6 مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم الثلاثاء

1
تناقضات سياسات العراق تتجلى في الحملات الانتخابية د. سعيد الشهابي
القدس العربي

العراق سيظل، كما كان دائما، البلد العربي الذي يستعصي على «التطويع» من اي طرف يسعى لذلك. فقد تمرد على الخلفاء والائمة. كان شيعيا ولكنه قتل عليا والحسين، وكان سنيا ولكنه اعتقل أبا حنيفة وعذبه حتى الموت. من ارضه انطلقت الحروب، ولكن لم تصل اليه الغزوات، وعلى ترابه حسمت المعركة ضد الفرس في معركة القادسية.
حارب الاستعمار وخاض ثورة العشرين، ولكنه خضع للانكليز بعد ذلك. ثار علماؤه ضد الاستعمار فابعدهم، ولكنهم وافقوا على ترك السياسة في مقابل العودة لاحقا. حكمه حزب البعث ولكنه رفض الوحدة مع سوريا البعثية ايضا. رفعت حركاته الإسلامية شعار العداء للغرب، ولكنها تعايشت مع الوجود الغربي بعد اسقاط النظام السابق. هو في عمق الإسلام ولكنه لم يعاد النصارى او اليهود الذين تعايشوا مع غالبية سكانه المسلمين. هو شيعي لكنه يحتضن السنة، وسني لكنه لا يرفض الشيعة. انطلقت منه ايديولوجيات العلمنة ونشط فيه الشيوعيون وحكمه البعثيون، ولكنه لم يستطع التنكر للإسلاميين. نظامه السياسي اعدم كبار العلماء مثل محمد باقر الصدر وعبد العزيز البدري، ولكنه بقي معقلا للعلماء والفقهاء ماضيا وحاضرا. انه بلد يحمل تناقضاته علنا، ولكنه يتعايش معها. اقام نظامه السياسي الحالي في ظل الاحتلال الأمريكي، ولكنه لم يقبل بوجود ذلك الاحتلال، فحاربه بالسلاح والسياسة معا. يحكمه اليوم خليط من الإسلاميين وغيرهم ومنهم حزب الدعوة الذي ينتمي اليه رؤساء الوزراء الثلاثة منذ العام 2005 ولكنه لا يدعي تطبيق المشروع الإسلامي الذي تأسس الحزب من اجله. طرح سياسة اجتثاث البعث، ولكنه لم يقطع الطريق امام البعثيين الذين ابدوا استعدادا للتعايش ضمن المنظومة السياسية القائمة، فاصبحوا اعضاء في برلمانه ويستعدون لخوض انتخاباته المقبلة. سياسيوه يشتم بعضهم بعضا، فبعضهم متهم بالعمالة لأمريكا، وآخر لإيران، وثالث للسعودية ورابع لتركيا. وتتصاعد الحرب الباردة بينهم (في احسن الاحوال بعد ان تعبوا من الاحتراب العسكري والاقتتال وفق خطوط التمايز العرقي والديني والمذهبي). يتهمون السعودية بالتدخل في شؤونهم وتمويل بعض المنظمات الإرهابية التي لم تتوقف حتى الآن عن التفجير والاغتيال، ولكنهم مستعدون للتطبيع معها وقبول «هدية» من ولي عهدها لبناء ملعب عملاق وسط بغداد. وما اصدق الشاعر الشيخ احمد الوائلي الذي قال:
بغداد يومك لا يزال كأمسه صور على طرفي نقيض تجمع
هل هذه نقاط قوة ام ضعف؟ اهي ناجمة عن خطة ام فرضها واقع العراق الذي لا يرضى عنه احد؟ الأمريكيون منزعجون لأنهم يواجهون رفضا عاما لفتح القواعد العسكرية على اراضيه برغم وجود آلاف الجنود، وبرغم الحجم غير المسبوق للسفارة الأمريكية التي تضم اكثر من 3000 «موظف» وتحتل واحدا من اكثر المواقع مركزية على ضفاف دجلة.
والإيرانيون غير راضين عن اداء حكومة العراق خصوصا في علاقاتها مع أمريكا والسعودية وتصريحات بعض مسؤوليها السلبية تجاه إيران. والرياض لم ترض عن العراق يوما لأنها ترى فيه منافسا تسعى لتحييده بالمال والنفوذ والضغط السياسي من قبل الحلفاء الغربيين. في مثل هذا الواقع يصعب وصف هذا البلد الكبير على صعيد الايديولوجيا والانتماء والسياسة الخارجية. فلاهو بلد ديني تحكمه المؤسسة الدينية كما في إيران، ولا هو نظام علماني يتنكر للدين في الحياة العامة. فللدين موقعه في السياسة، وللسياسة موقع بارز لدى الدينيين. كان بامكان العراق تقديم نموذج للحكم «الوسطي» على هذا النمط، ولكن تجربة السنوات الخمس عشرة منذ الحرب الانكلو ـ أمريكية التي اسقطت نظامه السابق لم ترق لتكون موضع اعجاب الآخرين. فالحرب المذكورة ما تزال مثيرة للغط الكثير لأنها انطلقت على اسس واهية وذرائع خاطئة. فلم تعثر قوات التحالف الانكلو ـ أمريكي على اي اثر لاسلحة الدمار الشامل التي قيل ان العراق يمتلكها آنذاك واستخدمت لتبرير الحرب. والنظام السياسي الذي تمخض عن تلك الحرب ما يزال اسيرا لدى ذلك التحالف، وما يزال يبحث عن هوية سياسية او ايديولوجية لاعادة بناء العراق بما يعيد له موقعه ونفوذه الإقليمي. بل ان هذا البلد العملاق ما يزال ارضا خصبة لتدخلات الآخرين بذرائع شتى واساليب متنوعة. كما ان هويته السياسية ما تزال مشوشة. فلا هو نظام ديمقراطي حقيقي، بل اعتمد نظام المحاصصة التي تلغي جوهر الديمقراطية. ولا هو نظام يحكم بلدا متماسكا. فما تزال اقاليمه بنزعاتها المذهبية والعرقية تتنازع على ثرواته وتنطلق ليس بدوافع وطنية بل ذرائعية ومناطقية ومذهبية وعشائرية.
يسجل للعراق انه استطاع التصدي لظاهرة الإرهاب، وحزم امره عندما وصلت مجموعات داعش في العام 2014 إلى اطراف بغداد وكادت تقتحمها، فتأسس «الحشد الشعبي» إثر فتوى المرجعية الدينية، وتواصلت المعارك، بدعم أمريكي حتى تم استعادة المناطق التي سيطرت عليها داعش في شمال العراق وغربه. مع ذلك فمن السابق لاوانه الاعتقاد بانتهاء خطر العنف والإرهاب، وان كانت الأزمة الطائفية قد تراجعت كثيرا. ويسجل للعراق رفضه المشروع الطائفي الذي احدث استقطابات في المنطقة ساهمت في اضعاف جبهة التصدي للاحتلال الاسرائيلي من جهة، وتنامي النفوذ الأمريكي من جهة اخرى.
وكان يتوقع للعراق ان يستعيد مكانته على الصعيد العربي خصوصا بعد ان اظهر شيئا من التعافي السياسي والمجتمعي. ولكن الواضح ان الظروف ما تزال غير مهيأة لقيام محور تقدمي يتصدى للاحتلال والهيمنة الاجنبية ويساعد الشعوب على استعادة حريتها وسيادتها. فالدول العربية الكبرى مشغولة بنفسها بشكل غير مسبوق، واصبح بعضها مهددا بالتقسيم والتصدع الداخلي في ظل اجواء من القمع غير مسبوقة. مشكلة العراق، كغيره من الدول العربية الكبرى، انه يفتقد المبادرة للتصدي لظاهرة «الغوغاء السياسية» التي دفعت دولا صغيرة هامشية لتصدر المشهد السياسي وبسط النفوذ على دول اكبر منها وأقدم وجودا وحضارة. وزعماء العراق الحاليون يفتقدون المشروع السياسي الذي يعيد بلادهم إلى خريطة التوازن السياسي والعسكري الإقليمي، ويعيد تأهيل شعبه ليكون لاعبا في مشروع نهضوي شامل قادر على اعادة تأهيل الامة للتحرر والتنمية والوحدة والاستقلال واستعادة السيادة.
يضاف إلى ذلك ان العراق الذي يستقبل الذكرى الخامسة عشرة للتغيير السياسي الذي فرضه التدخل العسكري الاجنبي، لم يقدم مثالا ناصعا للنزاهة وحسن الاداء والكفاءة في الاعمار والتطوير والتنمية. فما يزال الفساد سمة ملتصقة بنظام الحكم، وممارسة مقبولة في المعاملات العامة. وهو فساد يزكم الانوف لأنه في بعض الحالات، يتصل بنهب المال العام وتبديد ثروات البلاد، والاستحواذ بقوة السلاح والانتماء الحزبي على مباني الدولة واراضي الشعب. وتصنف العراق اليوم بانها واحدة من اكثر الدول فسادا. فمنظمة «ترانسبيرنسي انترناشيونال» تقول ان العراق لا يحظى الا بـ 18 بالمائة في مجال الفساد العام، وان تصنيفه انحدر إلى 169 من بين 180 دولة.
وبرغم ان كل من وصل إلى رئاسة الوزراء اعلن عزمه على مكافحة الفساد الا ان شيئا لم يتغير حتى الآن. وقد اصبح الفساد ظاهرة عامة في البلاد تبدأ بالمواطن العادي وتصل إلى الوزراء واعضاء البرلمان وزعماء الكتل السياسية. فالرشوة وتبديد المال العام والسطو على الممتلكات العامة والاستيلاء على الاراضي خصوصا في المواقع المهمة، اصبحت ظواهر شائعة. والاخطر من ذلك ان هناك من يبرر هذا الفساد بذرائع دينية (قل ان الله لا يأمر بالفحشاء). وفي خضم الحملات الانتخابية الحالية تبرز قضية الفساد عنوانا ضمن المانفستو الانتخابية للكتل السياسية، ولكن تعمق جذوره يحول دون اجتثاثه بسهولة خصوصا مع غياب القيادات القادرة على صنع المواقف التاريخية.
2 خمسة عشر عاماً على كارثة الحرب التي ولدت سلسلة من الكوارث د. بشير موسى نافع

