1 روايات الأيدز والطائفية من الصين إلى العراق هيفاء زنكنة
القدس العربي
الشيء الذي قادتني اليه الانتخابات العراقية ونتائجها هو الآتي: اثناء إطلاق تأسيس «بيت الرواية»، في مدينة الثقافة، بتونس، أخيرا، قدمت الكاتبة آمنة الرميلي ورقة عن كتابة الرواية اثناء الحروب والحروب الاهلية، وكيف أثرت، إيجابيا، وهنا المفارقة المؤلمة، على زيادة اصدارات وتحسن نوعية الرواية العربية، إلى مستوى جديد أهلها للترشح والفوز بجوائز عربية ودولية. قرأت، في ذات أسبوع إطلاق بيت الرواية، تقريرا عن ازدهار صناعة وتجارة التوابيت في كابول، عاصمة أفغانستان. وأفغانستان، كما هو معروف، البلد الذي نكبته حرب فرض الديمقراطية الأمريكية. سبب ازدهار صناعة التوابيت، في كابول، كما في البلاد العربية، العراق خاصة، هو ذاته الذي سبب ازدهار كتابة ونشر الرواية. انها الحرب. وإذا كان عدد الروايات المطبوعة بالعراق، منذ احتلاله عام 2003 وحتى اليوم، قد تضاعف عشر مرات، بالمقارنة مع ما كتب فيه منذ أوائل القرن العشرين، فان سبب الازدهار ليس راحة البال والرفاه والفرح بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، بل للعيش مع المأساة، في كل لحظة، والحياة بظل الخوف والقلق والموت القريب إلى حد استنشاق رائحته كما يشم المرء رائحة جلده.
بسبب الحرب، كما الرواية العراقية، تضاعف عدد صناع التوابيت بكابول، عشر مرات، خلال العقود الأربعة الأخيرة. الا انهم لا يشعرون بالسعادة لازدهار تجارتهم المربحة.
صانع التوابيت في كابول، يعيش، هو الآخر، حياة بائسة. يعبر عنها بصناعة توابيت من نوع خاص. انها صناعة مفروضة عليه كالديمقراطية. فالمسلم لا يدفن، عادة بالتابوت بل يتم الاكتفاء بلف الميت بالكفن. الا ان حرب أفغانستان جلبت للناس، بشكل متزايد، التفجيرات والقصف والالغام، فلم يعد بالإمكان وضع الاشلاء الممزقة في كفن بل بات وضعها في تابوت خشبي ضروريا، لتجميعها، كمحاولة، دنيا، للمحافظة على كرامة الفقيد. انها محاولة اهل الفقيد للإحساس بأنهم يدفنون احباءهم بشكل عادي يليق بهم.
في رواية « حلم قرية دنغ «، تتبدى العلاقة بوضوح كبير بين الرواية وصناعة التوابيت. حيث يكرس الروائي الصيني يان لي آنك، صفحات وصفحات، من روايته للكتابة، بالتفصيل، عن تجارة التوابيت، في أزمنة انتشار الموت، ولكن لسبب آخر، غير الحرب. نشرت الرواية في الصين عام 2006. وترجمت ورشحت لجائزة أفضل رواية مترجمة عام 2012. كتب آنك الرواية بصوت طفل في الثانية عشرة من عمره، تم تسميمه، انتقاما من والده، تاجر الدم المتنفذ، بقرية دنغ الواقعة، بمقاطعة هينان. وهي تجارة انتشرت في الصين في 1991 ـ 1995، لتزويد شركات الادوية بالبلازما واجراء التجارب. تم ذلك بعلم الحكومة وتشجيع المسؤولين، حيث شنت حملة لاقناع الفلاحين والفقراء، المتخوفين من بيع دمائهم، بانها عملية غير ضارة، لأن ما سيستخلص هو البلازما، فقط، بينما تتم إعادة بقية مكونات الدم إليهم. أدت سرعة إقامة نقاط سحب الدم في القرى، للتسويق التجاري، وافتقار الشروط الصحية، حيث كانت الإبر وأكياس الدم وغيرها من المعدات الملامسة للدم يعاد تدويرها واستخدامها، إلى انتشار فيروس الأيدز. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2003، أصيب أكثر من 1.2 مليون شخص بالإيدز في مقاطعة هينان وحدها.
