1 تناقضات سياسات العراق تتجلى في الحملات الانتخابية د. سعيد الشهابي
القدس العربي
العراق سيظل، كما كان دائما، البلد العربي الذي يستعصي على «التطويع» من اي طرف يسعى لذلك. فقد تمرد على الخلفاء والائمة. كان شيعيا ولكنه قتل عليا والحسين، وكان سنيا ولكنه اعتقل أبا حنيفة وعذبه حتى الموت. من ارضه انطلقت الحروب، ولكن لم تصل اليه الغزوات، وعلى ترابه حسمت المعركة ضد الفرس في معركة القادسية.
حارب الاستعمار وخاض ثورة العشرين، ولكنه خضع للانكليز بعد ذلك. ثار علماؤه ضد الاستعمار فابعدهم، ولكنهم وافقوا على ترك السياسة في مقابل العودة لاحقا. حكمه حزب البعث ولكنه رفض الوحدة مع سوريا البعثية ايضا. رفعت حركاته الإسلامية شعار العداء للغرب، ولكنها تعايشت مع الوجود الغربي بعد اسقاط النظام السابق. هو في عمق الإسلام ولكنه لم يعاد النصارى او اليهود الذين تعايشوا مع غالبية سكانه المسلمين. هو شيعي لكنه يحتضن السنة، وسني لكنه لا يرفض الشيعة. انطلقت منه ايديولوجيات العلمنة ونشط فيه الشيوعيون وحكمه البعثيون، ولكنه لم يستطع التنكر للإسلاميين. نظامه السياسي اعدم كبار العلماء مثل محمد باقر الصدر وعبد العزيز البدري، ولكنه بقي معقلا للعلماء والفقهاء ماضيا وحاضرا. انه بلد يحمل تناقضاته علنا، ولكنه يتعايش معها. اقام نظامه السياسي الحالي في ظل الاحتلال الأمريكي، ولكنه لم يقبل بوجود ذلك الاحتلال، فحاربه بالسلاح والسياسة معا. يحكمه اليوم خليط من الإسلاميين وغيرهم ومنهم حزب الدعوة الذي ينتمي اليه رؤساء الوزراء الثلاثة منذ العام 2005 ولكنه لا يدعي تطبيق المشروع الإسلامي الذي تأسس الحزب من اجله. طرح سياسة اجتثاث البعث، ولكنه لم يقطع الطريق امام البعثيين الذين ابدوا استعدادا للتعايش ضمن المنظومة السياسية القائمة، فاصبحوا اعضاء في برلمانه ويستعدون لخوض انتخاباته المقبلة. سياسيوه يشتم بعضهم بعضا، فبعضهم متهم بالعمالة لأمريكا، وآخر لإيران، وثالث للسعودية ورابع لتركيا. وتتصاعد الحرب الباردة بينهم (في احسن الاحوال بعد ان تعبوا من الاحتراب العسكري والاقتتال وفق خطوط التمايز العرقي والديني والمذهبي). يتهمون السعودية بالتدخل في شؤونهم وتمويل بعض المنظمات الإرهابية التي لم تتوقف حتى الآن عن التفجير والاغتيال، ولكنهم مستعدون للتطبيع معها وقبول «هدية» من ولي عهدها لبناء ملعب عملاق وسط بغداد. وما اصدق الشاعر الشيخ احمد الوائلي الذي قال:
بغداد يومك لا يزال كأمسه صور على طرفي نقيض تجمع
هل هذه نقاط قوة ام ضعف؟ اهي ناجمة عن خطة ام فرضها واقع العراق الذي لا يرضى عنه احد؟ الأمريكيون منزعجون لأنهم يواجهون رفضا عاما لفتح القواعد العسكرية على اراضيه برغم وجود آلاف الجنود، وبرغم الحجم غير المسبوق للسفارة الأمريكية التي تضم اكثر من 3000 «موظف» وتحتل واحدا من اكثر المواقع مركزية على ضفاف دجلة.
والإيرانيون غير راضين عن اداء حكومة العراق خصوصا في علاقاتها مع أمريكا والسعودية وتصريحات بعض مسؤوليها السلبية تجاه إيران. والرياض لم ترض عن العراق يوما لأنها ترى فيه منافسا تسعى لتحييده بالمال والنفوذ والضغط السياسي من قبل الحلفاء الغربيين. في مثل هذا الواقع يصعب وصف هذا البلد الكبير على صعيد الايديولوجيا والانتماء والسياسة الخارجية. فلاهو بلد ديني تحكمه المؤسسة الدينية كما في إيران، ولا هو نظام علماني يتنكر للدين في الحياة العامة. فللدين موقعه في السياسة، وللسياسة موقع بارز لدى الدينيين. كان بامكان العراق تقديم نموذج للحكم «الوسطي» على هذا النمط، ولكن تجربة السنوات الخمس عشرة منذ الحرب الانكلو ـ أمريكية التي اسقطت نظامه السابق لم ترق لتكون موضع اعجاب الآخرين. فالحرب المذكورة ما تزال مثيرة للغط الكثير لأنها انطلقت على اسس واهية وذرائع خاطئة. فلم تعثر قوات التحالف الانكلو ـ أمريكي على اي اثر لاسلحة الدمار الشامل التي قيل ان العراق يمتلكها آنذاك واستخدمت لتبرير الحرب. والنظام السياسي الذي تمخض عن تلك الحرب ما يزال اسيرا لدى ذلك التحالف، وما يزال يبحث عن هوية سياسية او ايديولوجية لاعادة بناء العراق بما يعيد له موقعه ونفوذه الإقليمي. بل ان هذا البلد العملاق ما يزال ارضا خصبة لتدخلات الآخرين بذرائع شتى واساليب متنوعة. كما ان هويته السياسية ما تزال مشوشة. فلا هو نظام ديمقراطي حقيقي، بل اعتمد نظام المحاصصة التي تلغي جوهر الديمقراطية. ولا هو نظام يحكم بلدا متماسكا. فما تزال اقاليمه بنزعاتها المذهبية والعرقية تتنازع على ثرواته وتنطلق ليس بدوافع وطنية بل ذرائعية ومناطقية ومذهبية وعشائرية.
