وصول الكولونيل الأميركية ستيفانا باغلي إلى بغداد لتسلّم منصب مديرة مكتب التعاون الأمني الأميركي لا يمكن قراءته كخطوة إدارية عادية أو تغيير بروتوكولي في طاقم السفارة. التوقيت، والصفة، والمهام المعلنة، وربطها مباشرة بمراقبة تنفيذ بنود موازنة وزارة الدفاع الأميركية لعام 2026 الخاصة بالعراق، كلها مؤشرات على انتقال واشنطن إلى مرحلة أكثر مباشرة في إدارة الملف الأمني العراقي.
نحن أمام تحوّل في مقاربة الولايات المتحدة، من الاكتفاء بالتنسيق والدعم، إلى الإشراف التنفيذي والرقابة السياسية–الأمنية. فمكتب التعاون الأمني، في مثل هذه الحالات، لا يعمل بوصفه قناة مساعدة تقنية، بل كأداة ضبط، تُفعَّل عندما ترى واشنطن أن الدولة المعنية لم تعد قادرة وحدها على ضمان وحدة القرار الأمني أو حماية استثمارات الاستقرار السابقة.
المعطيات المعلنة حول مهام باغلي ليست تفصيلًا عابرًا. الحديث الصريح عن كبح الجماعات المسلحة خارج إطار الدولة، وتعزيز سلطة القائد العام للقوات المسلحة، ومحاسبة كل من يهدد الأمن خارج القانون، يعكس قناعة أميركية بأن المشكلة لم تعد في نقص الإمكانات، بل في اختلال بنيوي داخل منظومة الحكم والسيادة.
الولايات المتحدة، في هذه المرحلة، لا تتحدث بلغة النصائح، بل بلغة الاشتراطات المرتبطة بالتمويل والتسليح والتعاون. فاستمرار الجماعات المسلحة خارج القرار الرسمي لم يعد يُنظر إليه كملف سياسي داخلي، بل كتهديد مباشر للاستقرار الذي تريد واشنطن تثبيته في العراق ضمن حساباتها الإقليمية الأوسع.
أما التركيز على تعزيز سلطة القائد العام للقوات المسلحة، فيحمل دلالتين متوازيتين. الأولى اعتراف ضمني بأن هذه السلطة منقوصة فعليًا، وأن القرار الأمني العراقي ما زال مجزأً ومخترقًا. والثانية وضع الحكومة العراقية أمام اختبار حقيقي: هل تريد فعلًا استعادة مركزية القرار، أم الاكتفاء باستخدام الغطاء الأميركي لاحتواء الضغوط دون تغيير جوهري؟
الأخطر في هذه البنود هو ما يتعلق بالمحاسبة خارج القانون. فهنا ينتقل الخطاب من مستوى التفاهمات السياسية إلى منطق المسؤولية الفردية، بما يفتح الباب لاحقًا أمام أدوات أشد قسوة: من العقوبات، إلى تجفيف الموارد، وربما التصنيفات. وهي رسالة واضحة بأن زمن الاحتماء بالخطاب والشعارات لم يعد كافيًا لتجنّب العواقب.
من هنا يبرز السؤال الجوهري: هل نحن أمام إعادة ضبط للملف الأمني، أم اختبار جديد لهيبة الدولة العراقية؟
القراءة الأقرب إلى المنطق الأميركي تشير إلى أن واشنطن تسعى لإعادة ضبط المشهد، عبر دولة واحدة، وقرار أمني مركزي، وبيئة مستقرة تسمح لها بإدارة مصالحها دون عراق متفلّت. في هذا السيناريو، يُمنح العراق هامشًا أخيرًا لترتيب بيته الداخلي، وإعادة تعريف العلاقة مع الفصائل، إما عبر اندماج كامل في الدولة، أو إقصاء تدريجي من معادلة القوة.
لكن الاحتمال الأخطر يتمثل في أن تكون هذه الخطوة اختبارًا صريحًا لهيبة الدولة. اختبارًا يقول، ضمنًا، إن عجز الدولة عن فرض سلطتها بنفسها سيقود إلى فرض هذه السلطة بأدوات خارجية، ولو بصيغة ناعمة في الشكل، صارمة في النتائج. وعندها لا تعود الولايات المتحدة شريك دعم، بل مدير أزمة، ويعود العراق عمليًا إلى موقع “الملف المفتوح”.
ما يجري اليوم ليس تفصيلًا تقنيًا، بل لحظة مفصلية في مسار الدولة العراقية. إما استعادة المعنى الحقيقي للدولة والسيادة، أو إعادة إنتاج معادلة ما بعد 2003 بثوب أقل صخبًا وأكثر إحكامًا. السؤال لم يعد ماذا تريد واشنطن، فهذا بات واضحًا، بل ماذا تريد الدولة العراقية أن تكون، وما إن كانت مستعدة لتحمّل كلفة القرار، قبل أن تُفرض عليها كلفة البديل.
