1 العراق في سلة إيران وكلاهما في بئر العقوبات حامد الكيلاني العرب بريطانيا
من مؤشرات واقع التردي في النظام الإيراني تصريحاته تجاه العراق وهستيريا ميليشياته وتدخله الفاضح في العمل السياسي لحسم العراق كملاذ تجاري آمن ومفتوح.
الغضب الشعبي يتوسع
وصلت الشعوب الإيرانية بعد 40 سنة من حكم الملالي إلى نقطة الانفصال واللاعودة مع النظام.
فالأجواء العامة لمن عاش فترة ما قبل سقوط الشاه، ومجيء سلطة الخميني في فبراير من العام 1979، تعيد للأذهان وللمراقبين ذلك الانجذاب الجماهيري لتشكيل كتلة متراصة وقوية، مادتها المعاناة والمأساة المشتركة، تضاف إليها حاليا قراءة متوفرة عن واقعية ما لحق بالمنطقة من كوارث، كان لولاية الفقيه الدور المكشوف في تداعياتها وانهيار شعوبها.
انتفاضة الفقراء والمهمشين والعاطلين عن العمل، وتضافر غضب التجار معها في بازار طهران الكبير، أكدا أن الخطر يطوّق الجميع دون استثناء، بما سيؤدي حتما إلى تمسك النظام، وهو في طريقه إلى الهاوية، بالشعوب الإيرانية سعيا منه لعرقلة نهايته وإبطائها، ورهانا منه على حجم وتأثير المأزق وإيجابيات ردود الأفعال الدولية بعد تشظي صدمة الانهيار إلى الدول المجاورة.
النظام الإيراني القائم، في كل الأحوال، يمثل قلة من الأسر الإيرانية المتنعمة بالثروات وما تجنيه من الفساد في مؤسسات الدولة.
لسنا بحاجة في العراق لتعداد أوجه الخراب في القيم الاجتماعية ومظاهر التردي الملحقة على التتابع بدرجات التراجع في الاقتصاد وتدهور قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الصعبة.
فخلف إخفاقات السياسة وإدارة الدولة ما يجرح كرامة الأرواح التي جربت آثار الحصار ويسرت لرئيس وزراء العراق حيدر العبادي فرصة تذكير المجتمع الدولي بأن العراقيين جربوا ويلات العقوبات سابقا، في إشارة منه إلى عدم تخلي نظامه عن دعم نظام الملالي في تجزئة تطبيق العقوبات بحجة تفهم شعب العراق لفداحة آثار العقوبات على الشعوب الإيرانية، دون أن يرف له جفن لماضيه ودور حزبه مع عملاء الأحزاب الأخرى في إطالة أمد الحصار على العراقيين.
لم يعد هناك ما يستتر به النظام الإيراني وتابعه في العراق، حتى في انكشاف نيات ما يعتمل في عقليتيهما الظلاميتين من تدابير لتمرير مشروعيهما، أو إطالة عمريهما في السلطة.
امتد الغضب الشعبي في إيران إلى ملاعب كرة القدم في قلب العاصمة طهران ومدن أخرى، ولم تتمكن كل أجهزة الأمن، بعناوينها المتعددة في الحرس الثوري، من تشويه الهتافات والاحتجاجات إلا باللجوء كالمعتاد إلى العنف والهراوات والاستعانة براكبي الدراجات النارية.
الملاعب الرياضية ومعظم التجمعات أصبحت تقلق النظام الإيراني، لأنها بدأت بتغيير حركة الاحتجاجات والمظاهرات والهتافات والإضرابات الشعبية والمسيرات السلمية، إلى التصدي للقمع والمعاملة بالمثل.
السائد اليوم هو تزامن الاعتقالات في إيران، مع اعتقالات للمتظاهرين في العراق، مع ظهور للطائرات السمتية في سماء الاحتجاجات في البصرة مع الغازات المسيلة للدموع وإطلاق للرصاص الحي بكثافة على المتظاهرين، مما أدى إلى استشهاد الشاب حارث برصاصة غادرة مجهولة التوقيت والهوية أثناء التظاهرة أمام حقل غرب القرنة 2.
وهو اغتيال بأصداء فضيحة طالت قوى مكافحة “الشعب” حيث تختلط الإرادات القمعية.
عائلة الشهيد حارث أكدت ومن شهود عيان أن حارث تم اعتقاله ليوم واحد ولم يقتل في التظاهرة، ثم أطلق سراحه في صباح اليوم التالي جثة إلى أهله نتيجة لتهشم الجمجمة.
من أطلق الرصاصة ومتى أطلقت عليه؟ وماذا يجري في المعتقلات؟ ولماذا تقف العشائر على غير عاداتها من مصائب أبنائها رغم أنها في مثل هذه القضايا لا تسكت على دم.
العبادي يتصرف وكأن أجهزته الأمنية والميليشيات، الخاضعة كما يؤكد دائما للقانون ولأوامره فقط، تتصرف وفق دوافعها الآنية الشخصية في أداء واجباتها لردع المتظاهرين، بل إنه كقائد عام للقوات المسلحة يطالب بإجراء التحقيقات لمحاسبة من يصفهم بالمخالفين أو المتجاوزين، بما يعطي الانطباع عن مدى هشاشة القيادات وأيضا عدم مسؤولية الدولة تجاه ما يصدر عنها بحق المواطنين إن كانوا من الشعب أو من المنتسبين مهما تعددت تشكيلاتهم أو فصائلهم.
الإيرانيون في مواجهتهم لعنف إرهاب نظام الملالي، وبتصعيدهم سقف مطالب الشعارات حد إسقاط النظام، إنما يريدون أن يمتلكوا ما يقررون به مصيرهم، قبل أن يقعوا في مصيدة تجربة ذروة الانتهاكات والتخريب في المنطقة.
إعلام الحرس الثوري يعترف بارتفاع نسبة من هم تحت خط الفقر إلى 80 بالمئة خلال سنة 2018 بما يعادل 50 مليون مواطن، كما أن انخفاض العملة تسبب بانخفاض راتب الوظائف قياسا إلى مؤشرات رواتب خط الفقر سابقا في إيران إلى أقل من الثلث منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي.
برزت إلى السطح في إيران، بعد انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي، مثالب الخلافات داخل المؤسسات الحاكمة المشهود لها بالصرامة والولاء المطلق، وذلك بارتفاع النقد حول الإخفاقات دون خوف مع كثرة اللوم بين الأجهزة الأمنية، أما المراتب الصغيرة في الحرس فهي من عامة الناس الذين سقطوا في فخ الفقر والإفلاس، وهم أيضاً على خطى التذمر.
ومن مؤشرات واقع التردي في النظام الإيراني تصريحاته تجاه العراق وهستيريا ميليشياته وتدخله الفاضح في العمل السياسي لحسم العراق كملاذ تجاري آمن ومفتوح من خلال إطلاق تلميحات متسرعة عن زيادة التبادل التجاري، أو بتوريط عملائهم في العراق لإعلاء أصواتهم مع زعماء الميليشيات ضد العقوبات الأميركية، أو بفرض إرادة بنادقهم على الشارع بالاغتيالات أو السرقات، أو ما هو أخطر بكثير في واجبات التهيئة لإطلاق الإرهاب وفسح المجال لكوارث جديدة تخلط الأوراق في العراق والمنطقة بإبعاد بعض القطعات المهنية عن واجباتها بقوة، لإيصال رسائل تحمل فحوى عواقب تطال من يخالف زعماء الميليشيات من السياسيين، حيث بات دور النظام الإيراني مكشوفا بما جرى ويجري في العراق.
مازالت الولايات المتحدة الأميركية تتحدث عن حكومة معتدلة في العراق، وسفيرها يبرئ النظام السياسي من تهمة خرق العقوبات.
