4 مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم الخميس

1 الطفل العراقي… مستقبل لا يثير التفاؤل هيفاء زنكنة القدس العربي
في خضم الحملة الانتخابية لانتخابات 12 أيار/مايو، المتراوحة بين نشر رسالة المرجعية التي طالت غيبتها، والتنظير الشيوعي حول « حداثة» طائفية الدين، وتوزيع الأفلام الجنسية للمرشحات، وفي غياب البرامج السياسية إلى حد تباهى أحد المرشحين أنه لا يحتاج برنامجا لينتخب، في هذه المعمعة، تزداد صورة المستقبل، متمثلا بحال الأطفال، عتمة، مهما حاولنا اقناع أنفسنا بأهمية زرع التفاؤل في النفوس. فالطفل/ المستقبل منسي، مغيب في سيرك الانتخابات ولعبة الكراسي السياسية. كأن برنامج الساسة الوحيد، كلهم بلا استثناء، مهما تعددت ألوان أقنعتهم واشكال « مكوناتهم» هي تهديم العراق، ولا يتبدى ذلك بشكل أوضح من عملهم، على مدى 15 عاما الأخيرة، للقضاء على مستقبل الأطفال.
لأوضح. أسست سنوات الحصار لتقزيم العقول والنفوس، ثم جاء الاحتلال (لايزال مثقفو وساسة الاحتلال يسمونه تغييرا أو تحريرا) ليصوغ لبنة الخراب، مستهدفا المستقبل من خلال الاطفال. لفهم كيفية ذلك، علينا استيعاب الحقائق الموثقة التالية: هناك 10 ملايين شخص بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، أربعة ملايين منهم أطفال. وعلى الرغم من عودة مليوني شخص إلى ديارهم، لا يزال هناك ثلاثة ملايين نازح، بينهم مليون ونصف طفل. الخدمات العامة في البلد لا تفي بالحاجة، حيث تضررت شبكات المياه والصرف الصحي والنظام الصحي بسبب الحرب والإهمال والفساد، مما يعرض حياة الأطفال وبقائهم للخطر. تبلغ نسبة الوفيات بين الأطفال تحت سن الخامسة 27 بالمئة.
تشير تقارير منظمة الأمم المتحدة لرعاية الأطفال «اليونسيف»، إلى ان ظروف القتال وحملات النزوح، عرضت الأطفال العراقيين إلى خطر الانفصال عن أسرهم، والاختطاف، والتجنيد في القتال، والمتاجرة بالأعضاء، والعنف الجنسي، بالإضافة إلى خطر الإصابة بالعاهات والموت، نتيجة التعرض للألغام والأجهزة المتفجرة. وان الأطفال النازحين يعانون، خاصة، من مستويات مختلفة من الصدمة والإجهاد المزمن. اذ تؤدي الظروف المروعة التي تسببت في هروب أسرهم، وطرق النزوح الخطرة المتعددة، إلى ازدياد الانتهاكات داخل الأسرة نفسها. كما يؤدي حال البالغين، المغمورين بالصدمة والحزن والقلق، إلى عجزهم عن منح أطفالهم الحب والطمأنينة التي يحتاجونها. فيصبح الأطفال ضحايا الإهمال والهجر والعدوان الجسدي واللفظي. هذه الظروف، غير الإنسانية، في سن مبكرة، ستسهل استغلالهم وتحولهم، بمرور الوقت، إلى جناة يمارسون ما تعرضوا اليه.
