1 عودة الى الانتخابات العراقية: تزوير فاضح وقضاء مسيس ومتردد وتحالفات مصلحية سعد ناجي جواد
راي اليوم بريطانيا
لا اعتقد ان هناك حاجة، بعد كل ما كتب وقيل عن تزوير الانتخابات العراقية الاخيرة، للعودة ثانية الى الكتابة عن هذه المسالة المشينة، و أصلا لا يوجد ما يمكن ان تضيفه اية كلمات او توصيفات لما جرى، او عن ما شاب هذه العملية من تزوير وفساد. وما يؤلم الكثير من العراقيين، وانا منهم، ان هذه العملية التي أُغدِقَت عليها مليارات الدنانير العراقية، والتي كان بؤساء وفقراء ومهجري و عطاشى الشعب العراقي والمحرومين من الكهرباء والخدمات الاساسية أولى بها، قد ذهبت في جيوب الفاسدين، وكالعادة لا يوجد من يحاسب او يعاقب.
لقد رَكَزَ الاعلام العراقي، ومعه الاعلام العربي، في الفترة التي تلت الانتخابات والاعتراضات عليها، على مسألتين، الاولى هي رد فعل مجلس النواب والنواب الخاسرين، والذي ستنتهي ولايتهما في نهاية هذا الشهر، الا اذا نجحوا في تمديد عملهم حتى ظهور نتائج الاعتراضات و المصادقة على النتائج النهائية. ولا احد يدري كم ستطول هذه المدة. والمسألة الثانية هي رد فعل مجلس القضاء الأعلى على قرارات البرلمان وعلى التزوير الذي حصل. ويبدو ان أصواتا غير قليلة قد رحبت بهذين الحدثين. ولقد فات هؤلاء المرحبين ان رد فعل البرلمان والبرلمانيين الخاسرين لم يكن صحوة ضمير متاخرة، او انتفاضة ضد فساد فاضح او محاولة للإصلاح، وإنما هو في حقيقته صراع بين فاسدين فشلوا في ان يُسَيّروا العملية لصالحهم، وبين فاسدين نجحوا في ذلك. نعم ربما يكون من بين الأصوات القليلة المعترضة من دفعته غيرة وطنية وشعور يحيف كبير لحق بهم، ولكن هذه القلة القليلة لا تمثل الاعم الأغلب من الاعتراضات. ويكفي القول ان تأتي الاعتراضات الكبيرة والصحيحة على اداء (المفوضية المستقلة؟؟ للانتخابات) من قبل البرلمان الذي اصر على اختيارها، وعلى استبعاد الوجوه الكفوءة منها، واستبعاد القضاة من المشاركة فيها، يمثل ادانة للبرلمان الذي اختارها والذي يدين أداءها اليوم.
اما فيما يتعلق بتحرك مجلس القضاء الأعلى فلا يمكن ان يقال عنه ابتداءا سوى انه جاء متاخرا اولا، وثانيا وهو الأدهى، انه جاء كرد فعل على قرارات البرلمان الذي كما ذكرنا سابقا، كان المسؤول الاول عنها. وربما كانت فرحة الغالبية العظمى من العراقيين ستكون اكبر لو جاءت مبادرة القضاء مباشرة بعد ان فاحت رائحة الفساد والتزوير. ولكن كل الدلائل كانت تشير الى سكوت القضاء عن ما جرى والقبول به، وهذا يمكن اكتشافه من مراجعة التصريحات الاولية لأعضاء اعلى هيئة قضائية في البلاد. ثم ان القرارات القضائية التي صدرت فيها محاباة للفاسدين، وأهمها القرار القاضي بإعادة الفرز واعتماد العد اليدوي في المراكز التي تم الاعتراض عليها فقط، وعدم المساس بتصويت الخارج او التصويت الخاص او ذلك الذي يتعلق بالحركة السكانية، في حين ان كل الدلائل تشير الى ان التصويت الخاص و تصويت الخارج والحركة السكانية قد شابهم تزوير كبير وتأثير على النتائج.