إلى أين والحقائق في إيران تتجه إلى إعادة النظر بوحدة شعب العراق وأرضه وبمعالجات وخطط إنقاذ للنظام الإيراني ينبغي الانتباه إليها من قبل حركة الاحتجاجات لتجنب مصيدة إثارة النزعات المذهبية، وهي ورقته المفضلة في مثل هذه الأزمات لإخماد كل صحوة مواطنة لدى أبناء العراق.
بعد سفك الدماء ووصول الشعوب الإيرانية إلى نقطة اللاعودة مع نظام ولاية الفقيه؛ ماذا تبقى لدى العراقيين من بدائل غير توجه العشائر لمركز شرطة لتقديم بلاغ لمحاسبة منتسب يؤدي واجبه الرسمي المكلف به في قمع أو قتل المتظاهرين لحماية لنظام سياسي “مطلوب دم” لكل العراقيين.
نظام يحتمي بنظام سياسي “مطلوب دم” لكل شعوب المنطقة وشعوب العالم.
2 المنديل.. وكيل ابن سعود في البصرة وبغداد عبدالله المدني الايام البحرينية
هو واحد من الشخصيات السياسية والإدارية الهامة التي برزت في حقبة بناء الدولة السعودية الثالثة بسبب علاقته الخاصة بالملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه. وهو في الوقت نفسه أحد الوجوه السياسية البارزة في بواكير ظهور المملكة العراقية على يد مؤسسها الملك فيصل الأول بسبب مكانته العائلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في جنوب العراق. وبهاتين الصفتين استطاع أن ينسج الكثير من الخيوط ويشارك في العديد من الاتفاقيات ما بين العرب والاتراك العثمانيين والإنجليز، ولاسيما اتفاقية الصبيحة (1914) بين سلطان نجد والشيخ مبارك الصباح والأتراك، واتفاقية العقير (1922) بين الملك عبدالعزيز والبريطانيين برئاسة «برسي كوكس» والعراقيين برئاسة «صبيح نشأت».
كتب عنه الرحالة الأمريكي من أصل لبناني أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب (الجزء الثاني ص 360 فقال: «هو حر الكلمة، سديد الرأي، يخلص الودّ لآل سعود وخصوصاً للسلطان عبدالعزيز، ويخلص العمل لوطنه الثاني العراق». ثم قال عنه في هامش الصفحة 38 أنه «صديق السلطان الحميم ووكيلهُ في العراق وهو نجدي الأصل عراقي الإقامة ولا يزال للبداوة أثر في حديثهِ وفي سلوكهِ الحر».
ووصفته عالمة الآثار البريطانية «مس غيرترود بيلGertrude Bell» التي عملت مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق «بيرسي كوكس» في عشرينات القرن الماضي بالتاجر الكبير والشخصية الأقوى في البصرة بعد رحيل السيد طالب النقيب والشخص ذي الملامح الدقيقة البديعة من تلك التي يتسم بها عرب قلب الجزيرة العربية.
وقال عنه المؤرخ محمد بن عبدالرزاق القشعمي في ص 123 من كتابه «معتمدو الملك عبدالعزيز ووكلاؤه في الخارج» الصادر في 2015 إن الله ميزه «بالحكمة والكياسة والفطنة مما أهله لأن يكون وسيطاً في أكثر من مؤتمر، ولأن يكون محاوراً محنكاً ومفاوضاً أريباً ومستشاراً أميناً».
وخصّه الشاعر العراقي الشهير «معروف الرصافي» بقصيدة تطرق فيها إلى خصلتين من أهم خصاله وهما الحكمة والصدق فأنشد:
عبداللطيف بفضله جعل الورى
أسرى مكارم أســــــرة المنديل
حر الضمير مؤيـــــــــدٌ بفطانة
يرمي برأي في الأمور أصيـــل
إن قال حقاً قاله بصراحـــــــــة
لم يخش لومــة لائم وعـــــذول
كما وصفه الرصافي بقوله: «وجه تنبعث منه الوجاهة، أسمر اللون، خفيف اللحية، صلت الجبين، يرسل إليك من عينيه نظرات تنبعث عن ذكاء متوقد، وفطنة لامعة».
أما الباحث الكويتي يعقوب يوسف الإبراهيم فقد تحدث في مقال له بجريدة الشرق الأوسط (26/2/2005) عن قصره الشهير المعروف ببيت الباشا على شط العرب والذي بناه في عام 1925 وتوفي فيه، فقال ما مفاده أنه تحفة معمارية نفيسة جسدت الطابع التراثي المعماري للبصرة وامتزجت فيها الفنون الهندية والفارسية والتركية من الخارج والفنون الأوروبية من الداخل، وأن صاحبه زوده بأحواض الاستحمام (البانيو) وثريات الكريستال وخزائن الكتب والملابس من الخشب المحفور الفاخر، وبلط أرضياته بالمرمر الأبيض والأسود ثم فرشها بالسجاد العجمي الفاخر.
وقريبا من هذا كتب السير «رونالد ستورس» Ronald Stor في الصفحة 281 من مذكراته التي صدرت عن المركز القومي للترجمة بمصر تحت عنوان «توجهات بريطانية ــ شرقية» (تعريب رؤوف عباس) ما مفاده أنه أثناء زيارته للبصرة سنة 1917 زاره، فوجد «بيته أكبر وأحسن من بيت الشيخ الإبراهيم، وهو أعلى بيت رأيته في تلك الناحية، ينتمي إلى الطراز العربي لأواخر القرن التاسع عشر». ثم وصفه السير ستورس فقال: «هو رجل طويل القامة، يضع الكوفية والعقال على رأسه، شأنه ــ في ذلك ــ شأن الشيخ الإبراهيم، ولكنه يرتدي قفطانا من الحرير الفارسي، مطرزا، أبيض اللون، ويدخن النرجيلة، وقدم لنا قهوة جيدة، ويدرس ولده وبعض أقاربه في الكلية الأمريكية ببيروت، ولم يسمع شيئا عنهم منذ بداية الحرب، فعرضتُ عليه أن أتولى الاستعلام عنهم عن طريق القائم بالأعمال الأمريكي بالقاهرة (الوزير المفوض السويسري في نفس الوقت)».
ذلكم هو عبداللطيف باشا المنديل، الشخصية التي تجد اسمها حاضرة في كل الأدبيات التي كتبت عن الحياة الاجتماعية والسياسية في ولاية البصرة قبل قرن من الزمان، بل تجدها حاضرة أيضا في التاريخ الحديث للبلاد المجاورة للبصرة بحكم تداخل الأحداث وتشابك العلاقات والمصالح.
ولد عبداللطيف بن إبراهيم بن فوزان بن منديل بن فوزان بن محمد بن عبدالله بن إبراهيم بن تركي بن حماد بن خميس بن عامر بن بدران لأسرة من البدارين من قبيلة الدواسر التي تعود إلى تنوخ ويعرب بن قحطان (طالع مجلة الدارة، العدد الثاني، 1430 للهجرة ص 126)
وقد نشأت أسرته «في بلدة» جلاجل «من إقليم سدير بشمال الرياض، طبقاً لعلامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر في كتابه «جمهرة الأسر المتحضرة في نجد»(الطبعة الأولى ــ الجزء الثاني ــ ص 874)، حينما قال:«آل منديل في جلاجل، من الدواسر». وهم أبناء عمومة لآل السديري، ومنهم أحمد بن محمد السديري جد الملك عبدالعزيز لأمه لذا قيل أن الملك عبدالعزيز كان يناديه بـ«خالي». (القشعمي ــ مصدر سابق ــ ص 113 وص 116).