بالدرجة الأولى، تحذر الدراسات والتقارير من حرمان الأطفال من التعليم، ولو لسنة واحدة، واصفة إياه بأنه الخطر الأكبر و« جذر العديد من المشاكل» المعنية بصحة الطفل العقلية، وانعكاساتها على التنمية المستقبلية للبلد ونوعية قادة البلد وقدرة منتخبيهم على الاختيار مستقبلا. ومع عدم تلبية الاحتياجات التعليمية الأساسية للأطفال، الآن، لن تتوفر لديهم أداة مكافحة دورة الفقر والمرض والعنف والحرب، وأكثر من ذلك بكثير. فـ»التعليم حق أساسي… والأطفال هم أعظم مواردنا في العالم، ولذلك يجب أن نجري استثمارات كبيرة في تطوير تلك الموارد»، حسب البنك الدولي. ويعزو الباحثون عنف العصابات والسرقة وتعاطي المخدرات وغيرها من الجرائم، في مناطق معينة، إلى نقص التعليم. ويرجع ذلك جزئياً أيضاً إلى حقيقة أن هذه المناطق تعاني من الفقر، لأن نقص التعليم يقلل من فرص العثور على العمل. من الآثار الأخرى التي تحدث بسبب نقص التعليم هو انخفاض عمر الفرد. وفقا لدراسة الوفيات القومية (اليونسيف)، يزيد عام التعليم الواحد من متوسط العمر المتوقع بمقدار 0.18 سنة. اذ يزيد التعليم من اعتناء الفرد بنفسه.
التعليم المبكر «لا يحضّر طفلك للقراءة والكتابة والحساب فحسب، بل يبني ثقته بنفسه أيضًا، يعزز التطور البدني، ويطور المهارات المعرفية ويشجع على التفكير النقدي وحل المشاكل»، تقول تينا لوبل ـ ريشبرج، منسقة الطفولة المبكرة وأخصائية التعلم في مدينة نيويورك، وذهاب الطفل إلى المدرسة «عندما يكون في مواقع جماعية، تكون لديه فرص أكبر لتطوير العلاقات الاجتماعية مع اقرانهم.. انهم يعملون معا ويتعلمون احترام الحدود والحدود». في المدرسة «يتعلم الأطفال التفاعل مع الآخرين والمهارات الاجتماعية». يقول جلين ـ آبلغيت، عالم النفس المجتمعي: «هذه المهارات الاجتماعية ضرورية للشخصية المتطورة».
اين هو الطفل العراقي من هذا التكوين المعرفي وما هي انعكاساته على عراق المستقبل؟ اظهر المسح المدرسي الذي نفذته وزارة التربية عام 2004 بدعم من اليونيسف أن « عدد الأطفال غير المدرجين في الدراسة الابتدائية في العراق يصل إلى 600 ألف طفل منهم 74٪ من الفتيات، وان 21 ٪ من الفتيات بعمر الدراسة الابتدائية غير ملتحقات بالمدارس وان ما يقارب 24 بالمئة من الاطفال يتسربون من المدارس قبل اتمامهم الدراسة الابتدائية». ووفقاً لتقرير صدر عام 2007 عن منظمة «أنقذوا الأطفال» غير الحكومية، فإن 818 ألف طفل في سن الدراسة الابتدائية، يمثلون 22 بالمائة من الطلاب في العراق، لم يلتحقوا بالمدرسة. وبينت دراسة مشتركة بين وزارة التربية العراقية واليونيسيف، إلى أن 74 في المائة ممن لا يلتحقون بالمدارس هم من الإناث. اما اليوم، فأن ما يقرب من نصف تعداد الأطفال المشردين داخلياً في سن الدراسة ـ حوالي 335 ألف طفل ـ هم خارج المدرسة. وهو رقم لا يشمل غير النازحين. ما تجدر الإشارة اليه ان التردي المزري في تعليم الأطفال مستمر منذ الاحتلال، وعدم اقتصارها، كما يشاع، على حقبة محاربة ما يسمى بالدولة الإسلامية منذ عام 2014.
وإذا كانت دول الاحتلال تتحمل المسؤولية الأكبر في جريمة الغزو وتفكيك الدولة ومؤسساتها فأن ساسة العراق الغارقين بالفساد، لم يتخذوا الخطوات الفعالة لمعالجة الكارثة المستقبلية، ولو من باب الحفاظ على أنفسهم، وعلى الرغم من التحذيرات الكثيرة حول ارتباط غياب التعليم بنمو الإرهاب. إن التعليم هو الذي يمنح الأطفال وعوائلهم بعض الأمل في المستقبل، وفي غيابه يزداد الإحباط والتوتر الاجتماعي واحتمال تجنيد الشباب الفقراء وغير المتعلمين في المنظمات الإرهابية والميليشيات المختلفة. ولعل الامل الوحيد، المتبقي، حاليا، في ظل الظلامية المتعمدة، والمخطط لها من الخارج، بمساعدة محلية، هو في المناطق التي استطاع فيها الناس المحافظة على النسيج الاجتماعي، مما يمكنهم من التعويض عن انهيار التعليم والرعاية، بالتكافل الاجتماعي التقليدي من جهة، وأن ينقل الآباء والامهات، بل الجدات والاجداد، وهم أعلى تعليما من الجيل الاحدث، مهاراتهم وعلمهم وقيمهم الإنسانية إلى الأطفال.
