أصبحت وتيرة الحياة اليومية بشكل عام سريعة. ينطوي الزمن فيها طي فراش الصباح؛ كأنها مرتبكة بها وبنا. بدورتها التي خرجت عن اعتياديتها. فالزمن الاجتماعي أسرع مما كان قبل عقدين مثلاً أو ثلاثة. والثقافة الحياتية دخلت عليها تكنولوجيا الحداثة في الميديا المنوعة، وصار لزاماً على الجميع مماشاة تطورات الحداثة التكنولوجية في مساراتها الجديدة والمخيفة أيضاً. واعتبار الذكاء الاصطناعي نتيجة كبيرة من نتائج تطور الإلكترونيات الذهبية في عالم يشهد ثورة جديدة ذات أهمية قصوى في المجالات الاقتصادية والعسكرية والثقافية العامة.
فهل الزمن يجري بسرعة ويسبق الخيال الفائق في معطياته الافتراضية؟
(2)
يقول الكثيرون ممن فوجئوا بأن الحياة أضحت أسرع مما نتصور، بأن الأعمار تستغرق الزمن، والعمل بطبيعته موصول بهذه الفكرة التي جاءت بها التكنولوجيا الغربية. والمحطات الاجتماعية الحميدة تقلّصت بعد إن كانت وفيرة. بالرغم من أن الدول وفّرت للطقوس الاجتماعية الكثير من الرفاهية الميدانية في عموم مفاصلها. لكن يبدو أن اللغة التكنولوجية الجديدة ليست لغة حياة اجتماعية معاصرة في الأحوال كلها. والقديم من التراث هو الأكثر طواعية في تشكيل سرديات التعامل اليومي. فالثقافة الاجتماعية العامة لا تريد أن تنحسر كلياً، بالرغم من زحف تكنولوجيا الاتصالات اليومية، كالتقاليد والطقوس الشعبية والأثر الفولكلوري القريب إلى روح البشرية. والروح القديمة التي تقاوم كثيراً حتى لا تنجرف مع هذه اللغة التي تعتمد الرقمنة بدلاً من الاحساس والمشاعر. والذكاء الصناعي بديلاً عن الذكاء العقلي الذي أنتج مثل هذا الذكاء البرمجي الذي لا مفر من العمل به في الوظيفة والبيت والمدرسة والجامعة، لقتل الفراغ..!
(3)
نستنج بأن المعاصرة يستحوذ على معظم مرافقها الفراغ اليومي. لا نقول بأن الروبوت الآلي المبرمج حلّ في الوظائف وتشغيل الآلة وقضى على جموع الوظائف البشرية ، فهذا ليس حقيقياً تماماً، بل هو تبدّل الزمن ومتغيراته الإكراهية في سرعته غير الطبيعية التي توازت مع سرعة التطور الإلكتروني، وأعقبت جائحة كورونا تماماً، حينما قرأنا وقتها بأن العالم سيتغير بعدها، وأن أمراضاً جديدة ستحل في البشرية وتتوسع. فقد لا نعي جيداً صيرورة ما سيأتي ولا أهميته العلمية والطبية والتكنولوجية. لكن هذا ما حدث فعلاً: سرعة في جريان الزمن. أمراض جديدة. فراغ كبير لم تعد الوظائف ولا الأعمال الحرة القضاء على هذه الفكرة الوجودية. وعندما ننظر إلى الفراغ الاجتماعي كناتج من كل هذا، سنجد فيه إزاحة ثقافية – مجتمعية- شعبية- وإحلال ثقافة جديدة كنا نأمل أن تقرر مصائر العزلة، والفردية في زمن الإلكترونيات والذكاء الصناعي المتوسع في ثقافتنا العامة. لهذا يكون الزمن خاطفاً وسريعاً ومؤلماً أيضاً؛ بسبب سرعة الحياة “الذكية” التي جاءت الآلة الإلكترونية بها. كأنه اللا جدوى من فعل أي شيء في زمن متحرك لا يريد للزمنية أن