أما تاريخ ميلاده ففيه عدة أقوال، لكن المرجح أنه من مواليد سنة 1875 اعتماداً على ما هو مذكور في جواز سفره الصادر في عام 1930. وأما مكان ميلاده فقد كان في الزبير بسبب نزوح والده إبراهيم المنديل إلى الأخيرة من جلاجل في عام 1837 وهو شاب يافع، وذلك رغبة منه في تحاشي الصراعات الدموية والقبلية التي كانت دائرة آنذاك في نجد.
وفي الزبير، التي اختارها موطناً له لأسباب كثيرة (مثل: وجود سور يحيط بها ويوفر لسكانها الأمن والطمأنينة، وقبول سلطاتها العثمانية إعفاء سكانها من التجنيد مقابل مبالغ مالية، وتميز الزبير آنذاك بكونها سوقاً مهماً ومركزاً للقوافل التجارية المتنقلة ما بين الحجاز والخليج والشام)، بدأ إبراهيم المنديل ممارسة التجارة ما بين البصرة وبغداد وبومباي، متخصصا في تصدير الحبوب، فحقق نجاحا مشهودا لاسيما وأن عمله التجاري تزامن مع بدء الشركات التجارية والملاحية البريطانية بالاهتمام بالبصرة واتخاذها مركزاً تجارياً وطريقاً قصيراً بين أوروبا والهند، طبقاً لما ذكره الأستاذ عمار فاضل حمزة في موقع الأسر البصرية الإلكتروني.
وهكذا تحسنت أحواله المادية بصورة لافتة فصار من ذوي المكانة الاجتماعية والمالية المرموقة في جنوب العراق خصوصاً بعدما انفق جزءًا من ثروته في بناء دار ضيافة للنازحين من عشيرته، واستحوذ بالشراء على بساتين نخيل شاسعة المساحة في مناطق من ولاية البصرة العثمانية.
وحينما توفي إبراهيم المنديل في عام 1895 عن عمر ناهز الثمانين، ترك وراءه ستة من الأبناء الذكور هم: عبدالمحسن، عبدالرزاق، يوسف، عبدالوهاب، عبداللطيف، خالد، علماً بأن كلا من يوسف وعبداللطيف فقط مـُنحا لقب الباشوية من قبل العثمانيين الذين كانوا يحكمون جنوب العراق آنذاك. ومن أسباب منح الباشوية لعبداللطيف في عام 1914 دوره الهام في مؤتمر الصبيحة سالف الذكر والذي أثمر عن تحييد الأتراك العثمانيين واعترافهم بسيادة ابن سعود على الأحساء، وكذلك دعمه المالي للمشروعات الثقافية والخيرية في ولاية البصرة العثمانية
قلنا إن عبداللطيف باشا المنديل إرتبط بعلاقة خاصة مع الملك عبدالعزيز. وفي هذا السياق يخبرنا محمد بن عبدالرزاق القشعمي (مصدر سابق ــ ص 115 وما بعدها) أن علاقة أسرة المنديل بآل سعود قديمة وترجع إلى زمن محاصرة الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود أمير الدرعية لبلدة جلاجل سنة 1764 للميلاد، حيث رضخ سكان البلدة، ومنهم آل المنديل، للحكم السعودي. ثم يفيدنا أن الإمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود (والد الملك المؤسس) حينما غادر مع أسرته الرياض للاستقرار في الكويت، زار الزبير سنة 1893 لمتابعة الأمور المالية التي رتبها العثمانيون له ولاتباعه، فحلّ ضيفا على إبراهيم المنديل. وبعد وفاة الأخير تولى إبنه الرابع «عبدالوهاب المنديل» تلبية احتياجات الإمام عبدالرحمن ومراجعة السلطات العثمانية نيابة عنه. ويضيف أنه بعد استرداد الملك عبدالعزيز لملك آبائه وأجداده تضاعفت مسؤوليات آل المنديل، وصارت مهام «عبدالوهاب المنديل» تجاه آل سعود كبيرة فأشرك الأخير معه أخيه «عبداللطيف المنديل». وكان مما فعله الأخوان المنديل آنذاك أن رتبا اجتماعاً في الزبير بين الملك عبدالعزيز ووالي البصرة العثماني «مخلص باشا»، بــُعيد انتصار الملك عبدالعزيز على إبن رشيد في معركة «الشنانة» سنة 1904. لكن زيارة عبدالعزيز تلك لم تكن الوحيدة لهم، فقد زارهم في إبريل 1911 ونزل في بيتهم، ثم زارهم مرة أخرى في نوفمبر 1916، وهي الزيارة التي التقى فيها ابن سعود بالمقيم البريطاني في البصرة «سير بيرسي كوكس» ومنحه الأخير وسام الإمبراطورية البريطانية الهندية.
وفي أعقاب وفاة عبدالوهاب المنديل صار أخوه عبداللطيف وكيلاً سياسياً وتجارياً للملك عبدالعزيز في البصرة وبغداد، يتولى من هناك تصريف الكثير من الأمور الخاصة بالدولة التي كانت تتشكل آنذاك في الجزيرة العربية، ويسدي النصح والمشورة لمؤسسها ابن سعود، وينافح عنها بما أوتي من حكمة وفطنة من خلال مناصبه الرسمية في العراق. ذلك أن عبداللطيف المنديل تقلد حقيبة التجارة في أول حكومة عراقية في عهد الملك فيصل الأول سنة 1920 وكانت برئاسة السيد عبدالرحمن النقيب، ثم تولى حقيبة الأوقاف في الحكومة العراقية الثانية التي شكلها عبدالمحسن السعدون سنة 1922. كما تم إنتخابه لعضوية المجلس التأسيسي عن البصرة سنة 1924، ثم صار عضوًا في مجلس الأعيان العراقي سنة 1929 قبل أن يستقيل في عام 1934 كي يتفرغ لشؤونه الخاصة.
وتجمع كل المصادر التي إطلعتُ عليها على أن العاهل العراقي الملك فيصل الأول كان متضايقاً من الولاء المزدوج لعبداللطيف المنديل لسلطنة نجد وملحقاتها وللعراق، وزادت شكوكه وامتعاضه منه بعدما علم في عام 1922 بأن المنديل ألب زملاءه الوزراء في حكومة عبدالمحسن السعدون للتصدي لاقتراح ملكي باستخدام القوة العسكرية ضد غارات «الإخوان النجديين» على أطرف العراق. ولهذا طالبه العاهل العراقي بالاستقالة فاستقال، وتبعه في ذلك خمسة من الوزراء، فانهارت الحكومة كلها.
وكمكافأة من الملك عبدالعزيز للمنديل على إخلاصه وتفانيه في خدمة وطن آبائه وأجداده، فقد عهد إليه الملك، في بدايات تأسيس مملكته، بإدارة ميناء العقير بعد أن تم إجلاء الجيش العثماني والموظفين الأتراك عنه سنة 1913. فقام بعمل رائع لجهة إعادة تنظيم الميناء وتحسين موارده، الأمر الذي تضاعفت معه الأموال المستحصلة من الجمارك بنحو عشر مرات طبقاً لما ذكره «نجدة فتحي صفوت» في مقال له في صحيفة الشرق الأوسط (2/12/1996). وهناك رسائل تطرق إليها القشعمي (مصدر سابق ــ ص 121 وص 122) متبادلة بين المنديل والملك عبدالعزيز، منها واحدة مؤرخة في 1/8/1334 للهجرة (3/6/1916م) ويقول فيها المنديل ما مفاده أنه وصل القطيف، وتوجه منها إلى الجبيل، حيث التقى بعبدالله (بن علي آل خاطر) وإخوانه وقام بتحديد الأراضي الصالحة للسكن، والمخازن والدكاكين ومناخ القوافل، ومقر الإمارة، وأنه عاد بعد ذلك إلى القطيف للوقوف على سير العمل في إمارتها، وطلب من أميرها عبدالرحمن السويلم أن يطلعه على سجلات الواردات والمصاريف وبيانات النخيل والعقار، واجتمع بمدير جمرك القطيف مكي (المقصود السيد مكي بن علوي بن حسين المشقاب) ونظم له الجمرك مؤقتا ريثما يتم استقدام محاسبين مؤهلين. أما الرسالة الثانية فقد كتبها المنديل للملك عبدالعزيز بتاريخ 4/8/1334 للهجرة (7/6/1916م) ليخبره بأنه قد عين أشخاصاً للعمل في جمارك القطيف وسيهات ودارين وتاروت وصفوى، وقام أيضا بتكليف عمال لإصلاح خان العقير. ومن البراهين الإضافية على قوة علاقة المنديل بالملك عبدالعزيز وثقة الأخير غير المحدودة به، وجود رسالة مؤرخة في 30/1/1340 للهجرة (12/9/1923م) من الملك إلى النجديين المقيمين في العراق يدعوهم فيها إلى المساهمة برأسمال الشركة الشرقية للتنقيب عن البترول والتي كانت قد مـُنحت امتياز التنقيب عن المعادن الغازية (البترول) في منطقتي الأحساء والقطيف، على أن يكون الاكتتاب لدى المنديل.