يسجل للعراق انه استطاع التصدي لظاهرة الإرهاب، وحزم امره عندما وصلت مجموعات داعش في العام 2014 إلى اطراف بغداد وكادت تقتحمها، فتأسس «الحشد الشعبي» إثر فتوى المرجعية الدينية، وتواصلت المعارك، بدعم أمريكي حتى تم استعادة المناطق التي سيطرت عليها داعش في شمال العراق وغربه. مع ذلك فمن السابق لاوانه الاعتقاد بانتهاء خطر العنف والإرهاب، وان كانت الأزمة الطائفية قد تراجعت كثيرا. ويسجل للعراق رفضه المشروع الطائفي الذي احدث استقطابات في المنطقة ساهمت في اضعاف جبهة التصدي للاحتلال الاسرائيلي من جهة، وتنامي النفوذ الأمريكي من جهة اخرى.
وكان يتوقع للعراق ان يستعيد مكانته على الصعيد العربي خصوصا بعد ان اظهر شيئا من التعافي السياسي والمجتمعي. ولكن الواضح ان الظروف ما تزال غير مهيأة لقيام محور تقدمي يتصدى للاحتلال والهيمنة الاجنبية ويساعد الشعوب على استعادة حريتها وسيادتها. فالدول العربية الكبرى مشغولة بنفسها بشكل غير مسبوق، واصبح بعضها مهددا بالتقسيم والتصدع الداخلي في ظل اجواء من القمع غير مسبوقة. مشكلة العراق، كغيره من الدول العربية الكبرى، انه يفتقد المبادرة للتصدي لظاهرة «الغوغاء السياسية» التي دفعت دولا صغيرة هامشية لتصدر المشهد السياسي وبسط النفوذ على دول اكبر منها وأقدم وجودا وحضارة. وزعماء العراق الحاليون يفتقدون المشروع السياسي الذي يعيد بلادهم إلى خريطة التوازن السياسي والعسكري الإقليمي، ويعيد تأهيل شعبه ليكون لاعبا في مشروع نهضوي شامل قادر على اعادة تأهيل الامة للتحرر والتنمية والوحدة والاستقلال واستعادة السيادة.
يضاف إلى ذلك ان العراق الذي يستقبل الذكرى الخامسة عشرة للتغيير السياسي الذي فرضه التدخل العسكري الاجنبي، لم يقدم مثالا ناصعا للنزاهة وحسن الاداء والكفاءة في الاعمار والتطوير والتنمية. فما يزال الفساد سمة ملتصقة بنظام الحكم، وممارسة مقبولة في المعاملات العامة. وهو فساد يزكم الانوف لأنه في بعض الحالات، يتصل بنهب المال العام وتبديد ثروات البلاد، والاستحواذ بقوة السلاح والانتماء الحزبي على مباني الدولة واراضي الشعب. وتصنف العراق اليوم بانها واحدة من اكثر الدول فسادا. فمنظمة «ترانسبيرنسي انترناشيونال» تقول ان العراق لا يحظى الا بـ 18 بالمائة في مجال الفساد العام، وان تصنيفه انحدر إلى 169 من بين 180 دولة.
وبرغم ان كل من وصل إلى رئاسة الوزراء اعلن عزمه على مكافحة الفساد الا ان شيئا لم يتغير حتى الآن. وقد اصبح الفساد ظاهرة عامة في البلاد تبدأ بالمواطن العادي وتصل إلى الوزراء واعضاء البرلمان وزعماء الكتل السياسية. فالرشوة وتبديد المال العام والسطو على الممتلكات العامة والاستيلاء على الاراضي خصوصا في المواقع المهمة، اصبحت ظواهر شائعة. والاخطر من ذلك ان هناك من يبرر هذا الفساد بذرائع دينية (قل ان الله لا يأمر بالفحشاء). وفي خضم الحملات الانتخابية الحالية تبرز قضية الفساد عنوانا ضمن المانفستو الانتخابية للكتل السياسية، ولكن تعمق جذوره يحول دون اجتثاثه بسهولة خصوصا مع غياب القيادات القادرة على صنع المواقف التاريخية.
