1 الإمارات في الموصل
ضرار بالهول الفلاسي البيان الاماراتية
استمراراً لدورها الحضاري الريادي في نشر المحبة والنور، وضمن احتفائها بعام زايد ذلك الرجل الذي مثّل أنموذجاً للمسلم الراشد الصالح، أرسلت دولة الإمارات العربية المتحدة معالي نورة الكعبي وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة إلى العراق لتوقيع اتفاقية مع كل من وزارة الثقافة العراقية ومنظمة يونيسكو، بهدف إطلاق مشروع إعادة بناء وترميم المسجد النوري الكبير ومئذنته الحدباء في مدينة الموصل العراقية، بالتعاون مع المركز الدولي لدراسة صون وترميم الممتلكات الثقافية «إيكروم»، في مشروع يمتد خمس سنوات، يعد الأضخم من نوعه في العراق، وبتكلفة خمسين مليوناً وأربعمائة ألف دولار أميركي.
وهذه ثاني خطوة كبرى في هذا الاتجاه بعد مبادرة الإمارات في وقت سابق ممثلة بمؤسسة دبي للمستقبل لإعادة إحياء «قوس النصر» البوابة التاريخية لمدينة تدمر الأثرية باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، بعد أن دمر الإرهاب الأسود البوابة الأصلية.
الإمارات اليوم هي مركز للتحضر ونشر النور والخير وثقافة التسامح والاعتدال وتقبّل الآخر في منطقتنا، ولا يمكن لذلك أن يتم إلا إذا كان عملنا شاملاً وإقليمياً، يتكامل فيه العملان العسكري والأمني مع بقية مكونات مصفوفة مكافحة الإرهاب، كما أن ريادة دولة الإمارات العربية المتحدة للجهود العالمية للحفاظ على آثار دول المنطقة وحمايتها من الاندثار والتدمير تنبع في عمقها الرئيس من رؤية الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله الذي كان على الدوام يرى دولة الإمارات دولة ذات إرث حضاري ثقافي يسهم في تطور الإنسانية وترسيخ وجودها الإيجابي البنّاء.
بالنسبة لي كمواطن إماراتي وبعيداً عن الديباجات الجاهزة، لا أستطيع أن أفصل مبادرة إعادة بناء الجامع النوري بالموصل ومئذنته الحدباء على بقية المشروعات الإماراتية الطموحة مثل الوصول للمريخ وبناء مدينة إماراتية هناك، لأن المحور في الحالين واحد وهو الإنسان وحياته ورفاهيته الفكرية والنفسية قبل المادية.
ومعلوم أن البناء الذهني والثقافي للأمم، وما ينبني عليه من تحصين فكري ضد الإرهاب والتطرف، يتصل اتصالاً وثيقاً بالحفاظ على إرثها وثقافتها، وخاصة التي ترتبط بمكوناتها الحضارية الخاصة، كما هي حال الجامع النوري الشاهد على أنصع مراحل ازدهار الحضارة الإسلامية في بلاد الرافدين.
وحين تمد الإمارات يدها اليوم إلى العراق الشقيق للتعاون في إعادة بناء الجامع النوري ومئذنته الحدباء، فإنها توجه ثلاث رسائل مهمة، أولاها للشعب العراقي الشقيق وهي التزامنا المتواصل بدعم أشقائنا في العراق حيث يوفر هذا المشروع ما يزيد على خمسة آلاف وظيفة للمواطنين العراقيين.
وثاني الرسائل هي لمن يتوهمون فيخلطون بين الإسلام والإرهاب، فالمبادرة اليوم لإعمار الجامع والمئذنة دليل ناصع على أن الإسلام هذا الدين الراشد يطرد الإرهاب والإرهابيين والقتلة مهما كانت مسمياتهم وشعاراتهم.
أما الرسالة الأهم فهي على لسان الوزيرة الكعبي التي قالت: «فرحتنا واعتزازنا اليوم بهذا المشروع نابع من إيماننا بأن للثقافة دوراً كبيراً في مواجهة الإرهاب ومحاربته، هذا الإرهاب وأدواته التي كانت سبباً في تدمير المسجد النوري الكبير ومنارته الحدباء في الماضي القريب، كما تعكس جهود الإمارات الإيجابية في نشر رسالة الأمل والوسطية والانفتاح ضد التعصب والتطرّف الفكري والديني والثقافي».
