الإبحار الى كالكوتا الرحلة المعاصرة بين الرواية وسيرة البحر مقالا للكاتب وارد بدر السالم

وارد بدر السالم

يُعنون الروائي حسن البحّار كتابه الجديد (الإبحار الى كالكوتا – رحلة البحّار سيمو) وبهامش علوي على الغلاف بـ “أدب الرِّحلات” تفريقاً عن أجناس أدبية موازية له، وأقربها جنس الرواية. ومثل هذا الأدب الرحلاتي الذي يكاد يكون معاصراً هو قديم جداً. كتبه العرب والمسلمون قبل ألف عام، لكنه انكفأ وتراجع كتّابهُ فترات طويلة، بسبب شيوع أجناس أدبية أخرى كالرواية والقصيدة والقصة القصيرة والمسرحية التي تعتمد على الخيال والإلهام الشخصي ومحاكاة الواقع وتكثيفه من دون الحاجة الى رحلات ميدانية أو ارتحالات طويلة الأمد. كما فعل سابقاً الرحّالة المغربي ابن بطوطة التي طالت رحلته العجيبة لسبعة وعشرين عاماً (1325-1352) ميلادية، وأسماها “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” بأمل رؤية الآخر والاطلاع على ثقافته وعاداته وما يفكر به وكيف يستثمر وقته لتكون (قصدية الرحالة الأساس هي نقل المعرفة، وليس تحويل النص الى مادة أدبية..) وهذا ما أشار اليه الباحث المغربي نور الدين بلكودري كأهمية كان يبتغيها الرحّالة العربي سواء أكان للمتعة والاكتشاف أو للتجارة. وربما هذا موضوع يُمكن أن نشير اليه في أدب الرحلات المعاصرة، التي تخلّت عن منهجية القديم بنسبة كبيرة، وآلت أن ” تصوّر” المكان من حيث هو بطريقة سردية روائية يغلب عليها توظيف الخيال الى حد واضح.
ومع أن هذا الأدب “المنسي” عاود الظهور-عربياً- في العقود الأخيرة كجنس جديد- قديم يوثق ويؤرشف المشاهدات الحرة، ويوثق المعلومات الجديدة ويستقرئ الأمكنة بعين الرحّالة الأدبي الفاحص والمستَفَز، ويدوّن ما تلكأت القصة والرواية عن تدوينه؛ بالهوامش الثانوية والزوايا المنحسرة في المجتمعات التي لا تراها العين الروائية والقصصية. وبهذا يكون أدب الرحلات العربي يتميز بصفة التوثيق والتدوين الخاص ونقل المعرفة بأشكالها الاجتماعية واللغوية والجغرافية والأدبية وأرخنة الأحداث المختلفة والمتعددة التي حدثت سابقاً والتي تحدث أيضاً في زمن الرحلة.

{.. وعرفنا إن الأهالي لا يخافون على أطفالهم من الغرق، فإنهم يلقون بهم في الماء وهم لا يتجاوزون ثلاثة شهور وتتركهم ليسبحوا, ومن لا يُحسن السباحة فإنه يُترك للغرق لأنه لا يستحق البقاء ولا قيمة له.. }

يعتمد الباحثون حتى اليوم على رحلة المغربي ابن بطوطة (أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن يوسف الطنجي بن بطوطة) الطويلة في تجواله وترحاله بين الأمصار والمدن القديمة كوثيقة جغرافية وتاريخية واجتماعية وشعبية وفولكلورية وأدبية أيضاً. لِما فيها من صبر الرحّال وقوة الملاحظة ودقة في تصوير المشاهدات الحيّة واستقاء المعلومات بمنهجيتها الراصدة لكل صغيرة وكبيرة، من عادات وطقوس وديانات، كما حدث في الهند وأفريقيا (التي يقال بأنه أول مَن اكتشفها) في تلك المغامرة الغريبة الطويلة. وبذلك تحوّلت الرحلة من سفر شخصي الى كيان نصي له مواصفات النص الحكائي أو القصصي المشوّق بأحداثه ومفارقاته واكتشافاته. وتحول المؤلف من رحالة مسافر الى تجربة نصية قابلة للجدل الفني والمعرفي. (أشرت الى هذا في الدوحة عام (2011 وهذا ما يمكن التنويه عليه في الرحلات المعاصرة، ما دام العالم عبر التقنيات التكنولوجية المتقدمة قد تم اكتشافه على نحوٍ واضح.

