1 لبنان والعراق… والعقل الميليشيوي
خيرالله خيرالله العرب بريطانيا
لا تبني الميليشيات المذهبية وغير المذهبية، أي الميليشيات بكل أنواعها دولا ولا تطعم الناس خبزا. ما يبني الدول احترام المؤسسات والمواعيد الدستورية.
العقل الميليشيوي يسيطر على دول معيّنة مثل العراق ولبنان
تقبل الميليشيات المذهبية نتائج الانتخابات عندما تروق لها وتعتقد أن في استطاعتها التلاعب بها خدمة لمن تعمل هذه الميليشيات على استرضائه. ترفض هذه الميليشيات نتائج الانتخابات عندما ترى فيها صحوة شعبية لا تصبّ في مصلحة من يسيّرها من طهران.
من أغرب ما يشهده العالم العربي حاليا، أو على الأصحّ العوالم العربية، سيطرة العقل الميليشيوي على دول معيّنة مثل العراق ولبنان. هناك بالطبع في سوريا ما هو أسوأ من العقل الميليشيوي بعدما صار البلد محكوما، أقلّه ظاهرا، من طرف لا همّ له سوى تلبية ما يطلبه الاحتلال الإسرائيلي، أو المشروع التوسّعي الإيراني ذي الطابع المذهبي البحت.
يَحولُ هذا العقل الميليشيوي دون وجود أي مكان للمنطق. ما المنطق وراء عدم قيام حكومة لبنانية تضمّ كفاءات برئاسة سعد الحريري المكلف بتشكيل مثل هذه الحكومة منذ ما يزيد على شهرين؟ ما المنطق الذي يحول دون ظهور النتائج الحقيقية للانتخابات العراقية والانطلاق منها لقيام حكومة جديدة برئاسة حيدر العبادي أو غيره من السياسيين العراقيين؟
الجواب عن هذين السؤاليْن المرتبطيْن بلبنان والعراق أن لا حياة سياسية طبيعية في أي بلد تكون فيه ميليشيات مذهبية مسلّحة تريد فرض رأيها وخياراتها السياسية بالقوّة على الآخرين… إلّا إذا حصلت معجزة في لبنان يستطيع سعد الحريري في ضوئها تشكيل حكومة تساعد في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البلد ومؤسساته واقتصاده ونظامه المصرفي.
لا بدّ من التوقف طويلا عند الذي يجري في لبنان والعراق. يمكن الذهاب حتّى إلى الربط بين لبنان والعراق في هذه الظروف الصعبة التي يمرّ فيها البلدان
في الواقع، أُجريت انتخابات نيابية في لبنان يوم السادس من أيّار – مايو الماضي. بعد ذلك بستة أيام، كانت الانتخابات العراقية. معروف من فاز ومن خسر في الانتخابات اللبنانية التي اعتمد فيها على قانون عجيب غريب استهدف قبل أيّ شيء آخر توفير فرصة الوصول إلى مجلس النوّاب لشخصيات معيّنة تنتمي إلى الطائفة المسيحية لا وجود لقاعدة شعبية لها. سبق لإحدى هذه الشخصيات المارونية أن سقطت في كلّ انتخابات خاضتها في الماضي، في ظروف طبيعية، بسبب وجود رفض لها من الناس العاديين. كان مطلوبا أن تدخل هذه الشخصية مجلس النواب على رأس كتلة تضمّ مجموعة لا بأس بها من الانتهازيين وسطحيي التفكير الذين لا يحسنون سوى قول كلمة نعم.
حصل ذلك بالفعل، وصارت هذه الشخصية تستخدم في مهمّة واضحة المعالم تصبّ في إيجاد غطاء مسيحي لما يطالب به “حزب الله”. في مقدّم ما يطالب به الحزب ترجمة كلام الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني عن ميزان القوى داخل مجلس النواب اللبناني الجديد إلى واقع. قال سليماني إن إيران تمتلك أكثرية من 74 نائبا في مجلس النواب اللبناني الذي عدد أعضائه 128. يتمثل ما تسعى إليه إيران حاليا في لبنان في تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري تكون فيها صاحبة الكلمة الفصل. تريد من رئيس مجلس الوزراء في لبنان أن يكون مجرّد “مدير” لجلسات الحكومة.
يعتبر “حزب الله” بكل بساطة أنّه استطاع، عن طريق قانون الانتخابات الذي فرضه على اللبنانيين، تقليص حجم كتلة “تيار المستقبل”. بات يدّعي، للأسف الشديد، أنّ هناك أصواتا سنّية أخرى في البلد، في حين يسيطر الحزب تماما على الكتلة الشيعية في مجلس النوّاب.هذه حسابات إيرانية خاطئة لا تدرك أنّ سعد الحريري، وهو زعيم وطني لبناني بالفعل، لا يمكن أن يكون مجرّد رئيس صوري لمجلس الوزراء. الدستور واضح كلّ الوضوح في شأن من يشكّل الحكومة في لبنان، وكيف تشكّل هذه الحكومة.
