4 مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم الخميس

1 هل كان السيستاني صمام أمان فعلا؟
د. باهرة الشيخلي العرب بريطانيا

اللغة المخاتلة للمرجعية، التي استمعنا إليها في خطبة الجمعة الأخيرة، جاءت لصالح السياسيين الفاسدين الذين سيوظفونها لصالحهم ويلجأون في ظلها إلى الالتفاف على صيحات المواطنين ويتخذون خطوات ترقيعية، ليبقى الوضع على ما هو عليه.
الأبواب مشرّعة أمام مستقبل مجهول
علق بعض الأصدقاء على المقال الذي كتبته في “العرب” بعنوان “السيستاني يبدد أمل العبادي”، ولاحظت أنهم جميعا أجمعوا على عبارة واحدة هي “ألا تذكرين كيف كان سماحة الإمام السيستاني صمام أمان للبلد ولولاه لضاع البلد وسلبت مقدراته؟”.
في الواقع أنا أرى غير هذا الرأي تماما وقد حاججتهم فيه مدافعة عن رأيي، وهو أن الخطاب المخاتل للمرجعية، والتقديس الذي واجه به بعضنا إجراءات المرجعية وفتاواها هي التي أوصلت البلاد إلى ضياع لن نتخلص منه إلا بثورة شعبية كاسحة، ومن ضمن ذلك، وأقولها بصراحة وليعذرني أصدقائي اللائمون، هو المجاملة التي أبدتها المرجعية الشيعية للاحتلال الأميركي ولمن جاء بهم الاحتلال لأنهم شيعة وعلى يدهم ستزال المظلومية المزعومة للشيعة، وإذا بهؤلاء لم يقدموا للشيعة شيئا، بل كرسوا ليس مظلومية الشيعة فقط، وإنما أيضا مظلومية العراقيين التي فرضها عليهم الاحتلال.
ولمن نسي سأذكّره بأن اللغة المخاتلة للمرجعية صارت مفهومة للعراقيين، بحيث أنها لم تنجح في الانتخابات الأخيرة، كما أن هذه اللغة التي نحتت عبارة “المجرب لا يجرب” جاءت بأسوأ المجربين وشرعت الأبواب أمام مستقبل مجهول للعراق.
وقد كتب لي صحافي قريب من البازار السياسي في العراق أن ما صدر عن المرجعية أشعل السباق بين سياسيي المصادفة للفوز بمنصب رئيس الوزراء وسواه من المناصب.
وإنني على شبه اليقين أن هذه اللغة غير الواضحة للمرجعية، التي استمعنا إليها في خطبة الجمعة الأخيرة، جاءت لصالح السياسيين الفاسدين، الذين سيوظفونها لصالحهم ويلجأون في ظلها إلى الالتفاف على صيحات المواطنين ويتخذون خطوات ترقيعية، ليبقى الوضع على ما هو عليه وربما سيكون أسوأ مما كان بكثير.
أذكر أني سألت أحد وكلاء مرجعية السيستاني في أحد بلدان الخليج العربي، في الشهور الأولى للاحتلال، عن علة عدم إصدار السيستاني فتوى بالجهاد ضد القوات الأميركية الغازية للعراق، فأجابني بالخطاب المخاتل نفسه؛ إن “سماحة السيد” لو فعل ذلك ولم يستجب أحد من مقلديه للفتوى ستثلم هيبة المرجعية ولن يعود أحد يحترمها، ثم إنه يعلم حجم القوات التي غزت العراق فأراد أن يحقن دماء مقلديه. أبديتُ لذلك الوكيل عدم قناعتي بذلك المسوغ لاطلاعي البسيط على الفقه الإسلامي عامة والفقه الجعفري خاصة، وأذكر أني قلت إن المرجعية تركت واجبها الشرعي لصالح السياسة.
وبعد وقت طويل من ذلك، كشف دونالد رامسفيلد وزير الدفاع في الإدارة الأميركية التي قادها الرئيس جورج بوش الابن، في مذكراته عن أن المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني تسلم من الإدارة الأميركية 200 مليون دولار وأصدر فتاوى “دينية” للمساعدة في سقوط العراق في أيدي التحالف، الذي تقوده الولايات المتحدة. واعترفت المذكرات بأن فتوى السيستاني كان لها الفضل الكثير في تجنيب قوات التحالف خسائر جسيمة.
