1 العيب ليس في إيران
فاروق يوسف العرب بريطانيا
إيران دولة دينية. لا قيمة للمؤسسات فيها ما لم تكن مدعومة من قبل المرشد الأعلى. هي إذاً دولة مرشد وليست دولة مؤسسات. تبعا لذلك فإن لإيران سياساتها التي لا تشبه في شيء سياسات الدول الحديثة، وهي في ذلك إنما تعبر عن التزامها العقائدي.
تزن إيران سياساتها بميزان عقائدي خاص بها. وهو ما يمكن أن تتنازل عنه إذا ما تعلق الأمر بمصالحها. وهو ما كان واضحا في علاقتها بالغرب. لم تتخلّ إيران عن مبدأ “تصدير الثورة”. ما يعني تصدير مشروعها الطائفي إلى المنطقة بما يؤدي إلى التدخل في شؤون دول المنطقة. في ضوء ذلك الالتزام عملت إيران على إنشاء ميليشيات تابعة لها في الدول التي استطاعت أن تتغلغل فيها.
وإذا ما كان الاحتلال الأميركي للعراق قد فتح الباب لأحزاب الموالية لإيران للسيطرة على السلطة، فإن كسل النظام السياسي العربي سمح لإيران في التمدد في لبنان من خلال حزب الله. إيران التي تصر على أنها لن تغير سياساتها في المنطقة لم تكن غامضة في ما تنوي القيام به. وإذا ما تذكرنا شعار الخميني “الطريق إلى القدس يمر بكربلاء” فإننا سنكون على بينة من المشروع الإيراني.
ولم تكن حرب الثماني سنوات التي خاضتها إيران ضد العراق إلا تجسيدا واقعيا لذلك المشروع الذي لم يتخلّ عنه الإيرانيون حتى اللحظة. بالنسبة للعرب فقد كانت إيران دائما عدوّا صريحاً ومباشراً. حتى أن الإيرانيين يتأسفون لأن بيت الله لا يزال في مكة التي هي جزء من الأراضي السعودية. لقد قالت إيران كل شيء في ما يتعلق بسياستها في المنطقة.
هي دولة توسعية لا تحترم القوانين الدولية ولا الأعراف الدبلوماسية في العلاقات بين الدول، ولأنها قد نصبت نفسها وصية على أتباع المذهب الشيعي فإنها ترى أن لها حقا في التدخل في شؤون الدول التي يقيمون فيها. هذه هي إيران بكل شرورها وليس هناك ما تقدمه سوى الشر. كانت ولا تزال وستبقى كذلك ما دام نظام الملالي قائما فيها. فهل يحق لنا أن نلومها على ما حدث لعالمنا العربي؟ أليس من الأولى أن نلوم أنفسنا؟ العيب فينا وليس في إيران.
في وقت مبكر من عمر نظام آيات الله انتبه العراق إلى خطورة المشروع الإيراني، وكانت دول عربية عديدة على بيّنة من ذلك الخطر الذي يهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي خطوة أولى في الطريق الذي رسمه الخميني لاقتلاع الشرق العربي من جذوره العربية.
لقد وقفت تلك الدول مع العراق ثقة منها بأنه الحارس الأمين الذي في إمكانه أن يصد رياح الشر القادمة من إيران. ولكن ما جرى بعد غزو العراق للكويت عام 1990 أطاح بتلك المعادلة، فصار المأزق الذي وقع فيه العرب يومها فرصة لإيران لكي تستعيد أنفاسها وتبدأ بنشر أذرعها في ظل صمت عربي امتد لأكثر من عقدين من الزمن.
لم يستيقظ العرب إلا بعد أن صارت إيران تفاخر بأذرعها الممتدة من البحر المتوسط حتى البحر الأحمر، مرورا بالعراق الذي صار ملكا صرفا لها. كان ذلك مشهدا فجائعيا أدرك العرب أنهم صنعوا الجزء الأكبر منه.