ولكن هل هناك من يريد استيعاب أنّ لغة السلاح الميليشيوي غير الشرعي لا تبني دولا، بل تدمّر ما بقي من مؤسسات الدولة، أيّ دولة. فكيف الأمر مع بلد مثل لبنان يعاني من كلّ أنواع الانهيارات ويحتاج أوّل ما يحتاج إلى الاستفادة من مؤتمر “سيدر” الذي انعقد في باريس في نيسان – أبريل الماضي. لن يستفيد لبنان من نتائج “سيدر” وغير “سيدر” من دون حكومة متوازنة، حكومة وفاقية، ترفض ما تحاول إيران فرضه على لبنان مستخدمة سلاح “حزب الله” والغطاء المسيحي لهذا السلاح الذي يساهم في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.
في لبنان، تفسّر إيران نتائج الانتخابات على طريقتها. في العراق، حيث تمتلك أكثر من ميليشيا مذهبية، نجدها ترفض نتائج الانتخابات. ألغت عمليا هذه الانتخابات معتمدة على ميليشياتها. بقدرة قادر، لم يعد في العراق من هو قادر على تشكيل حكومة. تبيّن بوضوح ليس بعده وضوح أنّ الميليشيات لا تبني دولا ولا مؤسسات ناجحة.
“حزب الله” يعتبر بكل بساطة أنّه استطاع، عن طريق قانون الانتخابات الذي فرضه على اللبنانيين، تقليص حجم كتلة “تيار المستقبل”
هذه الميليشيات، بغض النظر عمّا إذا كانت تابعة لإيران أو لغير إيران، هي الطريق الأقصر إلى القضاء على ما بقي من العراق. لم يعد السؤال هل ستكون هناك حكومة عراقية جديدة؟ صار السؤال ما العمل بالعراق حيث كشفت التظاهرات الشعبية عجزا على كلّ المستويات لنظام فاشل أصلا قائم على المحاصصة الطائفية. نظام فاشل في بلد تتحكم به عمليا الميليشيات المذهبية ولا شيء آخر غير ذلك.
لا تبني الميليشيات المذهبية وغير المذهبية، أي الميليشيات بكلّ أنواعها دولا ولا تطعم الناس خبزا. ما يبني الدول احترام المؤسسات والمواعيد الدستورية. لا يعود هناك معنى للقوانين والممارسة الديمقراطية حيث سلاح آخر غير سلاح الدولة. سلاح يفسّر نتائج الانتخابات كما يريد، وسلاح آخر يلغي نتائج الانتخابات عندما لا تعجبه.
لا بدّ من التوقف طويلا عند الذي يجري في لبنان والعراق. يمكن الذهاب حتّى إلى الربط بين لبنان والعراق في هذه الظروف الصعبة التي يمرّ فيها البلدان. ما يربط بين العراق ولبنان هو سيطرة الميليشيات المذهبية على الحياة السياسية في البلدين. لا مفرّ من الاعتراف بأن لبنان لا يزال يقاوم. لا يزال سعد الحريري، مع كلّ ما يظهره من مرونة رمزا للمقاومة اللبنانية التي ترفض الاستسلام للأمر الواقع الذي يسعى قاسم سليماني، بكل ما يمثله، فرضه على لبنان واللبنانيين.
للمرّة الألف، هناك معركة دائرة في غير بلد عربي بين ثقافة الحياة وثقافة الموت. من بين ما يساعد ثقافة الحياة على الانتصار وجود مؤسسات لدولة تعمل بكلّ حرية في ظلّ احترام للدستور والقوانين المعمول بها واحترام لنتائج الانتخابات، بعيدا عن محاولة التفسير الإيراني لها، كما الحال في لبنان.
أمّا ثقافة الموت، فهي تتمثل في ما تعمل الميليشيات المذهبية من أجل فرضه على اللبنانيين والعراقيين. تعمل هذه الميليشيات التي ليس لديها ما تقدّمه غير نشر البؤس، حيثما حلّت، سوى على القضاء على أمل في أيّ مستقبل أفضل للمواطن العادي. تعمل هذه الميليشيات على أن يكون لبنان والعراق أرضا طاردة لأهل البلدين… لمصلحة مشروع لا وجود لأي أفق حضاري له باستثناء تفتيت المنطقة العربية إربا.
2 روحاني وقاموس صدام رابط مختصر الايام البحرينية
لا غرابة أن يرتفع منسوب التوتر لدى أركان النظام الإيراني وجنرالاته. تعرف طهران أن فصلاً جديدًا صعبًا بدأ منذ اللحظة التي أطل فيها دونالد ترامب على العالم معلنًا خروج بلاده من الاتفاق النووي مع إيران. وما فعله الرئيس الأمريكي منذ ذلك التاريخ حتى اليوم يندرج في باب الضربات المؤلمة الموجهة إلى طهران.
كان الاتفاق الذي توصلت إليه إيران مع الدول الست في صيف 2015 إنجازًا إيرانيًا بكل ما للكلمة من معنى. اعتبرته طهران نزعًا لفتيل أي مواجهة محتملة مع أمريكا وشهادة حسن سلوك دولية مرفقة باستعادة مبالغ مالية هائلة. والحقيقة هي أن أهم ما في الاتفاق هو ما غاب عنه. لقد نجحت طهران بإبقاء سلوكها الإقليمي وتدخلاتها في دول المنطقة وترسانتها الصاروخية خارج أي تفاوض. وهكذا صار باستطاعتها استثمار عائدات الاتفاق النووي في تمويل اندفاعتها الكبيرة في الإقليم. وقد تكون إيران اعتقدت أن الخروج من الاتفاق مستبعد بسبب تحوله اتفاقًا دوليًا. وأن إشارات ترمب عن عدم رضاه عن مضمونه وروحيته ومهله وعدم الربط بينه وبين السلوك الإقليمي لإيران لن تتعدى محاولات الضغط العادية. لكن يخطئ كثيرًا من يعتقد أنه يدرك المدى الذي يمكن أن يذهب إليه ترمب في قراراته. إنه رجل يتخذ بسهولة مفرطة قرارات غير عادية في مواضيع شائكة.