ومن الأمور الأخرى الجديرة بالذكر في سيرة المنديل نشاطه السياسي وعضويته الفاعلة في الحركة الوطنية العراقية ضد محاولات التتريك وسياسات «حزب الاتحاد والترقي التركي» المناوءة للعرب وحقوقهم في الحرية والاستقلال. ومن هنا برز المنديل كقطب من أقطاب «الحزب الحر المعتدل» الذي أسسه وقاده طالب باشا النقيب من البصره في سنة 1911. وعندما تم حل هذا الحزب في سنة 1913 كنتيجة للضغوط العثمانية، سرعان ما نظم أعضاء الحزب المنحل أنفسهم في تنظيم سياسي جديد تحت اسم «جمعية البصرة الاصلاحية»، والذي احتفظ فيه المنديل بمكانته كعضو قيادي. وحينما سقطت البصرة بأيدي قوات الاحتلال البريطاني أختير المنديل ليكون ضمن الوفد الممثل لوجهاء البصرة لتسليم مفتاح المدينة الى قائد القوات البريطانية والتفاوض معه حول أوضاعها وشؤونها العامة.
علاوة على ما سبق، عــُرف عن المنديل عشقه وهيامه الشديدين بمدينة البصرة، مرتع صباه ومهد ذكرياته. وآية ذلك ــ طبقاً لما ذكره نجدة فتحي صفوة (مصدر سابق) ــ أنه ساهم كثيرا في مشاريع تزويد البصرة بمياه الشرب النقية، وإنارتها بالكهرباء، وتحسين أوضاعها الزراعية، وتنشيط تجارتها، وتعميرها. وبسبب عشقه في الوقت نفسه لأرض آبائه وأجداده في نجد، وعلاقته المتينة مع ابن سعود، فقد أطلق في عام 1934 اسم «السعودية» على أحد الأحياء الواقعة على ضفاف شط العرب بالبصرة. فجاءه رد الجميل بعد سنوات حينما أطلقت السعودية اسمه على شارع من شوارع الرياض. كما لم ينس المنديل مسقط رأسه، الزبير، فأولاها رعايته وعنايته بدليل أنه اهتم بمشروع لجر الماء من شط العرب إلى الزبير، وتبرع لتأسيس مكتبة الزبير الأهلية.
ومما يـُذكر أن عشقه للبصرة دفعه للإتفاق مع أحد وجهائها وهو «أحمد الصانع» على إرسال عريضة إلى السير «بيرسي كوكس» يطالبانه فيها بفصل البصرة عن العراق وضمها للتاج البريطاني. حدث هذا تحديدا بعد ترشيح مؤتمر القاهرة في مارس 1920 فيصل بن الحسين ليكون ملكا على العراق، لكن بعض الوطنيين العراقيين من أبناء البصرة أفشلوا الفكرة، ثم انبعثت من جديد بعد سقوط الوزارة العراقية الأولى برئاسة عبدالرحمن النقيب بصيغة أخرى مفادها منح البصرة حكما ذاتيا في إطار إتحادي مع العراق تحت حكم الملك فيصل بن الحسين (طالع كتاب تاريخ الوزارات العراقية لعبدالرزاق الحسني (الجزء الأول، ص 102 ــ 105)، إلا أن الفكرة ماتت مرة أخرى.
بعد اعتزاله السياسة والشأن العام في العراق سنة 1934 وجه المنديل جل اهتمامه نحو أعماله التجارية والزراعية، لكن أمراض الشيخوخة داهمته في منتصف عقد الثلاثينات، فساء وضعه الصحي وأصيب بالشلل قبل أن ينتقل إلى جوار ربه في الثاني من ديسمبر 1940، ويدفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير، تاركاً خلفه من الأبناء ماجد ومالك وسعود وأديبة ونزيهة، علماً بأن الرجل تزوج من ثلاث نساء إحداهن أحسائية لم ينجب منها.
3 عبث إيران بسيادة العراق عثمان الماجد الابام البحرينية
لم يكن تراجع رئيس وزراء العراق المنتهية ولايته حيدر العبادي عن قراره السابق بتنفيذ العقوبات الأمريكية على إيران مفاجئا، لأنه ليس أول الأخبار المحبطة بالنسبة إلينا نحن شعوب الخليج العربي، وتحديدا في مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، أي الشعوب التي تتعرض منذ عقود لحملات عدائية سافرة من النظام الإيران. ولم يكن هذا التراجع -ولن يكون في مطلق الأحوال في ظل الواقع العراقي المأساوي- تعبيرا عن موقف مبني على استقلالية القرار العراقي، وإنما هو قرار متوقع نابع – فضلا عن أطماع الظفر بولاية جديدة على رأس ما تبقى من دولة العراق – من ضغوطات حزبية متأثرة بالنفوذ الإيراني ومؤثرة في القرار الحكومي العراقي، ذلك أن أغلب الأحزاب السياسية الدينية هناك وأكثرها تأثيرا في الحياة السياسية العراقية- وحزب الدعوة الذي ينتمي إليه العبادي أحد هذه الأحزاب وأكبرها- تقع تحت التأثير المباشر لعلي خامنئي مرشد «ثورة» إسلامية تروتسكية الصفة لا نهاية لها، ووكيله قاسم سليماني الذي يصول ويجول في أرض السواد عادا إياها جزءا من الامبراطورية الفارسية المتوهمة. قصارى القول انه لن يكون مستغربا في قادم الأيام أن يلتف على العقوبات الأمريكية من سيأتي رئيسا للوزراء في العراق، سواء حيدر العبادي أم غيره من المنتمين إلى الأحزاب الموالية لإيران.
كثيرة هي الأخبار والمعلومات التي تردنا من داخل العراق المنكوب بطبقة حاكمة فاسدة سرقت كل مقدرات العراق، ولكن يبقى أبلغ ما يصلنا والأكثر تأثيرا فينا والأشد ضغطا على مشاعرنا هو ما يتصل بأفعال الإيرانيين والميليشيات العراقية المسيرة بفرمانات واجبة النفاذ من «المرشد» علي خامنئي أو وكيله شبه المقيم في هذا البلد العربي. فمن ضمن الكثير الذي يصلنا على ألسنة العراقيين أنفسهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال الأشخاص الذين نلتقيهم في مهاجرهم، أحاديث مبكية عن أعمال مزرية يرتكبها الإيرانيون بتعليمات مباشرة من مرشد «الثورة» الإيرانية علي خامنئي، وبواسطة عراقيين خدرهم التأثير المذهبي الحاد الذي تمارسه الأحزاب السياسية الدينية، فباتوا آلات قتل وتدمير صماء تأتي على الأخضر قبل اليابس لتحول ميراث العراق العظيم إلى حطام، ولعل من سخريات القدر أن هذه القوى المسلوبة إراداتها هي التي باتت تقود الدولة العراقية، هذا إذا ما جاز لنا أن نتحدث حقا اليوم عن دولة بالمقاييس التي استقرت عليها في الفكر الحديث.