2 في ذكرى احتلال العراق و كيف كان الرئيس صدام حسين يقيم القدرات الامريكية
د. سعد ناجي جواد
راي اليوم بريطانيا
بقدر ماكانت لقاءات الرئيس الراحل قبل الاحتلال مع الضباط والقيادة آنذاك تشعرني بشيء من بالضيق، لانها كانت بالنسبة لي بعيدة عن ما كان يجري على الارض، وتبدو غير واقعية امام ما كانت الولايات المتحدة تعده من جريمة تجاه العراق، فان عبارة قالها قبل الاحتلال بأيام لا تزال ترن في أذني ويعود صداها في كل ذكرى للاحتلال او للجرائم التي اقترفتها الولايات المتحدة وحلفائها وعلى رأسهم اسرائيل وبريطانيا. ففي لقاء مع مجموعة من قيادته آنذاك تحدث احد الحاضرين عن ما تروج له الولايات المتحدة من نية لبناء عراق جديد ديمقراطي ومرفه. رد عليه الرئيس (ان الولايات المتحدة لا تمتلك قدرة البناء وإنما تمتلك قدرة التدمير فقط). ولا اعتقد ان اي إنسان موضوعي يمكن ان يختلف مع ذلك. وليس ماحدث في العراق هو الدليل الوحيد، فتجاربها في كوريا وفيتنام وتشيلي وبنما، ومؤخراً في ليبيا والآن في سوريا سوى أمثلة قليلة على ذلك. ثم الم يكن في مقدور الولايات المتحدة احتلال العراق من دون تدمير بنيته التحتية و منشئات خدماته الحيوية كالكهرباء والماء والجسور والبنايات العامة؟ او على الأقل تسارع الى اعادة عمل او بناء هذه الخدمات بعد الاحتلال. لكن ذلك لم يحدث، بل وحتى لم تعتذر للشعب العراقي عن ما اقترفته بحقه. وبدلا من ذلك يخرج علينا رئيس الولايات المتحدة بتصريح مضحك مبكي يقول فيه ان على العراق ان يدفع تكاليف تدميره الى الولايات المتحدة.
لقد جرت منذ عام ٢٠٠٣ احداث كثيرة دللت من دون أدنى شك ان كل من الرئيس الامريكي الأسبق جورج دبليو بوش، ومعه رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير، بأنهما مجرما حرب، بسبب حربهما البشعة على العراق، وأقيمت لهما محاكمات شعبية وشبه رسمية ادانتهما بهذه التهمة. ناهيك عن لجان التحقيق الرسمية، وخاصة لجنة تشيلكوت البريطانية الرسمية التي اثبتت بدون اي شك ان بلير كان تابعا لبوش وانه ذهب الى الحرب المدمرة ضد العراق بدون تفويض شرعي من الامم المتحدة، وأنه ذهب للحرب مخادعاً حكومته ومتجاوزا الاّراء الكثيرة في ادارته التي نصحت بعدم ارتكاب هذه الحماقة.
اضافة الى التدمير الهائل الذي احدثه الاحتلال العسكري الكبير والقتل العشوائي للابرياء، الذي لم ينته مع تثبيت حقيقة الاحتلال من قبل الامم المتحدة، فان من جاء مع الاحتلال من مَن يدعون بأنهم من ابناء العراق اكملوا هذا النهج التدميري. وهذا متوقع جدا من أشخاص عادوا الى العراق ولا يحملون سوى روح الانتقام من كل من كان موجودا في العراق او من كل ماهو عراقي. لا بل يمكن القول ان غالبيتهم العظمى لم تكن تؤمن بشيء اسمه العراق، وهذا شيء محزن لكنه ملموس. في لقاء تلفزيوني مع (معارض) عراقي سابق، قال جملة تسترعي الانتباه، حيث اعتبر سبب فشل الإدارات العراقية بعد الاحتلال يعود الى (الفشل في بناء المواطنة العراقية)، وهذا صحيح، اذا ما تناسينا وعوده قبل الاحتلال للعراقيين بمستقبل زاهر، ولكن هل سال نفسه كيف يمكن لأشخاص لا يؤمنون بشيء اسمه العراق ان يدعموا مفهوم المواطنة العراقية. وهل نسي الشحن الطائفي الذي كانت (المعارضة)، التي كان هو من قياديها، تردده وتحث عليه،؟ وهل نسى تصريح احد أعضاء مجلس الحكم الذي شكله سيء الصيت بريمر، الذي طالب فيه العراق بدفع مائة مليار دولار الى ايران تعويضا لها عن حرب الثمان سنوات مع العراق؟ وهل انه لم يسمع احاديث القياديين القادمين الجدد، المسجلة والمتلفزة اثناء الحرب وهم يحثون اتباعهم على مقاتلة (الأعداء) من ابناء العراق الذين يدافعون عن أراضي بلادهم؟ وهل انه لم يسمع تصريح وكيل احدى الوزارات الذي قاله عندما طُلِبٓ منه اعادة بعض الموظفين الاكفاء للخدمة والذي قال فيه ماذا سيكون موقفه في الآخرة عندما يقابل الامام الخميني ويسأله عن سبب إعادته لأشخاص قاتلوا ضد ايران؟ او تصريحات قادةاقليم كردستان الأكثر دلالة التي قالوا فيها ان العراق دولة مصطنعة وان دولة العراق لا وجود لها على ارض الواقع وإنما هي موجودة في اذهان بعض السياسيين فقط. و هذا ما كرروه اكثر من مرة. ولقيادي كردي كبير حديث معبر اخر قاله لمجموعة من مقربيه، بعد اختياره عضوا في مجلس الحكم، والذي قال فيه ما مفاده انه سيعمل للأكراد وللقضية الكردية كما عمل المرحوم فيصل الاول من اعمال لتثبيت دولة العراق، وسيثبت أسس قيام دولة كردية في شمال العراق. ولو انه تناسى هذا الحديث عندما انتخب لمنصب رفيع فيما بعد. وربما يكون تصريح مدير سابق لمكتب المرحوم الطالباني عندما كان رئيسا للجمهورية، وهو الذي يمثل مدير إدارة رئاسة الجمهورية والأقرب الى أفكار ونوايا الرئيس، وهو منصب كبير بكل المقاييس، الذي قال في ندوة حول العراق في جامعة لندن ، وهي مسجلة ومنشورة، بالحرف الواحد (دعونا لا نتحدث عن عراق واحد بل دعونا نفكر معا كيف نفكك هذا الكيان بسلام). فكيف يمكن ( لقادة) من هذا النوع ان يبنوا مواطنة عراقية صادقة. اما تصريحات نائب الرئيس الامريكي السابق بايدن و القادة الاسرائيلين بضرورة تقسيم العراق الى ثلاثة دويلات بالخفية على احد.
وهكذا وبدلا من ان تتخذ الحكومات العراقية المتعاقبة الخطوات الجادة باتجاه مقاضاة كل الدول التي ساهمت في احتلال العراق امام المحاكم الدولية، وتطالبهم بتعويضات عن ما احدثته من خراب وتدمير، ناهيك عن تعوض الضحايا من البشر الأبرياء التي لا يمكن ان تقدر بثمن ولا يغطيها اي تعويض، كما أُجبِر العراق على دفع تعويضات هائلة جراء اجتياحه المرفوض للكويت، والذي صاحبه خسران أراضي عراقية كثيرة جراء ترسيم الحدود الظالم، وبدلا من ان يعترف هؤلاء الأشخاص بفشلهم ويعتذروا للشعب العراقي و يتركوا العمل السياسي، تجدهم يرشحون أنفسهم مرة اخرى لانتخابات جديدة. وبالتاكيد سيتم اعادة انتخاب معظمهم، بالتزوير و بدعم أمريكي وايراني ودعم أموال السحت الحرام التي سرقوها من دم الشعب العراقي. ومن لم يُنتٓخٓب منهم سيتم تعينه في منصب مرموق يتناسب ودوره الكبير في تأييد ودعم عملية احتلال العراق.
3 شيعة الولايات المتحدة… والمرجعية (5)
خليل علي حيدر الجريدة الكويتية
لم تنشأ أحزاب الإسلام السياسي المعروفة في العالم العربي، وبخاصة الإخوان المسلمين، في أحضان الفقهاء ورجال الدين والمؤسسات الدينية في مصر خاصة، وأدى المدرسون والمهندسون والأطباء والقانونيون وغيرهم أدوارا أساسية في قيادة الجماعة وتوسعة نفوذها.
ولم تكن الحال على هذا المنوال في ظهور الجماعات الحزبية لدى الشيعة، حيث أسس الفقهاء والمراجع الدينية ورؤساء الحوزات الدينية في إيران والعراق ولبنان وغيرها، وبخاصة في المدن الدينية البارزة مثل قم ومشهد والنجف ومناطق الشيعة في لبنان، هذه الأحزاب وقيادتها، كما هي الحال مع “حزب الله” في إيران ولبنان، و”حزب الدعوة” في العراق والأقطار الخليجية، فكلاهما ارتبط بشدة بالمراجع الدينية الإيرانية والعراقية واللبنانية والخليجية وإن ساهم فيها بالطبع آخرون.
وبينما وجد الإخوان المسلمون وحزب التحرير والسلفيون وأحزاب إسلامية أخرى أنفسهم مرارا في مواجهة فقهية أو سياسية مع مؤسسة الأزهر وقرارات “الإسلام الرسمي” ارتبطت الجماعات الشيعية عادة بسبب تاريخ تأسيسها ونموها ومصادر دعمها، وبسبب المخاوف المذهبية وواقع الشيعة كأقلية لا تزيد على 10% في العالم الإسلامي، ببعض المراجع والفقهاء والهيئات الشيعية الرسمية بشكل أو بآخر، كما هي الحال مع “السيد حسين فضل الله” و”آية الله الخميني” و”السيد عبدالمحسن الحكيم” و”السيد محمد باقر الصدر” وغيرهم.