وقد يكون ارتفاع منسوب التوتر عائدًا إلى اكتشاف إيران أن تمسك الموقعين الباقين بالاتفاق لا يعوض خروج أمريكا منه. وأطلق الإيرانيون في الأسابيع الماضية أكثر من إشارة تنم عن عدم ثقتهم بقدرة الأوروبيين على توفير ما تحتاجه إيران من ضمانات سياسية وتعويضات مالية. ترافق ذلك مع رسائل صريحة جاءت عبر شركات أوروبية سارعت إلى القول إنه إذا كان عليها أن تختار بين العلاقة مع إيران والعلاقة مع أمريكا فإنها تختار الثانية بلا تردد.
لم يكن قرار ترامب الخروج من الاتفاق النووي نزوة أو ضربة تلفزيونية. التحرك الذي تقوم به إدارته استعدادًا للعقوبات النفطية المقرر أن تبدأ في الرابع من نوفمبر المقبل يوحي بأن إيران ستواجه انخفاضًا في صادراتها وتاليا في مداخيلها وفي وقت تزايدت فيه أعباؤها بفعل انخراطها في مواجهات عسكرية والتزامها بتمويل ميليشيات حليفة في ساحات عدة.
أخطر ما في الصعوبات الاقتصادية التي تلوح في الأفق هو إمكان انتقال المتاعب إلى الملعب الإيراني نفسه، أي إلى عقر دار النظام. وإذا أخذنا في الاعتبار الاحتجاجات المطلبية الجوالة في المدن والمناطق الإيرانية أدركنا أن مزيدًا من نقص الموارد يمكن أن يصب الزيت على نار النقمة الشعبية التي رافقها ارتفاع شعارات تطالب بوقف الإنفاق على حروب الخارج للالتفات إلى أوضاع الداخل. صحيح أن الأجهزة الإيرانية تمتلك خبرة غير عادية في محاصرة الاحتجاجات وتشتيتها وإطفاء نارها، لكن الصحيح أيضًا أن مشاعر الخيبة من أداء الحكومات المتعاقبة قد يضع النظام أمام امتحانات صعبة. والأرقام التي تنشر حول البطالة والفقر وتدهور سعر العملة وتراجع مستوى الخدمات تنال بالتأكيد من صورة النظام وحكوماته.
يضاف إلى ذلك أن الأوروبيين الذين أعلنوا التمسك بالاتفاق النووي مع إيران لم يترددوا وفي أكثر من مناسبة في إدانة سياسة زعزعة الاستقرار التي تنتهجها إيران على مستوى الإقليم. وليس بسيطًا أن يسود الاعتقاد في المنطقة وخارجها أن لجم سياسة زعزعة الاستقرار الإيرانية لا يقل أهمية عن ضرورة لجم طموحاتها النووية.
ثمة أسباب أخرى أيضًا بينها أن حرائق المنطقة ليست متروكة في عهدة القوى الإقليمية مواجهة أو اتفاقًا، بل صارت في عهدة القوى الدولية الكبرى. التدخل الروسي الحاسم في الحرب السورية كثير الدلالات في هذا السياق. والتسليم الدولي بسوريا الروسية هو في وجهه الأول دليل على الرفض الإقليمي والدولي لقيام سوريا الإيرانية. وتولي روسيا رعاية عودة الجيش السوري إلى خطوط فك الاشتباك مع إسرائيل ووفق القواعد التي كان معمولا بها منذ 1974 رسالة صريحة لإيران بالابتعاد عن المنطقة. وتدرك طهران تماما أن موضوع سوريا عولج في قمة هلسنكي الأمريكية – الروسية انطلاقًا من مستلزمات أمن إسرائيل وضبط التدخلات الإيرانية ومساعدة النازحين السوريين. يضاف إلى ذلك أن التدخل الإيراني في اليمن ليس موعودا بالنجاح وأن عاصمتين من العواصم الأربع التي احتفلت طهران بانضمامها إلى منطقة نفوذها، وهما بغداد وبيروت، تشهدان تنازعًا على تشكيل الحكومة رغم إجراء انتخابات.