القدس العربي

كان إبريل/ نيسان 2003 شهراً كئيباً وقاسياً في آن، إن صح لنا أن نستعير افتتاحية «الأرض الخراب»؛ وحتى بعد مرور خمسة عشر عاماً على التاسع منه، ليس ثمة وسيلة للتخلص من مرارة يوم سقوط بغداد. لم تكن الحرب على العراق مبررة، بأية صورة من الصور. ادعى الأمريكيون والبريطانيون أنهم يقومون بالحرب نيابة عن المجتمع الدولي، بهدف نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، التي تشكل خطراً على أمن العالم. ولكن، لا وكالات الأمم المتحدة المتخصصة كانت أنهت عملها في العراق، ولا الولايات المتحدة وبريطانيا وجدت غطاء قانونياً دولياً، مهما كان هذا الغطاء هشاً، لتسويغ غزو بلد سيد ومستقل، يبعد عنهما آلاف الأميال. كانت حرباً في جوهرها أقرب إلى حروب إمبرياليات القرن التاسع، عندما كانت السفن البريطانية والفرنسية المسلحة تنطلق لغزو دول مثل الجزائر أو الصين، ليس لسبب سوى حدة استقبال الباي الجزائري للسفير الفرنسي أو مكافحة السلطات الصينية تجارة الأفيون. الشعور الفادح بالمظلومية، وليس الانتصار لنظام البعث، هو الذي دفع آلاف الشبان العرب إلى العراق للقتال ضد الغزاة. وبالرغم من المظاهرات الحاشدة التي شهدتها لندن ومدريد وعواصم غربية أخرى، رأى ملايين العرب والمسلمين في سقوط بغداد إهانة لكل واحد منهم.
والحقيقة، أن إيقاع الإهانة بالعرب والمسلمين كان دافعاً أساسياً بين دوافع الحرب. لم يعد ثمة شك الآن، وبعد نشر نتائج عدد من التحقيقات الرسمية وغير الرسمية، في لندن وواشنطن، أن الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج بوش الابن، ورئيس الحكومة البريطانية الأسبق، توني بلير، كانا يعرفان أن ليس ثمة سلاح دمار شامل في العراق؛ وإن وجد هذا السلاح، لم يكن لديهما ثمة دليل على وجوده. ولكن بوش كان صمم على غزو العراق حتى قبل اندلاع الجدل حول السلاح؛ بينما وجد بلير أن لا مناص أمام بريطانيا سوى الالتحاق بالحليف الأمريكي التاريخي، بغض النظر عن المسوغات.
اعتاد نائب الرئيس الأمريكي يومها، ديك تشيني، الذي لعب دوراً رئيسياً في التحريض على الحرب، وزوجته، دعوة أكاديميين أو مثقفين كبار لمنزلهما صباح الأحد، لتناول الإفطار وإثارة نقاش حول مسائل تتعلق بالشأنين الأمريكي والعالمي. أحد ضيوف تشيني، قبل فترة من اتخاذ قرار الحرب، كان المؤرخ البريطاني ـ الأمريكي العجوز برنارد لويس. ما قاله لويس لنائب الرئيس، معلقاً على هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، أن هناك مشكلة تواجه قيادة الولايات المتحدة للعالم في حقبة ما بعد الحرب الباردة، تتعلق بالعرب والمسلمين، على وجه الخصوص. أقر معظم العالم، قال لويس، خلال القرن العشرين، بصورة أو أخرى، بانتصار النموذج الغربي، المستند إلى النمط الرأسمالي في الاقتصاد والقيم الليبرالية في الاجتماع والسياسة. العرب والمسلمون هم الكتلة الثقافية الوحيدة التي ترفض الاعتراف بالانتصار الغربي ولم تزل تقاوم النموذج. للتعامل مع هذه المشكلة، اقترح لويس، لابد من إيقاع هزيمة ثقيلة الوطأة بالعرب والمسلمين، هزيمة لا تحتمل التأويل. ولم يكن مثل احتلال بغداد واستباحتها تعبيراً عن التباين الصارخ بين الانتصار والهزيمة. ليست بغداد مقر دولة الإسلام لأكثر من خمسة قرون، وحسب، بل وحاضنة تاريخ العرب والمسلمين، فيها نضجت لغتهم وآدابهم، ولد فقههم، تبلورت قيمهم، وتشكلت رؤيتهم لأنفسهم وللعالم. وربما كان هذا ما أوحته كلمات توني بلير لقوات جيشه في مدينة البصرة، مباشرة بعد نجاح عملية الغزو والاحتلال، عندما قال أن هذه الحرب سترسم ملامح القرن الحادي والعشرين!
اليوم، يمكن القول، ربما، أن مشروع غزو العراق واحتلاله لم يؤت ثماره المرجوة في واشنطن ولندن؛ وأن برنارد لويس، على غير عادة المؤرخين، كان تسرع في توجيه نصيحته الخاصة جداً لنائب الرئيس. لم يخضع غزو العراق واحتلاله العرب والمسلمين، ولا صنع مجداً لبوش وبلير. ولكن الحرب كانت كارثة بكل المقاييس، كارثة على من تعهدها وعلى شعوب المشرق ودوله، على السواء، كارثة لم تزدد بمرور السنوات إلا تفاقماً.
لم تنته الحرب باحتلال العراق، بل ولدت سلسلة من الحروب الأخرى. نجح الأمريكيون والبريطانيون في الغزو بتكلفة قليلة نسبياً، ولكنهم لم يستطيعوا السيطرة على العراق قط. ولطبيعة التحالفات التي مهدت للحرب، التي منحت فيها القوى الكردية والشيعية السياسية موقعاً بارزاً، أدى الاحتلال، بإرادة أو دون إرادة أمريكية، إلى تقويض ما تبقى من اللحمة الوطنية العراقية. أطاح المحتلون الدولة العراقية ومؤسساتها، وأفسحوا المجال واسعاً لاندلاع حرب أهلية عراقية، صعود مناخ طائفي غير مسبوق في تاريخ العراق الحديث، واندلاع صراع عراقي ـ عراقي مديد على السلطة والقوة والموارد. ولأن مقاليد العراق سلمت لقوى طائفية، وأن دولته الجديدة بنيت على أساس من المحاصصات المذهبية والإثنية، لم يستطع العراق حتى اللحظة استعادة وحدته. مظلومية الحرب والإهانة التي استبطنتها، من جهة، والفشل في إدارة العراق وتصاعد حدة الصراع الطائفي والإثني، من جهة أخرى، هي التي سمحت ببروز القاعدة السريع في العراق، والتي انتهت، بعد عدد من التحولات، إلى ولادة داعش وما تمثله من وحشية وإيمان عدمي.
تحول العراق سريعاً بعد الاحتلال إلى منطقة فراغ استراتيجي، ومصدر خلل كبير في توازنات قوى الإقليم. ولم يكن سوى إيران من يستطيع ملء هذا الفراغ، بعد أن أولت الدول العربية العراق ظهرها، ووضعت كامل ثقتها في الحليف الأمريكي. عززت إيران المناخ الطائفي الذي ولده الغزو والاحتلال، وعملت على تأسيس العشرات من الجماعات الطائفية المسلحة، التي لم تقل في سلوكها بشاعة وعدمية عن داعش. ولم تلبث الصنائع الميليشياوية، وخضوع الطبقة السياسية الطائفية وخوفها من بطش الحليف الإيراني، أن ساعدت إيران على اختراق بنية الدولة العراق الجديدة والتحكم في مفاصلها. عندما غادر الأمريكيون بعد سنوات ثمان من الإخفاق، كان العراق أصبح رسمياً، وباعتراف دولي ضمني، منطقة نفوذ إيراني. السيطرة على العراق هي التي نقلت الثقة الإيرانية بالنفس إلى مستوى من الغرور والصلف، وهي التي صنعت الظروف المواتية لرفع وتيرة النشاط الإيراني الطائفي في الخليج والجزيرة العربية واليمن، والتدخل الإيراني الدموي في سوريا. ولم يكن التوسع الإيراني وحده من أفاد من كارثة إسقاط العراق. فعلى الجانب الآخر، وفر التشظي الطائفي والإثني، وانشغال العرب بأنفسهم، فرصة لصعود إسرائيلي غير مسبوق، وحرب وراء أخرى تعهدتها إسرائيل ضد لبنان وسوريا وقطاع غزة، عملت هي أيضاً على نشر الخراب وسفك المزيد من الدماء.
غادر الأمريكيون العراق بعد خسائر فادحة في أرواح الجنود والمعدات، والثمن المالي الباهظ. ولكن غرقهم في العراق كان مناسبة لنهاية التفرد الأمريكي، قصير العمر، في الشأن العالمي. وعندما عاد الأمريكيون للعراق والشرق الأوسط، باسم مكافحة الإرهاب، كانت حربهم في العراق وعواقبها أوقعت دماراً أسطورياً في عشرات المدن والبلدات العربية، من العراق وسورية إلى اليمن ولبنان وغزة، أودت بحياة مليونين على الأقل من أبناء شعوب المشرق، وصنعت حالة من الانقسامات والصراعات الداخلية، التي لا يبدو لها من نهاية. حاول العرب في حركة الثورة والتغيير احتواء سلسلة الكوارث التي ولدتها كارثة العراق. ولكن أنانية الطبقات الحاكمة العربية، وخيانة الغرب الليبرالي، أغرقت حركة الثورة والتغيير في شلال أكبر من الدماء.
3
اليوم أنهت بغداد عام نكبتها الخامس عشر
فاروق يوسف العرب بريطانيا
حين سلم الأميركان الحكم لعقائديين من نوع جديد، فإن ذلك لم يقع بسبب ولاء أولئك العقائديين للولايات المتحدة. لقد كانوا إيرانيين عقيدة وولاء.
ما من مدينة في التاريخ لهثت وراء قاتليها مثلما فعلت بغداد