لم يكن تعاملهم السابق مع النظام الإيراني يرقى إلى مستوى عدوانيته التي لم تكن خافية على أحد منهم. فضلوا الانتظار على اتخاذ الإجراءات الرادعة التي اضطروا إلى اللجوء إليها بعد أن تيقنوا أن لغة العقل بالنسبة لإيران هي أشبه بطلب المستحيل.
كانت إيران صريحة في مشروعها القائم على تدمير مقومات الأمن والاستقرار في دول بعينها من خلال بث الفتن الطائفية. وحين يعلن وزير خارجيتها من الدوحة في تحدّ صريح للعقوبات الاقتصادية أن بلاده لن تغيّر سياستها القائمة على التوسع والعدوان، فذلك معناه أن العالم العربي لا يزال في جزء منه غير مدرك لخطر المشروع الإيراني. وهو ما يؤكد أن العيب فينا وليس في إيران.
2 بين الاعمار والاستعمار برزخ من اليباب والسراب.. لماذا لم يستمع العراقيون لنصيحة نصر الله.. وما هو السر الذي كشفه لي عادل عبد المهدي د. نضير الخزرجي
راي اليوم بريطانيا
من نعم الله على عبده أن وهبه عقلا به يدير الأمور صغيرها وكبيرها، وأنار دربه وجعل لأدوائه أدوية ولشواهق حياته أودية تأخذ به سبل السلام بما يحسن ويرام، وجعل من تجربة مرة مرآة لأخرى من المتاعب حرّة، وجعل من تجارب الآخرين شخصا أو أمة اتباعا في صالحا وارتداعا في طالحها.
ولعل أسوأ التجارب في حياة الفرد إعتداء الآخر عليه، وفي الأمة سيطرة أمة على أخرى عدوانا، وفي البلد إحتلاله من قبل قوة جارة أو بعيدة، تحت عناوين التحرير، ومن لم يتعظ في مثل هذه المواقف ناله ما لا يحسن عقباه، وفي التاريخ الحديث أكثر من تجربة غير سارة، ويقف العراق على سبيل المثال على رأس البلدان التي تعرض خلال سني حياته منذ أن دخله الإسلام وحتى الآن إلى موجات مختلفة من الإحتلالات والغزوات من بلدان مجاورة أو قبائل هائجة قادمة من الصحراء أو من وراء النهر أو جيوش ماخرة من وراء البحر تشق أمواج المحيطات البعيدة طمعا في خيرات هذا البلد، وآخرها إحتلال القوات الأمريكية للعراق عام 2003م تحت زعم التحرير مستفيدة من ظلم وطغيان نظام صدام حسين لشعبه ورغبة الشعب العراقي التخلص من كابوسه الجاثم على صدره منذ تسلط حزب البعث على الحكم عام 1963م، ومستغلة لنضال المعارضة العراقية في داخل العراق وخارجه لعقود، الذي كاد أن يحرر العراق من ربقة النظام عام 1991م لولا تآمر أمريكا نفسها في اتفاقية خيمة صفوان لإنهاء حرب احتلال الكويت التي سمحت للنظام باستخدام الطائرات السمتية العسكرية في إجهاض انتفاضة الشعب العراقي الذي حرر مدنه، فضلا عن تراجع بعض القوى الداخلية من مواصلة تحرير المدن والإكتفاء بالحماية الدولية لمدنها، وكانت حصيلة سقيفة صفوان قتل نحو ربع مليون مدني ناهيك عن مئات الآلاف من الهاربين إلى دول الجوار، رجالا ونساءً شيوخا وأطفالا.
وبعد عشرة أعوام من حرب تحرير الكويت، عاد الحديث مرة ثانية عن تحرير العراق تحت زعم إمتلاك النظام لأسلحة دمار شامل، وحيث كانت بوصلة معظم العراقيين تتجه نحو القبول بالوضع الجديد تشبثًا بكل يد للتخلص من ظلم صدام، كنت أرى في داخلي أننا مقدمون على تجربة خاسرة ثانية، وأذكر أنني التقيت في نهاية العام 2002م برئيس الوزراء العراقي الحالي المعين السيد عادل عبد المهدي المنتفكي، وذلك في إحدى المؤسسات العراقية التي ساهمت بشكل كبير في عقد اجتماع لندن للمعارضة العراقية في منتصف ديسمبر كانون الأول عام 2002م، أي قبل أقل من 13 أسبوعا من بدء حرب احتلال العراق في 19/3/2003م ، وكنت قد سألته فيما إذا كانت أمريكا مصممة حقّا على إسقاط النظام هذه المرة بالقوة العسكرية خلافا لما فعلته عام 1991م عندما حمته وقوّته على شعبه المنتفض؟ فكان جوابه لي وبإبتسامة خفيفة : “نعم جميع المعطيات السياسية وتحولات المنطقة تذهب بهذا الاتجاه”.