إن حربنا مع الإرهاب، أيها السادة، ليست حرب أسلحة واستخبارات فقط، فميدانها الأول هو العقول والأفكار، ومبادرة الإمارات في إعادة بناء الجامع النوري بالموصل بعد تطهيره من دنس الإرهاب خطوة مهمة في هذا الإطار.
شكراً، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان على هذه المبادرة الكريمة.
2 ولي الفقيه العراقي حازم الأمين الحياة السعودية
العراق كله كان ينتظر رسالة المرجع الديني علي السيستاني في شأن الاستحقاق الانتخابي في الثاني عشر من الشهر الجاري. السيستاني ليس الولي الفقيه، وعلى رغم ذلك كان انتظار رسالته مفصلاً انتخابياً رئيساً بالنسبة لكل الجماعات العراقية. الشيعة انتظروها بوصفها مؤشراً سيقترعون وفقه، والسنة انتظروها عساها تحمل ما يُخفف عنهم عناء الهزائم، والأكراد انتظروها بوصفها شرحاً لحال الشريك الأكبر في بلدهم.
السيستاني ولي فقيه على رغم انتفاء الصفة. هو الرجل الأقوى في العراق. رسالته في شأن الانتخابات لم تحمل جديداً، وعلى رغم ذلك، شكلت الحدث الأبرز في الأسبوع الذي يسبق الانتخابات. هاجم السيستاني الفساد والفاسدين ودعا العراقيين إلى عدم انتخاب من اختبروا فسادهم. خصوم نوري المالكي اعتبروا هذا الكلام موجهاً ضده، وهو اعتبر نفسه غير معني به، ورحب بالرسالة. رئيس الحكومة حيدر العبادي رحب بها أيضاً على رغم حيادها تجاهه.
كان انتظار الرسالة مؤشراً يفوق الرسالة أهمية، ذاك أن الانتظار كشف عن أن للمرجعية القول الأخير في المحطات الرئيسة. وهذا افتراض إذا ما صح فهو يعني أن ولاية فقيه عراقية تلوح في أفق ذلك البلد. وعلينا هنا أن نستعيد حقيقة أن قرار إنشاء الحشد الشعبي في أعقاب تدفق «داعش» على المدن العراقية اتخذته المرجعية أيضاً عبر قرار «الجهاد الكفائي» الذي أصدره السيستاني أيضاً، والحشد اليوم هو المؤسسة شبه الرسمية والممولة من الحكومة، والتي ينضوي في صفوف فصائلها مئات آلاف من المقاتلين، وترشح عشرات من وجوهها إلى الانتخابات، وهم اليوم ينافسون السياسيين العراقيين في مختلف الدوائر الانتخابية، وهم ممولون من الحكومة، والمرجعية لم تعلن قراراً بحل الحشد على رغم انتهاء المهمة.
السيستاني ولي فقيه عراقي. ثمة فروق بين الولايتين الإيرانية والعراقية، لكن أوجه الشبه كثيرة أيضاً. موقع المرجعين (الوليين) من المحطات السياسية الكبرى شديد التشابه. وحين نراجع مثلاً رسائل علي الخامنئي في المحطات الانتخابية الإيرانية فسنجد شبهاً كبيراً. الحياد والحديث العام عن الفساد وتجنب الإفصاح عن الجهة التي يرغب المرجع في دعمها. ثم أن الحرس الثوري بصفته أداة الولي الفقيه يمكن أيضاً أن يذكرنا بالحشد بصفته ثمرة فتوى المرجعية العراقية. ولاية الفقيه الإيرانية هي الدولة بظاهرها وباطنها، ويجري الفرز على هذا الأساس. ثمة معارضون للحكومة هناك من داخل عباءة الدولة والولاية، ومعارضون من خارجها. المرجعية في العراق هي السلطة في باطنها. هي الدولة العميقة. حين تُغالي الجماعات الشيعية في حروبها على الجماعات الأخرى، تنتظر الجماعات المغلوبة نجدة المرجعية، والأخيرة أحياناً تفعل وأحياناً لا تفعل. وحين يشعر سياسي شيعي بالضيق يتوجه من فوره إلى النجف، وينتظر خطبة الجمعة التي تلي زيارته، عساها تحمل بعض ما يسعفه في التقاط أنفاسه. والسيستاني، إذ لا يظهر بنفسه في خطبه المنتظرة، يبدو أقرب إلى «ظل للإمام» منه إلى مرجع.