ولدت في بغداد. لا تبعد محلة الصنم التي ولدت فيها عن ساحة الطيران وهي مركز بغداد سوى عشرات الأمتار. كانت هناك حديقة الملك غازي التي سميت في ما بعد بـ“حديقة الأمة”. تقع محلة الصنم بين كنيسة الأرمن ومقبرتهم. وكانت هناك سينما النصر الصيفي التي كنا نتطلع على أفلامها ونحن جالسون في شرفة البيت.

في ذلك العصر المخملي لم يكن هناك ذكر للفقر. كان الجميع فقراء. أتذكر حريق أورزدي باك، وهو الـ“مول” الأول من نوعه في الشرق الأوسط. يومها وهبني إطفائي حزمة أقلام للرسم لم تحترق. هل حدث ذلك الحريق في العصر الجمهوري؟ قبلها كان العراق ملكيا.

كانت الجمهورية وعدا للفقراء بدأ بمجزرة. من يومها لم تتوقف المجازر التي صارت تُلهمُ الفقراء مفردات جديدة صارت جزءا من لغتهم الوطنية التي يتصاعد منها الدخان. لقد بدأ يومها زمن المسيرات، وصارت حشود الفقراء الهاربين إلى بغداد من فقرهم جماهير تهتف بأصوات عالية للمعسكر المنتصر رافعة صور المنتصرين وشعاراتهم المموسقة.

لقد تحولت تلك الجماهير التي تم تلفيقها من الخواء التعبيري إلى مادة للدعاية الحزبية، ولم يكن المشروع الوطني إلا خلفية لمسرح تُدار على خشبته عمليات تصفية الآخر المختلف، ومصادرة حرية وحق الاختلاف وتدمير الجانب الوطني البنّاء الذي ينطوي عليه التعدد والتنوع في الآراء والأفكار.

لقد شق العراق طريقه إلى التهلكة برؤى حالميه من الحزبيين الذين استعملوا الفقراء أدوات للترويج عن حقهم في القتل وممارسة العنف الثوري. كانت الجماهير كذبة اختبأ وراءها العقائديون القتلة.

في ظل تلك الكذبة كانت بغداد تستقبل قاتلا وتودع قتيلا من غير أن تملك وقتا تلتقط فيه أنفاسها. ما من مدينة في التاريخ لهثت وراء قاتليها مثلما فعلت بغداد.

ولقد يسرت ثروة العراق للحزبيين أن يحولوا عاصمة الرشيد إلى واحدة من أقبح مدن العالم. أتذكر أنني في شبابي كنت أمر تحت نصب الحربة وهو عمل فني عملاق فأرى على جانبيه لافتات قماش تحمل شعارات الاتحاد العام لنقابات العمال. لقد تسلقت الجماهير النصب الذي استلهم حريتها لتلوثه بمفردات حزبية رثة. ألم يكن لافتا أن العراقيين يعبرون عن فرحهم بالبكاء، وكان مزاجهم في الغرام كئيبا؟

لقد تم تطبيع الحزن والشقاء والتعاسة والحرمان والفقدان واليأس والفقر في بلد لو وزعت ثروته على مواطنيه بعدالة، لكانت حصة كل واحد منهم قناطير مقنطرة من الذهب.