بالطبع كان رئيس الوزراء على علم بذلك وإلا لما تمَّ في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية، الذي حضره ووقَّع على بيانه الختامي، التأسيس لخارطة الحكومة العراقية الحالية، كنت في قرارة نفسي أرى أن بساط العراق لا يطير في الإتجاه السليم بيد أن الوضع السياسي لا يسمح لمثلي عمل في المعارضة العراقية منذ أن كان في السادسة عشر من عمره أن يبوح بما في مكنونه، وأن عجوز الإحتلال المطلية بأصباغ التحرير ليست فأل خير على العراق وشعبه حتى جاء خطاب زعيم حزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله في 7/2/2003م الذي دعا المعارضة العراقية ونظام صدام حسين على السواء إلى مصالحة وطنية عراقية والدعوة إلى “طائف عراقي” على غرار “الطائف اللبناني” يجنب العراق الحرب والإحتلال، وشدّد على النظام بأن يتواضع وأن يعترف بالمعارضة العراقية التي تمثل ملايين العراقيين في الداخل والخارج، داعيا في الوقت نفسه المعارضة العراقية إلى التعاطي مع هذه المرحلة بمسؤولية.
بالطبع لم يرض هذه الكلام المعارضة العراقية، ولم يأخذه نظام صدام على محمل الجد، وأدين السيد نصر الله من قادة المعارضة بشكل استفزازي، وقد وجدت حينها في خطاب السيد نصر الله المنفذ من التخلص من حرب مشؤومة واحتلال غاشم ونشرت مقالة كان عنوانها: “النصر فيما اختاره نصر الله” وبإسم مستعار لإدراكي بأن الوضع السياسي المعارض لا يتحمل رأيًا من هذا القبيل فينالني ما نال نصر الله من سهام التخوين، ووجدت في طائف عراقي كما عرض السيد نصر الله على سلبياته أهون الشرّين، ولكن سفينة الأمور جرت بمقاديرها ووقع المحذور.
هذه الذكريات القريبة التي لازال العراق والمنطقة يحترق بجذواتها، تقافزت أمام ناظري وأنا أتابع بإمعان ما حرره الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في “شريعة الإحتلال” الصادر نهاية العام 2018م في 48 صفحة فيها مقدمة الناشر ومقدمة المعلق الفقيه الشيخ حسن رضا الغديري مع 17 تعليقة على 75 مسألة شرعية، وتمهيد للفقيه الكرباسي فيها رؤوس أقلام نقرأ تفاصيلها في المسائل.
خدعة التحرير
كعادته في كل شريعة، يقدم الفقيه الكرباسي تعريفا للإحتلال الذي: “هو إغتصاب البلاد من قبل سلطة جائرة أو قوة غاشمة دون رضا أهلها أو ضد حاكمها الشرعي مع عدم رضا سكانها من دون حق”، وأما من حيث المصطلح الإجتماعي والأمني والسياسي فالإحتلال: “هو الإستيلاء على البلاد من قبل الأقوى الأجنبي على البلاد والعباد بطريقة غير مسوّغة”.