2 (طراطير) ساسة العراق
د. ياس خضير البياتي راي اليوم بريطانيا

أشعر بقرف حقيقي، مثلما يشعر معظم العراقيين، حين يسمعون بين حين وآخر،عقد مؤتمرات للطوائف والقبائلوالقوميات لمناسبة الانتخابات، وكأن العراق كتب عليه أن يكونضحية لشلة من السياسيين الفاسدين التي تحكمهم أهواء السلطة والمال، لتمزيق الوطن وبيعه، وتقسيمه الى أجزاء مقسمة طائفيا وقوميا، وكأننا نعيش في عصر الجاهلية الآولى. حيث اختطف هؤلاء (الطراطير) من مراهقي السياسة، الوطن والشعب والثروات خلال السنوات الماضية، وأشعلوا حرائق الطائفية، وأسسوا قنوات إعلامية طائفية هدفها تهديم القيم العراقية، وإثارة نوازع الفرقة بين الطوائف والقوميات والأديان، بل أنهم حولوا العراق من (بلد حضارات) إلى (بلد لصوص) ووضعوا (قفلاً)على الوطن وحولوه الى الى مصرف للنهب!
وإذا صح أن شرّ البلية ما يضحك، فإن لدينا في العراق من مؤتمرات سياسية ما يكفي ويفيض، فقد شهدنا تناسل للأحزاب،وتناسل للقادة اصحاب التواريخ التي لا تسرولاتنفع، قادة من تجار السكائر والأغنام، وقطاع طرق وسمسارة ومتسولون في شوارع اوربا. وشرّ البلية لم يعد يضحك أو يُبكي،فما يحدث في أيامنا من ممارسات(زعاطيط) السياسة يحتاج إلى صبر أيوب، رغم أن صبر العباد اليوم يجعل من أيوب يبكي علينا، مماحل بنا من نكسات ونواح وتشريد!
لاندري على وجه الدقة، من سمح لهذه الشراذم التحدث بأسمنا سنة وشيعة، ومن الذي جعلهم يتحدثون عنا وبأسمنا في هذه المؤتمرات الانتخابية المشبوهة تنظيما وفكرا وتمويلا، يتصرفونفي شئون الرعية كما يريدون خشية حساب ولا عقاب، وهم يؤزمون حياة العباد بعد أن فقّروا الشعب والوطن، وجعلونا في آخر قائمة الأوطان! حتى كادت خرائط اوطاننا مقسمة بالدم والجغرافيا، وأصبحتأنهار العراق بلونالدم، فالماء شأن كل عناصر هذا الكون كالمطروالنار، قليلهيكفي وكثيره يحرق ويغرق!
ومثلما يقول المَثَل الألماني (نسمع سقوط المطر ولا نسمع هبوط الثلج.. نسمع ضجيج الآلام الخفيفة، ولا نسمع صمت الآلام العميقة). ان اصحاب هذه المؤتمرات وقادتها، قد صمَتْ آذانها عن سماع صمت الآلام العميقة، آلام الفقراء والبسطاء، آلام المحرومين والعاطلين، آلام مئات الآلاف من المسحوقين من عامة الشعب.والسُلطة، أية سُلطة، تتمادى في غّيها، حين لا تجدُ مَنْ يقول لها:كفى.وكانَ مارتن لوثر كينغ،محقاً، حين قال (المصيبة ليستْ في ظلمالأشرار، بل في صَمت الأخيار)!
وكان المحتل ذكيا، عندما ترك لناعناصر وأحزاب وميليشيات، على مقاس العملية السياسية، التي تجعل من العراق، كياناً باهتاً وفاشلاً. وكانت المواصفات المطلوبة جاهزة: قطّاع طرق، وعملاء مزدوجون، وطائفيون، وانعزاليون،ولصوص !