فعلي خامنئي، والذي تعود أسباب مشاكل العراق في جلها إليه هو «الحاكم الفعلي للعراق» بحسب وصف أطلقه عليه العروبي الهوى والهوية رجل الدين العراقي إياد جمال الدين وغيره من الوطنيين العراقيين الذين لم يكفوا لحظة واحدة عن فضح الفاسدين العراقيين الخاضعين مباشرة للنفوذ الإيراني وعن التحذير من سلوك سياسي طائفي فتت العراق الجريح، وأتاح الفرصة لكل أشكال التطرف أن تكتسب شيئا من المشروعية الشعبية التي نعلم جميعا أنها قد مكنت في يوم من الأيام لداعش وغيرها من التعبيرات المتطرفة التي استغلت ميلا شعبيا ساذجا إلى كل توجه مضاد لأشكال التمييز الطائفي المفروضة إيرانيا ضد مكونات الشعب العراقي. يقول إياد جمال الدين مخاطبا المواطنين العراقيين الذين لا يتوقفون عن التظاهر والاحتجاج على السياسة الداخلية لأسباب كثيرة منها الفساد، البطالة، انعدام الخدمات، الطائفية، التبعية والارتهان إلى إيران.. وغيرها الكثير من الأسباب، يقول: «ركزوا شعاراتكم وغضبكم ضد خامنئي، لا يمينا ولا شمالا.. خامنئي فقط..»، وهو في ذلك محق، لأنه هو المسؤول الأول عن كل المعاناة التي يتلوى بسببها شعب العراق ويذرف الدموع.
ما الذي يمكننا استنتاجه مما يقوله رجل الدين إياد جمال الدين؟ الاستنتاج الذي لا يختلف عليه هو أن تبقى القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عراقية غير مرتبطة بمصالح الأحزاب السياسية الدينية القابعة تحت التأثير الإيراني. ولكي تبقى هذه القرارات عراقية ينبغي تحرير العراق من النفوذ الإيراني، وأن يتخلص العراقيون من هيمنة الأحزاب الدينية على الحكم، ومن فكرة ولاية الفقيه، وهي الفكرة التي تؤمن بها أكثر الأحزاب الدينية الشيعية في العراق وأكبرها، ويفرضها رجال الدين عنوة على المجتمع العراقي المتعدد. إنه لمن المعيب أن يسير شعب عظيم كشعب العراق وفق مشيئة أحزاب لعبت دورا مشبوها في وصول البلاد إلى هذا المستوى من الانحطاط السياسي. ومن العار أيضا أن يسمح لملالي إيران بالتلاعب بمصير الشعب العراقي الذي حارب نظام الملالي ثماني سنوات وكسر خشومهم.
العراقي اليوم منتهكة حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مسلوبة حقوقه السياسية، ومشلولة إرادته! والمنتهكون طبقة سياسية حاكمة متمثلة في الأحزاب الدينية شيعية وسنية ووغيرها، اختلفت مشاربهم في ظاهر الأمر واتفقت على تقاسم الكعكة العراقية وعلى إلهاء البسطاء من الناس بصراعات وخصومات مستوردة من عهود السقيفة. لقد أجبر العراق اليوم على فتح تاريخ حكامه كلهم ليقارنهم بحكامه الحاليين فإذا به لا يجد لحكامه الحاليين شبيها في سرقة المال العام، وفي الازدراء بحقوق المواطنة العراقية، لا يجد شبيها لهم في الحسرة التي أورثوها العراقيين، الحسرة على ما صارت إليه الأوضاع التي ضحى العراقيون من أجل تحسينها فإذا بها تتردى أكثر فأكثر. لا شيء يجمع عليه العراقيون الآن أكثر من تفسيرهم لتردي الأوضاع في بلاد الرافدين، فجل العراقيين- باستثناء اللصوص ودمى قاسم سليماني- يقولون بأعلى الصوت إن تردي الأوضاع الحالية لا نظير له في تاريخ العراق الحديث، وأن الحل لا يمكن أن يكون إلا في دولة مدنية بعيدة عن تأثيرات الشيطان الإيراني وأذنابه الملطخة أياديهم بالدم العراقي والمال العراقي المنهوب.
4 إيران ومعركة حيدر العبادي
حازم صاغية
الاتحاد الاماراتية
توحي الهجمة السياسية والإعلامية التي يتعرّض لها رئيس الحكومة العراقيّة حيدر العبادي، والمصحوبة بامتناع طهران عن استقباله، بحراجة الموقع والموقف العراقيّين، لكنها توحي أيضاً بتوافر فرصة لا يجوز إهمالها.
فالعبادي الذي صرح بعدم اتفاقه مع سياسة العقوبات، قال أيضاً إنه لا يستطيع إلا أن يلتزم بها، حرصاً على مصالح العراق الوطنيّة، وتعبيراً عن مدى قدراته المتواضعة.
بعد ذاك، وفي مناخ الهجوم عليه، خفف موقفه، بحيث يقتصر على عدم التعامل بالدولار مع طهران.
وما فعله العبادي هو الموقف الصائب للسياسي الذي يغلّب المصلحة الوطنية لبلده ويأخذ في الوقت نفسه بتوازنات القوى في اعتباره.
ونذكر أن إيران لم تفعل إلا الشيء ذاته حين كان العراق يتعرض لعقوبات قاسية أفقرت شعبه من دون أن تضعف سلطة صدام حسين.
لكن موقف العبادي يصطدم بوقائع ومصالح تراكمت منذ 2003، ولا سيما منذ الانسحاب الأميركي الذي بدأ في 2007 ، واكتمل في 2011، واضعاً العراق تحت رحمة إيران بوصفها اللاعب الأوحد.
هنا كانت تتلاقى إرادتان فاعلتان: الأولى إيرانية تعمل على ملء الفراغات التي يخلفها الاحتجاب الغربي، خصوصاً الأميركي، وتسعى انطلاقاً من العراق المجاور إلى التحكم بمدى جغرافي إمبراطوري يصل إلى اليمن جنوباً وإلى قطاع غزّة غرباً، على أن تغدو لطهران الكلمة الفصل في أوضاع بضعة بلدان عربية، في طليعتها سوريا، فضلاً عن التحكم بمجريات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
أما الإرادة الثانية، فتعود إلى بعض القوى الشيعية العراقية التي حظيت دوماً برعاية إيران ودعمها.
فهذه الأخيرة – وعلى رأسها رئيس الحكومة السابق نوري المالكي وقوات الحشد الشعبي، والميليشيات المشكّلة له – آثرت منذ البداية أن تقدم العراق هديةً على طبق من ذهب إلى إيران.
والحال أن هذه العلاقة تطرح بين أمور أخرى، ذاك الالتباس البعيد التي تعانيه منطقتنا بين الهوية الوطني،ة والهويات الدينية والمذهبية.
على أي حال، كان لتلاقي هاتين الإرادتين الديناميتين أن أسس شبكة هائلة من المصالح والولاءات المعطلة للدولة العراقية ولحسن اشتغالها، إلى جانب استفزازه للوطنية العراقية، وتنفيره للعراقيين غير الشيعة، من سنّة عرب وأكراد وسواهم.
ومؤخراً بلغت سيرورة الانهيار محطة متقدمة، على ما تدل الاحتجاجات والتحركات الشعبية ضد الفساد، وأزمات نقص الماء والكهرباء المستفحلة، والتي سبقتها مواقف مقتدى الصدر التي أحلّت كتلته في صدارة التمثيل البرلماني في العراق.