وتلاحظ الباحثة الأميركية “لندا ولبريدج” في دراستها للشيعة في الولايات المتحدة التي نعرضها ملخصة للقارئ، أن هناك فرقا مهما بين “حزب الله” و”حزب الدعوة”، وتقول: “إن حركة حزب الله التي تطورت في لبنان وإيران، ترتكز كثيرا على العلماء وفي المقابلات التي أجريتها مع الشيعة اللبنانيين في منطقة ديترويت فإن من يقترنون بحزب الله هم الأكثر احتمالا في اعتبار مرجع التقليد معصوما من الخطأ، وبينوا أنه إذا قال مرجع شيئا فلا بد أن يكون صحيحا، وإذا بدا غريبا أو غير صحيح فإن سبب المشكلة هو سوء الفهم لدى العامة. ويعتقدون أن رجال الدين مؤهلون لقيادة الحكومة في كل الأمور، وأن معرفتهم للشريعة تقدم لهم الإرشاد الكافي”.
ونرى في ملاحظة الباحثة الأميركية تأثر عناصر “حزب الله” العميق بفقه المدرسة الإيرانية، ومثل هذا الخضوع الكامل لآراء رجال الدين التقليديين أو الرسميين من قبل حزب الله موضع نقد من “حزب الدعوة” ذي النشأة العراقية النجفية كما ذكرنا. ومن الأمثلة التي توردها الباحثة عن تعارض الحزبين حالة النزاع بين أتباع “حزب الله” و”حزب الدعوة”، حول اتجاه القبلة في الولايات المتحدة!
كان “آية الله الخوئي” مرجع الشيعة الأعلى في زمنه (1899- 1992) وقد بلغ من نفوذ الخوئي المعاصر لآية الله “الخميني”، أن أولئك الذين كانوا يؤيدون الخميني سياسيا كانوا من أتباع ومقلدي “آية الله الخوئي” في الأمور الفقهية في الوقت نفسه، بل لم يكن الشخص المرتبط “بالدعوة” مقلدا بالضرورة لمحمد باقر الصدر، وحتى شقيقة الصدر الناشطة “بنت الهدى”، والتي أعدمت معه عام 1980، كانت مقلدة للخوئي كذلك.
أفتى “السيد أبو القاسم الخوئي” بأن على المؤمنين في الولايات المتحدة أن يتجهوا إلى الجنوب الشرقي أثناء الصلاة باعتبار ذلك أدق اتجاه نحو القبلة، وقد التزم معظم الشيعة في الولايات المتحدة بذلك وأطاع معظمهم فتوى الخوئي، ولكن البعض اعترض!
تقول الباحثة د. ولبريدج: “كان أعضاء “الدعوة” العقلانيين بدرجة عالية والمستقلين هم الذين شككوا في ذلك الرأي، وكان بين أفراد هذه المجموعة مهندسون وعلماء كثيرون قالوا بحزم ووضوح إن المرجع على خطأ، وإن على المرء أن يتخذ اتجاه الشمال الشرقي أثناء الصلاة، وأصر ابن آية الله الخوئي المرحوم محمد تقي، الذي ساعد في تصميم مسجد الخوئي في كوينز في نيويورك، على أن يحدد المحراب في المسجد في اتجاه القبلة مواجها الجنوب الشرقي وفقا لتعاليم والده الجليل. أصر الشيعة الملتزمون بخط حركة الدعوة وبفلسفة فضل الله على أن هذا المحراب ليس في اتجاه القبلة وعندما يقصدون المسجد في كوينز للصلاة يصلون باتجاه الشمال الشرقي في حين يواجه الآخرون الجنوب الشرقي، كانت رسالتهم واضحة: مجال خبرة المرجع لا يمتد إلى الأمور العلمية ولأن رأيه مخالف لرأي العلم فلابد من تجاهله”.
ومثل هذا الاختلاف الواسع في تحديد موقع القبلة الذي تشير إليه الباحثة الأميركية لم يكن الأول من نوعه حتى بين أهل السنة في أميركا، وقد قرأت كتاباً بعنوان “المسلمون في أوروبا وأميركا”، من تأليف “علي المنتصر الكتاني” ظهر عام 1976، حيث وضعه المؤلف إثر جولة واسعة قام بها بعد أن قررت رابطة العالم الإسلامي سنة 1393هـ 1973م إرسال وفود لمختلف مناطق العالم لاستقصاء أحوال المسلمين، فتقرر إرسال “الكتاني” الأستاذ بجامعة الظهران بالسعودية مع شخص آخر عام 1973 الى أوروبا وأميركا.
يتحدث “الكتاني” في كتابه عن خلاف جماعتين مهاجرتين إلى دولة “سورينام” بأميركا الجنوبية إحداهما من جزيرة “جاوة” في إندونيسيا وهي تتبع المذهب الشافعي والثانية من مسلمي الهند، وهم بالطبع من الأحناف، حيث للجاويين في “سورينام” مساجدهم وللهنود مساجدهم، ويقول الكتاني: “ومما زاد المشكلة تعقيدا هو أن المساجد الجاوية قبلتها نحو الغرب والمساجد الهندية قبلتها نحو الشرق”، ويضيف “الكتاني” شارحا تماثل القبلتين فيقول: “والحقيقة أنه بسبب المسافة الكبيرة من مكة المكرمة تجوز القبلتان لأن الأرض كروية”.
(الجزء الثاني ص180).