وعلى الرغم من كل ما قيل أعلاه، وان اعادة النظر فيه ربما تؤثر على النتائج، هذا اذا ما تمت عملية العد اليدوي بمراقبة واضحة ومحايدة ونزيهة، وبدون تزوير او شراء ذمم او الاستمرار في حرق وإتلاف صناديق الاقتراع، فان التحالفات المختلفة تسير قدما في تكوين الكتلة الأكبر في البرلمان، والتي يحق لها تشكيل الوزارة القادمة. وهذه التحالفات، كالتحالفات التي قامت قبل الانتخابات، ليست مبنية على أسس مبدئية. و تتغير طبقا لمصالح الساعين لها، ويشم منها رائحة تاثيرات الخارج وليس مصلحة العراق والعراقيين. وان كل ما قيل عن محاربة الفساد وبدا عملية الإعمار وإعادة بناء عراق قوي و متمكن ما هي الا كلام، كالكلام المعسول الذي سمعناه من الولايات المتحدة قبل الاحتلال عن بِناء عراق ديمقراطي مرفه اقتصاديا وتُحتّرَم فيه حقوق الانسان، او كلام الساسة الذين حكموا العراق منذ ذلك التاريخ ولحد هذا اليوم، والذي لم ينتج عنه سوى فساد مستشري و حكم محاصصاتي طائفي وتهجير قسري، ناهيك عن القتل و الإهدار اليومي للأرواح العراقية البريئة والزكية. وظلت الوجوه الفاسدة تتسيد المشهد السياسي، ولم نسمع عن احالة فاسد كبير واحد للقضاء، واذا ما تم ذلك فان تبرئته تكون أسرع بكثير من عملية ادانته. لا بل في كل يوم تتعالى اكثر أصوات الفاسدين وتحديهم لمشاعر الغالبية العظمى من العراقيين بدون اي خجل او وجل. وهكذا فان الخلاص الذي يحلم به العراقيون من الكابوس الذي عاشوا فيه سيطول وسيطول حتى تُبادر شرائح المجتمع العراقي ، وخاصة المتضررين والمعدمين الى الانتفاض عليه. لقد اثبتت الوقائع ان الغالبية العظمى من العراقيين قد عزفت عن المشاركة في الانتخابات التي كانوا يعرفون مسبقا بأنها ستكون مزورة، وأن نتيجتها سوف لن تكون إلا تدوير للفساد والفاسدين، وأنهم بمقاطعتهم فضحوا هذه الديمقراطية الكاذبة المبنية على التزوير وعلى ما ترغبه وتخطط له إرادات خارجية لا تأبه بمصالح العراق والعراقيين ، وما مطلوب منهم الان ان يكملوا هذه الخطوة الصحيحة بتوحيد صفوفهم للتخلص من كل هذه السلبيات، فهل سيحدثُ ذلك؟
2 العراق عشية 14 من آذار النمصطفى فحص الايام البحرينية
شكل إعلان التحالف السياسي ما بين كتلتي «سائرون» بزعامة السيد مقتدى الصدر، و«الفتح» التي تضم فصائل الحشد الشعبي، ضربة سياسية ومعنوية للحراك المدني العراقي، الذي راهنت بعض أطرافه على نتائج الانتخابات البرلمانية لتشكيل تحالفات سياسية تحت قبة البرلمان، تعكس أحجام مكوناتها وبرامجها داخل تركيبة الحكومة العتيدة، فقد قطع تحالف «الفتح – سائرون» الطريق على إمكانية تشكيل أغلبية وطنية عابرة للطوائف، وأعاد الأمور إلى المربع الطائفي المتمسك بالمحاصصة. فالعودة إلى تفاهم المكونات الطائفية والعرقية عبر الكتل الطائفية أو القومية الكبرى، ضربة موجعة لدعوات إصلاح مؤسسات الدولة من الداخل، عبر حكومة أغلبية وطنية مطعمة بشخصيات تكنوقراط أو خبراء، تشكل البديل الملح للعراق والعراقيين، بعد سنوات من فشل حكومات التوافق الوطني المتعاقبة في إدارة البلاد سياسيًا، وأمنيًا، واقتصاديًا. وعليه، فإن الأوساط المدنية والعلمانية واليسارية والشيوعية، وحتى الإسلامية المعتدلة (السنية والشيعية) تمر بخيبة أمل جراء التحولات في مواقف بعض الأحزاب والتيارات السياسية، التي انضمت في السنتين الأخيرتين إلى الحراك المدني، وتبنت الشعارات التي رفعها الحراك بوجه أحزاب السلطة، وأيدت مطالبه بعملية إصلاح ومحاسبة واسعة، وعلى الأرجح فإن الموقف الحرج الذي تعرضت له النخب المدنية واليسارية المؤثرة في صناعة الرأي العام العراقي، سيدفعها إلى إعادة ترتيب أولوياتها، استعدادًا لمواجهة صعبة ومكلفة مع أغلب أجنحة السلطة التي نفذت عملية اغتيال معنوي للحراك المدني، الذي لم ولن تتناسب مطالبه الإصلاحية مع مصالح أطراف السلطة وارتباطاتها الخارجية. ففي اللحظة المناسبة أظهر الخارج المتمسك بوصايته الكاملة على العراق قدرته على الحسم، واستخدم أساليبه الخاصة في احتواء الأطراف المشاكسة التي حاولت أن تتبنى حركة الاعتراض، مبررًا موقفه بصعوبة المرحلة غير المناسبة للقيام بخطوات جريئة يطالب بها الشارع العراقي، نظرا للظروف الإقليمية والدولية التي تهدد مصالحه الجيوسياسية واستقرار نظامه، وترهيب الداخل العراقي بفوضى تطيح بما تبقى من العملية السياسية.