في موازاة ذلك، كانت حراجة الموقف تكتسب صوراً وأشكالاً شتى: فمن جهة، لم يتردد المحتجّون في تسمية إيران، والمطالبة بالتحرر من نفوذها ونفوذ التابعين لها.
ومن جهة أخرى، باتت المشروع الوطني العراقي، في ظل تلك السياسات، مهدداً بتحديات غير مسبوقة، كالمطالبة بتحويل مدينة البصرة إلى «لواء»، وظهور «حراك جنوبي» يطالب بفصلها عن سائر العراق.
أغلب الظن أن قناعة حيدر العبادي بضرورة الإقدام على خطوة غير مألوفة، تحد من الانهيار العراقي، تجد في مرجعية السيستاني صدى لها.
فالثقل الذي يمثله المرجع الشيعي الأكبر سيكون أساسياً في مواجهة القوى التي سارعت إلى فتح النار على رئيس الحكومة، ضاربةً بسيف إيران، لكنّ المؤكد أيضاً أن أوضاع إيران نفسها عنصر تشجيع لا يُستهان به.
فالظروف الاقتصادية بالغة السوء معطوفة على النزاعات المتفاقمة داخل الجماعة الحاكمة، وتصاعد الاتهامات في ما بين أطرافها، تشجع كلها على الإقدام وانتزاع حرية العراق من براثن طهران.
وهذا لا يلغي أن الأخيرة ستحاول، مباشرة أو مداورة عن طريق أتباعها، استئناف المعركة ضد العبادي بكل الوسائل التي تملكها. ذاك أن خسارة العراق مقدمة حتمية لنهاية المشروع الإقليمي والإمبراطوري الذي ترعاه إيران.
والعراق، في نهاية المطاف، أهم كثيراً من أن تتخلى عنه إيران، ولأنه كذلك، يغدو من المُلحّ أن تقول الدول العربية كلمتها، وأن تُرفقها بالأفعال في مواجهة لا تقتصر آثارها على العبادي، أو حتّى على العراقيين وحدهم.
5 يحق للعراق ما يحقّ لإيران خيرالله خيرالله الراي الكويتية
يوفّر الغضب الايراني على رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي رصيدا وطنيا للرجل. لم يعد مستبعدا ان يكون المستقبل السياسي للعبادي صار مرتبطا بمدى قوّة النفوذ الايراني في العراق. يرفع موقف العبادي من العقوبات الاميركية على ايران من قيمة الرجل الذي كانت هناك نظرة سلبية تجاهه بسبب انتمائه الى حزب مذهبي مثل «حزب الدعوة الاسلامية» الذي يعتبر نسخة شيعية عن الاخوان المسلمين.
اتخذ العبادي، الذي يشفع له انّه لم يقم في ايران في اثناء معارضته لنظام صدّام حسين، موقفا شجاعا عندما اعلن ان العراق سيلتزم العقوبات الاميركية على ايران. أورد تحفظات كثيرة عن العقوبات ووصفها بـ«الظالمة» وانّها «خطأ استراتيجي»، لكنّه اكد في نهاية المطاف ان العراق ملتزم تطبيقها. كشف بذلك انّه يتمتع بحدّ ادنى من الشعور الوطني ورغبة في حماية مصالح العراق. يعرف رئيس الوزراء العراقي، مثلما يعرف غيره، انّه يمكن ان تتصالح الولايات المتحدة مع النظام في ايران غدا. سيعود عندئذ شهر العسل الذي ساد في مرحلة ما قبل الاجتياح الاميركي للعراق في العام 2003 او في السنوات الثماني التي أمضاها باراك أوباما في البيت الأبيض. هل يحق لإيران إقامة افضل أنواع العلاقة مع اميركا وابتزازها في الوقت نفسه يوميا، ان في سورية اوالعراق اولبنان اواليمن، فيما لا يحق للعراق ان يسأل نفسه عن مكمن مصالحه ومصالح مواطنيه وان يعمل على الدفاع عن هذه المصالح؟
اذا كان جورج بوش الابن سلّم العراق على صحن من فضّة الى ايران، فان أوباما هو من استكمل عملية التسلّم والتسليم هذه على نحو رسمي في العام 2010. لماذا يحق لإيران التنسيق الكامل مع الاميركيين، وصولا الى الاتفاق على من يكون رئيس الوزراء في العراق، ولا يحق للعراق نفسه ذلك؟ هل قدر العراق ان يكون مجرّد تابع لإيران وان يضحي بنفسه من اجلها؟
مرّة أخرى، يتبيّن ان العراق يرفض الاستسلام نهائيا لايران. ما فعله العبادي تعبير عن الرغبة العراقية في المقاومة. برّر موقفه بكلام في غاية البساطة عن الرغبة «في عدم تعريض العراقيين للضرر وحماية شعبنا». مضيفا: «لا نستطيع الخروج عن المنظومة الدولية». بات العبادي بعد السنوات التي أمضاها في السلطة يعرف ما الذي تعنيه العقوبات الاميركية على ايران وطبيعة الدور الاميركي على الصعيد الدولي. ربّما يعي خصوصا الوزن الاقتصادي للولايات المتحدة التي يشكّل اقتصادها ربع اقتصاد العالم.
لا يمكن بأي شكل الاستخفاف بما أقدم عليه رئيس الوزراء العراقي الذي رفضت طهران استقباله احتجاجا على الإعلان عن التزام بلده تطبيق العقوبات الاميركية. فعندما يواجه العبادي ايران في موضوع حسّاس مثل العقوبات، يكون الرجل يعلم جيّدا انّه يخوض معركة مصيرية. يكفي الكلام الصادر عن آية الله مجتبي الحسيني ممثل «المرشد» الايراني علي خامنئي في العراق للتأكّد من ذلك. ذهب الحسيني، المقيم في النجف، الى حدّ اتهام العبادي بانّه «ينخرط مع اميركا ويخضع لها في مؤامرتها على ايران التي هي جارة العراق والتي تتحد مع الشعب العراقي في الدين والمواقف». بالنسبة الى ممثل خامنئي في العراق فانّ «الشعبين العراقي والإيراني تجسيد للحمك لحمي ودمك دمي. انّهما بمنزلة شعب واحد». يذكرّ كلامه بالكلام الذي كان يصدر عن الرئيس الراحل حافظ الأسد ابان الوصاية السورية على لبنان عن انّ الشعبين السوري واللبناني «شعب واحد في بلدين».
يعطي موقف رئيس الوزراء العراقي فكرة عن جدّية العقوبات الاميركية على العراق والرغبة الواضحة لادارة ترامب في الذهاب بعيدا في تطبيقها. الأكيد ان للرجل حسابات خاصة به تفرضها الصعوبات التي تواجه عودته الى الموقع الذي يشغله منذ العام 2014 خلفا لنوري المالكي بطل فضيحة اجتياح «داعش» للموصل وتراجع الجيش العراقي امام هذا التنظيم الإرهابي بطريقة تذكر بالهزائم العربية في حرب يونيو 1967. لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلا ام آجلا كيف ستعمل ايران على استغلال العراق من اجل التحايل على العقوبات الاميركية التي ستزداد قسوة في نوفمبر المقبل؟ من الواضح ان ايران ستعمل على تشكيل حكومة موالية لها في العراق. ستعمل بطريقة او بأخرى على التخلص من العبادي في أسرع وقت. ليس امام ايران في حال قررت المواجهة خيارات كثيرة خصوصا في العراق. كذلك ليس امامها من خيارات أخرى غير تشكيل حكومة لبنانية تكون سوارا في معصمها. وهذا يفسّر الى حد كبير تلك الهجمة الشرسة على العبادي من جهة وذلك الإصرار على منع قيام حكومة «وفاقية» في لبنان يشكلها الرئيس المكلف سعد الحريري بطريقة متوازنة آخذا في الاعتبار مصلحة لبنان في تحصين نفسه امام التقلبات الكبيرة التي تعيشها المنطقة.