أطلق معلقون وسياسيون عراقيون على رسالة السيستاني الأخيرة عبارة «الولاية المدنية»، في إشارة إلى رغبة عراقية بالتمايز عن «ولاية الفقيه» الإيرانية. والرغبة العراقية بالابتعاد عن العبارة الإيرانية هي جزء من مزاج عراقي قديم ينحو إلى تظهير الفارق بين نوعي التشيع العراقي والإيراني. لكن هذه الرغبة لا تكفي لإلغاء خطوات تقارب كبرى بين الجماعتين، بحيث صارت الفوارق شكلية. فالفارق التاريخي بين «المرجع» و «الولي» يضعف يوماً بعد يوم، والمرجعية في العراق لا تملك قرار الابتعاد عن إدارة شؤون الرعية طالما أن الأخيرة لا ترغب بابتعادها. المرجعية بهذا المعنى مرغمة على أن تكون «ولاية» طالما أنها الولاية الفعلية، وطالما أن السياسيين وأحزابهم وخصومهم سيلجأون إليها كلما حانت ساعة الضيق.
3 ليس وليّ الفقيه
مشرق عباس الحياة السعودية
لم يتوقف الجدل منذ أسبوعين حول نية المرجع الديني علي السيستاني إصدار توجيهات حول عملية الانتخابات في العراق، تزامناً مع شائعات عن نيته إطلاق فتوى للملايين من مقلديه، بانتخاب أطراف وإقصاء أخرى، وأنه سيقلب المعادلات السياسية ويعيد رسم الخريطة من جديد.
لكن البيان الذي تلاه ممثل السيستاني في كربلاء عبد المهدي الكربلائي، لم يكن يتضمن أياً مما سبق، وإن لغته التي وصفت بأنها سياسية لا دينية كانت هادئة، ومنحوتة بعناية، وربما قابلة للتأويل إلى درجة أن الأطراف السياسية التي اضطربت خلال الأيام الماضية متوقعة أن يطاولها الخطاب سارعت بعد دقائق إلى إصدار بيانات تأييد، ومعظمها اعتبر أن البيان يمكن تفسيره لمصلحتها، ما سمح لبعض المراقبين باتهام السيستاني بأنه منح الفاسدين وغير الفاسدين حق استخدام خطابه انتخابياً.
واقع الحال أن السيستاني رفض من خلال خطابه المذكور أن يكون ولي فقيه العراق ليحدد مسارات الانتخابات، متمسكاً بذلك بفلسفة النجف التقليدية، التي تطورت خلال السنوات العشر الأخيرة لتصبح أكثر تحفظاً تجاه التدخل السياسي، وأكثر ميلاً للانعزال عن الطبقة السياسية، ماعدا أحداثاً نادرة من ضمنها دعم الانفتاح العراقي على المحيط العربي، حيث ساهم السيستاني فيه عام 2016 باستقباله رئيس الجمهورية الذي انطلق من النجف إلى المملكة العربية السعودية، وأكد معصوم في ما بعد أن السيستاني طلب منه العمل على تطوير العلاقات مع المملكة.
وفي الشأن السياسي أيضاً كان ثمة تداخل لرأي السيستاني عام 2014 في قضية الولاية الثالثة للمالكي، وقبلها كان أصدر فتوى «الجهاد الكفائي» التي اعتبرت حدثاً لافتاً ونادراً في تاريخ مرجعية النجف، وكل ذلك أعقب فترة انقطاع امتدت سنوات صاحبتها مراجعات لكل التدخلات التي أقدمت عليها المرجعية الشيعية منذ عام 2003 والتي واجه بعضها انتقادات كبيرة كالسماح باستثمار اسمها على يد قائمة «الائتلاف الوطني» في انتخابات عام 2006، التي نتج منها المجتمع السياسي الممسك بالسلطات المختلفة منذ ذلك الحين.
وعلى ذلك فإن هناك من افترض أن انتخابات عام 2018 تنتمي إلى المفاصل الإستراتيجية التي قد تكون مناسبة لتدخل النجف لتحديد المسارات، وبعضهم طالب بموقف واضح يتعلق بمنح الناخبين أسماء أو أحزاب محددة لانتخابها أو إقصائها.