وحسب المذكرات نفسها فإن قوات الاحتلال، آنذاك، كانت تواجه مشكلة “السلاح”، حيث ترك النظام العراقي السابق في متناول العراقيين أكثر من ستة ملايين قطعة سلاح خفيف، كانت هذه القطع تسبب للأميركان إرباكا في السيطرة على هذا الكم الهائل من الأسلحة، ولكن رامسفيلد نفسه توصل مع السيستاني إلى اتفاق مضمونه أن يصدر الزعيم السيستاني فتوى تحظر استخدام هذه الأسلحة ضد قوات التحالف وكان لهذه الفتوى الفضل الكبير في تجنب قوات التحالف خسائر جسيمة.
وطبعا لزمت مرجعية السيستاني الصمت التام ولم تنبس ببنت شفة حيال ما جاء في هذه المذكرات.
الآن فقط، يمكنني أن أسأل وكيل السيستاني في ذلك البلد الخليجي: كيف أن “سماحة” السيستاني خشي أن لا يستجيب مقلدوه لفتوى مقاومة القوات الغازية للعراق حفاظاً على هيبة المرجعية، في حين أن هذه الخشية لم تساوره يوم أصدر فتوى الجهاد الكفائي، الذي تولد من رحمها الحشد الشعبي، الذي دمر المناطق السنية وفعل فيها الأفاعيل؟
ألا يعني ذلك أن السيستاني أسهم بنحو كبير، في بث الروح الطائفية بين العراقيين، الذين لم يعرفوها من قبل؟ فأي صمام أمان هذا الذي أحرق الحرث والنسل ودفع بشباب الشيعة والعراقيين أجمعين إلى القتل؟

إن من حسن حظ العراق أن من يتظاهر في ساحات التحرير فيه لم يبلغ أكبرهم يوم غزو العراق خمس سنين، ومنهم كانوا شهداء التظاهرات، وهؤلاء لم تتمكن منهم إبر المورفين، التي تحقنها المرجعية لمقلديها، وشارك معهم كبار السن الذين أزيلت الغشاوة عن عيونهم.
بهذه اللغة الصريحة يجب أن نواجه اللغة المخاتلة إذا كنا نريد أن نحرر العراق من المحتل وإفرازاته، كما يجب أن نركز الجهود على توعية الساذجين بأن لا مقدس إلا الله، والله سبحانه أمر بمحاربة الفساد والفاسدين.
2 العراق: إما الشعب وإما الأحزاب
فاروق يوسف
العرب بريطانيا

الحكومة التي راهن السياسيون على سقوطها بسبب الاحتجاجات تحولت إلى خشبة خلاص بالنسبة للكثيرين منهم. ذلك لأنها صارت الواجهة التي تتلقى الصدمات.
الشعب لن يتراجع عن مطالبه التي سيرتفع سقفها
قطع المحتجون العراقيون الشباب سلسلة أفكار السياسيين في واحدة من اللحظات النادرة التي يلتقون فيها بسلام لتوزيع الغنائم في ما بينهم.
أزعجت التظاهرات أولئك السياسيين ودفعت بهم إلى الاعتكاف، في انتظار أن يعود الشباب إلى بيوتهم محمّلين بوعود الحكومة الوردية، غير أنّ ما لدى المحتجين هذه المرة لن تفي به تلك الوعود.
وإذا ما رغب السياسيون في الاستمرار في لعبتهم التي يطلقون عليها العملية السياسية، فإن عليهم أولا أن ينفّذوا مطالب الشباب المحتجين وهي مطالب يمكن وصفها قياسا لقدرة الحكومة بالتعجيزية، بالرغم من أنها لا تخرج عن دائرة الخدمات الأساسية كالماء الصالح للشرب والكهرباء وفرص العمل إضافة إلى التصدي لبعض مظاهر الفساد.
في واقع من ذلك النوع يبدو الأفق مسدودا، فالحكومة التي راهن السياسيون على سقوطها بسبب الاحتجاجات تحولت إلى خشبة خلاص بالنسبة للكثيرين منهم. ذلك لأنها صارت الواجهة التي تتلقى الصدمات. كما صار عليها أن تتحمل عبء البحث عن حلول مستحيلة في ظل رفض شعبي للحلول الترقيعية التي سبق وأن طُرحت في أوقات سابقة.