ولأن الصورة على هذا النحو تصاعد منسوب التوتر في طهران. ظهر ذلك جليا في تصريحات الرئيس حسن روحاني التي لمح فيها إلى إغلاق مضيق هرمز إذا تعذر على إيران تصدير نفطها. وحظيت لهجة روحاني هذه بمباركة المرشد وإشادة جنرالات «الحرس». وتأكيدًا لعمق المخاوف ذهب روحاني أبعد من ذلك. قال لترامب: «لا تلعب بذيل الأسد فلن يؤدي ذلك إلا إلى الندم». وكان اللافت لجوء روحاني إلى تعابير من قاموس صدام حسين حين قال للرئيس الأمريكي إن «السلام مع إيران سيكون أم كل سلام، والحرب مع إيران ستكون أم كل المعارك». واضح أن الشرق الأوسط يتجه نحو شهور صعبة. وأن التوتر ينتقل من الملف السوري إلى الملف الإيراني. وواضح أيضا أن الخيارات الإيرانية صعبة. إما تجرع سم العقوبات مجددًا وانتظار رحيل ترامب، وإما القبول بمفاوضات حول البرنامج النووي والدور الإقليمي معا. والخياران صعبان للمرشد وجنرالات «الحرس». أما الذهاب إلى «أم المعارك» فتجربة صدام حسين لا تشجع على ارتكاب رحلة مدمرة من هذا النوع.
3 العراق والحروب الحمقاء جيمس زغبي الاتحاد الاماراتية
قبل خمسة عشر عاماً انقضت، كنا لا نزال في المراحل الأولى من الاجتياح والاحتلال الأميركي للعراق.. تلك الحرب التي غيرت كل شيء. وعندما أنظر حالياً إلى الشرق الأوسط، أشعر بحزن جامح، بينما أفكر في ذلك التأثير الغامر والجائح للحرب في بلاد الرافدين على أميركا والمنطقة وشعوبهما. وكان «المحافظون الجدد» قد بدؤوا يدفعون إدارة بوش دفعاً من أجل شنّ الحرب على العراق بعد الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 مباشرة، زاعمين أن على أميركا أن ترد بقوة ساحقة على تلك الهجمات المفزعة كي تظهر أنه لا يمكن العبث بأمن الأميركيين. ومن وجهة نظرهم، كان إظهار القوة الحاسمة ضرورة لترسيخ الهيمنة الأميركية دون منازع، ولتفادي أي تحرك نحو عالم متعدد الأقطاب مثلما حدث إبّان الحرب الباردة.
ولابد من التأكيد أن الحرب التي ترتكز على الأكاذيب، ولا أقصد الأكاذيب حول البرنامج النووي لصدام حسين أو ارتباطه بالإرهابيين الذين نفّذوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وإنما الافتراءات الخبيثة: كالقول إن «الحرب ستكون مجرد نزهة»، و«لن تتطلب الدفع بأعداد كبيرة من الجنود أو إهدار الموارد»، و«ستنتهي سريعاً، وسيتم استقبالنا استقبال الفاتحين»، و«سيصبح في العراق نظام ديمقراطي»، و«الشرق الأوسط سيتحول بأسره». والآن، بعد مرور 15 عاماً، ثبتت صحة زعم واحد من تلك المزاعم، وهو أن «المنطقة ستتحول بأسرها»، لكن ليس على النحو الذي تصوره المحافظون الجدد!
ومرة أخرى يجدر بنا تأكيد مدى الدمار الذي سببته الحرب، فالحرب نفسها كشفت انقسامات عميقة في المجتمع العراقي، ولم يسهم الفشل المتشح بالجهل للاحتلال الأميركي سوى في تعميق تلك الانقسامات. ومع تفكك الوزارات والجيش العراقي، سقطت الدولة في الفوضى، مع شنّ الميليشيات الطائفية المتنافسة لحرب أهلية حامية. وأسفر ذلك عن تشريد الأقليات الدينية المستضعفة وحركة نزوح ضخمة للمدنيين، أصبح ملايين منهم لاجئين أو نازحين. وحدث ذلك كله على مرأى ومسمع من إدارة بوش و«المحافظين».
ومن التبعات الخرقاء الأخرى لتلك الحرب انتشار التطرف، فـ«القاعدة» لا تزال بعيدة عن الهزيمة، بل استفحل خطرها وتحولت إلى صور أخرى أحدث وأشد فتكاً، في داخل العراق والدول المحيطة به.
وفي ظل ضعف العراق وتصدعه، وجدت إيران موطأ قدم استغلته لصالحها، ولا تزال إيران تعبث بأمن العراق. وبعدما ظلت مدحورة لفترة طويلة بسبب منافستها بغداد، تسعى طهران إلى التوسع خارج حدودها. ومن خلال التربح من نزعة العداء المتزايد لأميركا والتوترات الطائفية في الدول الأخرى، تجرأت إيران على التدخل في الشؤون الإقليمية. وجعل ذلك دول المنطقة تشعر بالحاجة إلى مواجهة هذا التهديد الإيراني المزعزع والمتنامي. وبالطبع، جرّأت حرب «المحافظين الجدد» إسرائيل على المضي قدماً في أجندتها العدوانية لإخضاع الفلسطينيين، والتوسع في سياساتها الاستيطانية.
والولايات المتحدة، التي كانت تعتبر قوة عظمى مهيمنة بعد انتصارها في الحرب الباردة، وجدت نفسها متورطة في حرب لا يمكنها الانتصار فيها، وأوهنت الخسائر جيشها وأضعفت معنوياته. ولم تعد واشنطن تحظى بالمصداقية ذاتها في العالم العربي نتيجة لفشلها الدامي وسلوكها النابي في العراق، ورفضها المستعصي لمواجهة حليفتها وعميلتها إسرائيل.