تكمن أهمية الرواية في اختيار آنك الكتابة عن أعراض المرض الجسدية المخيفة بالتفصيل بالإضافة إلى تأثيره على الحياة اليومية لأهل القرية، علاقاتهم فيما بينهم، محاولتهم العيش يوما بيوم، تفتت النسيج العائلي والاجتماعي، وطغيان حالة الرعب عند إصابة أحد الافراد بالفيروس وخشية بقية افراد العائلة من انتقال العدوى إليهم، وانحدار القيم الأخلاقية والتقليدية. اذ كيف يمكن محاسبة الشخص المارق إذا لم يتبق له من العمر غير أشهر او بضعة أيام؟
اللافت للنظر تفاقم الصراعات بين المصابين أنفسهم، حتى وهم يعيشون عزلة ايامهم الأخيرة، ومعرفتهم بحتمية وفاتهم. وتتصاعد المنافسة ويزداد الصراع، بين أهل القرية، كلهم، المصاب منهم وغير المصاب، حين تحاول الحكومة، دفن فضيحة المرض بتوزيع توابيت مجانية. وتوكيل تاجر الدم، الذي بنى ثروته وسلطته على نشر الموت، بإدارة شؤون التوزيع. سرعان ما يجد التاجر الفاسد طريقة للتحايل والبدء بمنع توزيع التوابيت على المستحقين وبيعها إلى قرى أخرى بأسعار أعلى. تقود الحاجة والفقر اهل القرية إلى إيجاد حل سريع لدفن موتاهم. فشرعوا بقطع الأشجار، شجرة بعد أخرى، مهما كان عمرها، لصناعة توابيتهم بأنفسهم، حتى باتت القرية، أرضا جرداء بعد ان كانت مشهورة بأشجارها النادرة وازهارها الربيعية الزاهية. توقف الأطفال عن الذهاب إلى المدرسة بعد ان نهب أثاث المدرسة كله. صار التنافس هو اللغة السائدة سواء كان على وظيفة حارس المدرسة الخربة، او القوميسار الحزبي للقرية، أو مسؤول توزيع التوابيت الحكومية. ولم تتدخل الحكومة لوضع حد للفساد او الصراع، وبقي الحل الوحيد بيد جد الطفل الراوي ووالد تاجر الدم. فاختار الجد، حامل التقاليد والموروث الثقافي الأخلاقي، قتل ابنه المتاجر الفاسد بيده، ليضع حدا لما بدا موتا بلا نهاية.
تستند رواية « حلم قرية دنغ» على احداث حقيقية وقعت في سنوات أطلق عليها اسم «صناعة البلازما». وتستدعي، في الكثير من تفاصيلها، احداثا مشابهة، نلاحظها في عراق ما بعد الغزو. اذ انتشرت صناعة التوابيت، كما في كابول، لتجميع أشلاء ضحايا التفجيرات والقصف وتقطيع الاوصال، وكما في قرية دنغ، ازدهرت صناعة التوابيت، لكثرة الموتى. ضحايا الفساد. فالفساد المستشري، بالعراق، لا يقل ضررا عن فايروس مرض نقص المناعة وهو يغزو المؤسسات ويلتهم الخدمات ويسبب الموت. ولا تقل الطائفية ضررا عن المرض الوبائي، في تجفيفها ينابيع الحياة، فقد اثبت مرور 15 عاما على الاحتلال والحكم الطائفي، سريان المرض في البنية الاجتماعية، وتفكيكه الاواصر العائلية، وقدرته على تفتيت الوطن. «لو إنك اصغيت لي منذ البداية، جثوت على ركبتيك من اهل القرية لما الحقته بهم من دمار، لما كنا نعيش هذه الكارثة الآن»، خاطب الجد ابنه تاجر الموت الفاسد المتعجرف، أملا في ان يجنب القرية ما هو أسوأ. الا ان الابن أدار ظهره لوالده، وقد بدت على وجهه علامات الاحتقار، متوعدا أهل القرية بأنه لا يحتاجهم اطلاقا، وانه سيجلب من سيعاونه من خارج القرية. يأخذنا، هذا الحوار، بين الابن الفاسد ووالده المتمسك بالقيم الأخلاقية، إلى تماثل آخر مع الوضع العراقي. حيث يحتقر الابن اهل قريته مستنجدا بالآخرين، ويتمسك الجد بموروثه وأهله، ليكون الحل قطيعة دموية بين الاثنين. وهو حل، نأمل، ان يتجاوزه أهل العراق، بإيجاد طرق بديلة، لا يبدو أحدها حكم «المنتصرين» بالانتخابات الحالية.