لم يتقبل أنصار “حزب الله” أي اعتراض على مرجع التقليد، وتقول الباحثة إن “حزب الله” يرى “أن العلماء يحددون ما هو صحيح أو خطأ، استنادا إلى معرفتهم بالشريعة، على النقيض من ذلك يريد أتباع “فضل الله” تفسيرات ويريدون فكرا علميا منطقياً وسليما، إنهم لا يخشون تحدي العلماء ويصرون على أنهم لا يريدون آراء شيخ محلي بل رأي المرجع نفسه!!
من أين استقى “حزب الدعوة” هذه الروحية الاستقلالية عن آراء المراجع مقارنة بحزب الله؟ تجيب الباحثة: “لقد تأثر بعض مؤسسي “الدعوة” بجماعة الإخوان المسلمين، وهي جماعة أسست في مصر، ولا تستند إلى قاعدة من العلماء بل إن فيها عنصرا مناهضا للعلماء” (ص 97).
تباينت علاقة الأحزاب الدينية الشيعية والسنية في طبيعة الروابط والصلات بالهيئات الدينية، فمثلا تحدث مؤسس حركة الإخوان في رسالة المؤتمر الخامس عن الأزهر باعتباره “معقل الدعوة الإسلامية”، وطالب بأن يعتبر الأزهر دعوة الإخوان دعوته وأن يعد غايتها غايته، وأن تمتلئ الصفوف الإخوانية والأندية الإخوانية بشبابه الناهض وعلمائه الفضلاء ومدرسيه ووعاظه”. ولكن وقع الاختلاف!
ويقول د. زكريا بيومي في كتابه المعروف عن الإخوان إنه في الوقت الذي برزت فيه الجماعات الإسلامية وحاولت أن تشق طريقها للتدخل في الشؤون العامة ظل دور الأزهر جامداً، ويضيف “أن جمود علماء الأزهر وعجزهم عن التأثير في الحياة العامة كان من أهم الأسباب التي أدت إلى نشأة الجماعات الإسلامية، كما أن جهود بعض هؤلاء العلماء في التصدي للتيارات المعادية للتيار الإسلامي كانت جهودا فردية في أغلبها ولا تتصل بالأزهر إلا من خلال انتماء هؤلاء العلماء. وأمام ما اعتبره المرشد البنّا “ازدياد موجة الإلحاد” في مصر الثلاثينيات وجه البنا إلى “الشيخ المراغي” شيخ الجامع الأزهر، نداء مطالبا إياه بالتحرك ضد هذه الموجة، كما انتقدت جريدة الإخوان أسلوب الأزهر السياسي، وفي أعقاب وفاة الشيخ المراغي، وقبل تعيين شيخ جديد وجهت صحيفة “جماعة شباب محمد”، التي انشقت لاحقا عن الإخوان هجوما على الأزهر قالت فيه: “إن تهاون الأزهريين وعلى رأسهم كبار علمائهم في أداء واجبهم الديني هو السبب في انهيار الأزهر وضياع مهابته وتطاول الحكام عليه والتدخل في شؤونه”، وإن “علماء الأزهر قد فرطوا في كرامتهم فأحبوا الدنيا وحرصوا على المال والمناصب فسكتوا عن تطبيق الشريعة، وتغاضوا عن انتهاك حرمات الإسلام وأقبلوا على الحكام يستجدون رضاهم”.
وحينما تواترت الأنباء عن اختيار الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخا للأزهر هاجمته كذلك جماعة “شباب محمد” وقالت “إن له ماضيا لا يؤهله لذلك المنصب وإن للإنكليز يدا في ترشيحه وإنه سيرتقي هذا المنصب بقوة الحراب الإنكليزية، وإن توليه هذا المنصب هو من علامات الساعة، حيث أسند الأمر لغير أهله”. وقام شيخ أزهري وهو “خالد محمد خالد” بإصدار كتابه “من هنا نبدأ” والذي نال شهرة “علي عبدالرازق” في كتابه عن الخلافة “الإسلام وأصول الحكم”. وقد تولى الشيخ الأزهري المعروف “محمد الغزالي” الرد عليه في كتابه “من هنا نعلم” إلا أن الشيخ الغزالي كان أكثر هجوما من خالد محمد خالد على الأزهر، فقسم علماء الأزهر إلى “هواة” و”محترفين”، وقال إن ثورة خالد محمد خالد “ليست إلا مأساة لرجل من علماء الأزهر رزق فضل حياة في عقله وضميره، فكانت ثورته الجامحة على الدراسات الميتة والأعمال البليدة والكهانات الفارغة التي كانت السبب في شططه”.
ويختتم د. بيومي الحديث عن موقف الإخوان من الأزهر بالقول إن الأزهر خرج خاسرا من المعركة التي دارت بين اثنين من علمائه، وهما الشيخ خالد محمد خالد ومحمد العزالي، وأدى هذا الخلاف إلى قلة إقبال الأزهريين على جماعة الإخوان إذا ما قورن بطلاب الجامعة المصرية. (الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية، د. زكريا سليمان بيومي، القاهرة، 1978، ص261 – 271). ونتابع في المقال القادم تفاوت موقفي حزب الله وحزب الدعوة من الفتاوى وآراء العلماء.