أصبح السفر متاحاً بوسائل راحة متميزة. بمعنى أن الرّحّالة المعاصر ابتعد (عن التقليد أثناء نقل تجربة كتابته وتجاوز شكل الرحلة النمطي المتوارث..) وفي هذا إشكال ضمني في هذا النوع الأدبي. فلا يكفي الوصف الخارجي لجمال المدن والبحر والغابات والحياة العامة أن يقدّم لنا صورة بيّنة عن أمكنة السفر وأهميتها التاريخية والجغرافية والاجتماعية والشعبية. لكن السرد الروائي الذي “سرق” هذا النوع الأدبي تدخّلَ في تضاعيفه، وأحالهُ اليه. كما في” الإبحار الى كالكوتا” التي كانت رحلة روائية أكثر من كونها رحلة سفر ومتعة واكتشاف. وإذا بحثنا عمن السبب سنجده في ما قاله الباحث المغربي بلكودري بأن (الذات المسافرة هي الذات الكاتبة، وهذا ينعكس على شكل الكتابة، ليحضر التخييل الروائي داخل الرحلة.) ويمكن الإشارة الواضحة هنا الى أن معظم الكتابات الرحليّة كتبها روائيون وقصاصون ومدونون سرديون، بسبب الخبرة الكتابية والمطاولة في تشخيص عناصر السرد بكل ما فيها من تداخلات نفسية وواقعية وخيالية أيضاً. والمؤلف حسن البحّار امتلك من العدّة السردية التي جعلته سارداً بحرياً، لا يُلزم كتابته أن تكون على نمطية السلف الأول، بل استفاد من عناصر السرد الروائي، ووظّفها في سرديات كالكوتا الهندية. ليكون كتابه روائياً قبل أن يكون رِحْلياً. فيه من الخيال أكثر مما فيه من واقع البحر. بمعنى إن السرد الكالكوتي أحال قارئها الى الرواية المشروطة فنياً. قبل أن تحيله الى النوع الآخر. وفي هذا إشكال أولي في النص قد يراه البعض لأنه لم يكن على نمطية أدب الرحلة القديم. وإن عددناها رواية تستفيد من أجوائها البحرية كخلفية فنية فهي كذلك على الأرجح. فالبحّار لم يتهيّأ أن يقدم استكشافاً جديداً؛ فهذه مهمة باتت قديمة نسبياً؛ إذ إن الرحلات العربية القديمة (تأثرت بالحكايات الشعبية والأسطورية والتراثية والأخبار والسرود العجائبية، وهذا غيّر من شكلها وبِنيتها. أما الرحلات المعاصرة السريعة فلم تتوقف على أساطير أو خرافات أو أحداث تجري في الأمكنة التي كانت تُزار في رحلات البحر. لذلك أحيلُ الكتاب الى الرواية بتصويره اليومي لرفاق الرحلة، من زاوية إن المؤلف هو روائي، ولديه خبرة سردية في تجربة الكتابة، وبالتالي فضّل أن يكون كتابه رواية رحليّة تقيم صلتها مع البحر، لكن تنظر الى عناصر الشخصيات المحيطة به. مع أن أدب الرحلات تاريخياً يحفل بالمشاهدات الميدانية، ويقف على الأبرز من عادات الشعوب وتقاليدها وطقوسها الدينية والإنسانية والفولكلورية والشعبية، إلا أن رحلة كالكوتا الواقعية، صرفت الشأن النمطي القديم، وتوجهت الى التدوين الفني في جنس الرواية عبر عناصرها من الشخصيات والزمن والمكان والخلفية البحرية. من دون أن يخفف من وطأة الفن السردي، ويعمل على سرديات البحر لِما فيه من أساطير وخرافات ورؤى إيهامية كثيرة، قرأنا منها الكثير من المستكشفين ومذكرات البحّارة والجغرافيين والمغامرين.