2 العراقيون والتنقيب عن دكتاتور جديد
حامد الكيلاني
العرب بريطانيا
من بين العراقيين من احتجز ثورته بالصمت والامتناع عن التصويت، ومن بينهم من ذهب واختار عن سبق وإصرار سجونه الطائفية أو العشائرية أو الحزبية أو النفعية.
العراقيون ضمنياً توّاقون إلى دكتاتور ينتشلهم من تعددية الدكتاتوريات
فكرة علاج أمراض السلطة في الأنظمة الديمقراطية بالدورات الانتخابية واختيارات الإدارات الجديدة، ربما تقدم لنا توضيحا لأسباب تعميم التجارب التقليدية على ما طرأ من نتائج التصويت في انتخابات العراق، لهذا لم يعد غريباً تسويق مصطلح المفاجأة لترتيب التحالفات وتشكيل الحكومة المرتقبة أو لفسح المجال واسعا للاعتراض في محاولة لترك الباب مفتوحا للمساومات وإشعال الحرائق الصغيرة أو الكبيرة هنا وهناك، على قاعدة “عندما تفشل عليك أن تفشل بشكل أفضل”.
إذا كان من أسئلة مستقرة في أذهاننا عن العراق فهي تلك التي تتعلق بالخشية مما سيحصل وعدم معرفة إلى أين ستمضي وقائع الأكثرية الساحقة من أصوات اليأس بما يضاف إليها من أصوات الحالمين على أمل التغيير من الذين لا صلة لهم بمنتجات الاحتلال الأميركي وبضائع إيران الكارثية.
العاصمة بغداد، إن كانت تصلح كشريحة تحليل مختبرية لنتائج الانتخابات فهي بالنسبة لأبناء بغداد الأصليين وسكان محلاتها القديمة لا تعدو أن تكون إلا تعبيراً عن تغيير ديموغرافي طويل الأمد بدأ منذ تموز 1958، في ذلك اليوم الفاصل من تاريخ العراق والمنطقة.
تهجير حقيقي تعرضت له العناصر المتآخية في بغداد نتيجة للسياسات الخاطئة وتفاوت فرص الحياة بين مدن العراق مما أدى إلى ظاهرة ترييف العاصمة، وبعدها اكتشفنا مدى الاستغلال البشع للأحزاب الطائفية وبعض المرجعيات والشخصيات المذهبية لقوة العدد من الفقراء لأغراض التكاثر والتحشيد ضد الدولة الوطنية بحجة التمايز في الانتماءات.
لذلك القوائم والتحالفات التي تتصدر نتائج الانتخابات بشخوص قادتها على تباينهم تؤكد أن لا أحد منهم يمثل قلعة المجد التليد أو منارة المعرفة ومفاخر المدينة العريقة؛ لأن كل القوائم تمثل الوافدين إليها بعد تموز 1958 مهما تكالبوا فوق أنقاض السياسة أو تمثيل المجتمع البغدادي تحت لافتة “بغداد هويتنا”، فأغلبهم كانوا خلايا نائمة قبل الاحتلال ومهدوا عملياً للنفوذ الإيراني في العراق وتعميق أدواره السياسية والميليشياوية في العملية السياسية للمحتل.
من يتصدر الانتخابات وبالتسلسل لا يتورع عن الدفاع عن الوجود الإيراني في لحظة حاسمة، لأن الغايات السياسية في هذه المرحلة تتطلب إشارات توازن؛ لكنها مع ذلك إشارات تميل عقائدياً إلى ولاية الفقيه بحكم وقوفها المبدئي خلف مشروعه، وإن تراوحت المواقف بين الاستلاب المذهبي وبين الواقع السياسي ومآلاته في العراق.