والرأي أن السيستاني اختار بديلاً عن الانجرار مرة أخرى إلى التدخل في الانتخابات انتقاد قانون الانتخابات الذي اعتبره غير قادر على تغيير البيئة السياسية العراقية، وهذا الانتقاد ليس الأول من نوعه فقد سبق لممثل السيستاني في كربلاء ان طالب عام 2017 بإقرار قانون انتخابات عادل، وهو ما تغافلت عنه القوى العراقية التي تسارع اليوم إلى إبداء تأييدها كما تبالغ بترحيبها بـ «توصيات السيد»، وهي مستعدة في الوقت نفسه إلى ضرب تلك التوصيات بكل طريقة فيما لو لم تنسجم مع مصالحها.
كان لافتاً وفريداً أن السيستاني تحدث عن التداول السلمي للسلطة وعن الانتخابات والقانون كمسار وحيد للعراق، وعن الخيار السياسي الفردي المبني على القناعة الشخصية لا الفتوى الدينية باعتباره خياراً مقدساً، حتى أنه تخلى للمرة الأولى عن حض الجمهور على المشاركة في الانتخابات، واعتبر أن المقاطعة على ما تكتنف من مساوئ تنتمي بدورها إلى الفعل السياسي القانوني نفسه.
تلك القضايا الأساسية يمكن جمعها مع تبني السيستاني مفهوم «الدولة المدنية» الذي ورد نصاً في خطابات معتمديه، للحديث عن تبلور فهم أكثر نضجاً وعمقاً لدى المرجعية الشيعية، حول شكل العلاقة بينها وبين مؤسسات الحكم وأدواته، بعد عقود طويلة من الالتباس وسوء الفهم وأحياناً الارتباك بين العداء أو الانعزال أو الانغماس.
بالطبع إن التوصيات التي كانت منتظرة أكثر حول «المجرب لا يجرب» والموقف من «الحشد الشعبي» وتعريف «القوى الفاسدة» وضرورة التدقيق في المرشحين وزعماء قوائمهم وتجنب القوى المدعومة خارجياً، وذكر «الفاشلين في الحكم»، لايمكن فهمها بطريقة صحيحة من دون العودة إلى جوهر بيان السيستاني الأخير ورسالته الأساسية الجديرة بالدراسة، والتي ملخصها: «لستُ وليَّ الفقيه» والدولة التي يمكن أن تزدهر فيها مرجعية دينية تاريخية كمرجعية النجف هي «الدولة المدنية» التي يسوّرها القانون.
4 إنجاز “المهمة” الأميركية في العراق وليد الزبيدي الوطن العمانية
لم يتوقف الكثيرون عند حدث خطير، ولم يناقشه الخبراء، رغم أنه ينطوي على الكثير من المعاني والدلالات، ومعروف أن الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش قد اطلق عبارة “المهمة أنجزت” في العراق، معلنا “الانتصار الكبير” في خطابه الشهير الذي ألقاه من على سطح الفرقاطة الأميركية الشهيرة ابراهام لنكولن في الأول من مايو من العام 2003، ولم يعترض المفكرون والاستراتيجيون والسياسيون على ذلك الوصف، ورأوا فيه دقة وواقعية سياسية عميقة، وأنه يمثل خلاصة حرب الأسابيع الثلاثة التي تمكنت خلالها القوات الأميركية والبريطانية من اسقاط الحكم في العراق والسيطرة على هذا البلد بمساحته الواسعة البالغة 444 الف كيلومتر مربع، وانطلق هؤلاء في قبولهم لما أعلنه الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وعدم التحذير من عواقب ذلك وتداعيات قد يشهدها العراق إلى عاملين رئيسيين، هما:
الاول: أن العراق قد تم انهاكه على مدى ما يقرب من أربعة عشر عاما من الحصار القاسي، وأن حجم المعاناة الكبير قد ولد “قناعة” لدى العراقيين بقبول “العم سام” الذي يفرض هيمنة على العالم غير مسبوقة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينات القرن العشرين، وأنه ليس ثمة خيار امام العراقيين إلا قبول “الواقع الجديد”.
الثاني: أن القوة العسكرية الأميركية الهائلة تفرض حالة من اليأس الكبير والقنوط على كل من يفكر بالتحرك ضد هذه القوات في العراق، خاصة أن العراقيين قد شاهدوا بأم أعينهم حجم هذه القوة وجبروتها. وكيف حققت نصرا ميدانيا سريعا.