ولأن الطيور على اشكالها تقع، فأن هذا المؤتمرات والتحالفات المشبوهة، يراد منه تأسيس تحالفات قديمة –جديدة، وتدوير عجلة الانتخابات المقبلة باتجاه استمرار نفس الطبقة السياسية سواء الشيعية او السنية ، لتحقيق مصالح مشتركة في نهب ثروات العراق ،وتقاسم النفوذ الاقتصادي والسياسي ،لأن أحزاب هذه المؤتمرات الموجودة ،هي احزاب تكتلت وتجمعت على المشاعر والمصالح وليس على الأفكار،ولأن اللهث وراء هذه الاحزاب ما هو الا كالسعي وراء السراب الذي يحسبه الضمأن ماء!
ما نخشاه اليوم وغدا عراقيا، أن يتحول العراق الجديد بعد مرحلة داعش والأنتخابات، الى مدن وقبائل تتقاتل، وتتحول هذه المدن الى مقاطعات وتكتلات فئوية وعصبية ودينية، والقبائل الى أفخاذمتنافرة والى جماعاتمتناحرة، بل ان المشهد العراقي القادم يبدو أعقد مما كان، بفضل تخلف الساسة وانتخاباتهم الهزيلة ، فقد نشهد تناحرات طائفية من نفس الطائفة في مدن العراق، بحيث يتحول العراق الى مدن مقسمةتتناحر على الأرض والمصالح والثروات، أي معركة الكل ضد الكل، وهذا يعني بأن الجميعسينسىأسم الوطن،وهذا ما نخشاه على عراق الرافدين !
ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
3 انتخابات واغتيالات
فراس الزوبعي الوطن البحرينية
تكاد لا تخلو أي انتخابات سياسية في العالم من المنافسة، فهي قائمة عليها، ويتنوع شكل المنافسة بين المرشحين فمنهم من يعتمد استراتيجية تبنى على إبراز أعماله ومنجزاته للجمهور، ومنهم من يعتمد على استراتيجية إسقاط الخصم إن لم يكن لديه شيء يبرزه، وقد يكون ذلك وفق ما يسمح به القانون أو قد يتجاوزه قليلاً، لكن في العراق الأمر مختلف تماماً.
في العراق يتنافس 7376 مرشحاً ينتمون لـ320 حزباً وقائمة للحصول على 328 مقعداً في مجلس النواب العراقي ومنهم سينتخب رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، وهذه رابع انتخابات برلمانية تجرى في العراق بعد غزوه واحتلاله في عام 2003، لكن المنافسة على الانتخابات في العراق لا تشبه غيرها في أماكن أخرى وحيث لا أعمال تذكر لأي سياسي أو حزب أو قائمة تمكنهم من اعتماد استراتيجية إبراز المنجزات للجمهور، فكل أعمالهم كانت عبارة عن هدم وسرقات وجرائم، فقد لجأ المتنافسون إلى الاستراتيجية الثانية وهي استراتيجية إسقاط الخصم، لكن إسقاط الخصم هنا يكون بمعناه الحرفي فهو بين اغتيال أو فضيحة جنسية مصورة بالصوت والصورة، ومع اقتراب موعد الانتخابات في كل مرة من المرات الأربع يسقط عدد من المرشحين قتلى في عمليات اغتيال وينجو آخرون، وفي المنافسة للانتخابات أضيف مقاطع فيديوية إلى مكتبة المقاطع الإباحية لمرشحين آخرين، بالإضافة إلى عمليات الاغتيال، وقد يستغرب كثير من الناس خارج العراق من هذه الأعمال والمنافسة بهذه الطريقة فتأسف الأمم المتحدة وتقلق كعادتها، لكن هذا الاستغراب يزول إذا عرف المتابع أن ممارسة الأحزاب والكتل السياسية لعمليات الاغتيال والتصفية في العراق لأغراض انتخابية هو أمر طبيعي، فهذه الأحزاب والكتل هي في أصلها عصابات وميليشيات لها ذراع سياسي يحكم البلد، والعلاقة بين هذه الأحزاب هي علاقة بين عصابات ولذلك تلجأ هذه العصابات إلى أقصر الطرق للتخلص من منافسيها وهو الاغتيال، كما أن بعض الأحزاب تلجأ إلى عمليات التفجير والقتل الجماعي لإسقاط الحزب الذي يحكم حالاً.هناك الكل يحارب الكل، والطريف أن الفرقاء السياسيين المشاركين في الانتخابات وقعوا على «ميثاق شرف انتخابي» قبل انطلاق حملاتهم الانتخابية! ثم انطلقت بعدها حملات الاغتيال والفضائح الجنسية، ويبدو أن هذا هو الشرف الانتخابي من وجهة نظرهم! فإذا كان هذا حالهم وهم شركاء في العمل السياسي فما بالك بعلاقتهم مع المواطن ومصالحه ومع البلد وخيراته؟!
