ليست الوعود الأميركية خطابًا إنشائيًا ولا التزامات أخلاقية قابلة للمساومة، بل أدوات سياسة تُدار بميزان الهيبة والمصلحة. الولايات المتحدة تنفّذ وعودها حين تتعلّق بأمنها القومي، وبمصداقية الردع، وبحماية النظام الدولي الذي تقوده، وبمعاقبة من يهدد مصالحها المباشرة. قد تؤجّل التنفيذ حين ترى أن التوقيت لا يخدم الغاية، وقد تغيّر الأداة حين يبقى الهدف ثابتًا، لكنها نادرًا ما تتراجع عن وعدٍ قُطع تجاه خصمٍ مسّ مصالحها أو ساحةٍ قرّرت إدخالها في مسار إعادة الهندسة.
في هذا السياق، جاء تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم للصحفيين ليكمل الصورة بلهجة لا تحتمل التأويل: الفصائل المسلحة في العراق ستسلّم سلاحها، وإذا تأخرت فسننزعه بالقوة. ليست هذه زلّة لسان ولا تصعيدًا عاطفيًا، بل تحديد لسقف القرار ورسالة مباشرة بأن ملف السلاح خرج من دائرة النقاش السياسي إلى حيّز الفعل التنفيذي. هنا يتضح أن الوعود الأميركية في هذا الملف تقع في خانة وجوب التنفيذ لا التأجيل، مع قابلية تغيير الوسائل دون تغيير الغاية.
غير أن التعقيد الحقيقي لا يكمن في الموقف الأميركي وحده، بل في الدور الإيراني المضاد. فإيران تدرك أن تسليم الفصائل الموالية لها في العراق سلاحها يعني فقدان آخر أوراق الضغط الفعّالة في خاصرة واشنطن الإقليمية. لذلك تمارس طهران ضغطًا متواصلًا على الساحة العراقية—سياسيًا وأمنيًا وإعلاميًا—لدفعها إلى التباطؤ والامتناع والمراوغة، لا دفاعًا عن العراق، بل بهدف إرباك وتأخير وإشغال الولايات المتحدة واستنزافها زمنيًا، على أمل تغيير المعادلة أو تبدّل الأولويات.
من هنا يجب توضيح المعادلة بجلاء: الحرب الأميركية ليست مع العراق، ولا تستهدف الدولة العراقية بذاتها، بل هي مواجهة مع عراق يعمل لإيران أو يُدار بما يخدم مشروعها الإقليمي. كلما طال أمد التسويف، وكلما تعقّدت شروط «تحقّق النوايا»، ازداد خطر انزلاق العراق إلى موقع الطرف المُعطِّل، لا الضحية. وهذا بالضبط ما تراهن عليه طهران: تحويل العراق إلى ساحة اشتباك مؤجَّل تُستنزَف فيها واشنطن، ويُستنزَف معها العراق.
تعود الولايات المتحدة اليوم إلى تفعيل منطقها بصيغة جديدة: نزع السلاح مقرونًا بإثبات النوايا، ثم البناء على عدم تحقّق هذا الإثبات لفرض شروط إضافية. هذا المنهج لم يعد افتراضًا نظريًا، بل بات واضحًا في الخطاب الأميركي العلني، وآخر تجلياته تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى العراق حول «توجّه بعض الجماعات المسلحة لنزع السلاح».
لغة التصريحات كاشفة بقدر ما هي لافتة. فالإطار التلطيفي الذي ينسب الخطوة إلى دوافع داخلية وأخلاقية سرعان ما يُستكمل بسلسلة شروط مضافة: أن يكون النزع شاملًا، غير قابل للتراجع، ضمن إطار وطني ملزم، يتضمن التفكيك الكامل، والانتقال المنظّم إلى الحياة المدنية. هنا تتبدّى قفزة الشروط من إجراء محدد إلى عملية مفتوحة، يُعاد فيها تعريف المعيار باستمرار، ويُربط الإغلاق بتحقّق شروط لاحقة لا سقف زمنيًا لها.
الأخطر أن الخطاب لا يقف عند السلاح، بل ينتقل إلى إعادة تعريف المشروعية السياسية والأمنية، بما يجعل نزع السلاح بوابة لإعادة هندسة المجال العام برمّته. ويُستكمل ذلك بتقسيم ثنائي حاد: إمّا سيادة واستقرار، وإمّا فوضى وتفكك. هكذا تُبنى حجّة الإخضاع عبر إغلاق مساحات المناورة.
ضمن هذا الإطار، تعود مسألة ملاحقة النوايا: فحتى التسليم لا يُغلق الملف، لأن معيار «عدم التراجع» يفتح باب الأسئلة غير القابلة للإثبات حول المستقبل. قانونيًا، القاعدة واضحة: الإثبات لا يَرِد على العدم ولا على النيات. سياسيًا، يتحول هذا العجز إلى أداة اتهام دائمة تُراكم الشروط بدل إغلاقها.
أبعد من العراق، تُفهم هذه الاشتراطات ضمن معادلة الاستنزاف الإقليمي: تضييق على أدوات النفوذ في العراق، وتعريتها، ثم استخدام عدم اكتمال الامتثال لتصعيد الضغط على إيران. الهدف ليس نزع سلاح هنا أو هناك، بل كسر العمق الإيراني عبر إغلاق البوابة العراقية، وإبقاء الطرفين في حالة إنهاك متبادل إلى أن يرضخا لإعادة تعريف قواعد اللعبة.
الخلاصة أن ما يجري ليس نقاشًا تقنيًا حول نزع السلاح، بل مواجهة على وظيفة الدولة واتجاهها. إلى أي حد ستستنزف واشنطن العراق وإيران؟ حتى النقطة التي يصبح فيها القبول بإعادة هندسة المشهد—سياسيًا وأمنيًا وإقليميًا—الخيار الأقل كلفة. هنا تتضح ملامح المشروع: إخضاع بلا حرب شاملة، وإنهاك بلا نهاية معلنة.
