أصداف : «خوذةٌ مثقوبة» مقالا للكاتب وليد الزبيدي

وليد الزبيدي
من الصعوبة بمكانٍ أن يستطيع كاتبٌ اختصارَ تجربةِ الحربِ العراقيَّة ـ الإيرانيَّة الَّتي تواصلت لثماني سنواتٍ، في كِتابٍ لا تتجاوز صفحاته مئتين وأربعين صفحةً فقط، وهذا ما نجح فيه الكاتبُ والصحفيّ العراقي معد فيّاض، الَّذي صدر له مؤخَّرًا كِتابٌ بعنوانٍ لافت: (خوذة مثقوبة).
الأمر الآخر، وهو غير مألوف، أنَّ يوميَّات الحرب عادةً ما تُدوَّن في حينها، وتُنشر بعد فترةٍ وجيزة، إلَّا أنَّ الصَّديق معدًّا احتفظ في ذاكرته بكمٍّ هائلٍ من الأحداثِ والتفاصيلِ والأسماءِ والتواريخِ والوقائع، ليدوِّنها بعد ما يقرب من أربعة عقودٍ. وهذا أمرٌ صعبٌ للغاية، لا سِيَّما أنَّ ذاكرةَ العراقيِّين عمومًا، والصحفيِّين منهم خصوصًا، قد اختنقت بالأحداث الكبيرة والخطيرة، الَّتي لا تتشابه في تفاصيلها اليوميَّة إلَّا بما تزخر به من المآسي.
يمزج معدّ فيّاض بَيْنَ قدراته القصصيَّة ـ كونه بدأ كاتبَ قصصِ أطفالٍ، وهو فنٌّ يُعدُّ من أصعب فنون الكتابة كما يتَّفق نقَّاد الأدب ـ وبَيْنَ قدراته في كتابةِ القصصِ الصحفيَّة الَّتي برع فيها خلال العقود الماضية، إذ عمل في كبريات المؤسَّسات الصحفيَّة في العراق وخارجه.
وقارئ كِتاب «خوذة مثقوبة» ينتقل بسلاسةٍ بَيْنَ محطَّاتٍ من حياة الكاتب، تتمحور في غالبيَّتها حَوْلَ الَّذين يرتدون «الخوذة» في ساحات الحرب وميادين القتال. وقد اشتُقَّ العنوان عندما استهدفه قنَّاصٌ إيرانيّ في موقعٍ متقدِّمٍ على الجبهة، ولولا «الخوذة» الَّتي ثقبتها تلك الطلقة، وأسهمت مادَّتها في إبقائه على قيد الحياة، لكان اسمه وُثِّق مع الآخرين الَّذين أخذتهم الحربُ بكُلِّ ويلاتِها ومصائبِها.
يرسم الكاتبُ صورةً مكثَّفةً للإعلام العسكري والمسرح والصحافة العسكريَّة، ويستذكر عمله في تلك المؤسَّسات، مقدِّمًا لوحةً قلميَّة حيَّة يستذكرها أبناءُ جيله، وتمنح الأجيالَ اللاحقة صورةً ناطقةً عن تلك الحقبة، وهذا يُحسب لهذا الجهد المميّز.
وحين يوثِّق فيَّاض يوميَّاته ومشاهداته من جبهات القتال بصفته مراسلًا صحفيًّا، يكتب بتفاصيلَ تُشبه توثيقاتِ الكاميرا التلفازيَّة: هكذا يعيشُ الجيشُ العراقي على حدوده مع إيران في ثمانينيَّات القرن الماضي، وهكذا ينام الجنود ويأكلون… وهكذا يموتون أيضًا.
ويستذكر الكاتب أسماءً كبيرةً من قادة الجيش العراقي، وجميعهم برتبة فريق ركن: (إسماعيل تايه النعيمي ـ أبو الشهيد، وماهر عبد الرشيد ـ أبو عبد الله، ورشَّاش الإمارة، وقبل ذلك عدنان خير الله وزير الدفاع حينذاك، وعبد الواحد شنان آل رباط، وحميد شعبان)، والقائمة تطول، إذ يصعب ذكر جميع الأسماء اللامعة في تاريخ الجيش العراقي.
تنقَّل معدّ فيَّاض في جميع قواطع الحرب، وعلى طول الحدود العراقيَّة ـ الإيرانيَّة الَّتي تمتدُّ قرابة ألفٍ وثلاثمئة كيلومتر، موثِّقًا بذلك حقبةً طويلةً ومساحةً واسعةً من يوميَّات حربٍ قاسية.
يروي فيَّاض قصصًا تمتزج فيها الحربُ بالسلام في مكانٍ واحد، فيسرد موقفًا يقدِّم فيه جنودٌ عراقيُّون الطعامَ لجنودٍ إيرانيِّين بقوا أيَّامًا بلا طعامٍ بعد أن قصفت المدفعيَّة العراقيَّة سياراتِ الإمداد لدَيْهم. وهذه الحادثة وحدَها تحتاج دراساتٍ عن النفْس البشريَّة وتوقِها للسِّلم وسط أهوال الحرب.
وفي لقطةٍ أدبيَّة بديعة، يختار معدّ فيَّاض مقطعًا من قصيدةٍ للشاعر الكبير الراحل يوسف الصائغ بعنوان (إجارة)، يختصر بها ثيمة الكِتاب، وفيها يقول عن عشرة شهداء نزلوا في إجازتهم إلى البصرة:
والثاني ظلَّ وحيدًا،
فأدارَ عن البصرة وجهَه،
ومضى ثانية…
إلى الجبهة.
إنَّه جهدٌ كبير في كِتابٍ يؤرِّخ ويدوِّن حقبةً طالما بقيت صفحاتٌ واسعةٌ منها دُونَ تحليلٍ وتوثيق.