والحروب التي شهدها العالم في الحربين الكونيتين الأولى والثانية وما قبلهما وما بعدهما، هي في واقعها محاولة من القوي الإستيلاء على خيرات الضعيف مع رفع شعارات التحرير أو البناء او الإعمار، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: “وما أن تحتل بلادًا تسمي نفسها بالإستعمار حيث اختارت لها هذا المسمّى لتعلن بأنها جاءت لتعمّر البلاد، بينما هي في حروبها واحتلالها تدمر البنية التحتية وتنهب كل ثروات البلاد وتستعبد العباد”، وهذه حقيقة ملموسة في عدوان الجيوش الغربية على البلدان العربية والإسلامية والبلدان المستضعفة مثل الجزائر وليبيا وسوريا والعراق وفلسطين والهند واليمن وفيتنام وأفريقيا وآسيا وغيرها، وفي النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي وحتى يومنا تسيّدت أمريكا الموقف الدولي، وتجاوزت في معظم الحروب والإحتلالات الأخيرة مقررات مجلس الأمن الدولي، وكما يقول الفقيه الكرباسي: “إن معظم القوانين التي وضعتها الجهات الأممية المختصة جاءت حبرًا على ورق من جهة وتعمل لصالح المحتل من جهة أخرى، حيث أنه تُسيَّس بسياستها وتنصاع لأوامرها، ومن هنا أصبحت ربما كانت مطيّة لمآربها”.
وهذه الحقيقة تخطرنا بالوعود التي اطلقتها أمريكا عند احتلالها العراق عام 2003م، وبالوعود ثانية عام 2011م عندما أخرج قواتها من الأراضي العراقية رئيس الوزراء العراقي الأسبق السيد نوري كامل المالكي ضمن الإتفاقية الإستراتيجية، لأنها لم تعمل شيئا عندما دخلت عصابات داعش العراق منتصف العام 2014م، مع أن الإتفاقية تفرض عليها حماية العراق، ناهيك عن اتهامها بالوقوف وراء الحدث، بل كان دخول قوات داعش العراق فرصة لتعيد أمريكا انتشار قواتها في العراق رغما عن أنف السلطة.
ولا يخفى أنَّ تنصل المحتل الأمريكي عن العمل بالإتفاقية الاستراتيجية يعيدنا بالذاكرة إلى موقف الزعيم الديني العراقي الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء المتوفى في شهر تموز يوليو 1954م الذي رفض الإشتراك في مؤتمر دولي في بلدة بحمدون بلبنان في نيسان أبريل 1954م دعت إليه جمعية أصدقاء الشرق الأوسط الأمريكية تحت شعار “مؤتمر تعبئة القوى الروحية”، فبعث برسالة جوابية إلى نائب رئيس الجمعية غارلند ايفانز هوبكنز (Garland Evans Hopkins) المتوفى سنة 1965م يعتذر عن الحضور ويصف أمريكا وسياستها بالشيطان، ويكتب: (وها أنتم هؤلاء لا تزالون كل يوم تضربون العرب بيدكم، وفي كل برهة ينتفض قطر من المستعمرات انتفاضة يحاول التخلص من بلية الإستعمار، فيخدعونه بإعطاء الاستقلال المزيف، في استعمار مغلف، ويبدلون الصيغ والعناوين، استعمار فانتداب فحماية، الحقيقة واحدة لا تتغير، والعبارات شتى. حتى نزلت الى ميدان الاستعمار الدنيا الجديدة فجاءت بلون من الاستعمار جديد، الدفاع المشترك، المساعدات العسكرية، النقطة الرابعة، المساعدات الفنية، الحلف العسكري، وكلها خداع وصراع، واختلاسات وأطماع، خداع مغلف وطمع مزيف. ولو ان امريكا تريد المساعدات الحقيقية والمعونة الجدية للدول الضعيفة المتأخرة لظهر أثر ذلك حتى الآن. وقد مضى على هذه المواعيد والأقاويل زمن ليس بالقليل. هذا العراق وهذه سوريا ولبنان أية مساعدة وجدوها من أمريكا وأي مشروع ينفع أنجزته أمريكا. نعم لم يجدوا غير الضجة والأقاويل، وكلها تهاليل وأباطيل. تريد ان تأخذ منا كل شيء ولا تعطينا أي شيء، وقد قال بعض كبراء ساسة الولايات المتحدة مشيراً الى هذه الأساليب والأكاذيب: “هكذا علمتنا أمُّنا إنكلترا”).