4 تحديات الاقتصاد العراقي
عامر ذياب التميمي
الحياة السعودية
قد يكون من الصعب التعرف إلى معالم الاقتصاد العراقي بعد سنوات طويلة من الحروب والحصار وأعمال الإرهاب والفوضى السياسية. ويذكر الكثير من الاقتصاديين أن هناك غياب للمعلومات الاقتصادية المفيدة بشأن العراق منذ أن تولى صدام حسين رئاسة الجمهورية عام 1979، وبعد نشوب الحرب العراقية الإيرانية في أيلول (سبتمبر) 1980. وحاول الأميركيون والعاملون في البنك الدولي وصندوق النقد، إنجاز دراسات عن الاقتصاد العراقي منذ الإطاحة عسكرياً بنظام صدام حسين عام 2003. ومهما يكن من أمر فإن المرء يجب أن يجتهد للتعرف إلى الأوضاع الاقتصادية في العراق.
يقدر عدد سكان العراق بـ 36 مليوناً، مع العلم أن العراق لم يجر تعداداً للسكان منذ زمن طويل. كما أن الناتج المحلي الإجمالي قدر بـ 164 بليون دولار عام 2016، ما يعني أن معدل دخل الفرد السنوي لا يزيد على 4700 دولار. ويعتمد الاقتصاد العراقي على صادرات النفط الخام والتي تمثل 99 في المئة من إجمالي صادرات البلاد. ويبلغ إنتاج النفط 4.4 مليون برميل يومياً. وقدرت قيمة الصادرات العراقية بنحو 51.3 بليون دولار خلال العام الماضي، في حين كانت في أحسن الأحوال 94.2 بليون دولار، وهذا التراجع عائد لانخفاض أسعار النفط.
اعتمد الاقتصاد العراقي منذ العام 1964 على دور مهيمن للدولة في الاقتصاد، إذ تم تأميم مختلف البنوك والمؤسسات الأساسية في عهد الرئيس الراحل عبدالسلام عارف. وظل القطاع الخاص نشطاً في أعمال الخدمات العقارية والتوزيع السلعي وبعض المعامل الصغيرة، وربما إلى حدود ما، في القطاع الزراعي. ولذلك يمكن اعتبار هذا الاقتصاد اقتصاداً ريعياً بدرجة كبيرة. وعلى رغم التعديلات على القوانين الاقتصادية وتوفير قانون للاستثمار بعد إسقاط نظام صدام حسين، لا يزال المستثمرون غير متحمسين للاستثمار في العراق. ويمكن التعرف إلى جاذبية البلد خلال الفترة المقبلة وبعدما تعهد رجال أعمال وشركات ودول على الاستثمار وتوفير تمويل لمشاريع إعادة الإعمال بحدود 30 بليون ن دولار، في وقت قدرت الحكومة العراقية حاجاتها بـ88 بليون دولار. ولا شك في أن إيرادات العراق من النفط خلال السنوات المقبلة ستوفر جزءاً مهماً من متطلبات الإعمال والتنمية، لكن لا بد من تشجيع رجال الأعمال المحليين والشركات العالمية والمستثمرين على توظيف الأموال في القطاعات الحيوية. وهناك أهمية لتوفير الأمن والاستقرار السياسي كي تتعزز ثقة المستثمرين.
اعتمد مجلس النواب العراقي موازنة 2018 والتي حددت قيمتها بـ 88 بليون دولار، واحتسبت الإيرادات النفطية على أساس تصدير 3.8 مليون برميل يومياً بسعر 46 دولاراً للبرميل. وبذلك يمكن أن تصل الإيرادات إلى 77.6 بليون دولار، بما يشمل الإيرادات غير النفطية، وبما يعني عجزاً يعادل 10.6 بليون دولار. وإذا جرت الأمور بما يتعلق بالإنفاق كما هو محدد في الموازنة، فربما لن يكون هناك عجزاً نظراً إلى تحسن الأسعار عن المستوى المحدد في الموازنة. كما أجرت الحكومة العراقية مفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على تمويلات، وقد وافقت الهيئة التنفيذية للصندوق على توفير تمويلات قدرها 5.34 بليون دولار على أساس تسهيلات لمدة ثلاث سنوات، للمساعدة في إنجاز إصلاحات اقتصادية في البلد. ولا شك أن التشاور والتباحث مع صندوق النقد والبنك الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى، سيمكنان الإدارة الاقتصادية في العراق من تطوير المقدرة على إنجاز الإصلاح الاقتصادي المستحق. بيد أن هناك أهمية لعملية مواجهة الفساد في الإدارة الحكومية ومعالجة الاختلالات المالية وعمليات تنفيذ المشاريع. لذلك، فإن تطور الأوضاع الاقتصادية في بلد مثل العراق عانى من مشكلات أمنية وسياسية كبيرة يتطلب إصلاحات إدارية واسعة النطاق وأوضاعاً سياسية ملائمة.