في كلّ الأحوال، اذا دلّ موقف العبادي من ايران على شيء، فهو يدلّ على ان هناك رغبة شعبية عامة في العراق في تفادي الوقوع تحت الوصلية الكاملة لإيران. كانت نتائج الانتخابات الأخيرة التي أجريت في الثاني عشر من مايو الماضي تعبيرا عن تلك الرغبة. كذلك، كان الحراك الشعبي الذي شهدته مدن ومناطق عراقية عدّة تعبيرا عن نوع من الصحوة العراقية، على الرغم من الكلام الكثير عن انّ ايران ليست بعيدة عن الاضطرابات في العراق. من يصدر عنه هذا الكلام يقول ان ايدي ايران ليست بعيدة عن محاولات لوقف انتاج النفط العراقي مستقبلا في حال منعتها اميركا من تسويق نفطها.
يبقى سؤال أخير. ما الموقف الذي ستتخذه الإدارة الاميركية من العبادي خصوصا ومن الوضع العراقي عموما؟ هل تدعم رئيس الوزراء الحالي وتدفع في اتجاه عودته الى موقعه بعدما اثبت انّه مستعد ان يكون وطنيا عراقيا على الرغم من انتمائه الى حزب مثل «حزب الدعوة»؟
ستكون اميركا في الأشهر القليلة المقبلة منهمكة بايران التي ستؤخر قدر الإمكان قرارها بفتح حوار من دون شروط مع واشنطن. ستعمل ايران في الأسابيع المقبلة على اختبار مدى جدّية دونالد ترامب والفريق المحيط به الذي على رأسه وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الامن القومي جون بولتون. ستسعى ايران الى افهام الإدارة الاميركية ان لديها أوراقا كثيرة في المنطقة، خصوصا في الداخل العراقي حيث الميليشيات المذهبية التابعة لها والتي تتحرّك تحت تسمية «الحشد الشعبي».
الأكيد ان حيدر العبادي سيكون طوال الفترة المقبلة في موقف لا يحسد عليه، اللهمّ الّا اذا قررت الولايات المتحدة ولو لمرّة ان تقف بحزم مع من يقف معها وتظهر بالفعل انّها طرف يمكن الاعتماد عليه في الاوقات الصعبة… وان العراق يبقى العراق وايران تبقى ايران. ما يحق لإيران يحق للعراق أيضا والعلاقة بين واشنطن وبغداد لا تمرّ بالضرورة بطهران!
6 العبادي والحريري ودفتر الشروط الإيراني الياس حرفوش
الشرق الاوسط السعودية
ليس ضرورياً أن يكون الرهائن بشراً فقط. الدول أيضاً يمكن أن تتحول إلى رهائن. قرارها ومصيرها يصبحان في يد الآخرين. والأخطر عندما يتحالف بعض أهل الداخل للمشاركة في المؤامرة، والمساهمة في عملية الخطف والاحتجاز.
ليس بعيداً عما نقول ما يحصل اليوم في بلدين عربيين، هما العراق ولبنان. بلدان يواجهان أزمة حكومية تتعلق باختيار رئيس جديد للوزراء، كما في حالة العراق، وبإتاحة الفرصة لرئيس مكلف تشكيل الحكومة لإنجاز مهمته، كما في لبنان.
لو كان هذان البلدان مطلقي الحرية، أي لو لم يكونا رهينتين، ولو كان تشكيل حكومتيهما فقط في يد أبناء بلديهما، لما كانت هذه العملية تواجه العقد التي تواجهها اليوم. غير أن هذا التشكيل لا يواجه فقط العقبات الداخلية المعروفة التي تحصل عند تشكيل الحكومات في أي بلد، عندما تسعى مختلف الكتل إلى الانضمام في تحالفات تسمح لها بتشكيل أكثرية. إنه يواجه أيضاً نفوذ الخارج و«الفيتوات» التي يضعها هذا الخارج على من لا يرضى بهم؛ لأنهم لا يخدمون مصالحه. والمقصود طبعاً في حالتي العراق ولبنان هو النظام الإيراني، الذي أصبح له الصوت الأقوى بسبب القوى العاملة تحت رايته والمتحالفة معه في البلدين.
في العراق، تسعى الكتل الشيعية التي يتم منها اختيار رئيس الحكومة بحسب الدستور، إلى التفاهم على إعادة اختيار حيدر العبادي، أو إلى اختيار شخص بديل. والعبادي الذي جاء إلى هذا المنصب نتيجة تسوية إيرانية – أميركية، خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وهي التسوية التي أبعدت نوري المالكي آنذاك (عام 2014)، يجد نفسه الآن خارج تسوية من هذا النوع، في ظل احتدام المواجهة بين طهران وواشنطن، بعد قرار الرئيس الحالي دونالد ترمب عدم التزام واشنطن بالاتفاق النووي.
في مواجهة كهذه، ومع فرض العقوبات على إيران، لم يجد العبادي مفراً من إعلان التزام العراق بهذا القرار، من خلال عدم التعامل مع إيران بالدولار، ما أثار في وجهه عاصفة من الانتقادات، من جانب إيران ووسائل إعلامها، كما من القوى المؤيدة لها في بغداد. وفيما أراد العبادي من خلال قراره، إظهار استقلالية العراق عن النفوذ الإيراني، ارتفعت أصوات جمهور المؤيدين لطهران بين القوى الشيعية، ومن بينها حزب «الدعوة» الذي ينتمي العبادي إليه، تتهمه بخدمة المصالح الأميركية، وتذكره بأن هذه القوى لن تسمح إلا بأن يكون العراق مجرد كوكب في فلك طهران؛ لكن العبادي رد عليهم بالقول: «إن مصلحة الشعب العراقي أهم من مصالح عصابات… يريدون أن يضغطوا علينا حتى نقدم مصالح عصابات على مصالح الشعب العراقي. هذا لا يمكن».
نبرة استثنائية من التحدي، لم يسبق أن أقدم عليها رئيس حكومة عراقي، بوصف ميليشيات إيران بالعصابات. ولم يتأخر قادة طهران في الرد بإعلان رفضهم عودة العبادي إلى رئاسة الحكومة. كما طالب عدد من النواب، العراق بدفع مبلغ 1100 مليار دولار كغرامة بسبب الحرب العراقية – الإيرانية. ومن بين هؤلاء النائب محمود صادقي الذي كتب على موقعه على «تويتر»: «إيران لم تطلب تعويضات الحرب؛ لأنها أخذت في الاعتبار ظروف العراق الصعبة، أما الآن وبدلاً من التعويض يتماهى رئيس الحكومة العراقي مع العقوبات الظالمة ضدنا».
طبعاً، سبقت ذلك حملة على العبادي تمثلت في محاولة إثارة الغضب الشعبي ضده، بعد إقدام إيران في الشهر الماضي على قطع الكهرباء عن مناطق الجنوب العراقي، وبالأخص عن مدينة البصرة، بحجة أن العراق لم يدفع ما يتوجب عليه من مستحقات لتوفير الكهرباء. غير أن الإيرانيين وحلفاءهم فوجئوا بأن معظم المظاهرات التي خرجت في تلك المنطقة لم تكن ضد العبادي؛ بل ارتفعت الهتافات ضد الميليشيات الإيرانية، وأحرقت مقرات ومكاتب لـ«الحشد الشعبي»، حتى أن الأمين العام لـ«عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي، هدد بقطع يد المتورطين في الهجمات على مقرات «الحشد».