وما صرَّح به الشيخ كاشف الغطاء قبل سبعة عقود هي حقيقة سوداء قائمة بين ظهرانينا، حيث تستغل القوى الكبرى القوانين الدولية لصالحها، وكما يؤكد الفقيه الكرباسي: “من يبحث في جذور وضعها وتقنينها يجد أنها جاءت مراعية لبعض الدول الكبرى، وإن كانت بغطاء حقوق الإنسان وتطبيق العدالة، ومنها قانون المصالح تحت عنوان البند السابع الذي يعطي الحق للأمم المتحدة احتلال دولة بأكملها وإلغاء الحكم القائم فيها وإدارة البلاد، ودائما تكون الدولة الأقوى هي التي تستفيد من هذا البند وتستغل الأمور وتصبح هي الأول والآخر، ولا تنصاع للأمم المتحدة، بل هي التي تنصاع إليها، وبذلك تصبح هذه القوانين ذريعة للإحتلال”.
مائز الحرب والإحتلال
لا شك أن الإحتلال جزء من الحرب على الدوام، ولكن الحرب ليست كذلك، فكل احتلال هو حرب وليس كل حرب احتلال، فقد تكون الحرب موضعية أو كر وفر، لكن الإحتلال هو سيطرة على الأرض، ولكل أحكامه الشرعية فضلا عن القوانين الدولية، كما إنَّ هناك مائزا بين الغزو بالمفهوم القديم والإحتلال بالمفهوم الحديث، وبتعبير الفقيه الكرباسي: “الفارق بين الإحتلال والغزو أن الثاني عادة يتم بشكل مؤقت والغرض منه كسب الغنائم ثم يتم التراجع، وأما الأول فلا يصدق إلا بالإقامة في المكان الذي تمّ غزوه”.
وحيث إنَّ الإحتلال هو إعتداء فإن مقاومته مشروعة ولا سيما إذا كان النظام السياسي فيه مكتسب شرعيته من صناديق الإقتراع، وعليه كما يؤكد الفقيه الكرباسي: “الأحكام الشرعية لا ترتبط بالقوانين الدولية، فالدولة التي أُحتُلَّت أرضها يحق لها مقاومة المحتل سواء كانت عضوًا في مجلس الأمن أو الأمم المتحدة أو لم تكن، والواجب شرعًا على كل الدول مؤازرتها وعدم التعاون مع المحتل”، ولا يتوقف مفهوم الإعتداء ومقاومته على المحتل وإنما يشمل: “الدول التي تساعد الدولة المحتلة بالسلاح والعتاد والمال والخدمات وبالإعلام تُعد دولًا معادية يحق للدولة التي احتُلَّت أرضها وشعبها مقاومتها بكل الأنواع والأشكال المتاحة حسب الحكمة، والتدرج في كيفية المقاومة وتقديم شكوى عليها فيما يمكن القيام به”.
وإلى جانب المقاومة المشروعة: “يحق للشعوب مقاضاة كل مَن ثبتت إدانته بالتعاون مع المحتل لتكريس احتلاله وتنفيذ مخططاته عليهم”، ويحدد الفقيه الشيخ حسن رضا الغديري في تعليقه على المسألة نوع الإحتلال الداعي لتقديم الشكوى: (وذلك في الإحتلال غير المطلوب من الشعب)، وعلاوة على المقاضاة لدى المنظمات الدولية المعنية، فإن الفقيه الكرباسي يذهب إلى أنه: “يحق للشعب المحتلة أرضه الإستنجاد بأية قوة أو دولة لإنقاذه من المحتل، ولا يحق للمنظمات الدولية منعها من ذلك بل عليها أن توفر ذلك له، واحترام إرادته، ولا يحق لها الوقوف مع المحتل، بل من الواجب عليها الوقوف مع الشعوب، لأنها صاحبة الحق، وهي المقهورة بالإحتلال”، ويعود الفقيه الغديري معلقا: (إي إذا لم يكن الإحتلال من طلب الشعب)، بل وأكثر من ذلك فإن الفقيه الكرباسي يذهب إلى أنه: “لا يحق للمحتل أن يقاضي الذين قاوموا الإحتلال سواء في خسائر المحتل المادية أو في الأرواح أو المعدات أو ما شابه ذلك”.
