لم تكن فتنة خلق القرآن، في جوهرها، صدامًا بين إيمان وكفر، ولا مواجهة بين عقل ونقل، كما يُقدَّم أحيانًا في السرديات المختزلة، بل كانت لحظة تاريخية كاشفة لآلية أعمق وأخطر: آلية تحوّل الفكرة التجريدية، حين تتبنّاها السلطة، من نقاش علمي محدود إلى فتنة عامة ذات آثار سياسية واجتماعية ممتدة. ومن هنا تكتسب هذه الواقعة أهميتها، لا بوصفها حادثة عقدية فحسب، بل كنموذج تفسيري يتكرر في تاريخ الأفكار، قديمًا وحديثًا.
وُلدت فكرة “خلق القرآن” في سياقها الطبيعي، داخل بيئة حضرية جدلية في البصرة وبغداد، حيث التعدد الثقافي، وازدهار الترجمة، واشتداد المناظرات مع الفلاسفة والنصارى. وكان الدافع العقدي لدى المعتزلة مفهومًا داخل منظومتهم: تنزيه الله، والخوف من القول بتعدد القِدماء، والرد على تصورات لاهوتية خارجية. بهذا المعنى، كانت الفكرة دفاعية، نخبوية، تجريدية، لا تمسّ حياة العامة، ولا عباداتهم، ولا فقههم العملي.
وهنا تبرز قاعدة معرفية لا بد من تثبيتها: التجريد في ذاته ليس عيبًا، بل شرط من شروط المعرفة النظرية. كل علم يبدأ بتجريد، وكل فلسفة تفصل المفهوم عن الواقع لفهمه. غير أن الخطر لا يبدأ مع التجريد، بل مع نقل السؤال المجرّد من بيئته العلمية الطبيعية إلى المجال العام، ثم تحويله إلى معيار طاعة وولاء سياسي. عند هذه النقطة، يتحوّل السؤال من أداة فهم إلى أداة حكم، ومن نقاش علمي إلى امتحان قسري.
المنعطف الحاسم في فتنة خلق القرآن لم يكن في الفكرة نفسها، بل في لحظة تبنّيها من قبل رأس السلطة. حين تحوّل رأي كلامي إلى “عقيدة دولة”، تغيّرت طبيعة المسألة جذريًا. لم يعد السؤال: كيف نفهم كلام الله؟ بل صار: ماذا تقول الدولة؟ وهل تلتزم؟ وهنا دخلت المحنة طورها العنيف، لا لأن الفكرة ازدادت خطورة عقدية، بل لأن السلطة قررت أن تجعلها أداة امتحان وقهر.
في تلك اللحظة، وجد العلماء أنفسهم أمام خيار أخلاقي قاسٍ: الامتثال، أو الصمت، أو الصبر على الأذى. فكان السجن، والجلد، والعزل، والموت في الطريق، كما حدث مع محمد بن نوح ونعيم بن حماد، وكما ذاق الإمام أحمد بن حنبل ألوانًا من العذاب جعلته رمزًا تاريخيًا، لا لأنه الوحيد، بل لأنه ثبت حين انهار غيره. وهنا تتكشف حقيقة إنسانية دقيقة: الفتن لا تختبر صحة الأفكار فقط، بل تختبر حدود البشر وقدرتهم على الاحتمال، ولا يجوز تحويل الثبات تحت السوط إلى معيار يُدان به من ضعف تحت الإكراه.
غير أن الدليل الأبلغ في هذه القصة لا يكمن في شدة العذاب، بل في كيفية انتهائه. فحين جاء المتوكل، لم يُصدر بيانًا عقديًا، ولم يُفنّد حجج المعتزلة، ولم يُلغِ كتبهم، بل اكتفى بسحب يد الدولة من المسألة. والنتيجة كانت فورية: انطفأت الفتنة. لم تُحسم علميًا، ولم يُجمع الناس على رأي واحد، لكن العنف توقّف، والمحنة انتهت، وعاد الخلاف إلى حجمه الطبيعي داخل دوائر العلم. وهذه الواقعة وحدها كافية للقول إن الفتنة لم تكن من طبيعة الفكرة، بل من طبيعة تحالفها مع السلطة.
وفي هذا الموضع، يلزم تنبيه منهجي صريح:
هذا المقال لا يناقش الحكم العقدي لمسألة خلق القرآن، ولا يُساوي بين الأقوال فيها، ولا يعلّق القول بالحق أو الباطل. فالقرآن عند أهل السنة والجماعة كلام الله غير مخلوق، وهذا أصل عقدي مستقر. وإنما ينصرف هذا التحليل إلى دراسة التحوّل التاريخي والسياسي للخلاف العقدي حين تتبنّاه السلطة وتفرضه، فيغدو من نقاش علمي مشروع إلى فتنة عامة، وهو بحث في السياسة الشرعية وأخلاقيات الحكم وإدارة الاختلاف، لا في تقرير أصول الاعتقاد.