هذا في العراق. أما في لبنان، فيواجه سعد الحريري ضغوطاً وعقداً في عملية تشكيل الحكومة، ظل الرجل يصفها بالعقد الداخلية، إلى أن اضطر أخيراً إلى كشف الهدف وراء تلك العقد، وهو سعي حلفاء إيران، الموزعين في لبنان بين فريق واسع من الشيعة وبعض القيادات السنية، إضافة إلى «التيار الوطني الحر» الذي يرأسه وزير الخارجية جبران باسيل، إلى الحصول على الأكثرية داخل الحكومة، ليتمكنوا من فرض قراراتهم، ومن بينها إعادة العلاقات الطبيعية مع نظام دمشق كسياسة تعتمدها الحكومة الجديدة التي يسعى الحريري لتشكيلها. ورد الحريري على ذلك بالتأكيد على أنه إذا كانت هذه هي رغبة حلفاء طهران من وراء التعقيدات المفتعلة، فلن تكون هناك حكومة.
طبعاً، يستطيع الحريري أن يبقي تشكيل الحكومة معلقاً إلى أن يستطيع إعلان التركيبة التي يرضى عنها، والتي يصفها بحكومة وفاق وطني، لا تحصل فيها أي جهة على الأكثرية. فهو دستورياً يملك صلاحية التشكيل، كما أنه حصل على أصوات 111 نائباً من أصل 128 في المشاورات التي أفضت إلى تكليفه؛ لكن ذلك يعني دخول لبنان في أزمة حكومية طويلة، وفي عملية عض أصابع، يعرف «حزب الله» وحلفاؤه كيف يستفيدون منها ويوظفونها لمصلحتهم. فهم يلعبون لعبة النَفَس الطويل، كما فعلوا مع انتخاب الرئيس ميشال عون، عندما عطلوا تلك العملية وقاطعوا جلسات الانتخابات لمدة سنتين ونصف، رغم أن الدستور يلزم النواب بحضورها، إلى أن حصلوا على ما كانوا يريدون، وها هو لبنان يحصد اليوم ذيول ذلك الانتخاب.
بصرف النظر عن الأحجام الداخلية للقوى السياسية، أثبتت المفاوضات الجارية في كل من العراق ولبنان، أن العقبات التي تقف في طريق تشكيل حكومتي البلدين تأتي من مكان آخر، لا يعكس هذه الأحجام. فالهيمنة الإيرانية من خلال الميليشيات المسلحة ترافقها كذلك هيمنة على القرار السياسي وقدرة على تسيير هذا القرار بالاتجاه الذي يريدون. فالجماعة يشعرون اليوم بأنهم «منتصرون» في معارك الإقليم، رغم الحصار المفروض على إيران، ورغم الضغوط الدولية التي تتعرض لها. وهم يريدون توظيف هذا «الانتصار» حيث يستطيعون، بالسياسة إذا استطاعوا، وبالقوة إن عجزت السياسة.
7 دور الإعلام في الانتخابات العراقية
احمد صبري
الوطن العمانية
” .. بعد احتلال العراق ساد نوع من الانفلات بالمؤسسات الاعلامية وأنتج مساحة للتشهير وليست للتعبير وتحول الاعلام بسبب ذلك الى اعلام غير موحد وليس اعلام دولة ولا مؤسسات ولا مواطن بل هو اعلام احزاب وكتل وجهات افتقرت الى المهنية في رسالتها الاعلامية.وخضعت اغلب المؤسسات الاعلامية العراقية لتأثيرات المال السياسي والمحاصصة والاستقطاب الطائفي ناهيك عن التمويل الخارجي.”
اتسمت الانتخابات العراقية بالفوضى والإرباك ومانتج عنها من مواقف يؤكد المشهد السياسي الذي أعقبها حيث كان عنوانه التزوير والتلاعب باصوات الناخبين ناهيك عن دور وسائل الاعلام في تكريس هذا الواقع لصالح قوى نافذه حاولت تدوير نفسها من جديد رغم فشلها في إدارة شؤون العراق على مدى السنوات الماضية مستخدمة الاعلام بقنواته المتعددة لتبييض سمعتها وتسويقها للجمهور بأساليب بعيدة عن الواقع المعاش.
وفات على الذين استخدموا الاعلام لمصالحهم السياسية تارة بالتهديد وأخرى بالمال ان ثورة الاتصالات بجميع تقنياتها فرضت واقعا جديدا في حياتنا واصبحت بفعل هذه الواقع هاجسا للفاسدين والمزورين.
من هذا الاحساس بدور الاعلام وتأثيراته المفترضة بالمتلقي استشعرت الاحزاب والكيانات والائتلافات السياسية سواء كانت في السلطة أوخارجها باهمية توظيفه واستخدامه للترويج لبرنامجها الانتخابي واستمالة الناخب لمرشحيها.
فبات لكل حزب أو تيار وسيلته الاعلامية لتسويق مرشحيه وصناعة توجهات ناخبيها..
في حين عمد سياسيون ومرشّحون الى اغراء وسائل اعلامية التي تحظى بنسبة مشاهدة عالية داخل العراق، وأخضعوها لأجنداتهم الخاصة.
وبدأ مشهد الإعلام المحلي مأزوما ومربكا للناخب، وتحوّلت البرامج الحوارية والفواصل الإعلانية إلى محاولات لإطاحة الآخرين والتأثير في حظوظهم.
وما أثار الانتباه الى طريقة تعامل الإعلام ازاء الانتخابات الاخيرة، لان بعضه تحول من ناقد للفساد والمفسدين إلى مساحات إعلانية تستغل مشاعر الناس وتستغفلهم وتروج لبعضهم مقابل اجور عالية.
فاخترق الوسط الإعلامي بالفساد وشراء الذمم عبر توظيفه لخدمة مرشحين عبر قنوات معظمها غير مستقلة من دون مراعاة القيم المهنية، ناهيك عن الدعاية الفجة والمبالغة في تقديم المرشحين..
وساد المشهد الانتخابي ثلاثة نماذج في تغطية الانتخابات هي الحملات المباشرة والدعاية لكيان سياسي محدد الذي.اعتمد على أسلوب الحملات السلبية،وبقيام وسائل الإعلام بتكريس معظم تغطيتها للهجوم على كيان سياسي محدد.
واستنادا إلى ماتقدم فان المؤسسات الاعلامية العراقية لم تؤد واجبها المهني في تبصير المواطن وتوعيته وساهمت بتضليله خلال فترة الدعاية الانتخابية. الامر الذي فجر حركة الاحتجاجات الشعبية المتواصلة منذ اكثر من شهر كرد فعل على تزوير الانتخابات وبعد احتلال العراق ساد نوع من الانفلات بالمؤسسات الاعلامية وانتج مساحة للتشهير وليست للتعبير وتحول الاعلام بسبب ذلك الى اعلام غير موحد وليس اعلام دولة ولا مؤسسات ولا مواطن بل هو اعلام احزاب وكتل وجهات افتقرت الى المهنية في رسالتها الاعلامية.وخضعت اغلب المؤسسات الاعلامية العراقية لتأثيرات المال السياسي والمحاصصة والاستقطاب الطائفي ناهيك عن التمويل الخارجي.
وادى القصور في أداء وسائل الاعلام بمهامها الى تراجع دورها في عملية تبصير المواطن وتوعيته وتوجيهه وبناء المجتمع وتحصينه من فيروسات الطائفية.
وفي محاولة مكشوفه اتخذت وسائل الاعلام المختلقة من التغيير شعارا للترويج لمرشحيها وحث الناخبين للتصويت لهم الا ان المشهد السياسي كان يتشكل بعيدا عن هذا التوجه باصطفافات طائفية اعادت استنساخ معظم رموز الطبقة السياسية من جديد الامر الذي سيبقي العراق يعاني من عدم الاستقرار وغياب الامن وتكريس الطائفية السياسية ناهيك عن تراجع دور الدولة ومؤسساتها امام تغول المليشيات المسلحة في المجتمع العراقي.