بالطبع ليست هناك مشروعية للإحتلال، إذ: “ليس هناك احتلال شرعي وغير شرعي، فالإحتلال هو الإحتلال ما دام الغرض منه السيطرة على الأرض من دون رضا أهلها”، نعم يمكن أن يلبس الإحتلال لبوس الشرعية كما يعلق الفقيه الغديري على المسألة، إذ إنَّ: (شرعية الإحتلال تنشأ من طلب الشعب المظلوم لرفع الظلم من الحاكم على البلد، والطلب يشمل القولي منه والفعلي كإرسال الرسائل أو الرسل أو الإحتجاجات والمظاهرات المتوالية للحقوق العامة وغيرها من الأسباب المجوزة للتدخل الخارجي بنحو السيطرة على البلد، وذلك من دون غرض آخر يختص بالمحتل من سعة السلطة أو السيطرة على المنابع المالية مثلًا)، وهذا الرأي يؤكده الفقيه الكرباسي في المسألة اللاحقة حيث: “يُستثنى من الفرض السابق الحروب التي جاءت على شكل فتوحات بطلب من الشعب ونجدته من ظلم الحكم الجائر، أو الحروب الدفاعية التي تؤدي إلى السيطرة على كيان آخر”، وهذا الأمر له شروطه أيضا، ذلك: “إذا كانت الحرب دفاعية وانتصر المدافع عن حريمه ودولته وسقطت الدولة المعادية، فلا يحق للمدافع احتلال أرضها إن كانت هناك معاهدات شرعية بين الدولتين أو الكيانَين”.
وعلى فرض حصول الإحتلال، فإن المحتل تقع عليه مسؤولية حماية ممتلكات البلد وأهله، ولهذا: “إذا ما احتلت قوة أرض الآخر ومارست سلطتها عليهم، يجب على المحتل أن يدير البلاد والعباد بأحسن ما يمكن، ولا يمكنه التخلي عن ذلك تحت أي ظرف من الظروف لأنه مُعتدٍ”، بل: “يجب على المحتل أن ينفّذ القوانين والدساتير التي كانت الأمَّة وافقت عليها إن كانت شرعية وعادلة، ولا يجوز إلغاؤها وإجراء أحكام أخرى إلا إذا كانت عادلة تمامًا”، حتى وإن تحقق هذا الامر فإنه لا يسوغ للمحتل المشروعية، ذلك إنَّ: “الإحتلال لا يعطي المحتل الشرعية في السيادة على البلاد والعباد حتى وإن حكم بعدلٍ ورضيت به شريحة من الأمّة”.
لاشك أن المسائل التي أوردها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في “شريعة الإحتلال”، وهو الكتيب رقم 68 من مجموع نحو ألف كتيب، هي على غاية من الأهمية تحدد مسؤولية المحتل وما يجب أن يفعله تجاه البلد المحتل وشعبه وممتلكاته، وما لا يحق له أن يفعله أو يجريه أو ينفذه، كما تحدد حقوق الشعب المظلوم في التخلص من النظام الظالم، وحقوقه في مقاومة المحتل، وحقوقه وهو تحت قبضة المحتل، وخلاصة الأمر أنَّ الإحتلال لا يأتي إلا بالخراب وشعار الإعمار إنما هو سراب، وتجارب البلدان القريبة والبعيدة خير برهان للقاصي والدان.
3 بغداد وقد انتصف الليل فيها
فوزية شويش السالم الجريدة الكويتية
“بغداد وقد انتصف الليل فيها” عنوان طويل لأول رواية سيرية للكاتبة التونسية “حياة الرايس”، أستاذة فلسفة وخريجة جامعة بغداد 1981.
لها مجاميع قصصية وهي: “أنا وفرنسوا… وجسدي المبعثر على العتبة”، و”ليت هندا”، و”طقوس سرية وجحيم”، وديوان شعر بعنوان “أنثى الريح”، ومسرحيتان بعنوان” أثينا” و”سيدة الأسرار عشتار”.