فهل يُعقل أن ينتهي علماء ومفكرو ومهندسو وفنانو وكتاب وأطباء ذلك البلد الثري مشردين على أرصفة العالم، تشفق عليهم الدول بقبولهم لاجئين؟

هذا الواقع الذي عرف الأميركان كيف يترجمونه من خلال لغة رقمية إلى خيار وحيد ينتهي من خلاله العراق وطنا محتملا، لتبدأ مرحلة العراق الفاشل الذي لا أمل لشفائه من فساده. في 9 أبريل 2003 سلم المناضلون العقائديون الفقراء للأميركان، وذهبوا إلى منتجعات خيالهم ليغسلوا ضمائرهم بمياه الوطنية المعدنية، لا يخطر في بالهم أن البلد الهش الذي استسلمت جماهيره للاحتلال بطريقة مذلة ومخزية هو صنيعتهم الرثة.

من المؤكد أن تلك الجماهير التي ضيعت سنوات طويلة من عمرها في دهاليز الحروب الحزبية لن تتمكن من تقدير حجم الكارثة التي ضربتها. لا يحق لأحد أن يلوم العراقيين على عماهم. لقد كانت بغداد مدينة منتهكة قبل أن تدنس ترابها الدبابات الأميركية.

حين سلم الأميركان الحكم لعقائديين من نوع جديد، فإن ذلك لم يقع بسبب ولاء أولئك العقائديين للولايات المتحدة. لقد كانوا إيرانيين عقيدة وولاء. غير أن الولايات المتحدة اختارتهم لأنهم يكملون الطريق التي شيدها العقائديون السابقون وصولا إلى تدمير العراق.

بغداد دخلت عام نكبتها السادس عشر من غير أن تظهر في الأفق أي علامة تشير إلى أن خلاصها قريب.

4 الذكرى الخامسة عشرة على غزو العراق.. لماذا اُحتل العراق؟ واين ذهبت ملياراته؟ رميز نظمى