الحكومة منتهية الصلاحية والتي يرغب رئيسها في أن يعود إلى منصبه لأربع سنوات أخرى لا تملك حلا للمشكلات التي خرج بسببها الشباب محتجين إلى الشارع.
فمن أين تأتي بالكهرباء وقد تم إهدار أكثر من أربعين مليار دولار طوال السنوات الماضية على مشاريع كهربة وهمية كما تبين في ما بعد.
لم تكن الحكومة العراقية يوما ما معنية بمسألة الماء الصالح للشرب عبر السنوات الماضية إلى أن انتصر الملح فصارت أصوات المحتجين مالحة. أما على مستوى فرص العمل فإن الحكومة العراقية قد تعهدت بسبب ديونها بغلق باب الوظائف الحكومية.
لا يملك حيدر العبادي وهو رئيس الحكومة الحالية سوى أن يكذب. ولكن ماذا يحدث لو أنه قال الحقيقة في ظل يقينه بأن مَن يحيطون به من السياسيين الشيعة يتآمرون عليه ولا يرغبون في بقائه في منصبه لولاية ثانية؟
لو أنه اعترف بعجزه لقلب الطاولة على رموز نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذين لم تمسهم الاحتجاجات، ولم تؤثر على رغبتهم في العودة إلى الحوار من أجل إنشاء تحالفات سياسية لا علاقة لها بما يجري في الشارع المحتج أصلا على فسادهم.
يعرف العبادي أن خصومه يحتمون به وبحكومته. ليس من العسير عليه أن يكتشف أن انتصاره على أولئك الخصوم يمكن أن يتحقق من خلال احتمائه بالمحتجين.
ولكن مشكلة حيدر العبادي أنه ينظر إلى خصومه بعينيْ عضو حزب الدعوة. وهو ما يجعله أقرب إلى أولئك الخصوم من الشعب الذي لا يعرف عنه شيئا. وهو ما يبقيه مترددا في اتخاذ القرار المناسب.
بالنسبة لخصومه فإن العبادي من خلال سلوكه المراوغ يظهر باعتباره رجلا مغادرا. ذلك لأنه لا يملك حلولا ولا يملك أن يعترف بذلك. ذلك أمر مريح بالنسبة لسياسيي المنطقة الخضراء غير أنه سيكون سببا مضافا لتصاعد حدة التظاهرات.
وإذا كان المحتجون قد انتقلوا إلى مرحلة المطالبة برحيل حكومة العبادي وهو مطلب لا قيمة دستورية له ذلك لأنها مجرد حكومة تصريف أعمال، فإن ذلك المطلب ينطوي على رغبة شعبية في رحيل سياسيي مرحلة ما بعد الاحتلال كلهم. وهنا يبدو الصدام مصيريا.
ستصل الأمور إلى ذروتها حين يتأكد الجانبان، الطبقة السياسية من جهة والشعب من جهة أخرى، أن المساحة لا تكفي لوجودهما معا. واحد منهما يجب أن يختفي. إما الشعب وإما الطبقة السياسية وهي بذيولها ليست صغيرة. بناء على تلك المعادلة الحتمية فإن العنف قادم.
لن يتخلّى حزبيو العراق عن امتيازاتهم الفريدة من نوعها في التاريخ السياسي الحديث، وهو ما سيدفع بهم إلى الذهاب إلى الأقصى في تمسكهم بكل ما فرضوه من قوانين سنوها من أجل الحفاظ على حصصهم من الثروة العراقية التي لن يبقى منها شيء للشعب.
أما الشعب فهو من جهته لن يتراجع عن مطالبه التي سيرتفع سقفها. فهو إن فعلها واستسلم فسيحكم على نفسه بالفناء.