وفي نظرة تحمل الكثير من السذاجة السياسية استحضر الأميركيون تجربتين سابقتين، هما التجربة اليابانية والألمانية بعد هزيمة البلدين في العام 1945، وهذا ما أكده لاحقا بول بريمر ما يسمى بالحاكم المدني في العراق، ولم يتوقف هؤلاء عند التجربة الفيتنامية التي الحقت قوات المقاومة بقيادة الزعيم الفيتنامي هوشي منه هزيمة منكرة بالولايات المتحدة في العام 1975.
ويبدو أن صورة الماريشال الألماني كايتل الذي وقع وثيقة الاستسلام الألمانية في الثامن من مايو في العام 1945 ما زالت في عقول القادة الأميركان ورئيسهم جورج بوش الابن، وهو يستعد لإلقاء خطابه في الأول من مايو من العام 2003، أي بعد احتلال العراق بنحو ثلاثة أسابيع، فعندما سلم الجنرال الأميركي كارل سباتز قائد القوات الأميركية الجوية الاستراتيجية للجنرال كايتل وثيقة الاستسلام المكونة من مئتي صفحة، قلبها كايتل وذهب إلى الصفحة الأخيرة موقعا على كل ما تضمنته، وطلب منه الأميركي أن يقرأ الوثيقة اجاب (المهزوم لا يقرأ وعليه أن يوقع على كل شيء)، كذلك حصل ذات الأمر في اليابان بعد ثلاثة اشهر عندما استخدمت الولايات المتحدة القنابل النووية في تدمير مدينتي هيروشيما وناغازاكي ( اب- اغسطس 1945)، ولم يكن بإمكان المسؤولين اليابانيين إلا رفع راية الاستسلام للقوات الأميركية في ذلك الوقت.
لكن وبعد خمسة عشر عاما على إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش عن “إنجاز المهمة” في بلاد الرافدين، تبدو الصورة مختلفة تماما عن تلك التي فرح بها بوش الابن.
5 ذكرى معركة الفلوجة
د. سمير قطامي
الراي الاردنية
بالأمس مرّت الذكرى الخامسة عشرة السوداء لسقوط بغداد في أيدي الأميركان ، دون أن أقرأ أو أسمع شيئا عن تلك الكارثة التي ما تزال الأمة تعاني من آثارها.. والأسبوع الماضي مرّت الذكرى الأليمة لمعركة الفلوجة ، دون أن يشير أحد لما حدث في تلك البلدة القابعة على نهر الفرات غرب بغداد من وحشية لا يصدقها عقل ، فهل فقدت الأمة حسّها القومي والإنساني ، أم أننا استمرأنا الهزيمة والذل والمهانة حتى أصبحت من مكوناتنا الشخصية ؟
لهذا أجد نفسي ملزما بتذكير الإنسان العربي بأفجع كارثة إنسانية ارتكبها الأميركيون في العراق بعد احتلاله ، باستخدامهم القنابل العنقودية والغازات القاتلة والقنابل الفسفورية ، وقنابل اليورانيوم ، وكل أنواع الأسلحة والذخائر المحرمة دوليا ، ضد المدنيين لكسر إرادة الرفض العراقية..
بدأت القصة بخروج العراقيين في مظاهرة سلمية ضد تمركز الجيش الأمريكي في إحدى مدارس الفلوجة ، فتصدّت لهم القوات الأمريكية وقتلت منهم 17 مواطنا ، مما أدى إلى زيادة الاحتقان والتوتر ، وقيام بعض المواطنين ، ثأرا للضحايا، بسحل أربعة من مرتزقة شركة بلاك ووتر الأمريكية ، وتعليق جثثهم على جسر في البلدة ، مما أثارحفيظة الأميركيين ودفعهم للانتقام من البلدة كلها بأسلوب لم يسجل في حرب فيتنام.