راي اليوم بريطانيا

فقد العراق مئات الالوف من أبنائه، وسُحقت بنيته التحتية وقواه العسكرية جراء حرب الكويت المدمرة فى 1991 و العقوبات القاتلة التى أهلكته على مدى 13 سنة؛ إلا أن ذلك لم يثبط إيمانه بقضايا أمته ودعمه للشعب الفلسطينى … احتفاظ العراق بإلتزاماته العروبية، رغم كل ما عاناه من آلام و دمار، أوصل أعداء الأمة إلى الاستنتاج بأنه فقط من خلال احتلاله يمكن إيجاد “الحل النهائى للمشكلة العراقية”.
وفعلا فى 19 مارس 2003 شنت حكومتا الولايات المتحدة و بريطانيا غزوهم غير المشروع بذريعة أن العراق يمتلك برنامجاً “نشطاً و تفصيلياً و متطوراً” لأسلحة الدمار الشامل الذى له “القدرة على إلحاق الضرر الفعلى بالمنطقة و باستقرار العالم”! ” مدنيون يتضورون جوعاً بينما ينتظرون قتلهم” هذا ما قالته المؤلفة و الناشطة السياسية ارونداتى روى، و هو قول يصف بدقة الوضع العراقى حينئذً: حصار قاتل تلاه احتلال مدمر.
حتى “والت ديزنى” ليس بأستطاعته اختلاق مثل هذه القصة الخيالية : رواية عن دولة تكافح من أجل البقاء، دولة خاضعة لحصار مميت على مدار 13 سنة، دولة تنتهك سيادتها بتفتيش اقتحامى و بمناطق حظر للطيران، دولة شعبها يعانى و جيشها يتضرر، و لكنها و بقدرة قادر تشكل خطراً مميتاً على اثنتين من أقوى دول العالم و أكثره غنىً !
من أجل تبرير غزوهما المعد للعراق كانت الإدارتان الأمريكية و البريطانية على استعداد للانحطاط إلى أى مستوى للوصول إلى هدفيهما الشرير، و بذلك قلدوا الوسيلة الدعائية التى استخدمها مجرم الحرب النازى جوزيف جوبلز و هى: ” إذا قلت كذبة كبيرة بما يكفى و ظللت تكررها، فإن الناس فى النهاية سيصدقونها”.. و هكذا أصاب الشاعر حين قال: ” يكذبون بمنتهى الصدق و يغشون بمنتهى الضمير.” فما أرذلهم!
فعلى سبيل المثال، الملف الذى أعلن تونى بلير أنه يبرهن على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، الذى تم إعداده من قبل لجنة كبرى تظم رؤساء جميع أجهزة الاستخبارات البريطانية و كبار المسؤولين فى الوزارات المعنية، تبين أن جزءاً منه كان مسروقاً، بما فى ذلك من أخطاء إملائية، من أطروحة أحد الطلبة! هل هناك فعل أكثر دناءة من ذلك؟ و انحدر بلير إلى حد سافل آخر من التدليس بإدعائه الصفيق أن العراق له القدرة على مهاجمة لندن خلال 45 دقيقة بأسلحة الدمار الشامل !
وقد لعبت إسرائيل دوراً محورياً في شن الحرب على العراق. فبعد أسبوعين من بدء الغزو، نُشر مقال في صحيفة هارتس الإسرائيلية بتاريخ 3 نيسان |\ بريل 2003، جاء فيه “على مدار العام السابق، ظهر معتقد جديد في المدينة (واشنطن)، مفاده أن الحرب ضد العراق. قد رُوّج لها بحماس من قبل مجموعة صغيرة تألفت من 25 أو 30 من المحافظين الجدد، أغلبهم من (الصهاينة) اليهود”. وقد أيد توماس فريدمان، الصحافي الأمريكي البارز، ذلك قائلاً : “لقد كانت الحرب التي أرادها المحافظون الجدد. لقد كانت الحرب التي سوق لها المحافظون الجدد. لقد كان لدى هؤلاء الأشخاص فكرة يعملون على بيعها منذ وقوع أحداث 11 أيلول \ سبتمبر، والآن قد أتموا الأمر. رباه، لقد باعوا الفكرة. ومن ثَمَ فإنها ليست حرباً أرادتها الجماهير. إنها حرب نخبة… يمكنني أن أقدم لكم أسماء 25 شخصاً… لو تم نفيهم في جزيرة صحراوية منذ عام ونصف، لما وقعت حرب العراق”.
وهذا ما أكده البروفيسور جون ميرشيمر، جامعة شيكاغو، و البروفيسور ستيفن والت، جامعة هارفرد، فى كتابهما “فريق الضغط (اللوبى) الأسرائيلى”، حيث كتبا” من شبه المؤكد أن الحرب لم تكن ستقع بدون اللوبى الإسرائيلى .. الذى كان يدفع الولايات المتحدة للهجوم على العراق حتى قبل وقوع عمليات أيلول \ سبتمبر 2001 الإرهابية .. مسؤولون إسرائيليون كانوا يتوقون لمشاهدة الولايات المتحدة تطيح بأحد أهم أعدائهم فى المنطقة – الرجل الذى رجم إسرائيل بالصواريخ فى 1991 ” و فى هذا الشأن، أبلغ نتنياهو مجلس الشيوخ الأمريكى فى نيسان \ إبريل 2002 بأن ” الحاجة الماسة إلى الإطاحة بصدام أصبحت أمراً أساسياً”. و فى آب \ أغسطس 2002 صرح شارون بأن العراق يشكل “التهديد الأكبر الذى يواجه إسرائيل”.
وبعد الاحتلال، قامت الإدارة الأمريكية بالتخطيط لتسليم السلطة إلى زمرة من الأشخاص ممن ينطبق عليهم قول الإمام على، عليه السلام، “أشباه الرجال و لا رجال”، متعصبون طائفياً و لكن ضالون دينياً، يتعاونون على الإثم و العدوان بدل البر و التقوى، أغلبهم من المغتربين ممن لم يعانوا ما مر به العراق من محن و ظروف عصيبة. كان لهذه المجموعة مؤهلان رئيسيان: التذلل إلى الإدارة الأمريكية، والطمع فى الثراء الفاحش بكل و بأى طريقة ممكنة .. بتسليم السلطة لهذه الزمرة، أمنت واشنطن وحلفاءها لأنفسهم النجاح فى مشروعهم التدميرى للعراق وكذلك ضمان عدم محاسبتهم و إدانتهم على ما جنوا من جرائم بحق العراق و شعبه خلال السنوات الثلاث عشرة السابقة و من ضمنها جريمة الإبادة الجماعية.
حوّل الغزو العراق إلى دولة ساقطة ذات نظام فاشل؛ أصبحت البلاد مرتعاً للإرهاب والطائفية والتعذيب والبطالة والأمية والفوضى الأمنية والقتل العشوائى وانعدام الخدمات الأساسية… المخدرات التى لم يعرفها العراق سابقاً، شاركت الاحتلال فى غزوه و تفشت كالنار فى الهشيم جالبةً معها كل الأمراض المرتبطة و مشاكلها الاجتماعية.
أما الفساد الإدارى فحدث و لا حرج، فقد تحول من نزريسير أثناء الحصار إلى طوفان مريع بعد الاحتلال؛ مليارات من الدولارات سرقت لإرضاء جشع لا يشبع، و على كافة المستويات: الحكومة و البرلمان و القضاء و الشرطة و الجيش الجديد و المصارف إلخ. حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية الصادر فى نيسان \ إبريل 2013 : ” ما يقارب 40 مليار دولار تُهرب من البلاد سنوياً”.. نقلت قوات الاحتلال الأمريكية جواً مليارات الدولارات “فى قوالب من فئات 100 دولار”، و التى جاءت من أصول عراقية مجمدة، و من جملة هذه الأموال اختفى مبلغ قدره 6.6 مليار دولار؛ و حسب صحيفة لوس أنجلس تايمر المؤرخة 13 حزيران \ يونيو 2011 ، ذكر المراقب العام الأمريكى لإعاده الإعمار بأن هذا المبلغ المفقود “قد يمثل السرقة المالية الأكبر فى التاريخ”.
وأشار تقرير منظمة الشفافية أيضاً إلى أن سموم الفساد “قد أدت إلى تعيين أعداد ضخمة من الموظفين غير المؤهلين بناء على روابط طائفية أو سياسية أو قبلية أو عائلية، مما أدى إلى تكاثر الأداء عديم الكفاءة منذ 2003 .. و حسب فضيحة تم الكشف عنها قامت وزارة الداخلية بتعيين 9,000 موظف بمؤهلات جامعية مزيفة، بما فى ذلك داحل مكتب رئيس الوزراء”.
أما الشخص “العراقي” الذي تم ترشيحه من قبل الإدارة الأمريكية و خاصة المحافظين الجدد، ليكون قائد “العراق الجديد” فقد كان مُداناً بقضايا احتيال، حيث قام هو وأشقاؤه باختلاس أربع مؤسسات مالية في ثلاث دول مختلفة: الأردن ولبنان وسويسرا. إلا أن نزعته الطائفية و ميوله الإسرائيلية كانت كفيلة بتغاضي واشنطن عن كافة مساوئه. ومن خلال اختيار هذه الشخصية المخزية، أرسلت واشنطن إلى العراقيين إشارة مفادها أنه يمكن تحقيق النجاح فى “العراق الجديد” فقط من خلال الفساد والطائفية، وهما اللعنتان اللتان كانت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها يعملون على نشرهما.
وبمجرد أن انتهى نفع هذا المحتال، قامت واشنطن بالتخلص منه كالقذارة. وحسبما ورد في صحيفة ديلى تيليغراف اللندنية في 23 مايس \ مايو 2004، فإن الرئيس جورج بوش الابن قال للملك عبد الله ملك الأردن “يمكنك التبول عليه”. وفى هذا درس، إن كانت هناك حاجة إلى أي درس، لهؤلاء الحمقى في العالم العربي الذين ما يزالون يعتقدون أن الإدارة الأمريكية هى معطاء وأنه من خلال الخضوع إليها يمكن تحقيق الحرية والازدهار لبلدانهم.
وكجزء من سياسة “فرّق تسد” التى اتبعتها الإدارة الأمريكية و حلفاؤها، كان تأجيج الطائفية إحدى أركانها الأساسية، فمن أول القوانين التى تم تمريرها بعد الاحتلال كان قانون الانتقال الإدارى لسنة 2004 الذى جردت فقرته السابعة العراق من انتمائه إلى الأمة العربية، و شُكِّل “مجلس الحكم” على أسس طائفية استمرت إلى الوقت الحاضر .. و قد توافقت هذه السياسة مع ما كان يُرَوَّج فى الغرب وعلى الأخص فى الأوساط الصهيونية من أن نفوس العراق منفصلة إلى 3 فئات رئيسية : الشيعة و السنة و الأكراد، و أن السنة فقط هم من لديهم انتماء عروبى. فقد كتب أحد الصهاينة ” العراق عبارة عن مزيج من القبائل و الأعراق المنقسمة فيما بينها.. حيث أن سكان جنوب العراق يتألفون من الشيعة بنسبة 100% و لديهم ما يربطهم بإيران أكثر مما يربطهم مع “إخوانهم السنة” فى الشمال”. ياله من رياء و دجل!