وتغافل المحافظون الجدد عن الواقع في الشرق الأوسط أدى في الحقيقة إلى ميلاد «شرق أوسط جديد»، لكنه على النقيض تماماً من ذلك الذي كانوا يتخيلونه. فمع انزلاق المنطقة إلى عدد من الأزمات الجديدة والحروب المديدة، أضحى تأثر حرب العراق أكثر وضوحاً، لاسيما في ظل عبثية إيران في هذه الحروب كافة، ومع لعب تنظيم «القاعدة» والتنظيمات المتفرعة منه لدور جديد ودامي في كل من العراق وسوريا. وقد ظهرت كل من روسيا وتركيا الآن كلاعبتين في المنطقة، مع دفاع كل منهما عن ما تعتبر مصالحها.
4 قاسم سليماني … كلِّمني! علي الرز الراي الكويتية
السيّد رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب، كَلِّمْني أنا ولا تُكَلِّمْه. هو مجرّد موظّفٍ برتبةِ رئيس جمهورية. وإذا كان هو نفسه لا يُصَدِّق أنه رئيس جمهوريةٍ كامل الصلاحيات فلماذا تُصَدِّق أنت؟ أين استخباراتك التي ملأتْ الدنيا لتكتب لك أن القرار لا في يد الرئيس روحاني ولا حتى في مكتبه ولا في طهران نفسها ولا عند الحكومة أو الوزراء… بل ولا في قيادة الجيش؟
تَحَدَّثْ معي إن أَرَدْتَ أن تسمع إجاباتٍ تحرّك فيك غريزةَ المقامرة وتحفز لديك هرمون الربح والخسارة. تَحَدَّثْ معي أنا، حيث الأمر لي والأرض لي والسلطة لي. تعالَ لنتقابل في أي منطقةٍ سواء داخل امبراطوريتنا الممتدّة من حدود الصين حتى شواطئ غزة أو خارجها في البحر الأحمر مثلاً. وضعتُ توقيعي قبل أيام في باب المندب، هل رأيتَه؟
ابْعَثْ بمراسيلك السرية لي، فإذا قلتُ كلمتي اعْلَمْ أنها ممهورةٌ بختْم المرشد. ولولا شيء من الاعتبار لدولٍ أوروبية تحاول مُساعَدَتَنا في تطويق آثار قراراتكم النزقة
في ما يتعلّق بالاتفاق النووي، لكنتَ رأيت توقيعي واضحاً في شوارع هذه الدول أو لكنتُ وقّعتُ لك باسمٍ مستعار مثل «داعش» أو «القاعدة»، لكن النصائح تتوالى بأن نساعدهم قليلاً في الظهور بمظهر متحضّر، راقٍ، مسؤولٍ وظريف… وظريف هو المسؤول عن هذا الملف حتى الآن، فساعِدْ أنتَ أيضاً الدولَ الأوروبية وابقِه مسؤولاً لأن انتقال الملف النووي إلى رجالنا سَيُشْعِل العالم.
هنا، بعض الأمور التي يمكنها أن تُقْنِعَكَ بالتحدّث معي شخصياً. فأنا لا أريد أن أرى مناصرينا في لبنان يخطفون عشرات الأجانب وبينهم أميركيون تَضامُناً ضدّ الهجمة الاستعمارية على الجمهورية الإسلامية. تَذَكَّرْ قبل ثلاثة عقود كيف قَبَّلَتْ استخباراتُ العالم كله أيادينا كي يُفرَج عنهم عندما خَطَفَهُم «المجاهدون» في لبنان، وكيف أن دمشق المعزولة آنذاك باتتْ قبلةَ وسائل الإعلام العالمية والمسؤولين الدوليين الذين أشادوا بحكمة الرئيس الراحل حافظ الأسد وهم يرون المُفْرَج عنهم يُعامَلون أفضل معاملة في وزارة الخارجية السورية.
أذكّركَ، ويمكن أن تسأل قادة جيشِكَ آنذاك، كيف سهّلْنا لطائراتكم العبور فوق أراضي الجمهورية الإسلامية لضرْب الإرهابيين في أفغانستان، وكيف سهّلْنا خروجَ قادة «القاعدة» إلى إيران. وعندما طالبتُم بهم أَطْلَقْنا المعادلة التالية: «إرهابيونا (مجاهدين خلق) مقابل إرهابييكم». ومِن يومها وأنتم تلعبون بعدم تكافؤ على أرض العراق في حربٍ انتهتْ لمصلحتنا، وربما عليكَ أن تشكرني لأنني في أماكن كثيرة أَبْعَدْتُ كأسَ الإبادة عن آلاف الجنود الأميركيين.
تتكلّمْ مع الروسي والإسرائيلي في سورية ولا تتكلّمْ معي. تَكَلَّمْتَ سابقاً مع كل الكرة الأرضية في العراق، ثم اضطُرِرْتَ إلى التعاون مع ميليشياتي، وأنا آسف للتعبير لكنني قَصَدْتُه، وقد تُضْطَرّ للتعامل مع ميليشياتي في سورية، بما فيها النظام نفسه، إن استمرتْ محاولات إقصائي عن المَشهد. تماماً كما اضطُرِرْتُم إلى التكلم مع ميليشياتي في اليمن، وجماعاتي في فلسطين.