3 «تموز» حياة وممات العراقيين محمد عارف الاتحاد الاماراتية

«كل ما يمكن تخيّله حقيقي». قال ذلك الفنان «بيكاسو»، وليس في الدنيا خيال يتحقق مثل «تموز» وهو اسم شهر «يوليو» في العراق والمشرق العربي. وأبكاني خيال بضع عشرات من عراقيين مغتربين يُشَيعون «الرفيقة» و«الحبيبة» و«الأم» «نضال وصفي طاهر» إلى مثواها المكلل بالزهور في مقبرة «إنجريد» في مدينة «يوتوبوري» بالسويد أقصى شمال الكرة الأرضية. غادَرَتْ «نضال» الحياة فجأة منتصف «تموز»، الشهر الذي ولد فيه عام 1918 أبوها العقيد وصفي طاهر، أحد أبرز قادة ثورة «14 تموز» عام 1958. آنذاك اقترب العراقيون أكثر من أي وقت في تاريخهم إلى «بلاد ما بين النهرين»، حيث استوحوا رسم الشمس السومرية رمزاً للجمهورية، وأطلقوا العنان لأحلامهم في بناء جمهورية مستقلة عن الشرق والغرب، ومالكة لثرواتها النفطية، وينعم مواطنوها بالمساواة أمام القانون. «قانون الأحوال الشخصية» الذي صدر في العام التالي للثورة في 94 مادة يعكس مستوى متقدماً فكرياً وسياسياً وأخلاقياً على الزمن الحالي.
وفي العراق، الأول في كل شيء، ولدت أولى الحضارات في التاريخ، وأقيمت أول المدن، وأول المدارس، وأول مجلسين تشريعيين، وأول شريعة قانونية، وأول أدوية صيدلانية، وأول تقويم زراعي. يذكر تفاصيل ذلك كتاب «التاريخ يبدأ في سومر» ومؤلفه «صاموئيل نوح كريمر» وهو أحد أبرز علماء الآثار في القرن الماضي، يوردُ اقتباسات مدونة في الألواح الطينية. وتدهشنا الروح الوطنية والفخر بالانتماء في فصل «أول فلسفة كونية وفلكية» التي ترسم صورة الكون ومكان «سومر» فيه: «آه يا سومر أيتها الأرض العظيمة، يا ذراع الكون الراسخة بالضوء، المنتشر من شروق الشمس حتى غروبها، قوانينك المقدسة سامية على جميع الناس، وقلبك عميق لا يُسبر غوره، والتعليم الحق الذي جلبتيه كالسماء لا يُمّس».
و«تموز» «إله المراعي» وزوجته «إنانا» وتُسمى أيضاً «عشتار» أول «آلهات الحب»، وقصة حياتهما الزوجية ملحمة بالغة التعقيد، يختلط فيها التاريخ البشري وتاريخ الطبيعة. تقاعسُ «تموز» عن رثاء زوجته عندما انتقلت إلى العالم السفلي جعلها تحكم عليه بقضاء حياته في العالم السفلي، لكن قلب الزوجة المُحبة رحيم، فاستعطفت عائلتها التي تضمُ كبار آلهة الكون فاستبدلوا العقوبة بقضاء نصف عام في العالم السفلي، ونصف فوق الأرض. وهكذا ولدت الفصول، و«تموز» شهر الحصاد وفيه، تتكرر حتى اليوم أساطير وفاة «تموز» بتسميات أخرى، حيث المناحات الدينية العامة تقطع مسافات شاسعة مشياً على الأقدام. وقال لي عالم الآثار العراقي الراحل «محمد علي مصطفى» تحت كل ضريح ديني يؤمه العراقيون ضريح يعود زمنه إلى عصور سومر وبابل.
وكما لو قامت من ضريح «تموز» مظاهرات البصرة، وامتدّت عبر مدن الجنوب إلى كربلاء، والنجف، وواسط، والحلة حتى بغداد. ويستحيل معرفة ما إذا كانت الأحداث الحالية تستأنف «ثورة تموز». «فنحن نحتاج التاريخ بكامله، لا لنرتمي فيه بل لنرى ما إذا كان بالإمكان الهرب منه»، قال ذلك الفيلسوف الإسباني «خوزيه غارسيا غاسيت» في كتابه «ثورة الجماهير».
«والآن ما بإمكاني فعله، وماذا سيحدث في حياتي، وكل هؤلاء الناس الذين لا يهتمون بشأني، والآن برحيلكِ، كل تلك الليالي، لماذا ولمن؟». بهذه الأبيات للمغني الشاعر الفرنسي «غلبرت بيكاود» نَعَت «ساره الحسني» خالتها «نضال وصفي طاهر». و«سارة» الجزائرية من ناحية أبيها، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، لم تذرف دمعة واحدة، وهي تتلو القصيدة كمُسّارة شخصية بالفرنسية ثم بالإنجليزية: «سيكون صباحي دائماً من دون أيّ معنى، وذلك القلب الذي يخفق لمن ولماذا، يخفق بسرعة وبسرعة، ونحو أي منعطف حياتي ستنزلق؟ لقد تركتِ لي الحياة بأكملها، ولكن الحياة صغيرة جدا بدونك، أصدقائي كونوا لطفاء، أنتم تعلمون انه ليس بمقدورنا فعل أي شيء».
