العراق وسوريا .. كيف تُعاد صياغة الجوار وسط الضغوط الإقليمية ؟ مقالا للكاتب د. أيمن الحديثي

د. أيمن خالد

منذ سنوات والعراق يحاول أن يبلور سياسة خارجية تعكس وزنه الجغرافي وتاريخه الإقليمي، وتكسر في الآن ذاته إرث التبعية الثقيلة الذي وسم علاقاته منذ الغزو الأمريكي عام 2003. لكن هذه السياسة كثيرًا ما تتأرجح بين الضغوط الداخلية التي تُملِيها بنية الحكم المعقدة، والضغوط الخارجية المتشابكة، وخصوصًا في الملفات التي تمس أمنه القومي المباشر، مثل العلاقة مع سوريا.

لم تكن العلاقات العراقية-السورية في يوم من الأيام خارج نطاق التحولات والتجاذبات، بل اتسمت دومًا بحساسية فائقة تجاه التبدلات السياسية والأمنية في كلا البلدين. واليوم، مع دخول سوريا مرحلة ما بعد النظام السابق، وتقلُّص الدور الإيراني والروسي فيها، يواجه العراق معادلة جديدة تتطلب مراجعة دقيقة لخياراته الإقليمية. فالمشهد السوري يُعاد تشكيله وسط صراع متعدد الطبقات على النفوذ، مما يُلزم بغداد بالتفكير الاستراتيجي لا الانفعال اللحظي، خاصة في ظل تراجع ثقل بعض الحلفاء التقليديين وصعود أدوار جديدة في الإقليم.

محددات الداخل: تعددية متنازعة أم إرادة وطنية غائبة؟

السياسة الخارجية العراقية لا تُصاغ في وزارة الخارجية فحسب، بل تتشكل وفق مراكز نفوذ متنازعة بين الكتل السياسية، وغالبًا ما تكون انعكاسًا لمعادلات الداخل الطائفي والحزبي. فالأحزاب القريبة من إيران مثلًا تملك تأثيرًا مباشرًا في الملفات المرتبطة بسوريا، وتميل إلى تبنّي خطابات متحفظة تجاه “التغيير السوري”، بحكم تحالفاتها الأيديولوجية ومصالحها اللوجستية الممتدة عبر الحدود.

هذا التعقيد الداخلي يُضعف من فاعلية القرار العراقي الخارجي، ويجعل الاستراتيجية تجاه سوريا غير موحدة. فبينما تميل أطراف رسمية إلى الانفتاح الحذر على الحكومة السورية الجديدة، ترى أطراف أخرى أن المصالح الإيرانية ما زالت تتطلب توجهًا تصادميًّا أو ضاغطًا، ولو بشكل غير معلن.

وتفاقم الأزمة حالة “التحسُّس السياسي” لدى بعض القوى العراقية من الدور التركي والخليجي في دعم التحول السوري. فهذه القوى تنظر بعين الشك إلى أي تقارب مع دمشق الجديدة، ما لم يكن منسقًا مع طهران أو يمر من بوابتها.

الجغرافيا الصعبة: حدود ملتهبة أم فرصة للتكامل؟

تشكل الحدود الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر بين العراق وسوريا نقطة تحدٍّ وأمل معًا. فمن جهة، هي ساحة مفتوحة لاحتمالات التهريب، وتسلل بقايا التنظيمات المسلحة، والحركات الميليشياوية غير المنضبطة. ومن جهة أخرى، تمثل فرصة لبناء ممرات اقتصادية، ومشروعات تنموية، وعلاقات تجارية تعزز استقرار المناطق الحدودية على جانبي الفرات.

وقد بادرت الحكومة العراقية إلى تنفيذ مشروع “السياج الكونكريتي الأمني” الفاصل على طول أجزاء واسعة من الحدود، في خطوة عَدَّها قبل بعضهم استجابة لحاجة أمنية ملحة، في حين رآها آخرون انعزالًا عن سوريا الجديدة، وتكريسًا لسياسات الحصار بدل التكامل. وفي كلتا الحالتين، فإن هذا الجدار يُرمز إلى القلق العراقي المتنامي من عدم الاستقرار على الجانب السوري، رغم التغييرات السياسية التي شهدتها دمشق. وهو أيضًا مؤشر على استمرار تصور الملف السوري أزمة أمنية أكثر من كونه فرصة استراتيجية.

السياسة العراقية في مهب المتغير السوري

بعد سنوات من التعامل مع سوريا من بوابة أمنية بحتة، يواجه العراق اليوم واقعًا جديدًا: دمشق بلا الأسد، بلا الحرس الثوري، وبلا الغطاء الروسي الكثيف. هذا يعني أن بغداد مطالبة بإعادة تموضع دبلوماسي يعيد ترتيب علاقاتها مع الجار الغربي، ليس بناء على ولاءات سابقة، بل وفق حسابات وطنية خالصة.