الشيء الآخر الذي أثبتته نتائج الانتخابات أن الكتلة الكبيرة الثابتة في تصويتها لرجل دين استفادت من تواضع نسبة المصوتين، لتندفع في إشهار ما يختفي خلف عباءة النظام السياسي الديمقراطي لتقوم بترشيح نموذج دكتاتوري يتجاوز ويقفز على دكتاتورية زعماء الأحزاب بما يمنح الانطباع أن ثمة مرشدا قادما لا محالة في العراق وإن اختلفت التسميات والشكليات.
العراقيون ضمنياً توّاقون إلى دكتاتور ينتشلهم من تعددية الدكتاتوريات، وذلك واضح في ندمهم بأثر رجعي وبأطروحاتهم الداعمة لاستتباب الأمن والاستقرار بالضرب بيد من حديد على الفاسدين بعد معاناتهم وسقوط النماذج السياسية في حكم العراق. وهو في جانب منه اعتراف بفشل العملية السياسية وعدم الثقة بتجربة النظام الديمقراطي، وفي جانب آخر وسيلة لتدعيم وجهة النظر القائلة بعدم صلاحية النظم الحديثة للتطبيق في بلد مثل العراق.
توجهت الانتخابات هذه المرة إلى زج الميليشيات في العمل السياسي، وهو ضمن سقف التوقعات إذ لا شيء جديدا أو مفاجئا، لأن الإعدادات وضريبة الدم كانتا طريقاً معبداً لفوزهم مع ما توفر لهم من إمدادات مالية ومعنوية من النظام الإيراني ومن سطوتهم داخل العراق، إلى درجة أنهم لا يردون على من يصفهم بممثلي إيران في انتخابات العراق، فذلك مصدر فخر لهم وبعض برنامجهم السياسي في برلمان العراق المقبل.
أي بمعنى دقيق إن أصوات النظام الإيراني صار بإمكانها أن تكون بديلاً لسلاح الميليشيات داخل البرلمان، مع احتفاظها بسلاحها الخاص كجزء من منظومة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وأيضا في ميدان واجباتها الخاصة.
حزب الدعوة بجناحيه، النصر أو دولة القانون، لن يتخلى عن إيران باختلاف عدد المقاعد، فالجميع في النهاية بذات الولاءات إن في البرلمان أو خارجه؛ على هذا المقياس كيف يكون شكل الحوار الوطني تحت صوت الميليشيات بغير تصعيد لغة التنافس على مصادر الفساد بالمزيد من الدفاع عن المفاسد القديمة وحمايتها من التورط في مستنقع يتصيد فيه الفاسدون بعضهم البعض، مع اشتراط عدم المساس بالرقم واحد في كل كتلة أو قائمة فائزة.
نؤكد دائماً وبإصرار أن العملية السياسية في العراق ومعها تفاصيل الأحزاب وتولي الوزارات والسفارات تعمل بالضبط كما لو كانت سيطرة وهمية متنقلة تقطع الطريق فجأة، وتبدأ إما بالقتل على الهوية أو بالاختطاف أو بالسرقة أو بالمساومة أو بنشر الإرهاب أو بزرع بذور الفتنة والشك بين الناس لتستمر النزاعات والمآسي، فالدورات الانتخابية بمفاجآت من تقدمهم أو تؤخرهم هي تلميع متكرر للاحتلالين الأميركي والإيراني على اختلاف الغايات.
هل ما زال بإمكان العراقيين تغيير الأمور؟ نعم الحقيقة أن الشعب يغير ويتغير كما السياسيون، لكن الشعوب في نهاية الشوط هي التي تمتلك حق تقرير مصيرها، فالشعوب الحرة تجيد صناعة الثورات ولها قدرة الاتحاد خلف من يمثلها، لكنني أشك في أن المرحلة الحالية تنتج قائداً أو حزباً ثوريا، لأن المتوفر يتراوح بين زعيم ديني ملطخة يداه بدماء الشعب، أو زعيم سياسي لحزب طائفي لا يتورع عن قتل البسطاء حتى من أهله إن عارضوا سلطته ونزعته إلى البقاء؛ وباقي الزعماء بين تاريخ ميليشياوي أو تنقل على حبال الخيانة لمبادئهم أو مجموعتهم الفكرية.