وهنا نصل إلى المعادِل الحاسم الذي يُسقط اعتراض المتربصين من جذوره، حين يقولون: «وهل هناك أخطر من فكرة خلق القرآن؟»
والجواب العلمي، المدعوم بالتاريخ، هو: نعم، وُجدت أفكار أخطر عقديًا، لكنها لم تتحوّل إلى فتن عامة لأنها لم تُتَّخذ عقيدة دولة، ولم يُمتحن الناس بها.
ففي تاريخ الإسلام، وُجدت أقوال تمسّ صميم التوحيد والنبوة والعدل الإلهي أكثر من مسألة خلق القرآن: كإنكار الصفات الإلهية أو نفيها نفيًا جذريًا، أو القول بالجبر المطلق الذي يُفرغ التكليف من معناه، أو الغلو في الأئمة ورفعهم إلى مقامات فوق البشر، أو الفلسفات الباطنية التي أسقطت ظواهر الشريعة، أو القول بقِدم العالم بما يناقض الخلق والبعث. هذه الأقوال أخطر عقديًا من حيث الأثر النظري، ومع ذلك لم تتحوّل إلى محن عامة ولا فتن شاملة، لأنها بقيت في نطاق الجدل العلمي أو الجماعات المحدودة، ولم تُفرض بقوة الدولة، ولم تُربط بالسجن والسوط.
هذا يثبت قاعدة تاريخية صارمة: خطورة الفكرة عقديًا لا تكفي وحدها لصناعة الفتنة. الشرط الحاسم هو تبنّي السلطة للفكرة وتحويلها إلى موقف إلزامي. ولو كانت الخطورة العقدية وحدها كافية، لتحوّل تاريخ الإسلام إلى سلسلة لا تنتهي من الحروب الأهلية حول كل خلاف كلامي، وهو ما لم يحدث.
من هنا، يصبح اختزال الفتن في “الأفكار السيئة” وحدها تبسيطًا مضلِّلًا. نعم، الأفكار السيئة – كالعنصرية والطائفية – تكون أشد تدميرًا حين تتبنّاها السلطة، لكن تجربة خلق القرآن تُثبت أن حتى الأفكار الحسنة النية أو التجريدية، إذا فُرضت قسرًا، يمكن أن تتحوّل إلى أزمات مدمّرة. الخطر الحقيقي لا يكمن دائمًا في سوء الفكرة، بل في تسليحها بالسلطة.
هذا الدرس التاريخي يجد صداه بوضوح في التجربة العراقية بعد عام 2003. فالطائفية لم تكن حربًا أهلية محتومة، لكنها تحوّلت إلى صراع دموي واسع حين تبنّتها السلطة بوصفها منطق حكم، وسردية أمن، وأداة توزيع نفوذ في زمن إبراهيم الجعفري ثم نوري المالكي. ومع تغيّر نمط التبنّي الرسمي، انحسر العنف، دون أن تختفي آثاره بالكامل، تمامًا كما لم تختفِ آثار محنة خلق القرآن فور انتهائها. فالفتن تترك ندوبًا أطول عمرًا من لحظة اشتعالها.
وإذا كان الماضي قد شهد خليفة يتبنّى فكرة، فإن عالم اليوم يشهد ما هو أخطر: تحالف الفكرة مع السلطة ومع الإعلام ومع أدوات الاتصال والتأويل والتضليل. اليوم لا تحتاج الفكرة إلى مرسوم فقط، بل إلى منصة، وخوارزمية، وصورة، ومقطع، وسردية عاطفية تُضخّمها وتعمّمها بسرعة غير مسبوقة. ولهذا تبدو الفتن الحديثة أكثر اتساعًا وأطول أثرًا، لأنها لا تُدار فقط من قصر الحكم، بل من فضاء إعلامي مفتوح يعيد إنتاجها بلا توقف.
الخلاصة التي يقدّمها هذا النموذج التاريخي ليست دعوة إلى كراهية الأفكار، ولا إلى تجريم الأسئلة، ولا إلى شيطنة العقل، بل إلى التمييز الصارم بين المعرفة والسلطة. الأفكار بطبيعتها تعيش وتموت في فضاء النقاش، أما الفتن فتعيش بقدر ما تعيش السلطة داخلها. وحين تنسحب السلطة، يعود الخلاف إلى حجمه الطبيعي، مهما كان عميقًا.
بهذا المعنى، تبقى فتنة خلق القرآن درسًا مفتوحًا في العقيدة والسياسة والإعلام وأخلاقيات الحكم، ورسالة تقول بوضوح: ليست أخطر الأفكار هي أخطر الفتن، بل أخطر الفتن هي الأفكار حين تتحالف مع السلطة.
