانوني للحيوانات خصوصاً المهددة بالانقراض والطيور المهاجرة.
وكذلك إدخال أنواع من النباتات ذات الطبيعة العدائية التي تتكاثر وتغطي على المناطق التي تستوطن التنوع الأحيائي العراقي. وقد تقلصت مساحات الأهوار بشكل متسارع بسبب قلة المياه الواردة إليها.
وأعطى التقرير اهتماماً خاصاً لتأثير النزاعات المسلحة لجرائم عصابات «داعش» الإرهابية بشكل خاص وأيضاً نتيجة الجهد العسكري لاستعادة المناطق المحررة. لقد كانت البيئة العراقية الضحية الصامتة لعصابات «داعش» التي استهدفت آبار النفط والسدود واتبعت سياسة الأرض المحروقة وتخريب منظم للبيئة كحرق آبار النفط في القيارة ومصنع الكبريت في المشراق ومصفاة بيجي، وأيضاً إقامة مصافٍ نفطية بدائية، وتهريب النفط بشكل مستمر لغرض جلب موارد مالية لتمويل نشاطاتها الإرهابية. كما تركت أيضاً ملايين الأطنان من الأنقاض في المناطق المحررة.
أما على صعيد المعالجات والحلول التي اقترحتها فهي:
إيجاد جهاز إداري ومؤسساتي فاعل يجمع وينسق بين ذوي العلاقة بجهد منظم يهدف إلى تطبيق الاستراتيجيات مع تحديد واضح للموارد البشرية والمالية المطلوبة وتوفيرها، ويتماهى مع متطلبات التنمية المستدامة الخضراء، مثل مشاريع توفير الطاقة الشمسية وبناء محطات لإنتاج الطاقة الشمسية وتوليد الكهرباء واستخدامها في تحلية المياه وربطها بالشبكة الوطنية للكهرباء. وأيضاً تطوير مؤسسة لمراقبة التلوث، وإقرار سياسات للمعالجة الفعالة، منها منع التلوث البيولوجي والجرثومي والكيماوي كنفايات المعامل أو استخدام البنزين الذي يحتوي على الرصاص، والتقليل من انتشار المركبات العضوية والغبار نتيجة وسائط النقل والمولدات الكهربائية الأهلية والخلل في التعامل مع مياه الصرف الصحي وتنقية المياه ومنع النفايات بشكل عام والصحية منها بشكل خاص.
ومن المهمات الأخرى إجراء مسوحات وبفترات زمنية محددة للماء والهواء والتربة خصوصاً في المواقع التي توجد فيها آليات عسكرية، وتوفير الأجهزة الحديثة، ورسم سياقات لمعالجة مصادر التلوث الإشعاعي وتبعاتها الصحية على المواطن العراقي.
5 عن اللاعب الكردي في بغداد شيرزاد اليزيدي الحياة السعودية
يستعيد اللاعب الكردي لياقته وتأثيره الوازن في معادلات العراق الداخلية باستطالاتها الإقليمية والدولية، بعدما كان قد تراجع دوره عموماً لا سيما مع غياب الرئيس الراحل مام جلال طالباني عن المشهد، والذي كان ضابط إيقاع ذاك الدور. لكن مع الاستفتاء قبل نحو عام، هبطت أسهم الكرد بما لا يقاس وباتوا في وضع عصيب، بفعل السياسات الأحادية للحزب الديموقراطي الكردستاني ولشخص رئيسه السيد مسعود بارزاني، إلى درجة أن الكيان الفيديرالي والتجربة الديموقراطية الكرديين في العراق باتا على المحك يواجهان خطر التقويض. مع انتخابات ١٢ أيار (مايو) الماضي العامة في العراق برز الانقسام الكبير في البيت الشيعي على أشده وانعكس تعدداً في الكتل الكبيرة والمتقاربة الأحجام، كـ «سائرون» و «الفتح» و «النصر» و «دولة القانون». فنحن والحال هذه حيال تشرذم واسع كي لا نقول إنّه تشظٍ سياسي شيعي مبرم لا تخطئه عين، ما شكّل مناسبة للاعب الكردي للمناورة والمفاضلة وممارسة دور بيضة القبان، وهو ما لطالما ميزه في مختلف محطات الصيرورة الديموقراطية في بلاد الرافدين بعد سقوط النظام البعثي. ولعل الموقف الكردي الموحد عبر الوفد المشترك للحزبين الرئيسين، الاتحاد الوطني والديموقراطي الكردستانيين، للتفاوض