من بين العراقيين من احتجز ثورته بالصمت والامتناع عن التصويت، ومن بينهم من ذهب واختار عن سبق وإصرار سجونه الطائفية أو العشائرية أو الحزبية أو النفعية، ومنهم أيضاً من أراد أن يكون صوته فتحة صغيرة مضافة في خيمة نزوح يحاول أن يتطلع منها إلى بيت وطن قديم كان يزدحم بالكرم وحب الإنسانية والرغبة في الحياة والمقاومة من أجل الغد.
3 حين ضللت إيران شيعة العالم العربي فاروق يوسف
العرب بريطانيا
الشيعي الجيد من وجهة نظر مروجي الدعاية الإيرانية هو مَن يخدم الإيرانيين في تنفيذ مفردات مشروعهم التوسعي.
لطالما صرح سيد المقاومة بأنه مجرد جندي في جيش الولي الفقيه
منذ عام 1979 نصّب النظام السياسي في إيران نفسه ممثلا للشيعة في العالم، وفرض وصايته عليهم وسعى إلى إقناع العالم الإسلامي بسلامة موقفه ممثلا للشيعة في مواجهة ما صار يسميه بعالم الإسلام السني. هو اقتراح ينطوي على الكثير من عناصر الحرب الطائفية.
المفارقة تكمن في أن إيران وهي دولة دينية أعلنت تحديها لأكثر من مليار مسلم يقيمون في دول ليست دينية. وهو ما يعني أن فكرة إيران عن العالم المعاصر لا يمكن التواصل معها أو الاحتكام إليها، لا لشيء إلا لأنها فكرة متخلفة ورثّة لا تمت إلى ذلك العالم بصلة. ولهذا لم تجد الأفكار الإيرانية مَن يتحمس لها إلا في الحواضن الطائفية التي صنعتها إيران بنفسها. ومثال ذلك حزب الله اللبناني والميليشيات الطائفية العراقية.
أطلقت إيران كذبة النزاع الطائفي وصدقتها ومن بعدها صار أتباعها يروجون لها كما لو أنها كانت حقيقة. كان الاستثمار في شعار “مظلومية الشيعة” مفضوحا من جهة استعماله السياسي الملفق أكثر مما يجب. لذلك تم استبداله بـ“حق الشيعة”، كما لو أن أنظمة الحكم في الدول الإسلامية التي احتكمت إلى قوانين مدنية كانت سنية وهي تنظر إلى ذلك الحق الوهمي بارتياب وشك.
في ظل نظام الملالي كذبت إيران كثيرا غير أن حرصها على المذهب الذي أدعت أنها تمثله كان كذبتها الكبرى. ذلك لأن إيران في كل ما ينطوي عليه مشروعها التوسعي لم تخف رغبتها في استعادة أمجادها الإمبراطورية، وهو ما يعني أن إسلامها لم يكن إلا حدثا جانبيا. كان هدفها في مكان آخر.
أوهمت إيران حلفاءها المضللين بهويتها الشيعية من أجل أن يذوبوا في “الخميني” كما ذاب الخميني في الإسلام حسب قول منسوب إلى محمد باقر الصدر. وهو ما يعني أن يلتحق الشيعة بإيران، ثم يتحولون إلى أدوات لتنفيذ مشروعها السياسي الذي هو مشروع قومي لا صلة تربطه بالإسلام إلا بما يعني استعمال المذهبية لاستدراج شيعة العالم العربي إلى الفخ الفارسي.
يغضّ الكثيرون الطرف عن الإشارة إلى البعد القومي في المشروع الإيراني خشية أن يتم اتهامهم بالعنصرية وهو موقف ليس صحيحا. ذلك لأنه يسمح لواحدة من أكبر الأكاذيب التي شهدتها المنطقة في الاستمرار والنمو والانتشار بكل ما ينطوي عليه ذلك من تهديد لأمن واستقرار وسلام المنطقة.