تلقّ تنبيهات وتحديثات فورية بحسب اهتمامك. كن أول من يعلم بالقصص المهمة
نعم، أبقني على اطلاع
لكن هذا التحدي لا ينفصل عن السياق الإقليمي؛ إذ يرى صانع القرار العراقي أن الموقف الخليجي-التركي الموحد في دعم سوريا الجديدة، يضع بغداد في حرج مزدوج: فهي من جهة تخشى أن تُفسَّر خطواتها تقاربًا مع أجندة مناوئة لإيران، ومن جهة أخرى تدرك أن أي جفاء تجاه دمشق الجديدة سيُفقدها موطئ قدم في التحول الإقليمي الجاري.

في هذا السياق، تبدو السياسة الخارجية العراقية وكأنها محكومة بلعبة التوازنات أكثر من المبادرات. فهي لا تجرؤ على تبنّي خيار علني داعم لسوريا الجديدة، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع قطع خيوط التواصل مع النظام الجديد في دمشق.

القوى الكبرى: موقع العراق في خارطة الصراع الإقليمي

لم يعد العراق قادرًا على التمسك بسياسة الحياد السلبي أو الانكفاء في محيط يشهد تحولات متسارعة. فمع تعاظم الدور التركي إقليميًّا، وتراجع هامش التأثير الروسي، وتوجه إيران نحو إعادة ترتيب أولوياتها الداخلية والخارجية في ظل الضغوط المتزايدة، تبرز ضرورة أن يعيد العراق النظر في تموضعه الاستراتيجي ضمن بيئة معقدة.

في هذا السياق، يمكن تمييز اختلافات جوهرية في أنماط التعامل بين الجوارين الإقليميين. فبينما تتميز السياسة التركية بتركيزها على الأمن القومي وحماية المصالح الاقتصادية ضمن إطار واضح من الشراكة الإقليمية، تحافظ طهران على علاقة أعمق بالفاعلين غير الرسميين داخل العراق، وهو ما ولَّد حساسيات تتعلق بالسيادة وصناعة القرار.

هذا التمايز يفتح نافذة لإعادة تقييم العلاقات على أساس من التوازن والمصالح المتبادلة. فتركيا لا تتبنى أيديولوجيات توسعية، ولا تسعى لفرض نماذج خارجية، بل تطرح شراكة يمكن البناء عليها في قضايا الأمن والتنمية، خاصة إذا ما توفرت إرادة سياسية عراقية تسعى لتحرير القرار من التجاذبات الداخلية.

وعليه، فإن بناء محور تعاوني (عراقي تركي سوري) يستند إلى المصالح المشتركة، يمكن أن يشكّل مخرجًا من حالة الاستقطاب، شرط أن تكون الرؤية عراقية ناضجة ومستقلة، تأخذ بعين الاعتبار أمن البلد ووحدة قراره السياسي.

بين السياسة والاقتصاد: من يكتب خريطة النفوذ الجديد؟

إعادة صياغة السياسة الخارجية العراقية لا تتطلب فقط نزع الخطاب الطائفي، بل أيضًا الاستثمار في الاقتصاد أداة نفوذ. فالعراق يمتلك مخزونًا هائلًا من الطاقة، وموقعًا جغرافيًّا يصل آسيا بأوروبا، وسوقًا استهلاكية كبرى، لكنه لم يحوّل أيًّا من هذه العوامل إلى أوراق ضغط دبلوماسي فعالة.

في حالة سوريا، مثلًا، كان بإمكان العراق أن يتصدر مشهد إعادة الإعمار، وأن يدفع باتجاه تكامل اقتصادي شامل يبدأ من معبر البوكمال ويصل إلى موانئ المتوسط. لكن غياب الرؤية الواضحة، وصراعات المحاصصة، وقصر النفس السياسي، جعلت العراق أشبه بـ”الضيف الصامت” في ملف يلامس حدوده مباشرة.

والأمر ذاته ينسحب على ملفات المياه والنفط وحركة التبادل التجاري، إذ تفتقر السياسة العراقية إلى التخطيط العابر للحكومات، وتسودها ردود الفعل أكثر من المبادرات المدروسة.

إلى أين يتجه العراق في علاقته بسوريا؟

سوريا الجديدة فتحت أبوابًا كانت موصدة، وفرضت على الجيران أن يعيدوا تعريف مواقفهم منها. والعراق، الجار الحدودي الأول، مُطالَب أكثر من غيره بإعادة بناء علاقة طبيعية مع دمشق، لكن ليس على طريقة “التنسيق الأمني فقط” بل عبر مسار سياسي واقتصادي واستراتيجي يضع مصلحة البلدين في قلب التفاهم.

التحدي الأكبر يتمثل في كسر هيمنة المصالح الحزبية على القرار الخارجي، وامتلاك رؤية وطنية تجعل من الجوار السوري فرصة للتعافي، لا مصدرًا للقلق. ومع أن المشهد لا يزال ضبابيًّا، فإن الخيارات المطروحة أمام بغداد بدأت تضيق: إما أن تنخرط بفاعلية في صياغة مستقبل المنطقة، أو أن تبقى أسيرة تاريخ مشوش، وحدود مغلقة، وخيارات تمليها قوى خارج الحدود.