مع مختلف الكتل في بغداد وتوالي زيارات الكتل الكبيرة العربية سنيّها وشيعيّها لكردستان، يشكل إشارة قوية إلى عودة الروح للدور الكردي المحوري، ما يسهم في إعادة تصويب العملية السياسية برمتها ووضعها على سكتها الصحيحة. فليس سراً أن العراق هو في وضعية مكانك راوح منذ سقوط نظام صدام، إذ لا تحولات بنيوية كبرى للقطع مع الماضي الاستبدادي ولترسيخ الوعي والممارسة الديموقراطيين التوافقيين في شكل ناجز ومؤسساتي. الكرد بوقوفهم في الوسط ازاء الكتلتين الشيعيتين الكبريين «سائرون» وخلفها «النصر» و «الفتح» وخلفها «دولة القانون»، أو ازاء الكتل السنية والمختلطة كما كتلة «الوطنية»، يمكنهم مجدداً تبوء صدارة العمل الديموقراطي كحالهم إبان زمن المعارضة العراقية لنظام صدام البائد ومع بدايات التأسيس لعراق ما بعد البعث وحتى غياب طالباني عن المشهد بفعل المرض. فلا يخفى بالتالي أن الكرد ساهموا بكل ثقلهم في وضع مداميك العراق الجديد وسن دستوره وتشييد نظامه الديموقراطي الفيديرالي، وهي فرصة كي يعودوا إلى ممارسة دورهم بما يخدم مصلحة العراقيين ككل بمختلف شعوبهم وانتماءاتهم. فالعراق بعد كل حساب يبقى البلد الوحيد من بين الدول المقتسمة لكردستان الذي اعتمد مقاربة حل ديموقراطي دستوري للقضية الكردية، ومن الأهمية الوجودية المحافظة على هذا المنجز وتطويره بما يخدم الطرفين العربي والكردي في العراق والمنطقة ككل.
ولا شك أن الكتلة التي تتبنى الورقة الكردية المقدمة من قبل الحزبين الرئيسين، أو أقله تكون الأقرب منها، تبقى هي الأكثر تأهيلاً وجدارة لبناء حكومة توافقية ديموقراطية تعمل على حل المشكلات الكبرى العاصفة بالبلد، خاصة لجهة فقدان الثقة بين مكوناته. فالمقاربات الدستورية والحقوقية للقضية الكردية وآليات معالجتها والتعاطي معها وفق تلك الميكانزمات هي تعريفاً أس وأساس المعمار الديموقراطي العراقي وتحصينه ضد التصدع والانهيار.
6 معركة العراق الوطنية في مواجهة الصراع الأميركي – الإيراني خالد غزال الحياة السعودية
تدور في العراق معركة سياسية تختلط فيها العوامل الخارجية، خصوصاً منها الصراع الأميركي- الإيراني المحتدم بعد إلغاء الاتفاق النووي، بالعوامل الداخلية الناجمة عن صراعات المكونات السياسية وتفرعاتها الطائفية والمذهبية والإثنية. الخارج يسعى إلى توظيف قوى الداخل في معركته، والداخل لا يبخل في تأمين الممرات والقنوات لفعل الخارج. على رغم هذا التعقيد، تلوح في الأفق عناصر معركة وطنية تسعى إلى إعادة العراق بلداً مستقلاً عربياً.
منذ إسقاط نظام البعث، كان الأميركيون والإيرانيون في تناغم كامل. اجتمع الاثنان على تدمير العراق، جيشاً ومجتمعاً، وأمعنا في نهب ثرواته إلى الحد الأقصى. أفادت إيران من الاحتلال الأميركي في مد نفوذها إلى العراق، مستخدمة العامل المذهبي الضارب على وتر الاضطهاد الشيعي على يد السنة. لم تحسب إيران حساباً للمواطن العراقي، فقدمت نفسها عملياً كأنها سلطة احتلال. حرمت أهل البصرة من المياه، وحرضت المجموعات العراقية ضد بعضها بعضاً، وأنشأت ميليشيات مارست العنف على طريقة «داعش» وأخواته. أفادت من الدعم الأميركي في حربها ضد الإرهاب، الذي كان في جزء كبير منه صنيعتها. تصرفت مع العراق بأنه جزء من إيران وأعلنت بوضوح أن بغداد عاصمة الإمبراطورية الفارسية. هذا المسلك عمّق الصراعات الداخلية، وخلق مناخاً معادياً لطهران عبر عن نفسه بالتظاهرات الداعية لخروجها من البلاد.