لعب الإيرانيون بعقول البسطاء من الناس حين أقاموا من خلال دعاياتهم المضللة ورجال دينهم المأجورين حاجزا يفصل بين أولئك الناس وشعورهم بالانتماء إلى أوطانهم. كان تجريد الناس من شعورهم الوطني مقدمة مناسبة لنشر الفتنة الطائفية التي هي الأساس التي بنى عليه الإيرانيون مشروعهم في إلحاق الهزيمة بدول بعينها بدءا بإلحاق الهزيمة بمجتمعات تلك الدول.
وإذا ما عدنا إلى تصريحات حسن نصرالله، زعيم حزب الله اللبناني، في ما يتعلق بعلاقته وعلاقة حزبه بإيران وهي تصريحات واضحة وصريحة لا بد أن ندرك أن إيران نجحت في أن تحوّل مواطنين لبنانيين إلى رعايا تابعين لها، تحركهم بالطريقة التي تخدم مصالحها. ألا يحارب حزب الله نيابة عن إيران؟ ألم تستعمل إيران مقاتلي حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية في حربها داخل الأراضي السورية؟
لطالما صرح سيد المقاومة بأنه مجرد جندي في جيش الولي الفقيه. ذلك الجندي الذي انتزع من قلبه ولاءه الوطني لا يرى مانعا في أن يخون وطنه إذا ما كان ذلك يخدم الجمهورية الإسلامية في إيران. لقد ذوّبت إيران أتباعها في مشروعها القومي (الفارسي) بعد أن خدعتهم بأكاذيبها المذهبية. فالشيعي الجيد من وجهة نظر مروجي الدعاية الإيرانية هو مَن يخدم الإيرانيين في تنفيذ مفردات مشروعهم التوسعي.
4 الاستثمار في العراق وتمويل الإعمار
عدنان كريمة
الحياة السعودية
بعد إنجاز الانتخابات البرلمانية وتطلع العراقيين إلى الإدارة حكم جديدة للمرحلة المقبلة، يواجه العراق تحديات كبيرة في توفير الاستقرار السياسي والأمني ومكافحة الفساد، ووقف الهدر المالي بضبط أبواب الإنفاق وزيادة الإيرادات، والحد من تراكم العجز وتفاقم الدَين العام، تمهيداً لاستعادة الثقة الدولية والإقليمية وتوفير الاستثمار الإيجابي، لجذب المستثمرين المحليين والعرب والأجانب حتى يتمكن هذا البلد من تمويل إعادة الإعمار التي تكلف نحو 100 بليون دولار.
أجمع معظم التقارير والدراسات الدولية على قدرة العراق المالية والاقتصادية والاجتماعية، على تحقيق هذا الهدف في السنوات المقبلة، فهو دولة غنية على مر التاريخ، وعملاق نفطي في المنطقة، ويأتي في المرتبة الثانية في أوبك بعد المملكة العربية السعودية، ويقدر احتياطه المثبت بنحو 150 بليون برميل، ويشكل ثالث أكبر احتياط للنفط التقليدي في العالم بعد السعودية وإيران، وفيه فرص واعدة للاستثمار، وجاذبة للمستثمرين. وأثبت في السنوات الماضية، حتى على رغم الاحتلال الأميركي منذ العام 2003 وسيطرة عصابات «داعش» على أراض واسعة أكثر من ثلاث سنوات، قدرة العراقيين على التكيف مع التطورات الأمنية والسياسية.
لا شك في أن الأخطار التي واجهها العراق على مستوى الأمن والمؤسسات، هي الأعلى بين كل الدول السيادية، وكنتيجة طبيعية لتدهور وضعه المالي، تراجع تصنيفه الائتماني إلى درجة «سلبي» ما أفقده ثقة دولية أدت إلى فشله في محاولات كثيرة للاقتراض بإصدار سندات يطرحها في الأسواق العالمية، بسبب كلفتها المرتفعة. ولكنه نجح بعد ذلك بالحصول على قروض عدة بدعم من الولايات المتحدة والبنك الدولي، وبعد خضوعه إلى شروط قاسية فرضها عليه صندوق النقد الدولي، أهمها إصدار قانون للإدارة المالية، وإدخال هيئة النزاهة كطرف فاعل في المتابعة المستقلة لإنفاق الدولة، واعتماد وثيقة الأمم المتحدة بمكافحة الفساد، ومنع تهريب العملة الأجنبية، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتقييد وزارة المال بأسس جديدة، وإخضاع الديون الخارجية والداخلية للتدقيق.