في ارشيف السفر العربي القديم، لدينا رحلات ” أبو زيد السيرافي” التجارية- البحرية، وهي من أمثولات طبيعة السفر البري والبحري بقصد التجارة أو السياحة. حتى رحلة “البيروني- عام 440 هـ” الى الهند كانت استثناء تاريخياً في التوثيق الجغرافي والتاريخي والأسطوري والاجتماعي واللغوي أيضاً، كون البيروني كان يجيد اللغة السنسكريتية التي هي لغة الهند آنذاك. ورحلات كثيرة تجاوزت زمنها القديم ووصلت الى الحاضر وما تزال مثالاً على الأدب الرحلي المعرفي المجدّد، كما عند المسعودي والمقدسي والادريسي وابن جبير وابن الخطيب والإدريسي وابن فضلان وابن ماجد والمقدسي، حتى ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع العربي. وما أنفك هؤلاء يكتشفون العالَم وجزئياته المكانية والزمنية التي قد تبدو في بعض الأحيان هامشية أو غير معروفة تاريخياً واجتماعياً, لكن في مجملها وثائق تاريخية كاشفة للتاريخ المعاصركما ورد: (.. وجدنا وثائق صينية نادرة تؤكد إن العرب حلّوا محل الفرس في مزاولة التجارة البحرية مع الصين وذلك في اوائل القرن الثاني للهجرة) بل هناك سرود غرائبية فيها العجيب من الأخبار والرؤى العينية والسماعية والغرائبية في بعض البلدان التي تتماس مع الماء؛ بحراً أو نهراً:(.. أخبرنا بعضهم إن عمال البناء كانوا يقومون ببعض التصليحات في منزل البحار فوجدوا سيفاً مصنوعاً من الذهب..) هذ الالتقاطات الواقعية أو الخرافية أو الخيالية هي التي توطّد صلتها بالقارئ غير المسافر. فنقل الحكايات والشفاهيات أمر لا بد منه لترصين خيال الكتاب بواقعيته التي يتم السفر اليها. فالشكل الروائي قد لا يستوعب معارف السفر الكثيرة، ولا يدرس ثيمات الأعراق والطقوس والفولكلور واجتماعيات البلدان وشعوبها المتناثرة على خريطة العالم. غير أن الشكل الموضوعي لكتب الرحلات؛ وهي التي لا تُجنّس عادةً؛ أكثر استيعاباً لمثل تلك الغرائب والجائب في سِلال المجتمعات المتأخرة ثقافياً في وعيها القديم. وإذا كانت الرواية كفن مشروط، فأن أدب الرحلات ليس مشروطاً بشيء، لهذا فهو الأقدر على أن يكون كتاباً ضامّاً للمعارف والعلوم والدراسات والأبجديات الحياتية.

رحلة كالكوتا الهندية التي رسمها حسن البحّار روائياً قد تكون سيرة شخصية لبحّار في دائرة البحر وما حوله من بر مؤقت وموانئ استراحة، تبدو كسرديات متقطعة، تفصل البحر عن البر. لتكون مساهمة في استكمال السرد، كما لو أنها فاصلة بينية تتيح للكاتب أن يسترجع بعضاً من مشاهداته ورؤاه النفسية بين مجموعة بحّارة يعانون من الوحدة والعزلة البحرية الشاقّة. ومعهم سيرة البحر الغامضة في كالكوتا.