إن دين أكثر من 95% من الشعب العراقى هو الإسلام بمدرستيه الرئيستين: السنية و الشيعية. و على صعيد الأنتماء القومى فإن حوالى 80% من الشعب هم عرب و لا يوجد أى اختلاف فى الأنتماء العربى بين السنة و الشيعة، بل إن نسبة كبيرة من الشيعة كانوا من السنة لحين تحولهم إلى المذهب الشيعى خلال القرن التاسع غشر عندما استقروا كمزارعين فى جنوب العراق .. و هنالك العديد من القبائل الكبرى التى أفرادها هم مزيج من السنة و الشيعة، و كذلك من الشائع جداً التزاوج بين حملة المذهبين.
إن الادعاء بأنه كان هناك عداء مزمن بين الشيعة والسنة فى العراق، و أن العراقيين الشيعة كانوا يميلون نحو إيران ليس أكثر من مزاعم دنيئة، والأمر الذي ينفى هذا الادعاء أنه خلال الحرب العراقية الإيرانية، لم يشكل الشيعة فقط عماد القوات المسلحة العراقية بل قد شغلوا أيضاً مناصب عسكرية قيادية و دافعوا ببسالة و شرف عن العراق. ومن بينهم سعدي طعمة الجبوري ومحمد رضا الجشعمي وعبد الواحد شنان الرباط. وقد حاول اللواء الرباط في العام 2017 التقدم بادعاء ضد تونى بلير لارتكابه جرائم حرب. و لكن القضاء الإنجليزى رفض الدعوى بحجة أنه لا توجد فى القانون الإنجليزي “جريمة عدوان”. إنه بحق أمر لا يُصدق أن دولة تتعرض للاحتلال والتدمير لأنها زعماً ارتكبت جريمة لا يعترف بها قانون دولة الاحتلال!
حصلت مجابهات ما بين السنة والشيعة بعد الاحتلال، و هذا ما تم التخطيط له من قبل الإدارة الأمريكية وعملت على تأجيجه من خلال سياساتها. وقد أشار كل من البروفيسور طارق اسماعيل جامعة كالجرى كندا وماكس فولر في مقالهما الصادر فى شباط \ فبراير 2009 بعنوان “تفكيك العراق: صناعة وتسييس الطائفية” إلى أنه “على عكس الاعتقاد السائد، فإن العنف الطائفي لم يكن معهودا في أي وقت سابق في التاريخ العراقي، ويمكن القول أن الطائفية المسيسة التي تهيمن في الوقت الراهن على العراق كانت المقصودة نتيجة لسياسة الاحتلال الإنجليزي \ الأمريكي والتي كانت تقوم في أساسها على هدف تقسيم العراق إلى مقاطعات طائفية وتحويله إلى دولة هزيلة”.
وفي واقع الأمر فإنه حتى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى، لم تكن هناك أي أحزاب دينية في العراق. حيث كانت كل الأحزاب سياسية و علمانية منها: الديمقراطية و الوطنية و الليبرالية والماركسية والوحدوية العروبية. تم تأسيس الحزبين الدينيين، حزب الدعوة والحزب الإسلامي (الإخوان المسلمين) بشكل رئيسى من قبل رجال الدين بعد الإطاحة بالملكية عام 1958 وذلك في محاولة لفرض التوازن مع الحركات السياسية الرئيسية الثلاثة آنذاك: الشيوعية والبعثية والناصرية. وقد اعتبر رجال الدين، الشيعة بوجه خاص، النمو السريع لهذه الحركات بمثابة تهديد وجودي لوضعهم ونفوذهم.. و من الملاحظ أن بعض المؤسسين القياديين لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق كانوا من الشيعة، مثل فؤاد الركابي وسعدون حمادي.
إضافة إلى نشر الفساد و الطائفية و ليضمنوا أن ينقض بنيان العراق انقضاضاً قد لا تقوم له قائمة بعد، عمل الاحتلال على سحق الكفاءات و القدرات البشرية العراقية. و قد تجسد هذا من خلال حملة الاغتيالات التى بدأت بعد الغزو و التى طالت خيرة العلماء و الاكاديميين العراقيين. و فى هذا السياق كتب ماكس فولر وديرك أدريانسينس، و هما باحثان لهما اهتمام خاص بالعراق، ” إنه من بين العديد من المآسى التى وقعت على المجتمع العراقى نتيجة للغزو الإنجليزى الأمريكى سنة 2003 هى التصفية الجسدية للمئات او الألاف من الأكاديميين العراقيين، و التى هى أحد أكثر الأمور حزناً و دوماً ما يتم التغاضى عنها .. و فيها ما يثبت كونها حملة منظمة و وحشية للاغتيال المستهدف”. و ذُكر أيضاً أن هذه الأغتيالات قد نفذت من قبل عملاء المخابرات الإسرائيلية، موساد، و اتهمت كذلك ميليشيات طائفية .. و منذ 1990 هجر العراق ما يقارب 4.5 مليون من خيرة أبنائه الذين كانوا يمثلون العمود الفقرى للدولة و بذلك فقد العراق أعز ما يملك – إلى حين – إلا و هى قوته البشرية.
تسببت واشنطن و لندن، حسب تقريرات البروفيسور فرانسيس بويل، جامعة الينوى الأمريكية، فى مقتل 3.3 مليون عراقى خلال الفترة 1990 – 2011 . فما الذى دفعهما إلى هذه الإبادة الجماعية لشعب لم يقترف أى جرم بحق الشعبيين الأمريكى و البريطانى؟ لربما أن أفضل شرح لهذا الإجرام هو اقتباس كلمات الباحث اس بى منظور القائلة بأنه “مشروع ولد فى الحقد و تربى فى الإحباط و تغذى بالانتقام”.. على رغم ادعاء بوش الابن و بلير باعتزازهم بمسيحيتهم، إلا أنهما لم يتبعا ما أوصى به الإنجيل المقدس: “يكمن الخداع فى قلوب مخططى الشر، لكن أولئك الذين يروجون السلام فلهم السعادة”. يمكن تفسير تفضيل الاثنين و من لف لفهم اتباع طريق الشر على الاقتداء بنهج السعادة هو اصابتهم بوباء القتلة الصليبيين و الصليب منهم براء.
يبدو أن هذا الداء قد اعترى العديد من القادة الغربيين، فعندما احتل الجنرال البريطانى أدموند اللنبى مدينة القدس فى 11 كانون الأول \ ديسمبر 1917، قال: ” لقد اكتملت الآن الحروب الصليبية”، و عندما غزا الجنرال الفرنسى هنرى جورود مدينة دمشق فى 24 تموز \ يوليو 1920، ذهب لضريح الناصر صلاح الدين الأيوبى و قال: “ها قد عدنا يا صلاح الدين، إن وجودى يثبت انتصار الصليب على الهلال”. إن تصرف هذين القائدين المقيت هو دليل على أن البعض فى الغرب لم يغفر للعرب انتصارهم المجيد على أسلافهم الصليبيين و محقهم من الأراضى العربية المقدسة قبل أكثر من 700 سنة، و هو كذلك يمثل ما وصفه البروفيسور إدوارد سعيد ” التحامل الغربى التاريخى المعادى للعرب و للإسلام” و الذى حالياً يتجلى من خلال اعتبار “إسرائيل دولة ديمقراطية محبة للسلام و تصنيف العرب كشعب شرير و جائر و إرهابى”.
إن هذا الحقد الدفين هو مجرد كراهية عنصرية و توجه سياسى ليس لهما بالدين علاقة، فقد استنكرت الكنائس و على رأسها الفاتيكان جرائم الصليبيين و الحرب على العراق .. ما لم يستأصل هذا الوباء الخبيث فلن يتحقق أى سلام أو ازدهار؛ الأمل الوحيد أن يدرك الغرب مدى غيه و ضلاله و أن يعبّر عن ندمه على ما اقترفه من خطايا بحق الأمة العربية و الإسلامية.
هنالك بوادر إيجابية تبعث على التفاؤل، ففى هذا الشأن تخلص حزب العمال البريطانى من زعيمه السابق تونى بلير، و سياساته الخارجية الحمقاء …معتقدات الزعيم الجديد ، جيرمى كوربين مشجعة للغاية. سئل كوربين مؤخراً عن أسوأ حدث مر به فى مسيرته السياسية فأجاب “الحدث الذى أصابنى بالكآبة هو موافقة البرلمان البريطانى على الاشتراك فى الحرب على العراق، إذ كان فى رأيي قراراً خاطئاً بل كان قراراً كارثياً، إذ شعرت أن الحرب سيكون لها عواقب و خيمة بدأنا الآن فى إدراكها، و هى زيادة الإرهاب و صعود الكراهية و انتشار الحروب الأخرى و حدوث أزمة اللاجئين، تلك اللحظة كانت من أسوأ لحظات حياتى”.
على صناع القرار الغربيين تبنى هذا الطراز من الفكر النير و التوجه الموضوعى.. فعلى الصعيد التاريخى عاش العرب و الأوربيون: مسلمين و مسيحيين و يهودا، فى انسجام لقرون عديدة فى الأندلس، فترة مجيدة جعلت الشاعر البرتغالى الشهير فيرناندو بيسوا (1888- 1935) يقول :”دعونا أن نتدارك الجريمة التى ارتكبناها عندما طردنا من شبه الجزيرة (الآبرية) العرب الذين علمّونا الحضارة” .. أما آن الآوان أن تنتهى سلسلة الجرائم التى ترتكب بحق العرب؟
أما مستقبل العراق فلا خوف عليه، فمهد الحضارات على مدى 8,000 عامٍ و الذى غمر علمه العالم، لابد و أن ينهض ثانية و لو بعد حين.. سيستعيد الشعب عافيته و وحدته و سيزاول واجبه فى خدمة أمته، و ستعاود حرابه توجهها إلى عدوها الحقيقى القابع فى تل أبيب.. و سوف ترفرف عالياً رايات العزة والكرامة، رايات رفعها الكثير من الأبرار الذين قارعوا العدو من أمثال الشهداء هناء الشيبانى و باسل الكبيسى و ياسين فزاع الموسوى. و سوف تُشيد الأنصاب و تقام الصلوات تبجيلاً لأرواح ملايين الأطفال و النساء و الرجال الذين استشهدوا فى ملحمة عز أمام البرابرة الذين شنوا محرقتهم على العراق.. إن غداً لناظره قريب، فكما قال الإمام على ، عليه السلام، “دولة الباطل ساعة و دولة الحق حتى قيام الساعة”.
5
في الذِّكرى الخامِسة عَشرة لاحتلال العِراق وسُقوط بغداد نُطالِب بِمُحاكَمة كُل الذين تَعاونوا مع المُحتلَّين وساهَموا في تَدمير بَلَدِهِم ونَهب مِئات المِليارات من ثَرواتِه.. ولا استقرار إلا بِطَردِ القُوّات الأمريكيّة ونَبْذِ الطائِفيّة وسِياسات التَّهميش والإقصاء
افتتاحية “رأي اليوم”