عندما ذهبت حكومة بغداد برئاسة حيدر العبادي إلى مؤتمر الكويت لإعادة إعمار العراق (بين 12 و14 شباط «فبراير» الماضي)، حملت معها خطة قدرت كلفتها بـ100 بليون دولار، على أن يتم تمويل العمليات عبر ثلاث مسارات، الأول من خلال الموازنات الاستثمارية وبرامج تنمية الأقاليم، والثاني من خلال المنح والقروض الدولية التي تقدمها الجهات المانحة، والثالث من خلال فتح آفاق الاستثمار. وتهدف الخطة إلى تحقيق التنمية المستدامة، والوصول إلى عراق آمن ومستقر، باعتماد برنامج التنمية الخمسية 2018- 2022، مع برنامج إعادة الإعمار لعشر سنوات بدءاً من العام الحالي، وكذلك اعتماد استراتيجية للتخفيف من الفقر، وأخرى لتطوير القطاع الخاص حتى عام 2030.
في بداية المؤتمر، تفاءل العراقيون بنجاح كبير، استناداً إلى حضور دولي كثيف ومشاركة 76 دولة ومنظمة إقليمية ودولية، و51 صندوقاً تنموياً ومؤسسة مالية، و107 منظمات غير حكومية، إضافة إلى أكثر من 1580 شركة استثمارية من جنسيات مختلفة تعكس رغبة عربية ودولية للاستثمار في العراق. ولكن يبدو أن حساب «الحقل» لم يأت بنتائج جيدة لحساب «البيدر»، إذ حملت نتائج المؤتمر سلسلة «خيبات أمل» للعراقيين، وعكست ضعف ثقة المجتمع الدولي والمستثمرين العرب والأجانب بمناخ الاستثمار غير المشجع في العراق.
أعلن العراقيون أن حاجات بلدهم تبلغ نحو 88 بليون دولار، أي أقل من كلفة إعادة الإعمار المقدرة بـ100 بليون دولار، وربما تم تحديدها على أن تساهم إيرادات الخزينة بالمبلغ المتبقي، ولكنهم فوجئوا في ختام المؤتمر بجمع مبلغ 30 بليون دولار فقط، بين هبات وقروض واستثمارات تعهدت بها الجهات المانحة من دول ومنظمات ومؤسسات تمويل إقليمية ودولية. حتى أن قيمة مساعدات المنح المجانية ضئيلة وتكاد لا تذكر، إذ تصل إلى نحو بليون دولار، بينما كانت بغداد تأمل في الحصول على أضعاف هذا المبلغ. أما البقية ، فهي قروض استثمارية معظمها مشروط بخطوط ائتمان وتمويل صادرات من الدول المانحة، أو مشاريع محددة ومبرمجة وفقاً لصندوق النقد والبنك الدولي، مع العلم أن تحقيق هذا النوع من الاستثمار، يواجه تحديات وصعوبات في ظل «أجواء الفساد» القائمة، فضلاً عن حالة الاضطراب الأمني والسلاح المتفلت، وتأثير نفوذ إيران على «موقع بغداد» في اتخاذ القرار العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
يحصل ذلك، في وقت يغرق العراق بالديون التي تتفاقم سنة بعد سنة، نتيجة تراكم العجز المالي في موازناته عن السنوات الماضية، وموازنة العام الحالي، وسيحصل على قروض بنحو 16 بليون دولار لسد الفجوة المالية. وقد ارتفع دَينه العام إلى نحو 123 بليون دولار بنهاية العام الماضي، وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي، الذي توقع أن يرتفع إلى 132.4 بليون بنهاية العام الحالي. ويذكر أن السحب من الاحتياطات الأجنبية في البنك المركزي، أدى إلى تراجعها من 71 بليون دولار عام 2013 إلى أقل من 50 بليوناً.