تتوقف قليلاً كما في الماضي. فلا الهندسة قادرة على أن تُحيّد الزمن بالفراغات التي تعالجها، ولا الفيزياء التي تتدخل في الفراغ أن تحل المشكلة الزمنية التي نتسارع معها في عصر يمضي إلى أهداف كثيرة. ولا أمراض العصر الإلكتروني التي بدأت تظهر منذ نهاية عام 2019 بظهور كورونا الفتّاكة، وأوجدت الكثير من الفراغ الطبي العالمي قبل أن تتسارع الدول لعمل لقاحات قيل بأن نتائجها السلبية ستظهر مستقبلاً. لهذا يبدو بأن ظهور مرض التوحد في العالم أحد أسباب سرعة الزمن وسرعة التحضر العالمي في الإلكترونيات الجبّارة. أو أن احساسنا الصحيح بجريانه المتواصل في يومياتنا أنتج مثل تلك الأمراض الغريبة، ونقرأ في أدبيات صحية بأن “الموبايل” أحد أسباب هذا المرض الغريب. وأن ” الأمهات الجدد” يأخذن جُرعاً طبية أثناء الحمل أكثر من اللازم، أو جرعاً من دون استشارات طبية. لكن الفراغ الصحي أضحى ماثلاً بين الشعوب في معالجة مثل هذا المرض الذي أعقب كورونا بوضوح. بينما مشتقاته الخانقة تظهر وتختفي.
(4)
القواميس العربية تفسر معنى الفراغ على أنه الخلو.. التخلي.. الإخلاء.. الإفراغ.. الفراغ.. إضافة إلى معانٍ أخرى هي نقيضة هذا التوضيح. والرياضيات الإلكترونية مشغولة بالرقمنة الجديدة في اتساعاتها الوظيفية العالمية، لكن نجد بين اللغة والفيزياء والرياضيات والزمن والطب، يتحول فيها الفراغ إلى مصطلحات وتعريفات كثيرة، وتكون فيه حالة من الحالات الإنسانية التي تدخل في أحياز مختبرية ليس الفرد اليائس به حاجة أن يعرفها. لأنها شرائح نفسية في العادة؛ فالفيزياء تشير إلى مساحة خالية من المادة، والطب النفسي يبحث عن منفذ لعلاج الفراغ والخلو والإخلاء السيكولوجي للبشرية ويكرس طاقاته الإيجابية في سبيل حلول ممكنة. والكون العملاق لا أحد يتدخل في ملء فراغاته المعروفة بين المجرات والجسيمات القمرية والشمسية والطاقوية. والفلسفة تتناقض في فهم الفراغ الكوني والنفسي، ولم تستطع اللحاق بعلمية القرن الحادي والعشرين، بل بقيت في الميتافيزيقيا القديمة منذ عهد ديمقريطس. حتى الفلسفة الشرقية كانت قد دارت حول الفراغ ولم تستطع إيجاد ماهيته. وفي الفلسفات البوذية والطاوية والفكر الغربي الذي أعقب عصر الاغريق ظل يراوح بين الوجودية والعدمية. لذا فأن “الفراغ الاجتماعي” على وجه التحديد هو الذي تمخض وهيمن على شرائح واسعة من البشرية، بالرغم من وجود أشكال كثيرة من مسلّيات اجتماعية جاءت بها تكنولوجيا الاتصالات بمختلف أنواعها. لكن الزمن الذي يأتي بالفراغ الاجتماعي هو زمن خالص من العزلة والفردية وفيها، حتى حرية التصرف التي يكون عليها الإنسان محكومة بشرطها الفيزيائي والنفسي والجسدي والروحي والاختباري الذاتي وحتى المرضي منها. لذا نرى العزلة الشخصية في أحد مضامينها تجمع تلك العناصر في روح الجسد لا في الجسد حسب، فهذا الأخير منظومة متكافلة ومتكاملة من الإحساس والوعي انما الروح المخفية فيه. وإن