في حسابات الحقل، نجح عقل الهيمنة الإيرانية في إخضاع العراق وربطه استقراره السياسي بمستقبل صراعات المنطقة، التي ستنعكس تطوراتها مباشرة على الوضع العراقي، ربما بما لا يناسب طهران، التي تتصرف كأنها تلعب الآن ورقتها الأخيرة في بغداد، من خلال فرض حكومة عراقية على قياساتها الخاصة، دون الأخذ بعين الاعتبار مجموعة متغيرات داخلية وخارجية كبيرة. تصرفات طهران تعيد إلى الأذهان سياسة التعنت التي مارسها نظام بشار الأسد في لبنان بعد 11 سبتمبر (أيلول)، واحتلال أفغانستان والعراق، عندما قرر فرض تمديد ولاية الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود، في تحد مباشر لرغبة محلية ودولية في انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، رافقه الاستخفاف بالإمكانات اللبنانية الذاتية التي أسس لها في ذلك الوقت بيان المطارنة اللبنانيين الشهير سنة 2001، حول الوجود السوري في لبنان، إضافة إلى بروز تجمع سياسي مسيحي معارض ومنظم سمي لقاء قرنة شهوان، الذي نسج تعاونا سياسيا عميقا مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ورئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، حيث بدأ الإعداد لنواة جبهة معارضة وطنية بوجه الوصاية السورية على لبنان. فقد شكل تاريخ 14 فبراير (شباط) 2005 يوم الاغتيال الكبير، موعدا تأسيسيا لما عرف بعد شهر بانتفاضة الاستقلال الثاني، نهار 14 مارس (آذار)، كرد فعل وطني على جريمة اغتيال الحريري التي أدت تداعياتها إلى إنهاء الوصاية السورية، وانسحاب جيش الاحتلال السوري من لبنان.
عمليا، قررت طهران اغتيال الحراك المدني العراقي الذي يحظى بقاعدة شعبية واسعة، وبتأييد سياسي قوي، قبل أن يشكل حالة وطنية جامعة بوجه وصايتها، لذلك قامت بما يشبه عملية تصفية سياسية له قبل أن يشتد عوده بعد وصول ممثلين له إلى البرلمان عبر التحالف مع التيار الصدري، وحصوله على غطاء مرجعية النجف التي رفعت شعار «المجرب لا يجرب» الذي يمكن تفسيره بأنه يطال الطبقة السياسية العراقية التي فرضتها طهران منذ 2003.
تاريخ العراق الحديث مليء بالمحطات المفصلية، من انقلاب بكري صديق، إلى الوثبة، والفرهود، و14 يوليو (تموز)، و14 رمضان، والانقلاب على الانقلاب في 30 يوليو، إلى قاعة الخلود، حتى 9 أبريل (نيسان) 2003، تاريخ سقوط البعث في العراق، والإيذان بخروجه من لبنان، كجزء من التداعيات العالمية لاعتداءات منهاتن، ما يعني أن الاحتياطات الإيرانية في العراق، كما السورية في لبنان، لن تنجح في الحفاظ على امتيازاتها في حال وقوع تحولات دولية لها تداعيات إقليمية، تتسبب بانتقال المبادرة إلى يد القوى العراقية المدنية وبعض السياسية، التي باتت تترقب حدثا مفصليا سيحدد تداعياته موعد الرابع عشر من مارس بنسخته العراقية.