ولمواجهة أعباء هذا الدَين والمساهمة بتمويل إعادة الإعمار، يتطلع العراق إلى مضاعفة إنتاجه النفطي من نحو 4.7 مليون برميل يومياً، إلى 8 ملايين في شكل تدريجي بين عامي 2020 و2030. ولذلك يسعى إلى تطوير استثمارات الشركات العاملة حالياً، وهي من جنسيات مختلفة (أميركية وبريطانية وإيطالية وماليزية وروسية وصينية)، بموجب عقود تمت في جولات التراخيص المتتالية، خصوصاً أنها ملزمة باستثمار أموالها لرفع القدرة الإنتاجية في الحقول المنتجة والمستكشفة.
5 الانتخابات العراقية.. نحو عودة الوجه العروبي افتتاحية اليوم السعودية
بعد كل هذا المخاض الطويل الذي وقع فيه العراق الشقيق منذ السقوط والاحتلال، وحتى اليوم، جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة، لترسم مشهداً مغايراً تماماً لما تمَّ اختطافه قرابة عقدين من الزمان بشكل مأساوي، ونجحت القوى الوطنية أخيراً في التقاط أنفاسها واستعادة صورة الوجه العروبي الذي كان للأسف خلال هذه الفترة، رهينة بيد محاولات «التفريس» والمذهبية البغيضة.
ووفق النتائج الأولية، فقد نجحت الإرادة الشعبية العراقية بصلابتها المعهودة، في فرض صوتها على المشهد، وضربت مخططات الهيمنة الإيرانية في مقتل بتراجع -إن لم يكن هزيمة- قوائمها التابعة، وأذرعها التي أمسكت بخناق هذا الشعب الشقيق، وجعلته أسير أجندتها الطائفية، وألعاب محاصصاتها الحزبية والسياسية، وهو المؤشر الذي يجدد الأمل في عودة الوعي العراقي وعروبته وإيمانه بأنه جزء من أمته العربية لا امبراطورية إيران الفارسية، وهذا ما كانت تعوّل عليه السياسة السعودية بكل تفاصيلها وركائزها.
فالمملكة، تتعامل مع العراق، الجار التاريخي والشقيق العربي، بإعلاء قيمة التاريخ على المصالح الضيقة، وبإرساء ركائز الأخوة على الطائفية والمذهبية، وبالحرص على وحدة العراق وسلامة شعبه وأرضه كقيمة أصيلة ومضافة لمجمل العمل العربي المشترك، لذا كانت الرؤية السعودية نحو العراق بالذات، تتصل بالعمق العراقي وبعيداً عن استعراضات «الشو» الإعلامي، إذ تحرص على أن يتجاوز العراق كل مآسيه، وألا يتم ترك شعبه فريسة لمؤامرات إقليمية ودولية تجعله يدفع ثمناً فادحاً لسياسات وثارات قديمة بإضعافه إن لم يكن إذلال قراره وارتهان مصيره.
فرصة العراق اليوم، بمثل هذه النتائج الأولية، ربما هي الأكثر إثارة بعد فترة القحط والجدب وما شهدته من تجاذبات وأطماع حزبية وسياسية، عرقلت كل شعارات بنائه وتنميته على أساس سليم، يستهدف المصلحة الوطنية العليا أولاً وقبل كل مكاسب ضيقة، وفرصتنا -نحن العرب وجيرانه وأشقاءه التقليديين- في أن نرى عراقاً قوياً فوق آلامه، وصلباً بإرادة مواطنيه، ورافداً مهماً لا غنى عنه في مسيرتنا المصيرية بوجه كل الأطماع الإقليمية والدولية، وبوجه كل الأحقاد التاريخية التي نتعرض لها جميعاً ولا تفرق في ضريبتها القاسية بين أيٍّ منا.
وربما تكون فرصة تاريخية أيضاً، أن تضع نتائج هذه الانتخابات الساسة العراقيين أمام خطوة «تاريخية» غير مسبوقة بالتأكيد ستسجل لهم، تجعلهم يترفعون عن محاصصاتهم الطائفية، ويقرّون مصلحة وطنية جديدة، تؤسس لـ«عراق» تخلص من توابع السقوط والاحتلال والانقسام المذهبي والعرقي البغيض.
نحن في المملكة، يهمنا استعادة العراق وعودة وعيه المفقود، بمثل ما يهم العراق أن يجد الحضن العربي في استقباله ومؤازرته وتعضيده.