4 «حمورابي»… هل كان أول المشرعين؟ خليل علي حيدر الجريدة الكويتية
تكاد بعض سمات العراق التاريخية تبدو جلية في سياسة حمورابي، فبالرغم من كثرة حروبه وفتوحاته لم يهتم كثيرا بترسيخ بيروقراطية الدولة التي تأثرت بمزاجه الشخصي وغزواته، حيث كان هدفه الاحتفاظ بنهر الفرات وإبعاد منافسيه وقهر الشعوب الشرقية حتى تخضع له.
كان حمورابي أحد أعظم ملوك المشرق في حضارة “بابل” والتي حكمها ما بين 1792- 1750 قبل الميلاد، وقد صورته النقوش والأختام رجلا يفيض حماسا وعبقرية، وعاصفة هوجاء في ساحات القتال، حيث يمزق الأعداء ويهزم جيوشهم شر هزيمة، وقائدا ناجحا في توحيد الدويلات التي كانت تتحارب فيما بينها على امتداد حدوده، فنجح، كما يقول د.عامر سليمان، في “رفع راية السلام شامخة على ربوعها، ووطد صروح الأمن والنظام والقانون في ظلال شريعته التاريخية الفريدة”.
(القانون في العراق القديم، ص 224).
وتكاد تبدو بعض سمات العراق التاريخية في سياسته، فبالرغم من كثرة حروبه وفتوحاته لم يهتم كثيرا بترسيخ بيروقراطية الدولة التي تأثرت بمزاجه الشخصي وغزواته، حيث كان هدفه الاحتفاظ بنهر الفرات وإبعاد منافسيه وقهر الشعوب الشرقية حتى تخضع له، ويرى بعض الباحثين أن أعظم ما أنجزه كان نجاحه في نقل مسرح الأحداث في بلاد الرافدين من الجنوب إلى الشمال، حيث بقي هناك لألف سنة قادمة.
لم يكن حمورابي أول مشرع قديم، كما يبين “موسكاتي” في كتابه “الحضارات السامية القديمة”، فلقد سبقه بنحو قرنين من الزمان ملك “أشنونا”، بقانون “بيلالاما” (Bilalama) إضافة إلى قانون سومري آخر هو قانون “”لبيت عشتار”. كما أن هناك عددا من القوانين السومرية القديمة، وهي ترجع إلى نحو 2050 قبل الميلاد وتسمى قوانين “أورنمو”، ولكن شريعة حمورابي بقيت متميزة ومعروفة.
يقول د. خليل العباسي في كتابه “شريعة حمورابي”: “يقدم لنا القانون البابلي صورة مثلى للقانون المتشبع بروح العدالة، نلمس في ثناياه الأحكام الصارمة لحماية الضعيف من ظلم القوي، ونتبين في قواعده ما يحقق بعض أوجه العدالة الاجتماعية. لقد عالجت شريعة حمورابي المؤلفة من 282 مادة، كل جوانب الحياة بتفاصيل ومفردات تدهشك دقتها وتنظيمها، كما يستوقفك عنف العقوبات الرادعة، وقد استهل حمورابي شريعته بمقدمة صيغت بأسلوب بليغ أقرب إلى الشعر منه إلى النثر، وفيها يذكر كيف دعاه الإله مردوخ لنشر العدل في البلاد لكي يقضي على الشر والخبث، ولا يستعبد القوي الضعيف، ولكي ينير البلاد. ثم يستعرض بكل فخر ألقابه وأعماله العسكرية والعمرانية والتعبدية، وكيف استطاع تحرير سكان المدن، ثم يتضرع حمورابي إلى الآلهة بالدعاء إلى الملوك الذين سيأتون بعده ليطبقوا قوانينه بالعدل ويحافظوا عليها من المجرمين والدساسين والمشبوهين حيث يستنزل عليهم جميعا لعناته”.