كَلِّمْني أنا، قاسم سليماني، عاشِق الحياة والقوة والتمدُّد الإمبراطوري في خرائط أَقْنَعْتُ أهلَها بعشق الموت كي نحيا. أَقْنَعْتُهُم بأنّ طَلَبَ الآخِرة ممرٌّ إلزامي كي تبقى جمهوريتنا الإسلامية في الدنيا. أَقْنَعْتُهُم بحرْق أوطانهم ومجتمعاتهم كي يغطّي دخانُها ورمادُها المتطاير على حدودنا وأسوارنا وأفعالنا ومفاعلاتنا. لم نَحتلّ عواصم العرب كي نتواجه في طهران بل هناك، ولم نُخْرِج هؤلاء «الاستشهاديين» و«الانغماسيين» من مختبراتِنا لاستخدامهم عندنا بل… عندكم.
إذا اقْتَنَعْتَ بالحديث معي، فرجال استخباراتك يعرفون العنوان، أما إذا فَضَّلْتَ الاستمرار في مراسلةِ روحاني، فدعْني أستمرّ في عملي بين مضيقيْ هرمز وباب المندب، ولبنان وسورية والعراق وأفغانستان وباكستان، وفي أيّ دولةٍ يمكننا فيها أن نَضْرب مَصالحَكم أو نخْطف رجالَكم.
وَفِّرْ على نفسِك واقْتَدِ بِسَلَفِك أوباما… وكَلِّمْني.
5 هل يشكّل طارق نجم الحكومة العراقيّة المقبلة؟ حميد الكفائي الحياة السعودية
قد ينتمي القيادي في حزب الدعوة الإسلامية العراقي، الدكتور طارق نجم عبدالله، إلى صنف نادر من السياسيين. فعلى رغم انتمائه الى حزب سياسي لأربعة عقود، وانتخابه لقيادته منذ مطلع الألفية الثالثة، إلا أنه لم يسعَ يوماً الى شهرة أو منصب، فلم يجرِ مقابلة صحافية واحدة، ولم يدلِ بتصريح سياسي مطلقاً، وحتى محاضراته السياسية، على قلتها، لم تتجاوز مستمعيها.
تعرّف العالم على طارق نجم عام ٢٠٠٦ كرئيس لمكتب رئاسة الوزراء، وهو بحق المنصب الثاني في الدولة بعد رئيس الوزراء، أو هكذا جعل منه طارق نجم، تماماً كما حوّل ستالين منصب «السكرتير» إلى زعيم الحزب الشيوعي. أمضى طارق في المنصب أربع سنوات وكان فاعلاً وحاسماً في أهم القضايا في تلك المرحلة، وإليه دون غيره، يُعزى نجاح حكومة المالكي الأولى. حظي طارق بثقة الأطراف السياسية العراقية جميعها، إضافة إلى دول أخرى إقليمية ودولية، وقد استعانت به حكومتا المالكي والعبادي، حتى بعد مغادرته المنصب، لمعالجة الانسدادات السياسية وفتح حوارات مع الأحزاب السياسية. المرجعية الدينية هي الأخرى تثق به وربما تحبذ أن يتولى رئاسة الوزراء، لكن العقبة أمام تولي طارق نجم رئاسة الوزراء هي طارق نجم نفسه. فقد رفضها عام ٢٠١٤ عندما كان الخيار الأول للمنصب، ورفضها عام ٢٠١٠، عندما طرح اسمه بديلاً للمالكي عندما تعثرت مساعي حصوله على ولاية ثانية.
يذكّرني طارق نجم بجاك ديلور، رئيس المفوضية الأوروبية وأحد مؤسسي الاتحاد الأوروبي، حينما طلب منه الحزب الاشتراكي الفرنسي أن يترشح لرئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية فرانسوا ميتران، لكن ديلور رفضها قائلاً إنه وعد زوجته بأنه لن يتولى منصباً بعد انتهاء رئاسته المفوضية. حاول زعماء الحزب الاشتراكي إقناعه بأن استطلاعات الرأي تشير إلى أنه سيفوز على المرشحين الآخرين، جاك شيراك وإدوارد بلادور، لكنه أصر على التقاعد زاهداً برئاسة دولة عظمى. وفعلاً خسر الحزب الاشتراكي وفاز جاك شيراك بالرئاسة. وقبل ذلك بعقدين، كان لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق، هارولد ويلسون، موقف مماثل عندما قرر التقاعد عام ١٩٧٦متجاهلاً مناشدات حزب العمال بأن استقالته تعني خسارة الحزب في الانتخابات المقبلة. لكن ويلسون مضى في خطته واستقال في عيد ميلاده الستين، فخسر العمال في انتخابات عام ١٩٧٩ التي فازت فيها مارغريت ثاتشر.
التقيت بطارق نجم مرتين، الأولى في بيته في لندن عام ٢٠٠٦، والثانية في السفارة العراقية في واشنطن عام ٢٠٠٧. وفي كلا اللقائين، وجدته مستمتعاً بالاستماع الى محدثيه ومقلاً في كلامه. حدثته في لقائي الأول عن مشاكل الحكومة، وقلت له إن إحدى معضلاتها هي سعي أطرافها الى إضعاف بعضها بعضاً، وشرحت له كيف أضعف آخرون موقفي وعرقلوا عملي بينما يفترض بهم أن يكونوا داعمين. وفي نهاية اللقاء، تحدث طارق بكلمات قليلة مفادها «انسَ الماضي ودعنا نركز على المستقبل». ثم أخرج ورقة صغيرة من جيبه وكتب عليها اسمه ورقم هاتفه ثم سلّمها إلي قائلاً: «تعال إلى بغداد واتصل بي وسنعمل على تصحيح الأخطاء». لم آخذ بنصيحته ولم أذهب إلى بغداد.