عنوان الرواية الطويل أخذَته من المذيع في راديو سيارة المرسيدس، التي كانت تقلهم من المطار إلى السكن الداخلي للجامعة في منطقة الوزيرية، ثلاثة شبان، وهي البنت الوحيدة بينهم.
قبل الدخول في التفاصيل، أحب أن أبين وجهة نظري في كتابة الروايات المتولدة من السيرة الذاتية، التي برأيي يمكن أن: 1- تُكتب بشكل مموه ورمزي داخل الشخصيات المكتوبة، بحيث لا تدل على سيرة كاتبها.
2- تُكتب كسيرة واضحة مباشرة بذكر الأسماء والتواريخ وتسلسل الأحداث بحياة الكاتب وذاكرته.
3- تُكتب سيرة مروية لا تعتمد على الزمان والمكان بشكل متسلسل تراتبي واضح، وأن يتم فيها التقطيع مثل الشكل الروائي في الزمن والمكان، ولكن تبقى حقائق السيرة مباشرة وصادقة، كما حدثت بالواقع تماما.
4- وهناك شكل السيرة الذي يعتمد الشكل الروائي بكتابته، من تقنيات وتشظية للزمان وبعثرة للمكان وتخييل للأحداث الحقيقة وغير الحقيقية، وخلق شخصيات وحيوات إضافية، كما يتطلبها السرد.
الحالة الرابعة وحدها هي التي يتحقق فيها العمل بشكله الروائي الكامل، الذي يُطلق عليه مسمى رواية، حتى وإن اشتمل على حقائق سيرية للكاتب، لكنها بهذه الحالة باتت لا تخص الكاتب، لأنها مثلها مثل أي نواة أو بذرة لحكاية أي كائن آخر.
رواية حياة الرايس ينطبق عليها السيرة المروية، أو كما سمى ماركيز روايته السيرية “نعيشها لنرويها”. حياة سيرتها من واقع حياتها في تونس كفتاة من أسرة محافظة، والدها العروبي يكره الاستعمار الفرنسي ومدارسه، فأرسل ابنته لتكمل تعليمها العالي بجامعة بغداد، وهنا تعيش الكاتبة حياة مكثفة بالأحداث وبالوقائع، في زمن الثمانينيات من القرن الماضي، بكل ما كانت عليه مدينة بغداد من تقدم حضاري ورواج ثقافي وعلمي وازدهار فني، قبل الحرب العراقية – الإيرانية، ثم ما حدث بعد قيام الحرب فيها، وبالفعل “حياة الرايس” لها من اسمها حظ كبير، فهي حياة مكتظة بالحياة، تفاصيل التفاصيل، سواء في تونس أو بغداد، كل هذا العالم انطوى بسنوات عمر لا تتجاوز العشرين إلا بقليل، فمعنى هذا أن هناك حيوات أخرى لدى الكاتبة لترويها بفصول قادمة.
رواية تستمد أهميتها من توثيقها لزمن ومكان انمحى، ولم يبق له ذاكرة إلا بين أوراق كتب تروي ذاك الوجود الذي كان، كل أجيال التسعينيات وما بعدها لن يعرفوا ما كانت عليه مدنهم، إلا من الكتابات التي وثقت ماضيهم.
كم كانت تفاصيل الرواية قريبة منا، كل ما ذكرته الكاتبة له علاقة معرفية مع الكويت، التي أيضاً يتكرر ذكرها في الرواية، بحسب الطالبات العربيات اللاتي يعيش أهلهن في الكويت.
ربطتني الرواية بحبل مقارنات بأحداثها القريبة منا، فحدودنا مشتركة، وكذلك الأحداث والوقائع الزمنية كانت مرتبطة بما يحدث في بغداد.
أيضا وجدتني أقارن بين الكويت في السبعينيات والثمانينيات، وبين تونس التي توقعت أنها أكثر انفتاحاً وتقدماً عصرياً عن الكويت، وإذ بي أكتشف من الرواية العكس من ذلك، فالكويت كانت الأكثر انفتاحا وتقدما وازدهارا، وكانت بالفعل عروس الخليج.
