السرد هو ما حدث. فعلٌ مضى على زمنه الواقعي أو الافتراضي؛ فما حدث في الأمس حدث لأمسه. ولا نقول أن لا علاقة له بالحاضر والمستقبل، لكنها علاقة ضعيفة الى حد بالإمكان بيانه في آلاف النصوص القصصية والروائية والمسرحية منذ نشأة السرديات حتى اليوم، تلك التي لم تستشرف ما سيأتي به المستقبل، لأنها ببساطة مترسخة في الواقع الآني، ولا تلتفت الى الغد السردي. إلا في ما ندر، والندرة ؛ افتراضاً؛ غير علمية في الأحوال كلها. بل هي مزاج كتابة، قد تطرح الموقف الروائي أو القصصي أو المسرحي وتخرج بحكمة أو ثيمة ولا تقول أكثر من هذا.
علاقة الكتابة (الآن) بالمستقبل غير متكافئة قطعا, فالذي يحددها العلم بمعطياته الثرية ومن ثم الخيال بقدرته على الجنوح الفني الذي يستقدم شذرات علمية ويبالغ في جعلها مؤثرها، بطريقة لا تخلو من الكذب والوهم والتصورات التي لا رصيد لها من الواقع الفعلي. فالوقائع الماضية لا يُعوّل عليها في مستقبل الكتابة. إلا لكونها رصيداً سرديا للكتابة عن المستقبل. وهذه أهميتها الأرشيفية والتوثيقية. حتى وإن لم يكن العمل الإبداعي غير موثوق بتاريخيته، كونه افتراضياً، جانحاً الى الخيال الفني أكثر ما هو جانح الى الواقع في معظم حالاته. لكنه في الأحوال كلها ينطوي على وقائع اجتماعية وسياسية ونفسية وسلوكية واقتصادية. وهذه الثيمات الصغيرة المنثورة في تضاعيف النص يمكن الإمساك بها لدراستها وتحديد آثارها الكثيرة في المجتمعات.
عندما نقرأ رواية أو قصة قصيرة، فأنها حدثت في الماضي. ونرى هذا الأمر من زاويتَين هما الاجتماعي والسياسي. ولا نتجاوز السياسي كونه قد نظّم المجتمعات على اعتبارات أيديولوجية أو قومية أو دينية أو باشتقاقاتها الطائفية المعروفة. ولا نغفل الحرب كونها من تأثيرات السياسة الشمولية أو حتى الديموقراطية كعنصر مفتوح لمواجهة الأزمات. لذلك فالمجتمعات التي تفترعها السياسة في العصر الحديث ستكون من مشتقاتها : الحروب. الجوع. البطالة. الفقر. اللا قانون. الفساد. المخدرات والمحرمات الاجتماعية المعروفة.
ألخّص الفعل الماضي المسرود في هذا الاتجاه في ما هو مطروح في الروايات والقصص القصيرة والمسرح والشعر. لكن ما بعد السرد هو الذي يحدث الآن أو الذي يحدث غداً. فِعلان يقتسمانه (الحاضر- المستقبل) ما كان منه هامشياً أو ثانوياً في المنظومة الاجتماعية المفتوحة. فالسرديات التي قرأناها في ما مضى، وطّدت الصلة بالماضيين الاجتماعي والسياسي، وكانت نبوءاتها قليلة، ومستقبلياتها ضعيفة، غير مستقرة. تخمينية على الأغلب الأعم. لا تستوفي مضامين حقيقية في ما سيأتي من التغيرات والتبدلات التي ربما لا تقع في التصور والخيال. ويبدو لنا بانها ليست قراءات يُرتكن اليها لظروف المقبل من الزمن. بل حتى الروايات التي قيل بأنها تحدثت عن المستقبل، كانت بمجاملات وحوافز نقدية لا نعرف ظروفها. أو هي عصف نقدي تغاير مع السائد النقدي في حينه.
الروايات التي تشير الى المستقبل وتستشرفه غير مقنعة كلياً. ومعظمها لم تستوعب معطيات العلم، ولم تستند على مفاصله الجوهرية. ولا على القراءات المستقبلية الفاحصة بعين سردية عميقة. أما التخيلات الجاهزة؛ بطريقة فتّاحي الفال وقراءة الفنجان؛ للحروب وكوارث الطبيعة بسبب تغيير مناخي، فهي ليست نبوءات سردية أدبية. وهذه تقع في باب العلم الذي يمكنه أن يتنبأ بها وبالكثير من مما شهدناه ونشهده. في حين أن الإنشاء السردي ليس بإمكانه أن يقدم صورة صحيحة الى ما سيأتي. حتى الصورة الأدبية الآتية من المستقبل تبقى مشوّشة. غير ظاهرة بكليتها. وإن ظهرت فهذا يبقى رهين الحدس السردي ورؤيا المؤلف وقدرته على استنباط الأحداث المقبلة. وفي الأحوال كلها ضعيفة.