يقول المقربون من طارق إنه إداري من الطراز الأول، لا يمل من العمل، يقول ويفعل، ولا ينسى واجباته أو يهملها مطلقاً، يفي بوعده ويصدق عهده، نزيه ومنصف، وفي الوقت نفسه ليس طوباوياً بل واقعي وبراغماتي عند الضرورة. استقال طارق من منصبه عام ٢٠١٠ على إثر خلاف مع المالكي حول كيفية إدارة الدولة، فتفرغ تماماً للعمل الحزبي. وفي فترة قيادته تنظيمات الحزب، تمكن من توسيع عضويته بين الشباب، ومعظم هؤلاء، وقد تحدثت إلى بعضهم، يؤمنون بجدارته وأهليته لقيادة البلد.
أخفق طارق حتى الآن في إصلاح الشرخ في قيادة الدعوة الذي وقع عام ٢٠١٤، إثر ترشح العبادي لرئاسة الوزراء بديلاً عن المالكي. فظلت الخلافات تعصف بالحزب حتى انتهى به الأمر لأن يقدم قائمتين انتخابيتين متنافستين في الانتخابات الأخيرة، إحداهما بزعامة العبادي والأخرى بزعامة المالكي، وكانت النتيجة خسارة آلاف الأصوات وفشل كلتا القائمتين في أن تشكل الكتلة الأكبر. لكن طارق بقي يحظى باحترام كبير بين شقي الحزب المحتربين، وقد يمكِّنه هذا الموقع من توحيد الحزب بقائمتيه، شريطة أن يتفق العبادي والمالكي على التنحي خدمة للحزب. لو اتفق قادة الدعوة على تولي طارق نجم القيادة، فإن الحزب سيتوحد ويحتفظ برئاسة الوزراء، لأن قائمتيه، إن توحدتا، ستشكلان معاً الكتلة الأكبر. وفي خلاف ذلك، فإن الحزب لا يبتعد من السلطة فحسب، بل يسير نحو التشتت والضعف. وعلى رغم أن الكتلة الأكبر حالياً، “سائرون”، بزعامة مقتدى الصدر، تقبل بالتحالف مع العبادي، لكنها ترفض أي دور للمالكي في الحكومة المقبلة. لكن قبول الصدر بالعبادي حليفاً، لا يعني قبوله رئيساً للوزراء.
لن يتوحد جناحا حزب الدعوة مطــلقاً إن تُرك الأمر للمالكي والعبادي، فهما خصمان لدودان لن يقبل أحدهما بالآخر. الأول يتهم الثاني بالتآمر والضعف، والثاني يتهم الأول بالفشل وتبديد ثروة العراق، وإن لم تكن هذه الاتهامات صريــحة فإنــها واضحة. لن يسعى المالكي إلى رئاسة الحكومة لأسباب كثيرة، لكن تنازله للعبادي مستبعد إلا إذا ضمن عدم ملاحقته قانونياً بتهم الفساد. لقد استنفد العبادي طاقته وقدراته خلال الأعوام الأربعة الماضية، وليس هناك ما يمكنه تقديمه في الفترة المقبلة. نجح في قيادة الحرب على داعش، لكنْ لهذا النجاح آباء كثيرون، عراقيون وأجانب. إن شكّل العبادي الحكومة المقبلة فإنها ستكون ضعيفة، بل أضعف من الحكومة الأولى. وإن شكلها طارق فإنها ستكون أقوى وأكثر حزماً لما يتمتع به من مقـــبولية واحترام كبيرين في الأوساط السياسية. هل سيـــــغير طارق رأيه ويتصدى لرئاسة الوزراء؟ نعم سيفعل، لكن عندما يحظى بإجماع من شقي الحزب ويمهد له الزعيمان الطريق بالتنحي. إن لم تحصل تسوية بتنحي الزعيمين، فإن حزب الدعوة سيخسر رئاسة الوزراء ربما لفترة طويلة، تماماً كما خسر حزب العمال في بريطانيا عام ١٩٧٩ والحزب الاشتراكي في فرنسا عام ١٩٩٥.
6 مَن حَرَّك ويُحرِّك…. تظاهُرات العراق؟ محمد خروب الراي الاردنية
تتواصل الأزمة السياسية المُتدحرجة في العراق، الناتجة في الأساس عن عدم القدرة على تشكيل حكومة جديدة بعد انتخابات 12 ايار الماضي، في الوقت ذاته الذي لم تجد الاحزاب المُتنفِّذة والاجهزة الأمنية والإدارية العراقية، جواباً على السؤال المُمِضّ الذي طُرح منذ الثامن من تموز الجاري (اندلاع التظاهُرات), وهو: مَن يُحرِّك التظاهرات الشعبية العارمة؟. تلك التظاهرات غير المسبوقة في عديدها وشموليتها الجغرافية وخصوصاً انطلاقتها من مدن وبلدات الجنوب، الذي ظن كثيرون من قادة هذه الاحزاب وبخاصة تلك التي تتّكئ على الخطاب المذهبي انه (الجنوب) مضمون بل ممسوك، وبالتالي، فإن الخشية قائمة من مدن وبلدات الوسط والغرب ناهيك عن”الشمال”الكردي، الذي تلقّى ضربة موجعة وربما كانت ستكون قاتلة، بعد الخطيئة الكبرى التي قارفها رئيس اقليم كردستان العراق السابق مسعود بارزاني، بإصراره على اجراء استفتاء 25 ايلول الماضي. والذي انتهى بكوارث سياسية واجتماعية وعسكرية، فضلاً عما لحق بسمعة ونفوذ ومكانة “كاك مسعود”.. شخصياً.