وهذا وصف يبين فرق الطباع: “ويحز في نفسك أنك قادم من بلدان، جافة في التعامل الاجتماعي، فنحن في تونس لا نتبادل كلمات الحب والود يومياً، وليست في قاموس حياتنا الاجتماعية، بل نجد صعوبة في التفوه بها حتى في المناسبات. أسلوبنا في الحديث جاف وناشف وجاحد، وربما حاد في كثير من الأحيان إلا ما ندر، نظراً لطبع التونسي العصبي، وضغط الحياة الصعبة، أو هي ترجع إلى أبعد من ذلك، ربما لأجدادنا البربر”.
حياة الرايس كتبت رواية سيرية مهمة وملمة بمعلومات وأحداث ووقائع، كانت حياتها شاهدا عليها في أحلك وأخطر سنوات الشك والتجسس والدسائس والموت “ببلاش”، وكان يمكن ألا تعيشها لترويها: “لحظات واشتعل الجو، كان ذلك أمام المفاعل النووي تماماً، في ذات المكان الذي كنا فيه”.
ذاكرة تسجيلية ثقافية ممتعة، في رواية سيرية حقيقية لعوالم ربما كانت خافية عن الكثيرين.
4 البطولة العربية وشروط المشاركة د. مقبل بن جديع الرياض السعودية
تابعت مباراة الهلال السعودي والنفط العراقي والتي أقيمت في العراق الأسبوع قبل الماضي، ولفت نظري سوء أرضية الملعب التي تصلح لكل شيء إلا للعب مباريات كرة القدم!! وقد ساءني منظر الملعب الذي كان ومازال مليئاً بالبقع لدرجة أن لونها البني تفوق على لون المعشب الأخضر وبفارق كبير!
ووجود ملاعب بهذا الشكل في بعض الدول أمر غير مستغرب، لكن الغرابة كل الغرابة تكمن في موافقة اللجنة المنظمة للبطولة العربية على السماح بلعب مباريات البطولة في هذا الملعب!! مما أثار التساؤلات التالية؛ ألم تخرج لجنة للكشف على هذا الملعب؟ ألم يكن هناك تقرير كتب عن حالة الملعب؟ من أجاز هذا الملعب؟ ألم يحتج الهلال على هذا الملعب؟ هل يعقل أن يحدث هذا الشيء في بطولة تحظى باهتمام كبير ومباشر من قبل معالي رئيس الاتحاد العربي لكرة القدم، وتحمل اسماً غالياً على الجميع (هو الشيخ زايد رحمه الله)؟
لا شك أن البطولة مهمة وغالية وتحظى بدعم كبير والدليل أن البطل الفائز بالبطولة سيحصل على ستة ملايين دولار وهذا مؤشر كبير وقوي على قوة وأهمية البطولة العربية، لكن بعد مشاهدة بعض الملاعب تدرك أن البطولة مازال ينقصها العنصر الأهم وهو عنصر التسويق الذي للأسف اختزله المنظمون في الترويج للبطولة عبر الإعلانات وغيرها من وسائل الترويج، في وقت نسوا أو تناسوا أهم عنصر من عناصر التسويق وهو المنتج، فالمنتج للأسف به عناصر ضعف واضحة كما هو حال ملعب المباراة الذي تحدثنا عنه في بداية المقال.
وإذا أرادت اللجنة المنظمة أن تقوي من منتجها، عليها أن تضع معايير عالية وشروطاً صارمة تطبق على الجميع بلا استثناء ولا تمييز، لضمان قوة المنتج وتميّزه، فالفريق غير الجاهز على صعيد الاستضافة في ملعب مكتمل الشروط ينبغي أن يبعد دون مجاملة، وقتها سيكون للمنتج شكلاً واضحاً وقيمة أكبر وستكون المشاركة في البطولة مطمعاً لجميع الفرق ومع مرور الوقت سترتفع القيمة أكثر وأكثر.