الذِّكرى الخامِسة عشرة لسُقوط بغداد التي تُصادِف اليوم الإثنين هي الأكثر إيلامًا بالنِّسبةِ إلى أيِّ إنسانٍ عَربيٍّ ومُسلم شَريف، لأنّها تُذَكِّر بعُدوان أمريكي غَربي على هذا البَلد العَربيّ الأصيل واحتلالِه، وإغراق المِنطقة بالفَوضى والإرهاب وحُروب القَتل والدَّمار.
أمريكا غَزَت العِراق واحتلَّته بِتَحريضٍ إسرائيليٍّ، وتَواطُؤ عَربيّ، لأنّها تُدْرِك أهميّة هذا البَلد ودَورِه الطَّليعيٍ، والخُطورة التي كان يُشكِّلها على المٌخطَّطات الغَربيّة في الهَيمنة على المِنطقة، وتَفكيك دُوَلِها، ونَهبِ ثَرواتِها.
الاحتلال الأمريكي الذي بُنِي على أكاذيب أسلحة الدَّمار الشَّامِل، جاءَ بِنظامٍ عِراقيٍّ طائِفيٍّ عُنصريٍّ فاسِد، عُنوانه مَجموعة من الانتهازيين الطَّائِفيين الحاقِدين، الذين سَرقوا أكثر من تريليون دولار، وخَلقوا فَراغًا سِياسيًّا مَلأه تنظيم “الدَّولة الإسلاميّة” أو “داعش”.
سِياسات التَّهميش، والإقصاء، والنَّزَعات الطائفيّة قَضَت على تَجْرِبة عراقيّة في التَّعايُش، أو الحَد الأدْنى مِنه، وفَكَّكَت نِظامًا، رُغم كُل التَّحفُّظات عليه وبَعض مُمارساتِه الدِّيكتاتوريّة، حَقّق هَيبة للدَّولة العِراقيّة، وجَعل من البِلاد دولة إقليميّة عُظمَى، مُهابَة الجانِب تَرتكِز على قاعِدتين عَسكريّة وعِلميّة لا يُوجَد لها مَثيلٌ في المِنطَقة.
أكثر مِن مِليونيّ عِراقي استشهدوا بسبب هذا الغَزو الأمريكي، وما سَبقه من حِصارٍ تَجويعيّ ظالِم استمرّ لأكثر من 12 عامًا، لكَسر كرامَة العِراقيين وشُموخِهم الوَطنيّ، ومِئات الآلاف أُصيبوا بأمراض السَّرطان مِن جراء اليورانيوم المنضب الذي سَيظَل خَطَرُهُ مُستَمِرًّا لأكثر من أربعةِ مِليار عام، حَسب تَقديرات العُلماء.
سكوت ريترر، المُفَتِّش الأمريكي الذي كانَ يَعمل في وكالة المُخابرات الأمريكيّة، وانشقّ عنها نتيجة صَحوة ضَمير، وفَضَحَ الأهداف الحَقيقيّة للمُفَتِّشين الدَّوليين، لخَّص المَأساة هذهِ بِقَوله “غَزونا العِراق لتَدمير أسلحة الدَّمار الشَّامِل غير المَوجودة أصْلاً، واستخدمنا أسلحة تَسبَّبَت بِمَقتَل الآلاف بالإشعاعات النَّوويّة”.
قِطاعٌ عَريضٌ من الشَّعب العِراقيّ باتَ يَترحّم على أيّام الرئيس الراحل صدام حسين، وحُكمِه، بعد أن شاهَدوا ما حَلَّ بِبَلدِهم من فَسادٍ وقَتل ودَمار على أيدي من عادوا إلى بغداد على ظُهور الدَّبابات الأمريكيّة، ووعَدوا العِراقيين بالأمنِ والاستقرار والرَّخاء الاقتصادي، وكان على رأس هؤلاء المُتَرحِّمين الدكتور إياد علاوي الذي تعامل باعترافِه مع أكثر من 13 جِهاز مُخابرات عالمي من أجل الإطاحة بهذا النِّظام، ويَخوض الانتخابات العِراقيٍة المقبلة كمُخَلِّص للعِراق مِن أزماتِه.
العِراقيون رَفضوا هذا الاحتلال وقاوَموه بِرُجولةٍ وشَجاعة، وكَبّدوا المُحتَل الأمريكي خسائِر ماديّة تَصِل إلى ترليونيّ دولار، وأكثر من 5000 قتيل، وما يَزيد عن 40 ألف جريح، وأجبروا الإدارة الأمريكيّة على سَحب قُوّاتِها، والخُروج من العِراق مَهزومة مُطَأطِأة الرَّأس، وهذا ليس غَريبًا على هذا الشَّعب العَظيم الذي تَجري في عُروقِه جينات حضاريّة تَعود جُذورها إلى ثَمانيّة آلاف عام، والعَديد من الإمبراطوريّات.
العِراقي الذي تفاخَر بِتَحطيم تِمثال الرئيس صدام حسين في مَيدان الفردوس وَسَط بغداد في مِثل هذا اليوم، يَعُضْ أصابِعه نَدَمًا، والآخر الذي قَدّم شَهادة مُزوّرة عن عَمَلِه في المَعامِل العِراقيّة المُتحَرِّكة لإنتاج الأسلحة الكيميائيّة والبُيولوجيّة، مُقابل حَق اللُّجوء في ألمانيا وحَفنة من الدُّولارات، انتهى عامِلاً يَغْسِل الصُّحون في مطعم “لبيرغر كنغ” للوَجبات السَّريعة في ألمانيا، أمّا الدكتور موفق الربيعي الذي يَتباهى باحْتِفاظَه بالحَبل الذي التفّ حول عُنق الرئيس صدام حسين ساعة إعدامه، فغَيّر شهادته الكاذِبة، واعترفَ أنٍ الرئيس صدام تَقدّم إلى المِقصَلة شُجاعًا مَرفوع الرأس مُرَدِّدًا الشَّهادَتَين، وهاتِفًا باسم الأُمّة وعُروبَة فِلسطين، مِثل الغالبيّة السَّاحِقة من أبناء العِراق البَررة.
العِراق كان ضحيّة مُؤامرة إسرائيليّة، ونتيجة تَوصُّل حُكماء اليهود إلى قناعةٍ راسِخة بأنّ الأُمّة العربيّة لا يُمكِن إغراقها بالفَوضى الخَلّاقة التي بَشّرت بها السيدة كونداليزا رايس، مُستشارة الأمن القَومي، وتأمين دولة إسرائيل لعُقود قادِمة، إلا بِتَدمير العِراق وتفكيكِه وتَمزيقِه على أُسُسٍ طائِفيّة، وجَرى استخدام هَجمات الحادي عشر من سبتمبر كنُقطَة انطلاق للغَزو والاحتلال، وأسلِحَة الدَّمار الشَّامِل كذَريعة.
بعد 15 عامًا من الحُروب والسَّيّارات الإرهابيّة المُفخَّخَة، بَدأ العِراق يَقِف الآن على أبواب انتخابات بَرلمانيّة جديدة، تُشارك فيها تكتُّلات مُعظَمها طائِفيّة الطَّابَع والمُنطَلق للأسف، وبُدون هَويّة وطنيّة جامِعة، الأمر الذي يَدفَعنا للحَذر في الإغراق بالتَّفاؤل، رُغم وجود بَعض مُؤشِّرات على التَّعافي البَطيء، ورَغبة، لو ضَعيفة للعَودة إلى نَهج التَّعايُش.
لا بَديل للعِراق غير التَّسامُح ونَبذ الطَّائِفيّة، وطَرد كُل بقايا الاحتلال الأمريكي وقُوّاتِه وعُملائِه، والعَودة إلى الهَويّة المُوحّدة الجَامِعة، والتَّعايش على أُسس المُساواة وقُبول الآخر، وإنهاء مُمارسات التَّهميش والإقصاء التي بَذَرَ بُذورَها الاحتلال الأمريكي والقِوى التي جاءَ بِها، ووَضعها في سِدُّة الحُكم لإضفاء شَيء من الشَّرعيّة العِراقيّة على جَرائِمه.
كل الذين تآمروا على العِراق، وتَعاونوا مع الاحتلال الأمريكي لتَدمير بِلادِهم يجب أن يُحاكَموا أمام قَضاءٍ عِراقيٍّ وَطنيٍّ عادِل، وهُم مَعروفون واحِدًا واحِدًا، فلا يُمكِن أن يتقدَّم العِراق وهؤلاء يُواصِلون التَّضليل والخِداع ويَدَّعون حِرْصًا كاذِبًا على العِراق وشَعبِه العَظيم، ويَتصدَّر مُعظَمُهم العَمليّة السِّياسيّة، ويَخوضون الانتخابات القادِمة.