وإذ دخل المرجع الأعلى علي السيستاني على خط الازمة المفتوحة ذات البعدين الاجتماعي والسايسي، عبر خطبة الجمعة الاخيرة التي ألقاها ممثله عبدالمهدي الكربلائي، ما اثار مخاوف قادة الاحزاب”الفائزة”في الانتخابات والتي فشلت حتى الان، لاسباب ذاتية وصراعات شخصية وانعدام ثقة وارتهان معظمها لعواصم اقليمية واخرى دولية، فإن تحذير السيستاني بان “موجة التظاهرات المطاِلبة بالاصلاح ستستثمر في المستقبل, وقد تتطوَّر الى اشكال جديدة”، تعكس ضمن امور اخرى، خطوة مثيرة ولافتة اقدم عليها المرجع الاعلى بانضمامه – أو ميلِه – لصفوف المتظاهرين وتراجعِه (نسبياً) عن تقديم الدعم للطبقتين السياسية والحزبية، اللتيْن افرزهما الاحتلال الاميركي، وهما مَن واصلتا الإمساك بالعراق حكومة وجيشاً واقتصاداً وأمناً وغيرها من الملفات طوال خمسة عشر عاماً، لكنهما لم تُسجِّلا اي نجاحات تذكر، بل أوصلتا العراق لِيكون على”رأس”اكثر دول العالم…فساداً، وِفق تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ذاتِ الصلة.
في سياق الدعم (النسبي وغير المحسوم دائماً) الذي اعلنه السيد السيستاني لمطالب المتظاهرين الذين هم في معظمهم بسطاء وفقراء ومعدومين وفق تحقيقات الاجهزة الاستخبارية العراقية التي نقلتها الصحف والمواقع العراقية، وهم الذين يوصفون بـِ”جيل الاحتلال”او”جيل الحواسم”، والتي تنحصر مطالبهم في توفير الماء والكهرباء والأمن والوطائف، برز ايضاً ما جاء في خطبة الجمعة، دعوته لتشكيل حكومة تكنوقراط (اي غير حزبية) وتحديداً لصفات رئيس الوزراء الجديد، ومنه “ان يكون حازماً وقوياً، يتّسم بالشجاعة الكافية في مكافحة الفساد المالي والاداري، الذي هو الاساس في ما يعانيه البلد من سوء الاوضاع”، وبالتالي”يجب عليه (رئيس الحكومة الجديد) ان”يعتبر ذلك واجِبه الاوّل ومهمته الاساسية، ويشن حرباً على الفاسِدين وحُماتهم”.
توصيف لوظيفة رفيعة كان الأولى ان يكون (التوصيف) عنوان”المرحلة السابقة”التي بدأت مع احتلال العراق، وبخاصة ان شعارات”الديمقراطيين العراقيين…الجدد”الذين جاؤوا على ظهور الدبابات الاميركية، كانت وردِية، تعِد العراقيين بنظام ديمقراطي وشفاف، يأتي قادته عبر صناديق الانتخابات ويلتزمون القانون وتداول السلطة، ويطمِسون على كل تفرقة او ممارسات ذات طابع طائفي او مذهبي او عرقي، لكنهم عمقّوا من كل هذه الامراض التي ادّعوا انها سبب انهيار العراق وتأخُّره وانعدام الخدمات واحترام القانون فيه. وها هي النتائج مكتوبة على الحائط بعد خمسة عشرعاماً من”التغيير”. الذي تمّ على يد المحتل الاميركي، المدعوم من بعض العرب.
المشهد العراقي بات محكوماً – اراد الساعون لتشكيل الكتلة الاكبر ام لم يريدوا – بما يريده “جيل الاحتلال”، مِن الشباب الذين ضاقوا ذرعاً بكل الوعود (اقرأ الاكاذيب) التي ضخّها ويضخّها هؤلاء، ويبدو انهم لن يقبلوا العودة إلى ما كان العراق…عليه، قبل الثامن من تموز الماضي. وانهم في صدد كتابة جدول اعمال جديد، يجب وبالضرورة ان يلتزمه هؤلاء الذين يُكيدون لبعضهم من أجل الفوز بكعكة السلطة ونعيمها، ولم تعد تُقنِعهم القرارات السريعة والمُرتجّلة التي تزعم توفير اربعة مليارات من الدولارات لرفع منسوب الخدمات (المُنهارة اصلاً)، وهم ما يزالون يطرحون أسئلة لايجدون اجوبة عليها: اين ذهبت مليارات تم دفعها على مشروعات وَهمِية..لم تُنفّذ؟