4 إضاءات عربيّة حول التظاهرات العراقيّة
عبدالله ناصر العتيبي الحياة السعودية

يتساءل مواطن عراقي في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي: كيف تشتعل التظاهرات في الجنوب والوسط ونحن لم ننته بعد من فرز الأصوات في الانتخابات الأخيرة؟ لماذا لم ينتظر المتظاهرون تشكيل الحكومة الجديدة؟ أين ذهب إيمانهم بالتغيير الذي يتلو في العادة أية عملية انتخابية؟ هل فقدنا نحن العراقيين الثقة بالتيارات والتحالفات والائتلافات المسيطرة على المشهد السياسي حالياً؟
خرج المتظاهرون في البدء إلى الشارع للتعبير عن رفضهم واقعهم الاقتصادي المتردي واحتجاجاً على «الإهمال الحكومي لحاجات المواطن» في بلد يُعد من أغنى بلدان العالم، ثم تحولت التظاهرات بمرور الأيام إلى حالة احتجاج مبطن على «المصنع السياسي» في البلاد، الذي لم يستطع طوال 15 عاماً أن ينتج طبقة سياسية جديدة قادرة على رسم طريق واضح ومتفق عليه لمستقبل البلاد! ثم انتهت كما هي عادة هذا النوع من الاحتجاجات إلى جولات مفاوضات واجتماعات ما بين الحكومة وشخصيات ركبت التظاهرات في بدايتها، واختطفتها في منتصفها، لتمثلها في المرحلة الأخيرة كأنها هي المتحدث الوحيد باسمها.
من الواضح أن المتظاهرين لم يكونوا جزءاً من العملية الانتخابية الأخيرة التي تقول بعض المصادر أن المشاركة فيها لم تتجاوز30 في المئة من مجموع من يحق لهم الانتخاب! ومن الواضح أكثر، أن المجاميع المحتجة في الشوارع والساحات تمارس في الوقت الحالي ومن خلال شعاراتها ومطالبه،ا كفراً بالعملية الديموقراطية العراقية برمتها! ومن الواضح أكثر وأكثر، أن الشخصيات التي ركبت التظاهرات وطوعتها لحسابها ستصبح في المستقبل المنظور جزءاً من العملية السياسية المتعثرة. ستنضم إلى المشهد ولن تلغيه. وستساهم في زيادة وزن الطبقة السياسية غير المنتجة، وسيعود المحتجون البسطاء إلى بيوتهم بانتظار موجة احتجاج جديدة يسلمونها طواعية إلى رموز معارضة جديدة كتعبير عن اليأس واللاجدوى… وهكذا.
ككاتب عربي يرصد الأوضاع من خارج الدائرة، تحمل هذه التظاهرات بالنسبة إلي عدداً من الإضاءات يمكن اختصارها في ما سيلي من هذه المقالة.