مَن يتحدث عن نبوءات الرواية القديمة والحديثة في رصدها للمستقبل وأحداثه، نعتقد في هذا أن السارد ليس فتاح فال ولا متنبّئاً جوياً وفضائياً أو جنيّاً يستقرئ الغيب. ما لم يقف؛ في الأقل؛ على مظاهر العلم وتجلياته ومعطياته وكشوفاته بدراسة عميقة فاحصة، ويأتي بالسياسة ومتفرعاتها الكثيرة ورموزها المتقدمة والمنحطّة، عندها سيرى الكون بوجهٍ آخر. والحياة الأرضية التي يعيش فيها قد تنتظر عصا موسى قبل أن ينفلق البحر ويغرق الجميع فيه.
بعد المعارف الكبيرة التي داهمتنا في القرنين العشرين والحادي والعشرين في الثورة الإلكترونية التي فتحت آفاق الكون والحياة والأرض والسماء الى حد كبير. وهذا يحتم المراقبة الجنينية للشعوب والمجتمعات التي خرجت من عالم ما قبل الثورات الزراعية والصناعية، وتدرجت وتطورت وتحضرت وابتكرت وصنعت وسابقت الزمن لتكون المحصلة الارتقاء بالإنسان، وتوجيهه الى حواضن الحياة العظيمة. وتقليم أظفاره الطويلة التي نَمتْ في غابات التوحش الفطري القديم. وإخراجه من الحظائر والغابات والكهوف وأنفاق الطبيعة. وفتح منافذ السمو والارتقاء والضبط والأخلاق والاجتماعيات السلوكية. وتهذيبه تهذيباً مباشراً وغير مباشر عبر القوانين الضابطة والأسس التي تعمل عليها الدول الحديثة.
حدث هذا في أوربا الوسطى وما تلاها من تقدم صناعي. حدث أيضاً عند شعوب كانت ترى في الحياة بأن الضبط العملي هو الذي وجّهها، منذ أواخر القرن الخامس عشر تقريباً. فالعلم؛ لا الدين؛ أوجد تلك المسارات الحيّة للحشود البشرية لتنمو على شجرته التي ظلت وما تزال تُقطف ثمارها حتى اليوم. في حين بقي الدين على ثوابته وسيبقى كثيراً على هذه الشاكلة.
من الثابت بأن الثقافة العامة والآداب بشكل خاص كشفت عن مقدرتها الذاتية بأن تستفيد من العلم الذي أوجد لها آلة الطباعة أولاً على يد غوتنبرغ في القرن الرابع عشر (1440) حتى الذكاء الصناعي اليوم. وبين الفترتين الزمنيتين حوالي أكثر من نصف قرن من بداية الحداثة الأوربية التي عمّت العالم، والنهضة المعرفية التي سادت وبقيت مستمرة، ولا شك بأنها غيرت البنى الاجتماعية والنفسية وصار عصر القراءة أكثر أهمية بعد القرنين السادس والسابع عشر، مثلما انفتح الوعي الثقافي بين شعوب العالم، وقلّت نسبة الأمية، وتحضّرت الحياة من زوايا كثيرة, وتهذّبت اللغة كثيراً. ونالت الثقافة العامة حظوة كبيرة في المجتمعات، وتميّزت الآداب بانتباهاتها الى المجتمعات ومشاكلها. وازهر الشعر والرواية والقصة القصيرة كما هو معروف.
السرد الذي قرأناه في بواكيرنا الأدبية وحتى الآن هو ما حدث. وما لم يحدث تتردد السرديات في إيلائه أهمية استثنائية. وهذا يشير الى ضعف الخيال السردي عند الأغلبية من الساردين. واللجوء الى الخيال العلمي هرباً الى معطيات ثانوية في السرد، رئيسية في الواقع العلمي. ولا نعتقد أن السردي الروائي العلمي حقق معجزة أدبية حتى اليوم، سوى أفلام الرسوم المتحركة التي خلقت وتخلق عوالمها الذاتية في الارتقاء بالخيال، وتوازن به الواقع. وفي كثيرٍ من الأحيان تتجاوزه الى ما بعد الخيال، لتخرج من النمطية المعتادة الى عوالم تقع بين الواقع والعلم والفرجة المجانية.
