تبدو أيّام «ملتقى الدوحة» كأنّها تُنتزع من رزنامة الزمن لتُضاف إلى رزنامة الذاكرة؛ أيامًا تُقاس لا بعدد ساعاتها بل بعدد الوجوه التي عبرت ممرّاتها، والحوارات التي اشتبكت فيها خرائط السياسة باقتصاد العالم وقلق الإنسان العربي.

من ملتقى الساسة إلى وجع غزة: شهادات من قلب الحوار العربي
ياس خضير البياتي
في قلب الدوحة، حيث تتجاور الأبراج الزجاجية مع أسئلة المستقبل، كان الملتقى فضاءً تتقاطع فيه خطوات الرؤساء والوزراء مع أعلام الفكر والاقتصاد والإعلام، في مشهد يُشبه خريطة مصغّرة لعالم مضطرب يبحث عن طاولة واحدة يتحدّث عندها العقل بدل ضجيج السلاح
هناك، تحت أضواء القاعات الفخمة وشاشاتها العملاقة، كانت أحاديث الكبار تنسج خيوطها بين كواليس الجلسات أكثر مما تنسجها على المنصّات الرسمية؛ مصافحة عابرة تتحوّل إلى جسر تفاهم، ونظرة متبادلة تختصر تاريخًا من الخلافات والتحالفات.
يجلس إلى جوارك رئيس حكومة سابق، وعلى بعد مقعد وزير خارجية، وفي الممر المقابل خبير اقتصادي عالمي يراجع أرقامه على عجل قبل أن يصعد إلى منبر النقاش حول أزمة الطاقة أو تحولات الأسواق، بينما يتهيأ الإعلاميون لالتقاط جملة قد تصبح عنوانًا لعصر جديد.
في ذلك الملتقى، كانت الأزمات العربية ضيفًا دائمًا على كل مائدة حوار؛ فلسطين تدخل القاعة قبل أصحاب البطاقات، وسوريا واليمن ولبنان والسودان والعراق يُذكرون بأسمائهم أو بإشارات موجعة إلى اللاجئين، والبطالة، وانكسار الدولة الوطنية.
في أروقة الملتقى، كانت سورية حاضرة لا كعنوان جلسة فحسب، بل كوجع مفتوح على طاولة التاريخ والجغرافيا معًا؛ هناك يستعيد الشرع حكاية بلد أنهكته الحروب والتدخّلات، ويتحدّث عن سماء تُخترق بغارات لا تنتهي، وحدود مثقلة بالأسلاك أكثر مما هي مثقلة بالورود.
على مقربة من ذلك، كان رئيس وزراء لبنان يلمّح إلى وطنٍ يترنّح تحت أثقال الانهيار المالي والسياسي، يبحث عن شرايين دعم جديدة، فيلتقي الخطاب اللبناني مع السوري عند مفترق واحد: حاجة المشرق إلى نفَس عربي يعيد إليه توازنه وحقّه في الحياة الكريمة.
وفي زاوية أخرى من المشهد، كان صوت العراق حاضرًا عبر وزير خارجيته، وهو يوازن بين جراح الداخل وتشابكات الإقليم؛ حديث عن إعادة بناء الدولة، واستعادة دور بغداد الجيوسياسي، وضرورات ألّا يتحوّل العراق من جديد إلى ساحة صراعات الآخرين.
كان الحوار مع الأشقاء ومع القوى الدولية يشي برغبة صادقة في أن يعود الرافدان لاعبًا لا ملعبًا، وأن تستعيد العواصم العربية الكبرى أدوارها في رسم خرائط الحل بدل الاكتفاء بقراءة بيانات نظرية
غير أن مركز الثقل في تلك الأيام كلّها كان أحاديث رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية في قطر؛ رجلٌ بدا كأنه يمسك بخيوط أزمات المنطقة بين يديه، من الملف السوري إلى المأساة المفتوحة في غزة.
كان حديثه عن المفاوضات بين غزة وإسرائيل يجيء هادئًا في نبرته، عميقًا في مضمونه، موضوعيًا في توصيفه لمسار التهدئة، حاسمًا في تأكيده أن ما يجري ليس وقفًا نهائيًا لإطلاق النار بل هدنة هشّة لا تكتمل من دون انسحاب الاحتلال وضمان حقوق الفلسطينيين.
قدّم رؤيته بلغة سياسية بليغة وقانونية دقيقة وروحٍ عربية واضحة، فجمع بين برودة الدبلوماسية وحرارة الضمير، وجعل من الدوحة منصة تُصغي إليها العواصم حين تريد أن تفهم ما وراء الكواليس من أسرار المباحثات ومساراتها المتشابكة
على مقربة من ذلك، كان السؤال يتكرّر في ثنايا الكلمات: كيف يمكن لعالم يتحدّث عن التنمية المستدامة والعدالة والحوكمة أن يغضّ الطرف عن مدن عربية تُقصف، وعن شعوب تُحاصَر، وعن أجيال تفقد حقها البسيط في الأمان؟
ومع ذلك، لم يكن الملتقى مرثية لعالم ينهار، بل محاولة عنيدة للبحث عن مخارج من هذا الركام. في ورش العمل المغلقة، يتجادل خبراء الاقتصاد حول صيغ جديدة لتوزيع الثروة، ويتحدّث الدبلوماسيون عن وساطات لا تزال في طور الحبر، بينما يرفع شباب المنطقة أصواتهم في الجلسات الحوارية مطالبين بعدالة أقل خطابة وأكثر فعلًا؛ إذ تتيح المنصة حوارات بين السياسة والمال والمجتمع المدني بهدف تحويل الأفكار إلى توصيات وسياسات قابلة للتطبيق.
غدت أيامي في ملتقى الدوحة أشبه بإقامة قصيرة في «مختبر للعالم»، أراقب فيه كيف تتجاور البراغماتية الباردة مع الأحلام الكبيرة، وكيف يحاول عقل عربي جديد أن ينتزع مكانه على طاولة القرارات الدولية. كنت كلّما غادرت قاعة شعرت أن الهواء خارجها مثقل بأسئلة لم تُجب بعد، لكنّ ومضات الأمل في العيون، وصدق القلق في أصوات بعض القادة والمفكرين، كانت تقول إن الملتقى ليس مجرّد حدث بروتوكولي، بل محاولة جادّة لأن تبقى الدوحة رئةً يتنفّس منها الحوار في زمن يختنق بالانقسام والخصام