شكل العام الحالي مفصلاً في الوضع العراقي، داخلياً وخارجياً. في الداخل أجريت انتخابات نيابية أفرزت كتلاً واسعة مناهضة لطهران، ما دفع القيادة الإيرانية إلى التدخل، ترغيباً وترهيباً. فالانتخابات سينجم عنها تعيين رئيس للوزراء، تريده طهران من الموالين لها. يدور الصراع على الكتلة الأكبر التي منها يخرج رئيس الوزراء. في الآونة الأخيرة، بدأ حيدر العبادي رئيس الوزراء الحالي يبتعد عن النفوذ الإيراني المباشر. أعلن أنه لا يوافق على العقوبات الأميركية على طهران، لكن العراق سيلتزم بها، مما أثار ضده حملة إيرانية وعراقية واتهامه بالعمالة لأميركا. ذهب العبادي بعيداً في الافتراق عن إيران عندما أقال رئيس الحشد الشعبي، وهو الميليشيات الإيرانية الصافية، وعين نفسه رئيساً للحشد.
تريد إيران أن يكون نور المالكي رئيساً للوزراء، وهو الموالي لها ولاء مطلقاً. تضغط على النواب والكتل السياسية لجمع العدد المطلوب لذلك. تتهم الآخرين بالولاء لأميركا. لا تأخذ في الاعتبار أن القسم الأكبر من العراقيين يريد السيادة والاستقلال. فإما أن تكون الكتل موالية لطهران، أو تصبح عميلة للولايات المتحدة الأميركية.
في الجانب الأميركي، لم تتوقف الولايات المتحدة يوماً عن التعاطي مع العراق على أنه بلد يقع في مدارها. لعبت الدور المركزي في الحرب ضد الإرهاب، وما كان لإيران أن تنجح من دون تدخلها. تتواجد قواتها العسكرية في العراق، وتنظر إلى هذا الوجود كحام للنفوذ السياسي. لم تتصادم مع طهران لسنوات مضت، نظراً لعدم تصادم المصالح. كانت تغض الطرف عن النفوذ الإيراني، بل ساهمت في الصراعات الأهلية الطائفية والمذهبية. تلاقت مع إيران على حرمان العراق من استقلاله وسيادته.
بعد إلغاء الاتفاق النووي، تحولت البوصلة الأميركية نحو تركيز الصراع على الموقع الإيراني. اعتبرت واشنطن أن معركتها لتقليص النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، لها محطة مركزية في العراق، ما يعني أن العقوبات المفروضة على طهران لا بد وأن تكون أحد ممراتها بغداد. في المقابل تتصرف طهران على أن العراق أرض يمكن فيها مناوشة الأميركيين وتكبيدهم خسائر. فإيران قادرة على تجييش إرهابيين ووضعهم في مواجهة الجيش الأميركي. وهي أعلنت أخيراً عن إرسال صواريخ باليستية إلى العراق، وهي رسالة لأميركا بأن التهديد الإيراني يمكن أن يطاولها ويطاول حلفاءها في دول الخليج أو في إسرائيل.
المعركة الداخلية على المواقع في السلطة هي في أوجها. في هذا المجال لا بد من التوقف عند موقف الكتل الكردية، التي يمكن لها أن ترجح هذه الكتلة أو تلك. الضغوط الإيرانية والأميركية متساوية. والأكراد في وضع لا يحسدون عليه. من جهة هم مفجوعون بالتخلي الأميركي عنهم عندما ذهبوا بعيداً في طلب الاستقلال، وهم من جهة أخرى خائفون من التسلط الإيراني الذي يمارس القمع ضدهم في إيران، ويحارب أي منحى استقلالي لهم. فهل يغلب الأكراد المصلحة الوطنية العراقية، خصوصاً أنهم ينعمون باستقلال ذاتي، فيما لا تعطيهم إيران أي أمل بتحسين أوضاعهم داخل العراق وخارجه؟.
مما لا شك فيه أن الصراع الأميركي- الإيراني المحتدم الآن، قلّص من موقع أهل العراق من ذوي النزعة الوطنية والاستـــقلالية. وما العجز عن إيجاد الحلول لتكوين السلطة سوى مؤشر غير مشـــجع لمآل المستقبل العراقي. ما جرى في العراق من تدمير مجتمعي يصعب لملمته بسرعة. فاللعب على إثارة النزعات الطائفية والمذهبية يسير في موازاة الصراع الخارجي. ما يعني أن العراق سيمر بمخاض عســير قبل أن تتكون قوى سياسية وطنية عروبية تتجاوز النعرات المذهبية السائدة. فهل يكون الحلم بذلك غير بعيد؟