3 هل يستطيع «مقتدى» قهر إيران في العراق؟ بدر عبدالملك الايام البحرينية
في اليوم الثاني من الانتهاء وفرز نتائج الانتخابات العراقية، التقى مقتدي الصدر والعبادي لتشكيل تحالف متين بين الكتلتين «للمضي نحو تشكيل الحكومة المقبلة» وفق تصريح العبادي، فيما اكد الصدر في ذلك اللقاء المطمئن عن ان الحكومة المقبلة «أبوية !» وترعى كل الشعب مسترسلا بقوله «إن يدنا ممدودة للجميع ممن يبنون الوطن وأن يكون القرار عراقياً».
هذا التلويح وتلك الإشارة دون ذكر اسم ايران كونها المسيطر والمتدخل السابق في القرار العراقي بدا من قبل الصدر واضحاً، باهمية ان ترفع طهران يدها عن سيادة العراق وقرارها الوطني. وقد بعث بجملة مختصرة بعد نتائج الفرز عبر تغريدته بعد فوزه «صوتكم شرف لنا وأمانة في أعناقنا فقد انتصر العراق والإصلاح بأصواتكم» وتابع قائلاً: «لن نخيبكم والعتب كل العتب على من خذل العراق والإصلاح ممن كنا نظن بهم خيرًا» وفي مكان اخر بعد الفوز لمح بقوله «فوزنا أزعج الكثيرين لكننا لن نتنازل» وقد اختتم احدى تغريداته: «خذوا المناصب والكراسي وخلوا لي الوطن».
بتلك العبارات الواضحة والصريحة لا يحتاج النص الى «لبيب !» لكي يفهم تلك الاشارات المعلنة، فالمقصود هو تحالف المالكي وايران، فقد راهن الجميع من التيارات الاسلامية الشيعية تحديدا على حكومته وبرامجه المعسولة، غير ان المالكي سلم مفاتيح الحكم في العراق لصولجان حكومة ولاية الفقيه في قم.
لهذا بدأ تحرك تيار سائرون للاصلاح (54 مقعداً) بزعامة مقتدى الصدر بالاجتماع اولاً بتيار كتلة النصر (42) مقعداً وكتلة الحكيم تيار الحكمة الوطني (19 مقعداً) لتشكيل الكتلة الثلاثية الأكبر (115 مقعداً) مؤكدين الثلاثة بعد نهاية كل اجتماع على تأكيد حقائق مهمة، هو العمل من اجل العراق ورفع معاناة الشعب العراقي وحل ملفات عدة كالبطالة والخدمات والفساد، دون ان يقفل الثلاثة تلويحهم بأهمية رفع ايران يدها عن الشأن العراقي والمحاصصات الطائفية.
الجديد في كل تصريحات الصدر هو اطلاق بالون مرحلة جديدة قادمة لبناء العراق بخلق دولة أبوية يحكمها «التكنوقراط» مما يعني ان فرص التكافؤ موجودة بين جميع النواب للدخول في حكومة الصدر او حتى بإمكانية اختيار وزراء من خارج الكتل والنواب الفائزين، فالمهم الكفاءة والأمانة والنزاهة، والأهم من كل ذلك، تشكيل حكومة بوزراء يدينون بالولاء الوطني للعراق وشعبه. فكيف سيلعب الصدر بكتلته الأكبر في البرلمان في وقت انه بحاجة الى عدد يحقق له النصاب لتشكيل حكومته التي تحتاج (165 مقعداً) لتشكيل الأغلبية السياسية في مجلس النواب العراقي. ولكي يكتمل نصاب حكومة الصدر فعليه التعاون والتنسيق مع كتلة علاوي إئتلاف الوطنية (21 مقعداً) والكتلة السنية (20 مقعداً) يتقاسمها تحالف القرار العراقي (14 مقعداً) والانبار هويتنا (6 مقاعد) غير ان تلك المقاعد ذات التوجه للسيادة العراقية في مواجهة ايران بحاجة للمزيد من المقاعد لاستكمال النصاب، فيكون أمام حكومة الصدر القادمة هو التفاهم مع الكتلة الكردية التي تشكل مجتمعة (48 مقعداً) ومغازلة النواب ذوي المقاعد المحدودة (نواب الفراطة) والذين يبلغون (42 مقعداً) حيث بالتنسيق والاقتراب منهم يحقق بالفعل تيار الصدر كتلة كبرى مكتسحة، حيث يعزل الصدر تحالف كتلة دولة القانون للمالكي (25 مقعداً) مع كتلة إئتلاف الفتح لهادي العامري (47 مقعداً) ليشكلا معاً (72 مقعداً) كتحالف ايراني داخل المجلس، مما يصّعب مهماتهما داخل مؤسسة دستورية.