5 صحفيون إسرائيليون مع القوات الأميركية وليد الزبيدي
الوطن العمانية
إن وجود صحفيين إسرائيليين بين الإعلاميين، الذين يرافقون القوات الأميركية، لم يكن مستغربا، لكنه في الوقت نفسه، لم يكن معروفا للعراقيين، إلا أن بيان القوات الأميركية الذي أعلنته في التاسع والعشرين من مارس 2003، وقالت فيه إن وحدة من القوات الأميركية اعتقلت الصحافي الإسرائيلي الذي يرافقها مع ثلاثة صحافيين أجانب، والصحافي الإسرائيلي هو دان سمماه، مدير قسم الأخبار في التلفزيون الإسرائيلي الرسمي (القناة الأولى)، وكان يرافق القوات الأميركية منذ اليوم الأول للحرب. ذلك الإعلان، كشف عن تحرك الصحافيين الإسرائيليين بحرية مع الجيش الأميركي داخل الأراضي العراقية، التي أصبحت تحت سيطرته.
لقد أخذت القوات الأميركية تتصرف بطريقة مغايرة، مع وسائل الإعلام، خاصةً عند منتصف الأسبوع الثاني من الحرب، وتؤكد تلك السلوكيات على أن البنتاجون قد رفع درجة الحيطة والحذر، إلى أعلى مستوياتها، ولم تتردد إدارة الحرب الأميركية من طرد الصحافيين أو فرض قيود قاسية على تحركاتهم، ورغم أن القدرات الإلكترونية، للقوات الأميركية، كانت مسيطرة بصورة مطلقة على الأجواء، ليس في العراق فحسب، بل في عموم الشرق الأوسط، إلا أن ذلك لم يمنع الجيش الأميركي، من اتخاذ إجراءات احترازية أخرى، تشير إلى أن الجهات الاستخبارية الأميركية، لم تضع ثقتها في الصحفيين، بل إنها جعلتهم في دائرة الشك الدائم، وشمل ذلك حتى المراسلين الصحفيين الأميركيين أنفسهم، ففي أواخر مارس ذكرت صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) أن القوات الأميركية، طردت صحافيا أميركيا من جنوب العراق، وجاء في حيثيات قررا الطرد هذا، أن الصحافي قد كتب تقريرا صحافيا بتفصيل دقيق، وقالت القوات الأميركية، إن هذا الوصف يعرض قواتها للخطر. ولو أخضعنا هذا القرار للتمحيص لوجدنا أن قيادات الحرب، لم يثقوا حتى بالصحافيين الأميركيين، لأنهم لو وضعوا ثقتهم بهؤلاء المراسلين، الذين تم اختيارهم بدقة متناهية، لاكتفوا بتنبيه الصحافي، أو على أبعد حد إنذاره، من خلال قنوات الاتصال المباشرة، خاصة أن هؤلاء الصحافيين يتحركون تحت حماية الجيش الأميركي، لكن أجواء الحرب وظروفها، التي يذهب فيها الشك إلى أبعد الحدود، واعتماد معيار صارم في هذه الأمور، دفع بالقادة الأميركيين، إلى المزيد من التشدد مع وسائل الإعلام، وكما أشرنا فإن ذلك التوجه ازداد سخونة منتصف الأسبوع الثاني، عندما ترددت تحليلات وأصوات تتحدث عن فشل الخطة الأميركية، أو على الأقل تعثرها بصورة كبيرة، وضمن هذه الأجواء المتشددة، أعلنت بعض الوحدات الأميركية، أنها منعت الصحافيين من استخدام الهواتف التي تعمل عبر الأقمار الاصطناعية من نوع (ثريا)، وقالت القوات الأميركية إن قرار المنع هذا جاء لأسباب تتعلق بأمن الوحدات العسكرية.
إن تسليط الضوء، على بعض جوانب الحرب الإعلامية، أو وصلة الحرب المتواصلة، التي تنقلها وسائل الإعلام إلى الجمهور، سواءً في الولايات المتحدة أو خارجها، تمهد الطريق، لمعرفة خطورة وأهمية الإعلام، الذي اعتمدته الإدارة الأميركية، في مخططها لشن الحرب، باعتباره من الأولويات والضرورات الملحة، التي لا يمكن إغفالها، أو إهمالها، بل على العكس تم إيلاء وسائل الاتصال الحديثة أهمية استثنائية، وإذا بدأت الإدارة الأميركية حربها ضد العراق، على الصعيد الإعلامي، قبل سنوات من انطلاق الصاروخ الأول، واعتمدت برنامجا دقيقا في ذلك، فإن الحرب الإعلامية، لم تكن معدومة داخل الولايات المتحدة نفسها، فنجد على سبيل المثال الخبير الإعلامي المخضرم والعالم اللغوي، في معهد التكنولوجيا في ماس اشوسيتس، نعوم تشومسكي، يقول إن ثلاثة في المائة فقط من الشعب الأميركي حمّلوا العراق مسؤولية تفجيرات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، إلا أن دعاية وسائل الإعلام الأميركية نجحت في رفع النسبة إلى حوالي خمسين في المائة. لم يكتف تشومسكي بذلك، بل أكد أن الرأي العام الأميركي تعرض للتخويف لدفعه للاعتقاد بأن الحرب حتمية وضرورية، رغم عدم وجود دليل دامغ بأن العراق يشكل تهديدا حقيقيا.