لقد قام د.العباسي بترجمة قانونية كاملة لبنود “شريعة حمورابي”، عمان- الأردن 1998، نود فيما يلي أن نلقي نظرة شاملة سريعة عليها لأهميتها الكبرى في تاريخ تطور القانون، حيث تناول التشريع القضايا الأسرية والاجتماعية والجرائم المرتكبة ضد الممتلكات ومسائل الزراعة والرعي والتجارة، والمسائل المتعلقة بأرباب مختلف المهن، وأخيرا قضايا تجارة العبيد.
تعاقب قوانين حمورابي بالموت “كل من سرق أموالا تعود ملكيتها للإله أو القصر”. كما يعتبر سارقا ويعاقب بالموت كل من يتعامل تجاريا دون شهود أو عقود مع قاصر أو عبد! وتبدو الأهمية الكبرى لامتلاك الرق في عصر حمورابي، حيث نرى بنودا كثيرة تخص شؤونهم، وتقول المادة 15 ما نصه: “يعاقب بالموت، من مهد السبيل لعبد أو أمة للهروب من بوابة المدينة. ويستوي أن يكون العبد أو الأمة من بين عبيد القصر أو إمائهم أو ممن يملكهم عامة الناس”.
وتقول مادة أخرى: “إذا آوى شخص في منزله عبداً آبقا أو أمة آبقة، ثم لم يستجب لنداء المنادي بتسليم الآبق، عوقب بالموت، ويستوي أن يكون الآبق ممن يمتلكهم القصر أو عامة الناس”. وتقول المادة 282: “إذا قال عبد لمالكه “أنت لست سيدي”، فإن تأكد كونه عبده، كان لسيده أن يصلم أذنه”! وكان بعض أشكال الرق لحسن الحظ مؤقتا، فتقول المادة 171 مثلا: “إذا حل ميعاد استحقاق الدين على شخص، وباع زوجته أو ولده أو ابنته، أو قُدم أحدهم للدائن مقابل الدين، وجب عليه الخدمة في منزل المشتري أو الدائن لمدة ثلاثة أعوام، وفي العام الرابع يستعيد الشخص المباع وضعه القانوني”.
وتنص المادة 118 على أنه “إذا قدّم المدين لدائنه عبداً أو أمة مقابل دين، فمن حق الدائن بيعه أو بيعها دون أن يكون محل مطالبة من أحد”.
وفي المجال الأسري حتمت تشريعات حمورابي عقد الزواج، إذ نصت المادة 128 على أنه “إذا اتخذ رجل من امرأة زوجة له دون أن يجري لها عقدا، فلا تعتبر هذه المرأة زوجة له”.
وعاقب القانون العلاقات غير الزوجية في هذا المجال، إذ نصت المادة 129 على أنه “إذا ضُبطت زوجة في أحضان رجل آخر، قُيّد الاثنان، وأُلقيا في النهر، وإذا شاء الزوج الغفران لزوجته بإبقائها على قيد الحياة، كان للملك عندئذ أن يُبقي على حياة خادمه- أي الزاني”.
“وإذا اتهم زوج زوجته بالخيانة الزوجية، ولم يضبطها مع عشيقها، وجب عليها أداء القسم أمام الإله على براءتها والعودة إلى دار الزوجية”. ونصت مادة أخرى على أنه “إذا طعن شخص بإيماءة منه شرف زوجة رجل آخر، ولم تثبت صحة اتهامه، استقدم أمام القضاة ودُمغت جبهته بعلامات مميزة”.