6 جيش من الإعلاميين مع القوات الأميركية
وليد الزبيدي
الوطن العمانية

يقدر عدد الكوادر المرافقة للقوات الأميركية اثناء حرب عام 2003، من مصورين ومراسلين بـ (600) إعلامي، وكانوا ينقلون إلى القنوات الفضائية والصحافة والإذاعات، الكثير من القصص والأخبار والمعلومات، المعززة بالصور التلفازية والفوتوغرافية، التي تبرز الإنجازات الحربية الأميركية على أرض المعركة.
إن الأميركيين قد وضعوا خطة صارمة في التعامل مع الإعلاميين ومع وسائل الإعلام، التي تغطي وقائع الحرب، ولم تكتف بفرض الرقابة الشديدة على المراسلين، الذين يرافقون القوات الأميركية الزاحفة صوب بغداد، بل كانت تراقب وسائل الإعلام المختلفة داخل العراق، وتتابع ما تقوله الصحف وما يبثه التلفزيون العراقي، وفي واقع الحال، لم يكن الكثيرون يعتقدون، إن إدارة الحرب الأميركية تعطي هذا القدر من المتابعة والاهتمام لوسائل الإعلام العراقية، التي أصبحت محدودة الانتشار، بسبب عمليات القصف والأوضاع المتوترة، التي يعيشها الشارع العراقي، الذي تنهال عليه آلاف القنابل والصواريخ، إلا أن حدثا واحدا كشف عن الكثير من الحقائق، التي كانت غائبة عن الأذهان وجاء طرد إحدى الشبكات الأميركية لأشهر مراسليها في بغداد وهو (بيتر ارنيت)، ليؤكد إن الإعلام الأميركي، الذي يدعي الاستقلال والحيادية، لم يكن كذلك، وأن ما سمعناه، لم يكن سوى كذبة كبيرة، نجحت الدوائر الإعلامية الأميركية في تسويقها على نطاق واسع، ليس في العالم العربي وحده، وإنما في العالم بأسره.
لم يرتكب بيتر ارنيت، الذي اشتهر خلال تغطيته لحرب الخليج 1991 من بغداد لصالح شبكة أخبار (CNN)، أي جريمة، لكي تتخذ منه الشبكة التي يعمل لصالحها هذا الإجراء، واستنادا إلى البيان الذي أعلنته شبكة (NBC) التلفزيونية الأميركية، فإن (بيتر ارنيت الحاصل على جائزة بوليتزر، ارتكب خطأ بقبوله إجراء مقابلة مع التلفزيون العراقي، ولا سيما في فترة الحرب). وكان ارنيت قد تحدث إلى التلفزيون العراقي اثناء وجوده في بغداد، وأدلى برأيه الذي قال فيه (إن خطط الحرب، التي اعتمدتها الولايات المتحدة فشلت). وهو ليس عسكريا أو قائدا لقوات المارينز، واثار هذا الخبر انتباه الكثيرين، وتوجه العديد من الإعلاميين العرب والأجانب لسؤال بيتر ارنيت، الذي كان يسكن في فندق الميريديان ببغداد، وأكد خبر طرده، ولم تظهر على وجهه في حينها علامات الدهشة أو الاستغراب، لأنه من الواضح، أن الخدعة التي انطلت على الكثيرين، وأعطت انطباعا أو قناعةً قوية باستقلال الإعلام الأميركي، لم تكن قد أخذت أي حيز عنده، وأنه كان على قناعة تامة بحقيقة الأمور، التي تجري في الخفاء. ورغم قرار الطرد الذي حصل لبيتر ارنيت، إلا أنه لم يغادر العراق، وبقي مع مئات الإعلاميين، الذين يتابعون تطورات الحرب، من قلب العاصمة العراقية.
إن المجيء إلى بغداد، بالنسبة للإعلاميين، لم يكن سهلاً، ولكن الحرص على تأدية الواجب الإعلامي، دفع بالكثيرين إلى المخاطرة بأرواحهم، وكان الغالبية منهم، يعلمون أنهم يسيرون وسط حقول الألغام، خاصةً أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، قد حذر الصحفيين من خطورة البقاء في بغداد، ووسط مخاوف وحذر الإعلاميين، وتسابقهم للحصول على آخر مستجدات الأوضاع وتطورات الحرب، ووسط صدمة الكثيرين، على خلفية ما تعرض له بيتر ارنيت، انتشرت بين الحشود الإعلامية، قصة مراسل إذاعة (سوازيلاند)، التي كشفت عن وجه آخر من وجوه الكذب الإعلامي، إذ اكتشف أحد أعضاء البرلمان هناك، أن المراسل الحربي، الذي يتابعون تقاريره من قلب الحرب في بغداد، وهو فيشياديوب، أنه يجلس إلى جواره في البرلمان، وتبين أن المراسل كان يبث تقاريره الحية المزعومة من غرفة النظافة.
إن هذه الأمثلة عن التغطيات الإعلامية للحرب الأميركية، تكشف عن الصورة، التي تلقاها الكثيرون، عن تلك الحرب، واعتقدوا أنها الصورة الحيادية الحقيقية، لكنها لم تكن كذلك، بل إنها تحمل بين طياتها الكثير من الزيف وقلب الحقائق.