هذا اذا ما نظرنا الى لعبة التحالفات داخل المجلس بشكل تبسيطي، فإن المشهد خارجه لا يبدو متطابقاً من حيث قوتهما ونفوذهما في الشارع العراقي، فشعبية كل تيار أوسع من أصواته الانتخابية، التي اخفقت في إيصال العدد الأكبر لتشكيل أغلبية سياسية للعودة الى رئاسة الحكومة.
لذا ستلعب ايران بورقة المليشيات والطائفية والنهج الامني والصدامات وتفجير ما يمكنها تفجيره، والغوص بعيدًا في لعبة الاغتيالات والتخريب الداخلي، متى ما وجدت ايران ان مقتدى الصدر عقبة كأداء أمامها، ليس في انتصاره الانتخابي وحسب، وإنما بقرارات حكومة وطنية قادمة تفكك كل ما بنته ايران وسليماني في تربة العراق، وتعيده للحظيرة العربية وقرارها السيادي. عندها لن تكون ايران متفرج سلبي مسالم وقابل بحقيقة هزائمه وتراجعه لما وراء حدوده، وانما نظام شرس يحمل بين طيات أرشيفه تاريخ وقصص من الانتقام والتدمير في العراق وغيره.
4 طَوق إنقاذ جديد لسياسيي العراق الفاشلين عدنان حسين الشرق الاوسط السعودية
المؤكد أن إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية الجارية في 12 مايو (أيار) الماضي وإعادة الانتخابات برمّتها، هو الخيار الأفضل بين عدة خيارات لمعالجة أزمة التزوير واسع النطاق الحاصل في هذه العملية.
الانتخابات السابقة كلّها، برلمانية كانت أم محلية (مجالس المحافظات)، شهدت عمليات تزوير. الطبقة السياسية المتنفّذة نجحت دائماً في «لفلفة» قضية التزوير بالتوافق في ما بينها وبإعادة توزيع المصالح والمنافع وتبادلها. هذه المرّة كان الأمر مختلفاً، فالانتخابات الأخيرة جرت في ظروف تفكّكت فيها الكتل الكبيرة المتشكّلة على أساس طائفي (شيعي – سني)، وقومي (عربي – كردي)، وهي جاءت على خلفية انهيار الثقة بالعملية السياسية الناشئة بعد 2003 والمرتكزة إلى المحاصصة الطائفية والقومية، خصوصاً بعد اجتياح «داعش» ثلث مساحة العراق ثم الحرب الطويلة المُكلفة لطرد التنظيم الإرهابي، بكل ما ترتّب على ذلك من فواجع ومآسٍ ومحنٍ عصفت بكل العراقيين تقريباً، وهي مهمّة لم تكتمل تماماً بعد.
عمليات التزوير في الانتخابات الأخيرة وسابقاتها ساعدت فيها وفاقمتها المنافسة المحتدمة بين القوى السياسية المتنفّذة وتكالبها على السلطة والنفوذ والمال. لم تنحصر المنافسة في النطاقين الطائفي (شيعة وسنة) وقومي (عربي وكردي)، إنّما أيضاً داخل كلٍّ من هذه المكونات، فالأحزاب الشيعية تصارعت بضراوة، ولم تزل، في ما بينها على المناصب الرئيسة في الدولة، وكذا الحال بالنسبة إلى الجماعات السنية والأحزاب الكردية.
ومما ساعد أيضاً في التزوير في كلِّ الانتخابات أن الهيئة التي عُهِد إليها بإدارة الانتخابات (المفوضية العليا للانتخابات) لم تكن أبداً مستقلّة، بخلاف ما نصّ عليه الدستور الدائم ليضمن تحقيق العدل والنزاهة والإنصاف وعدم حصول عمليات تزوير في العملية الانتخابية. على الدوام كانت المفوضية تتشكّل من ممثلي القوى السياسية المتنفّذة في البرلمان والحكومة، وهي قوى لا يتجاوز عددها الستة أو السبعة، وقد أصبح عدد من أعضاء مجالس المفوضية بعد انتهاء مهامهم أعضاء في مجلس النواب مترشّحين على قوائم الأحزاب المتنفّذة التي انتدبتهم إلى عضوية المفوضية، ولا بد أن ذلك كان مكافأة لهم عمّا قدّموه لهذه الأحزاب في أثناء خدمتهم في المفوضية، ولا بد أن التلاعب بالعملية الانتخابية لصالح هذه الأحزاب هو ما قدّموه.