وأجاز تشريع حمورابي تعدد الزوجات في بعض الحالات، فتقول المادة 141 إنه “إذا اعتزمت زوجة تعيش في كنف زوجها الخروج من البيت لتمارس عملا يسيء إلى سمعة زوجها ويدمر الراحة المنزلية، ويثبت عليها ذلك، كان لزوجها أن يطلقها دون أن يترتب عليه أي التزام، أما إذا لم يشأ الزوج تطليقها، جاز له الزواج بامرأة ثانية واستبقاء زوجته الأولى أمةً في منزله”. وتقول مادة أخرى: “إذا لم تكن الزوجة كيّسة في تصرفاتها، بل تسعى إلى الخروج من المنزل والحط من شأن زوجها وتخريب بيتها، عوقبت بإلقائها في الماء”.
وتتكرر عقوبة الإلقاء في النهر كعقوبة في أكثر من بند من تشريع حمورابي، وقد جاء في “المعجم القانوني” لحارث سليمان الفاروقي، أن الشعوب القديمة كانت تعرف طرقا متنوعة من طرق المحاكمة، ومنها المحاكمة بالماء البارد water ordeal وبموجبها كان المتهم يربط بحبل من تحت إبطيه، ثم يلقى في نهر، فإذا رسا في القاع حتى يجذب إلى أعلى بعد برهة قصيرة من إلقائه، عُدّ بريئاً، وإذا طفا على سطح الماء عُدّ مذنبا باعتبار أن الماء قد لفظه ورفض احتضانه.
وكانت عقوبة من يمارس السحر في قوانين حمورابي كما يلي:
“إذا اتهم شخص شخصا آخر بممارسة السحر وعجز عن إثبات التهمة، وجب على المتهم أن يرمي نفسه في النهر، فإن ابتلعه، كوفئ المدعي بممتلكات المتهم، أما إذا برّأ النهر ساحته بخروجه منه حيا، عوقب غريمه بالموت وأعطيت أمواله للمتهم”. وكان يعاقب بالموت كذلك من يدلي بشهادة كاذبة في دعوى عقوبتها الموت: “ولم يستطع إثبات شهادته”. أو من يسرق أموالا “تعود ملكيتها للإله أو القصر”، وكان الموت عقوبة أي شخص يسرق ثورا أو خروفا أو حمارا أو خنزيرا أو قاربا، ويعجز عن دفع الغرامة التي كانت عشرة أضعاف ما سرق، كما كان الموت جزاء كل من يتهم شخصا بتهمة القتل ثم يعجز عن إثبات التهمة.

ونصت قوانين الملك البابلي على قطع يد الطبيب “إذا أحدث أثناء عملية لمريض جرحا بليغا أو قام بفتح محجر عينيه بمشرط برونزي، وسبب له تلفا في العين”. وكان الحلاق يتعرض للعقوبة نفسها “إذا قام بإزالة علامات فارقة لعبد، بدون علم مالكه، وبما يؤدي إلى عدم معرفته”. وينبغي الإشارة هنا إلى أن الحلاقين كانوا إلى عهد قريب يقومون ببعض الأعمال الجراحية، ومنها الختان!
وتقول المادة 195، “إذا ضرب ولد أباه، قطعت يداه”، كما ذكرت عقوبة قطع اليد في البند 253 لجريمة أخرى، وذلك “إذا استأجر شخص شخصا آخر وعينه مشرفا على حقله، وقدم له البذور والحبوب وجهزه بالثيران وتعاقد معه على زراعة الحقل، ثم قام هذا الشخص بسرقة البذور والمحاصيل وضبطت عنده”. أما إذا كان قد استحوذ على الحبوب وترك الثيران تتضور جوعا “أُلزم برد ضعف كمية الحبوب التي تسلمها”.
ومن قوانين العين بالعين والسن بالسن، المادة 196: “إذا فقأ شخص عين شخص آخر عوقب بالمثل”. والمادة اللاحقة لها “إذا كسر شخص عظم شخص آخر عوقب بكسر عظمه”.
وقد ميزت قوانين حمواربي وتشريعاته بين الحر والعبد، فالمادة 199 تقول: “إذا فقأ شخص عين عبد أو كسر عظما له عوقب بدفع نصف الغرامة المحددة”. وكان على الحر أن يدفع عقوبة مالية إن صفع حرا مثله، في حين: “إذا صفع عبدٌ شخصا حرا عوقب بقطع أذنه”.