الذكاء الاصطناعي ؛ كمشتق من مشتقات الإلكترونيات؛ غير قادر على “فهم” روحية الإنسان المتشبث بماضيه وتراثه وفولكلوره الشعبي والشخصي. ولا يمكن له أن يُسعف البشرية إلا بالمعلومات المتاحة فيه. ولا يمكن أن يكون بديلاً عن طبيب أو محامٍ أو أستاذ جامعي. أو معلم. لا يمكن أن يكوّن أبجدية حروفية جديدة، أو جملة من عندياته لا علاقة لها بالتلقين الإلكتروني. أو يعلو على ما يفكر الإنسان به. لذلك لا يحتاج الإنسان العادي إلى تبنّي مصطلحات تشير إلى عزلته الشخصية، وإلى تحليلات سيكولوجية تقرر أسبابها، ولا مضادات كآبة تخفف عنه وطأة العزلة. فالترفيهيات حالة طبيعية والطقوس والعبادات والتمردات ما تزال تملاً من تلك الفراغات اليومية التي أشرنا اليها. لكن في مزاحمة الحياة الجديدة ستبدو تلك الحالات فائضة عن حاجة المرء. وربما تُعد هي الفراغ الطوعي الذي يمارسه الإنسان حتى يملأ فراغ الحياة من حوله. وهذه قد نعدّها من أسباب العزلة غير المرئية، على عكس ما ينصح به علم النفس من تفعيل مضامينها والاندماج في الحياة.
(5)
الإزاحة عن الواقع هي الفراغ.
نعني الواقع بكل إشكالياته النفسية- السطحية – الهامشية- الجوهرية. الفراغ العاطفي نقص في الكينونة الإنسانية. الفراغ الفلكي هو أن تكون السماء مجردة من عناصرها الأساسية من النجوم والأفلاك. الفراغ الفيزيائي يخلو من عناصره المادية. الفراغ المعماري هو شيء افتراضي إلى حد تقريبي يحدده ما يحيط به. لنفهم من هذه الفراغات بأنها أمكنة توزعت في الكون. الفراغ هو مكان أيضاً، لكنه فراغ. بلا مادة. حتى وإن كان هناك هواء يشغل جزءاً منه. أما فراغ الفلسفة فهو حلقة دائرية تدور حول الوجود بأكمله ولا تصل إلى نتيجة منذ أرسطو والفلسفة اليونانية التي قالت إن الفراغ ” لم يكن له وجود” وافترضت ” إن الكون كان يتألف من ذرات تتحرك عبر الفراغ.. ” بينما زعم أرسطو أن الفراغ لا يمكن أن ينوجد لأنه سيناقض القوانين الطبيعية التي تحكم الحركة والتغير، في حين أقر الفلاسفة الرواقيون: لا يحتوي العالم فضاء فارغًا داخله، بل يشكل وحدة واحدة متكاملة، إلا أن الفراغ الفيزيائي واللاهوتي والفلسفي سيشغلنا من دون نهاية أكيدة له في العصر الوسيط وعصر النهضة وتطور الفيزياء الحديثة وما نظرت اليه التاوية والبوذية والهندوسية وفلسفات الشرق القديمة منها والحديثة.
(6)
الفيزياء تكرر بأن الفراغ مكان لكنه فراغ بلا مادة تشغل حيزه.
المكان الاجتماعي هو أيضاً فراغ إن لم تشغل وجوده ثقافة اجتماعية. فهي مادة، حتى لو لم تكن ذات صلة كونية- فيزيائية، لكنها مادة موروثة أو مبتكرة، أو صيرورة إنسانية تتوسع فيها ذائقة الشعوب والدول وتبني الكثير مما تراه مناسباً لوجودها في أي ظرف؛ لا سيما في العصر الحديث الذي جاء بالكثير من الإلكترونيات المتعاضدة مع الوجود اليومي العالمي. ومع هذا فأن البشرية ما تزال تعاني من ظاهرة الفراغ.. لاسيما الفراغ الثقافي الشامل.