أولاً: قد تبدأ التظاهرات بالفعل نتيجة لمطالب اقتصادية وخدمية فقط. قد تندفع الجماهير الى الشارع تحت ضغط الحاجة، وقد تخلق قناة صوتية كبيرة تجمع بها أصوات المحتجين المختلفة لتنتج صوتاً واحداً ذا طبيعة واحدة. قد تكون التظاهرات في مرحلتها البكر قائمة على مفهوم «عندما تنتهي معاناتي، أعود إلى بيتي»، لكن من المؤكد أنها لا تنتقل إلى تظاهرات ذات طبيعة سياسية إلا عندما يتدخل أحدهم ليجعلها كذلك. فمن يا ترى هذا «الأحدهم» الذي قد تكون له مصلحة في تهييج الشارع للضغط على الحكومة الحالية؟ هل يمكن أن يكون لنوري المالكي دور في ما يجري؟ هل يمارس الرجل الذي لم يحقق نتيجة جيدة في الانتخابات الأخيرة ضغطاً شعبياً من خلال التظاهرات على حكومة العبادي ليتسنى له صنع «تحالفات برلمانية» تمكّنه من العودة مجدداً إلى رئاسة مجلس الوزراء؟ الرجل المتواري منذ فترة خلف منصبه الشكلي لن يستفيد من إشعال التظاهرات والاضطرابات في المناطق السنية، لأن «المكون الشيعي» الذي ينتمي إليه العبادي سيتحول إلى مصد طائفي تنكسر عليه كل الضغوط التي يمكن أن تسببها هذه الاضطرابات. الأمر كذلك لن يتغير كثيراً في ما لو كانت التظاهرات والاحتجاجات في كردستان، فالتهوين و»عدم المبالاة» العربية تجاه كل ما هو كردي، والتوجس المقابل الكردي تجاه كل ما هو عربي، سيخدم بلا شك حكومة عربية في وجه تحول كردستاني. إذاً، لا سبيل سوى إشعال الأزمة في قلب البيت الشيعي كي لا يكون هناك طرف آخر يستطيع أن يصنع استقطاباً غير مرغوب فيه!
هل يمكن أن تكون للمرجع الديني علي السيستاني يد في تحريك الجماهير الغاضبة؟ هل أوغلت حكومة العبادي كثيراً في علمانيتها، الأمر الذي جعل السيستاني ودائرته المحيطة به من رجال الدين يظنون أنهم سينتقلون قريباً إلى الأرشيف العراقي؟ ما تفعله الجماهير اليوم في الجنوب والوسط العراقي قد يكون مساومة دينية على صفيح شعبي لإرجاع الحكومة إلى لهجتها الدينية المتطرفة كما كانت الحال في حكومة نوري المالكي. وعندما تعود اللهجة الدينية المتطرفة إلى الحكومة كما نعرف، فإنها تتحول إلى ناطق غير رسمي باسم السيد المرجع، ويصبح بذلك السيد المرجع في شكل رسمي رئيس الرئيس!
ثانياً: على رغم أن حكومة الرئيس حيدر العبادي دستورياً هي في واقع الحال حكومة تسيير أعمال بصلاحيات محدودة جداً بسبب انتهاء ولاية البرلمان منذ أسابيع، إلا أن الرجل القوي يتصرف كأنه رئيس وزراء قد انتخب للتو! يمارس العبادي صلاحياته كرئيس وزراء بلا حدود وبحزمة ثقة غير منقوصة، في الوقت الذي يمضي بعض وقته كمسيّر لأعمال كتلته الانتخابية «النصر»! يمارس أداءً مزدوجاً ببراعة كبيرة في مشهد سياسي هش قل مثيله في دول العالم. العبادي القوي بلا برلمان يدير العراق من خلال مجلس وزراء خاضع له. وفي المقابل نجد رجلاً آخر في بيروت لم يستطع حتى الآن أن يعقد جلسة مجلس وزراء واحدة في حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها على رغم تشكيل برلمان جديد منذ أسابيع!
ثالثاً: منذ 15 عاماً والعراقيون غير قادرين على التحرك للأمام. منذ 15 عاماً والسياسيون في بغداد متفرغون لمعاركهم الصغيرة في ما بينهم! لماذا؟ لأن المعارضة العلمانية والدينية لصدام حسين كانت وجهه الآخر. الزمن الطويل للمعارضة خارج الحكم جعلها نسخة مشوهة من النظام الحاكم، وبالتالي سقطت في 2003 وحتى اليوم في أول اختبار حقيقي لها في الحكم، وفشلت في أن تأخذ منه قدرته على التكيف مع الحكم بسبب نفيها لعقود خارج السلطة.
رابعاً: قد يحتاج العراق الى سنوات طويلة للخروج من أزمته الاقتصادية، فالبنية التحتية اللازمة لتصدير كميات كبيرة من البترول لا يمكن صناعتها بين يوم وليلة. الشعب قد لا يعرف ذلك، ويظن أن الاقتصاد يجب أن يتحسن اليوم قبل غداً. الشعب قد لا يعرف مثل هذه التفاصيل، لكن من المؤكد أنه يعرف من السياسي الصادق الذي يعمل من أجله والسياسي المخادع الذي يعالجه بالمسكنات والمهدئات فقط.