حوصرت البلدة من قبل القوات الأميركية ، وقامت الطائرات والمدفعية الثقيلة والصواريخ ، بتدمير المنازل والمرافق العامة ، وحاول الجيش الأمريكي اقتحام البلدة ، لكنه فوجيء بمقاومة شديدة، ومني بخسائر كبيرة في القوات والمعدات ، إذ قتل له 92 ضابطا وجنديا ، وأصيب العشرات من جنوده ، وخسر 50 مدرعة ، وهذا ما دفع الرئيس الأميركي بوش إلى القول: «لقد واجهت قواتنا أسبوعا قاسيا ، وأنا أصلّي كل يوم من أجل أن تتراجع الخسائر «
لم يكن سهلا على الأميركيين أن يسلّموا بالهزيمة ، فأعدوا العدة للمعركة الثانية ، إذ حشدوا سبعة أضعاف القوة السابقة ، وحاصروا البلدة ، واستمرّ القصف والتدمير طوال شهر ونصف ، واستخدموا القنابل العنقودية والغازات السامة والفسفور الأبيض الذي كان يذيب اللحم والعظم ، وقد سقط في يوم واحد أكثر من 200 مواطن مدني ، ودمرت آلاف المنازل ، وقد أعلن أحد الأطباء الذين كانوا في مستشفى الفلوجة أن 90% من الضحايا قتلوا بالكيماوي والفسفور الأبيض..
دخل الأميركيون البلدة بعد أسبوع من القصف العنيف والتدمير الشامل للأحياء ، وكانت الدبابات تسير على جثث الضحايا المتفحّمة المنصهرة التي غصّت بها الشوارع ، والتي زاد عددها على 1600 ، ناهيك عن الجثث التي ظلت تحت الأنقاض لما يزيد على سنتين.
بعد تدمير البلدة ، وقتل الكثير من سكانها ، وتهجير معظم من بقي على قيد الحياة ، منع المحتل الأميركي أي بعثة دولية من دخول الفلوجة كي لا تكشف ممارساته الوحشية ، وقد استطاعت بعثة وكالة أنباء إيطالية زيارة البلدة بعد سنة من الجريمة ، وبثت تقريرا في 9 نوفمبر سنة 2005 جاء فيه أن المارينز استخدموا قنابل m.k77 الشبيهة بالنابالم ، بالإضافة إلى الفسفور الأبيض الذي يعدّ من الأسلحة المحرّمة دوليا حسب قرارات ومعاهدات حظر استعمال الأسلحة الكيماوية ، والتي وقّعت عليه الولايات المتحدة الأميركية سنة 1993.
شاهدت الأسبوع الماضي ندوة في تركيا حول تداعيات احتلال العراق شارك فيها السيد طاهر بوميدرا ، وهو أحد مسؤولي الأمم المتحدة في العراق زمن الاحتلال ، وقد أعلن في تلك الندوة أن الأميركيين استخدموا كل أنواع الأسلحة المحرّمة دوليا ، وأن نسبة السرطان والتشوهات الخلقية في الفلوجة تزيد عشرات المرات عنها في أي مكان آخر، وهذا كله بسبب استخدام الأسلحة الكيماوية ، وعلى العالم والأمم المتحدة أن يحاكموا الذين قاموا بذلك حتى بعد سنين ، وهذه الجرائم لا تسقط بالتقادم.
هذا ما فعله الأميركيون في الفلوجة وبغداد وغيرهما من المدن العراقية، وما فعلوه في الموصل سنة 2017 ، وكل ذلك بناء على كذبة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل الاحتلال الذي قام على أكذوبة امتلاك صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل ، وهي الكذبة التي كادوا أن يحتلوا سورية أكثر من مرة بناء عليها. والمفارقة العجيبة أنهم عندما فشلوا في العثور على أي سلاح كيماوي في العراق ، قالوا لاضير في ذلك ويكفي أننا خلصنا العراق من ديكتاتور قاس ، ونشرنا الحرية والديمقراطية في ربوع العراق ، تلك الأكذوبة الثانية التي نرى ثمارها في العراق الغارق حتى الأذنين في الدماء والخراب والفساد.
وبعد هذه الفضائح والتقارير الدولية عن انتشار السرطان والإعاقات وتشوهات المواليد ، بفعل الأسلحة الكيماويةا المحرّمة دوليا ، التي استخدمت ضد المواطنين العراقيين ، أفلا يحق لنا أن نتساءل لماذا تنافخ هؤلاء شرفا ضد سورية ، وأرسلوا بوارجهم وطائراتهم وصواريخهم لضربها بحجة كاذبة أنها استخدمت الأسلحة الكيماوية ، وهم سادة استخدام كل الأسلحة المحرّمة ؟أفلا يحق لهذه الشعوب المرزوءة أن تقاضي الأميركيين أمام المحاكم الدولية لما ارتكبوه من فظائع في البشر والشجر والحجر في العراق وسورية واليمن وليبيا والصومال والسودان…؟