فضلاً عن المفوضية، فإن قانون الانتخابات نفسه صاغته القوى المتنفّذة على مقاساتها لترسيخ وتوسيع نطاق نفوذها في البرلمان والحكومة وسائر أجهزة الدولة، فقد سُنّت صيغة للقانون تُمكّن الأحزاب المتنفّذة من الاستحواذ حتى على الأصوات الممنوحة للأحزاب «الصغيرة» التي لا تفلح في بلوغ العتبة الانتخابية، وبذا يصبح «أثرياء» البرلمان انتخابياً أكثر ثراءً بينما يزداد «فقراؤه» فقراً.
خيار إلغاء نتائج الانتخابات الأخيرة وإعادة تنظيمها من جديد مع الانتخابات المحلية المؤجّلة والمقرّر إجراؤها نهاية العام الحالي، بالإضافة إلى معالجته مشكلة التزوير الفادح في انتخابات الشهر الماضي، كان سيُعيد بعض الثقة بالعملية السياسية. الانتخابات الأخيرة أعطت مؤشرات قويّة على شعور الأغلبية من العراقيين بالخذلان حيال هذه العملية. هذا ترجمته أولاً مقاطعة الأغلبية من الناخبين (56% منهم لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع، وقد تكون النسبة الحقيقية أكبر، فهذا العنصر يُمكن أن يكون هو الآخر قد طالته عمليات التلاعب والتزوير)، وهذه أول مرة تتجاوز فيها نسبة المقاطعة الـ50% في الانتخابات العراقية. كما أن الكثير من الذين شاركوا في الاقتراع حجبوا أصواتهم عن العديد من الشخصيات الأساسية (القيادات) في العملية السياسية طوال الفترة الماضية فأسقطوهم، وهذا مما كان مدعاة لإثارة حفيظة هذه الشخصيات التي عملت على الطعن في نتائج الانتخابات وتشريع قانون جديد في البرلمان يعدّل قانون الانتخابات بما يُعيد عملية العدّ والفرز يدوياً بدلاً من أن يكون إلكترونياً. كما سعت هذه الشخصيات إلى إلغاء نتائج الانتخابات في الخارج وفي مخيمات النازحين والتصويت الخاص في إقليم كردستان، لكنّ المحكمة الاتحادية قضت الخميس الماضي ببطلان المادة الخاصة بالإلغاء الجزئي للنتائج.
الخيار الأفضل (إعادة الانتخابات) لا تقبل به القوى المتنفذة، فالانتخابات إذا ما أُعيدت ستُمنى فيها هذه القوى بمزيد من الخسارة. ومثلما عاقب الناخبون هذه القوى في الانتخابات الأخيرة جزاءً لها عن فشلها في إدارة الدولة طول الحقبة الماضية، سيذهبون عند الإعادة إلى معاقبتها مرة أخرى عن عمليات التزوير التي ما كان بوسع أحد غيرها ارتكابها، بحكم نفوذها في مفوضية الانتخابات وفي سائر أجهزة الدولة. هذا العقاب سيتمثّل بالمزيد من المقاطعة والمزيد من عدم التصويت للشخصيات الأساسية. كما أن إعادة الانتخابات ستتطلب بالضرورة إعادة تشكيل مفوضية الانتخابات على أساس مختلف يضمن استقلاليتها وبالتالي نزاهة العملية الانتخابية، وهذا ما لا ترغب فيه القوى المتنفّذة التي عملت دائماً على تفاديه.
المحكمة الاتحادية العليا التي تمّ الطعن أمامها في العملية الانتخابية، أمسكت بالعصا من الوسط بعدم إلغاء الانتخابات وعدم تثبيتها، وإنما بإعادة العدّ والفرز يدوياً. هذا القرار هو في الواقع طوق إنقاذ للطبقة السياسية المتنفّذة المسؤولة قبل غيرها عن تزوير العملية الانتخابية وعن سائر مظاهر الفشل في إدارة الدولة والمجتمع في العراق على مدى الخمس عشرة سنة الماضية.