وكانت مكافأة الطبيب الجراح للرجل من الأثرياء وربما رجال الدين عشر شقلات من الفضة مقابل العملية، ونصف المبلغ للرجل من عامة الناس، و”أما إذا كان المريض عبدا دفع مالكه للطبيب شقلين من الفضة نظير العملية”.
وفي مجال التبادل التجاري أبرز التشريع أهمية العقود، فقالت المادة 96 مثلاً: “إذا قدم تاجر حبوبا أو فضة على سبيل القرض، دون أن يكون هناك شهود أو عقد، فَقَد الدائن كل القرض”.
وكان على مقاولي البناء مراعاة أقصى درجات الحذر والدقة، فقد نصت المادة 229 على أنه “إذا شيد معمار دارا لشخص، ولم يكن بناؤه محكما، فانهار على صاحب البيت فقتله عوقب المعمار بالموت”. وقالت مادة لاحقة: “وإذا أفضى انهيار الدار إلى مقتل ابن صاحب الدار قُتل ابن المعمار”.
ولما كان للحانات دور بارز في النشاط التجاري نبهت المادة 109 بأنه: “إذا حصل تجمع لمتآمرين في دار بائعة الخمر، ولم تبلغ عنهم لإلقاء القبض عليهم وتسليمهم إلى القصر، عوقبت بالموت”، وفي مادة أخرى: “إذا رفضت صاحبة الحانة قبول الحبوب ثمناً لمشروباتها أو تلاعبت في أثمان المشروبات إزاء ما يقابلها من أوزان الفضة وأكيال الحبوب، عوقبت رمياً في النهر إذا ثبتت عليها التهمة”.
وتضمنت شرائع حمورابي توجهات أسرية متميزة كما في المادة 166، التي تقول: “إذا قام شخص بتزويج أبنائه جميعا باستنثاء ابن قاصر، ثم مات الأب ميتة طبيعية واقتسم الأولاد الميراث، وجب على الأولاد المتزوجين جميعا إعطاء أخيهم القاصر غير المتزوج، من النقود ما يساوي مقدار الصداق علاوة على نصيبه في الميراث”.
وعن توريث البنات قالت هذه القوانين: “إذا وهب والد ابنته هدية موثقة على رقيم، ولكنه لم يثبت لها على الرقيم من هو وريثها، ولم يمنحها حق التصرف، ثم مات أبوها ميتة طبيعية، انتقلت ملكية الحقل والبستان إلى إخوتها، وتُعطى مقابل حصتها حبوباً وسمناً وصوفاً، وبما ينال رضاها”.
اتسمت شرائع حمورابي في العديد من بنودها بالقسوة البالغة، فكانت تعاقب جرائم الرضاعة بقطع أثداء المرضعة (البند 194) ومشاكل التبني بقطع اللسان وقلع العين (المادتان 192 و193)، ومن ملاحظات المترجم قوله: “وقد يستغرب القارئ الكريم، وهو يقرأ نصوصا لمشرع كبير كحمورابي، خلو شريعته من أي ذكر لعقوبة الحبس. وليس يُدرى على وجه التحديد أين كان يُحشر المتهمون والمحتجزون، الذين يُلقى القبض عليهم على ذمة التحقيق، وأين كان يودع المجرمون الذين صدرت بحقهم أحكام الموت قبل تنفيذها؟”. (ص12).
اعتمد المترجم، د.خليل إبراهيم العباسي على الترجمة الألمانية لشريعة حمورابي للأستاذين الراحلين بايزر وكولر Peirzer Kohler، المطبوعة في مدينة لايبزغ عام 1904 إلى جانب الترجمة الإنكليزية Rosamonde Mack بغداد 1979.
وفي النص بنود مفقودة من الأصل، وقد يتساءل القارئ ألم تكتب أو تنقش نسخ أخرى من هذه التشريعات لبعض المدن والمنطق في بابل وغيرها؟ وهل لا يزال البحث جاريا عن مثل هذه النسخ؟